|
الأولى والآخرة : مَرقى 11
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2969 - 2010 / 4 / 8 - 23:41
المحور:
الادب والفن
تلك الصرخة ، أعقبها عويلٌ جماعيّ لنسوة ، كنّ ينشدنَ النجدة من الخالق والمخلوق على حدّ سواء . صدى هذا الهتك ، المُترافق مع أزيز العيارات النارية المُتصَاعد الوقع ، كان عليه ولا غرو أن يروّعَ أفئدتنا . لحظاتٌ ، أطول من العمر ، تنوّق الذهولُ خلالها الضبابَ الرماديّ ، المُتشكل من سَمَر النراجيل ، ليغدوَ من ثمّ بهيئة مرعبَة لجنيّ الحكايات . كان النعاسُ عندئذ يفتكُ بنا ؛ نحن المَلمومين تحت السقف السماويّ ، المُنجَم ، لباحة منزل كبير الأعيان . فما عتمَ الصحو أن أنتفض في رؤوسنا ، تأثراً بما كان من حركة الخدم . راحَ هؤلاءُ ، وجلين ، متصايحين ، يتراكضونَ هنا وهناك ، دونما طائل . ثمّ تدفق على الدار الأعوانُ وبعضُ رجال الحيّ ، مُشرعين غداراتهم وطبنجاتهم وخناجرهم ، فأخبرنا منهم عن هذه النازلة ، الداهمَة ، التي داجَ شرّها . " لقد أجتاحَ الأورطاتُ الدربَ المؤدي لمنزلكم ، أيها الكبير . نجحوا في ذلك ، على أغلب تقدير ، لأنهم تمكنوا من نقب ثغرة في جدار السرايا " ، قالَ أحدُ أولئك الأعوان مخاطباً الشاملي . وعبّر آخرٌ ، متشائماً ، عن شكه بجدوى الحاجزيْن الدفاعيَيْن ؛ القائم أولهما بمدخل الزقاق وثانيهما في مخرجه : " الخصومُ يتدفقون عبْرَ نفق ما ، موصول ربما بين المقرّ السابق للوالي ومقره الحالي في القلعة . في البدء ، وجدوا أنفسهم بين نارَيْ المتراسَيْن ، فما كان منهم إلا أن تراجعوا إلى داخل السرايا ، ليعمدوا من ثمّ إلى تسلق سطحها العالي ومحاولة العبور من هناك إلى أسطح دور الزقاق بوساطة السلالم والحبال " " إنّ هدفهم ، ولا ريب ، الوصولُ إلى هذه الدار " ، بدأ آغا اليرلية القولَ وكانت سحنته ممتقعة بشدّة . بدا حَرَجه جلياً ، أيضاً ، قدّام الشاملي ؛ طالما أنّ وجاقه هوَ الضامنُ أمن الحيّ . ثمّ مضى قوّاص آغا إلى التحذير من خطورة الوضع ، فقالَ : " لن يصمدَ الرجالُ ، طويلاً . كما أنه من المُحال وصول نجدة ما ، من طرف الوجاقات ، في الوقت المناسب . الرأيُ عندي أن نغادر الدارَ ، على الفور ، متسلقين بدورنا سطحها " . كانَ تقديرُ القوّاص للموقف ، صائباً . فما لبثَ الزقاقُ أن أضحى مَباحَة لمرتزقة الوزير ، الذين أنتشروا بكثافة الجراد على أسطح المنازل ، وكان من الممكن رؤية أشباحهم في هذه الليلة ، المقمرة . ولكنّ المهاجمين ، بالمقابل ، عجزوا عن السيطرة بنفس السرعة على هدفهم ؛ دار كبير الأعيان . الشاملي ، من جهته ، أدركَ أنّ رجاله ، وبالرغم من بسالتهم وتفانيهم ، لن يكون بمقدورهم الحفاظ على مواقعهم في سطح الدار ، فأوعز إليهم أن ينزلوا إلى القسم السفليّ فيلزموا خصوصاً الفناءَ والمنظرة . عندئذ ، كانت دائرة الحصار قد باتت أضيقَ من حلقة المشنقة .
تلبية لأمر الزعيم ، تزحزحتُ عن موقعي الحصين ، المنزوي في زاوية متطرفة من الفرندا . كنتُ في سبيلي إلى البيت التحتاني وقد زكمَ دخانُ البارود أنفي . ما أن تناهتْ قدماي لموطئهما في قاعدة الدرج ، المركون عند مدخل قسم الحَرَمْلك ، حتى فوجئتُ برميَة مُصمّة ، فرقعَ وقعُها في سَمَعي . فرأيتني ، على الأثر ، منبطحاً قربَ أحد الأبواب ، الموارَبة ، فيما الطبنجة أفلتت من يدي إلى الأرض . قدّرتُ أنّ الأمرَ كانَ بفعل خرطوشة ، طائشة ولا ريب ، طالما أنها لم تثنى بأخوات لها . أخذتُ إذاك أتحسس بكفي أرضية العتبَة ، فعثرتُ بيسر على سلاحي . هذا المكانُ ، كما خيل إليّ ، كان يشي فراغه وصمته ، المُطلقيْن ، بخلوّه من ساكنيه ؛ من حريم الدار اللواتي ، بحسب وهمي نفسه ، كنّ مع غيرهنّ من نساء أعيان المدينة في أمان حُرْمة مسجدها الكبير ، منذ بداية الحركة العمومية . إلا أنني ، على الرغم من ذلك ، وجدتُ مكوثي غير لائق هنا ، في هذا القسم المخصص لأهل الدار . فما عتمتُ أن نهضتُ على قدَميّ مجدداً ، وهممتُ بالنزول ، خلل الدرَج المُفضي إلى المنزل التحتانيّ . ولكنني ألقيتُ أولاً نظرة ، حذرَة ، إلى جهة سطح الدار ؛ ثمة ، حيث كان يعتملُ صَخبٌ ، متواصلٌ ، من رطانة لغات المهاجمين ـ وكانوا بأغلبهم من كرد الدالاتية ـ ومن لعلعة صليات أسلحتهم . ولكنّ أصوات مختلفة ، تناهتْ بغتة من حجرة ما ، قصيّة ، كان صفقُ بابُها قد بدأ يُشرَعُ رويداً . تجمّد في الحال خطوي بفعل مناجاة ما ، كانت تبث ثمة ما يُشبه لوعة الفراق بين شخصيْن قريبَيْن ، أو ربما حبيبَيْن . في اللحظة التالية ، برز من الحجرة تلك ، النجيّة ، مسْرَجة ذات ضوء ضئيل ، وكان من يحملها قد ظهرَ بدوره ، على الأثر ، على هيئة شبح مغمور بالظلال . وكنتُ أخطو فعلاً الدرجة الأولى من منحدر الدَرَج ، حينما تسمّرتُ في مكاني مَشدوهاً بلا حَوْل . فضوء المسرجة ، كانَ قد أضحى عندئذ من الوفرة أنّ عينيّ لم ترتابا من مرأى فتاة هيفاء ، كانت على بعد خطوات مني . رأيتها إذاً هائمة بخمار مرهف لا يكادُ يحجب شعرها العسليّ ، وكان جسَدُها المكتنز مَستوراً حتى متن الخصر بقفطان ، مخمليّ ، وقد بدت من تحته جلابة ، زاهية الخيوط والطرُز ، مسترسلة حتى منتهى النعليْن . من قسمات البنت ، البديعة ، جُذبَ بصري حسب إلى جبينها المُرتفع ، المضيئة أهلته عينيها الواسعتين ؛ العينين البراقتين اللتين ، بالمقابل ، لم تكونا قد ميّزتا بَعدُ ، شخصي المحجوب بالعتمة . تأكيدي على ندرة ما أستله بصري من ملامح الفتاة ، أحيله ولا ريب لما كان من تعففي حيال حرمَة كبيرنا . هذه الفتاة ، اليانعة العمر ، كانت إذاك تراوح الخطى قرب باب حجرتها ، مترددة ، على ما بدا لي ، في عبور الممشى المسقوف ، وصولاً إلى درج النجاة ؛ أينَ موقفي ، المتريّث ثمة . فما كان مني ، بغتة ، إلا أن هتفتُ لها بصوت مسموع : " لا بأسَ عليك ، سيدتي . هيا أتبعيني إلى البيت التحتانيّ " . كنتُ إذاً هناكَ ، في سلم الحرملك ، أنتظرُ حورية من حوريات الأولى ، وكان ملاكُ الآخرة ، بدوره ، ينتظرني ثمة ، متربّصاً على مسافة بوصات معدودة .
يقولُ أبن الجوزية ، إمام البلاغة الأكبر : " تنفست الآخرة ، فكانت الأولى نفساً من أنفاسها " . هذا القولُ ، ترجّح لديّ مغزاه من بارقة تلك الليلة الداهمة ، من ليالي العمر ، الفتيّ ، التي أسترجعها الآنَ ؛ أنا من يملأ هذه التذكرة بحروفه الكبيرة ومن يَدفع عن عمره ، جَزعاً ، خسّة الكهولة . في سني هذه ، المتأخرة نوعاً ، أستعيدُ أيضاُ ما كانَ من زهدي ليلتئذ بالخطر المؤكد ، المهلك ، في غمرَة ما أعترى رأسي من أفكار متلاطمة ، مضطربة . إذ لبثتُ مع هواجسي ، مقلباً مَعْميات هذا اللغز : فقد كنتُ متيقناً من أنني سمعتُ حواراً بين شخصين ، في تلك الحجرة التي خرجت منها الفتاة ، وحيدة ، وقد ظهرَ على ملامحها الفرَقُ من الجوّ المدلهمّ بأصوات العراك ، المجنون . وما فاقمَ اللغزَ ، أنّ هذه كانت عندئذ تتصرّف كما لو أنها تركتْ منسية هنا ، في الحرملك . " آه ، هذا هوَ " ، ومضَ في ذهني ، على حين فجأة ، ما كانَ قد طلبه الشاملي مني ، همساً ، عند مبتدأ المساء ، بخصوص حاجة " أهله " لأعشابي ورغبته أن نصعد معاً إلى الحرملك . كلّ هذا كان قد أنسانيَه إرهاقُ السّهرة والجدل الذي تخللها والمنتهي بالهجمة المحتدمة للأورطات . " ياسمينة ، هل أنت بخير ؟ " هتفَ الشاملي وهوَ يتلقى أبنته ، وكانت تنشج بخفوت ، والتي أكبت على عنقه . كنتُ قد سلمتُ الفتاة لصاحب الدار ، ما أن أدركته في فناء السلاملك وكان مجتمعاً مع أركان المجلس . فبادر الرجلُ ممتناً يشكرُني ، ثمّ دعا وصيفه فأمره بأن يمضي بالبنت إلى قبو المؤن . ينبغي عليّ الإشارة هنا ، إلى أنّ نطقَ كبير الأعيان أسم أبنته ، على مسمع من رجال غرباء ، كان ولا غرو شيئاً مستغرباً لو حصل ذلك في ظرف آخر . على أنّ أكثر الحضور ، كانوا في تلك الهنيهة من القلق أنهم لم ينتبهوا حتى لوجود الفتاة . والواقع ، أنّ شخصاً واحداً حسب ، كان مهتماً بهذا الوجود الأنثويّ ، الطاريء ـ كما لحظته بنفسي ، وبتأمل موارب ، من ملامح قوّاص آغا . هذا الأخير ، كان عندئذ يرميني بنظرات خفية ، غير طيبة ، فيما رميات الأسلحة النارية أضحت الآن من الندرة ، أنها جعلته يلتفت نحوَ الشاملي قائلاً : " ما أخشاهُ ، أيها الزعيم ، ألا يكونَ ثمة ذخيرة كافية بعد ، لدى رجالنا " . ولكنّ الزعيمَ الآخر ، العريان ، هوَ من تكفل الإجابة ، مصرّفاُ على أسنانه بحنق : " إنّ الوجاقات ، التي تمتلك الأسلحة والذخيرة ، من المفترض أنها من يضمنُ أمنَ حيّ القنوات " " " لا داعي للهمز ، أيها الموقر . إنّ آمر وجاق اليرلية هنا ، معكم في المصير نفسه " ، ندّت عن قواص آغا بنبرَة متعالية وهوَ يحدّق بعينيّ الآخر . عادَ خصم الأنكشارية ، العنيد ، إلى القول متهكماً هذه المرة : " يبدو أنها ستتحرك ، أخيراً ، لنقل جثة آمرها حسب " . على أنّ كبيرَ الأعيان قطعَ عندئذ على المشادة سبيلها . كانت ملامحُ وجهه ، الحَسَنة ، متماهية بخطوط ، شاحبة ، من عارض من مرضه ، جدّ للتوّ ؛ عارض متأثر ، ولا غرو ، بمشاعر النهاية القريبة ، المُحَتمة ، لرحلة العمر في طريق الحياة الطويل ، المتعثر بالأشواك والحصى . وكما لو أنه يرتقي بمراتب عزمه ، تنحنحَ الكبيرُ بصوت مرتفع ، مستهلاً من ثمّ القولَ : " بعد التوكل على الله خالق السموات والأرض ، أقول لحضرتكم أنّ نتيجة الواقعة هذه ، كما ترون ، باتت محسومة لصالح المعتدين على حرمَة ديارنا ؛ وبالتالي ، لحساب من يدفع لهم ، وهوَ الوزيرُ المارق . وأجدني أستأذنكم في عَرض ريبتي بأننا ضحيَة مكيدة ، أو بالأصح ، خيانة . من الصعب الآن ، بطبيعة الحال ، محاولة معرفة هذا الخائن ؛ ولكن ، بالمقابل ، من المُستطاع تسمية سيّده : ذلك الشخص ، المستفيد من إزاحتنا عن الطريق ، خدمة ً لخططه وأطماعه " . صمتَ الشاملي بعضَ الوقت ، مفسحاً المجالَ للحضور لهضم المفردات الخطرة ، العَسرَة ، ثمّ خلصَ للقول : " إنه شخصٌ طموحٌ للغاية ، ماكرٌ ودسّاسٌ ، لديه الكثيرُ من الأسباب لكي يحاول الخلاص من مجلسنا . فهل عرفتموه أيها الموقرون ؟ "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : مَرقى 10
-
الأولى والآخرة : مَرقى 9
-
الأولى والآخرة : مَرقى 8
-
الأولى والآخرة : مَرقى 7
-
الأولى والآخرة : مَرقى 6
-
الأولى والآخرة : مَرقى 5
-
الأولى والآخرة : مَرقى 4
-
الأولى والآخرة : مَرقى 3
-
الأولى والآخرة : مَرقى 2
-
الأولى والآخرة : مَرقى
-
الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
-
الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
-
لماذ قتلتم مروة ؟
-
رؤى
-
بحثاً عن طريدةٍ اخرى
-
قيثارة الأطياف
-
تراتيل
-
ترانيم
-
الأسبار
-
الصفعة في السينما المصرية
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|