|
الفصل 14 من رواية تصبحون على غزة
حبيب هنا
الحوار المتمدن-العدد: 2968 - 2010 / 4 / 7 - 19:26
المحور:
ملف مفتوح: مناهضة ومنع قتل النساء بذريعة جرائم الشرف
14 بجهد زاحف ، تحاول ريتا استكمال الصورة التي رسمتها للحياة في القرية الأصلية ولكن دون جدوى .. فتقرر البقاء جالسة على حافة الشرفة . ضائعة النظرات ، لا رغبة لديها في عمل أي شيء مهما كان مفيداً ، غير أن النظرات ، رغم ذلك ، لا تترك تفصيلاً واحداً إلا وتسجله : سجلت الشمس تطل على استحياء ، الفراشات تداعب أزهار الورود، العصافير تنزل عن الأشجار بحثاً عن الطعام على الأرض ، بعض الفتية يتراكضون بمرح ، قطة سوداء وأخرى بيضاء تتصارعان ، سيارة حديثة تقودها سيدة في مقتبل العمر يجلس إلى جوارها في المقعد الأمامي كلب باهظ الثمن ، رجل عجوز يترنح أمام أبواب المنازل المتناثرة وفي يده زجاجة جعةٌ ، بعض الشبان يمارسون رياضة الركض التي اعتادوا عليها كل صباح ، ظلال الشمس تتكسر على أغصان الأشجار، فتسقط على الأرض شتاتا ً. بقايا خمول لأشخاص لا معنى لذهابهم إلى العمل متأخرين ، موسيقا كلاسيكية لفنان قدير يصعب على الذاكرة استحضاره ، تأتي من البعيد فتحول دون تراكم الهموم فوق الأحزان ، أشياء عابرة ليس لها معنى . حدّثت نفسها بقوة الزمن المختزل ، الزمن الذي كثف ستين عاماً في لحظاته قبل قليل ، ستتعلمين كيف تبدعين فكرة جديدة ، لأنك ستكونين بحاجة إلى حالة إبداع غير مسبوقة ، تعلقينها على صدرك وساماً لا ينافسك عليه أحد ، وسيكون عليك مناطحة الذين سبقوك ، فكرة بفكرة ، سيكون عليك وضع قانون أنت أول من يلتزم به ، وتغلقين عليك باب غرفتك وتقرأين الكتب الموجودة لديك وتكتبين كل ما هو مختزن في ذاكرتك . سيكون عليك أن تحلمين باستمرار ، أن ترسمين دائماً ، أن تمزق ما كتبت وتعاودين صياغته من جديد ، كي تصلين في النهاية إلى ما تصبين لتحقيقه ، حرة التفكير ، تتجاوزين قدرة الحواس الخمسة على إدراك العالم . ستقولين : لقد اعتاد الناس الخطر لدرجة أصبح معها عدم التعرض إليه أمرأ عابراً ومؤقتاً ! . ستضحكين بأعلى صوتك وأنت ترددين من بين خلايا الهستيريا : هذا ليس الوطن الذي اشترك الجميع في بنائه . هذا الهواء ليس ذات الهواء الذي اتفق الجميع على استنشاقه ، وهذا الضيق ، لا قبل لي على وصفه ، ضيق ، من ذلك التكرار الممل ، المكون من طلوع الشمس يومياً من نفس الزاوية التي تطلع منها تقريباً ، بنفس الرتابة القدرية القاسية التي تعودت عليها كل صباح . وسيدوي في عقلك ذلك العواء لرياح الزمن العاتية ، عواء الجفاف والحصار وعدم هطول الأمطار في موسمها ، عواء صمت أجيال لم يتوقع أحد صمتها كي تنطق كفراً ، عواء رحيل البدايات نحو الصحراء وينابيع المياه . وستكتشفين أنك بحاجة ماسة إلى مقياس احتياطي تتمكنين من خلاله قياس قدرتك العقلية عندما تتعطل المقاييس الأخرى المتعارف عليها . وستقولين : هأنذا ما زلت حية كلما علا صدرك وانخفض تبعاً لحالات الشهيق والزفير ! عاد إبراهيم للبيت باكراً على غير عادته ، وجدها جالسة في الشرفة، وقف قبالتها ينظر إليها ، وقفت قبالته ، تنظر إليه بتمعن واكتشفت فجأة أنه ينظر إليها بذات المعني . تبادلا النظر في عيون بعضهما ، عيناه سوداوان ، وعيناها رماديتان . أخذهما النظر إلى بعضهما ، وحيدين على الشرفة تتعانق الأصابع والسيقان والقامة في حفل طقوسي يكاد يكون استعادة موفقة تماماً للماضي بكل تفاصيله . شعرت بإرهاق فجائي ، جلست مجدداً ، بعد برهة تناولت كتابا ًكان موضوعاً إلى جوارها ، أخذت تحرك شفتيها حركة خفيفة لا يمكن تمييزها عن بعد ، وكان إبراهيم ينظر إليها متابعاُ كل تفصيل، الشعر الأشقر المنسوج من خيوط الشمس عند الأصيل ، الوجه المنحوت بتفنن من بقايا مدينة مدمرة ، انف صنع خصيصاً للمحافظة على رائحة الماضي ، شفتان ناعمتان حزينتان تبكيان وتضحكان في آن واحد، تعبيراً عن الحضور والغياب ، عن التقدم والتراجع ، عن ذكريات كانت وما تزال تنزف في الرأس فتحدث ثقوباً صعب الشفاء منها ، ثم نهضت واقفة ، وقالت فجأة : - لماذا تخوض المجتمعات الحروب إذا كان لا بد من المصالحة في نهاية الأمر ؟ ومثل فنان يحاول دائماً أن يبقي شيئاً خاصاً خارج لوحته من أجل أن يتمكن من وضعه داخل اللوحة المقبلة ، حاول إبراهيم الذي يسمع ويرقب ، أن يبقي شيئاً من الحديث خارج موضوع التناول حتى يزجه في الحديث اللاحق ، ثم قال على غير توقع : - من أجل تحقيق بعض المكاسب . - وهل المكاسب تساوي حجم الدم المهدور، والدمار الموجع، وانين الأطفال، وبكاء الثكالى، وعذاب المعاناة التي لا تتوقف ؟ - أحياناً نعم ، وأحياناً لا : - كيف ؟ - عندما يكون المجتمع لا يملك شيئاً يخاف على فقدانه .. - وإذا كان يملك ؟. - حساباته تختلف . لا يذهب بعيداً في المجازفة .. - وضح أكثر . - الدولة مثلاً ، تختلق الفوضى أحياناً لأنها تخدمها .. - كيف، ولماذا ؟ - تفتعل الأحداث وتطورها، فيسقط الضحايا ويتفاقم الانفلات، وتتكون الجماعات المنسجمة من أجل الدفاع عن نفسها أما م هذا الوضع . - وبعد .. - تضع القوانين التي تحد من تعاظمها وتسعى إلى تطبيقها مهما كلف الأمر ، وبهذا تكون أصابت عصفورين بحجر . - معك حق ، ولكن هذا الأمر مختلف عن صراع المجتمعات . - بالتأكيد ، غير أن القياس واحد ، الذي لا يملك لا يخسر شيئاً ، والذي يملك يتردد ولا يذهب بعيداً في المجازفة . - معك حق .. قيل قديماً ، في زمن الحرب البقاء في الملاجئ أخطر من التواجد في الشوارع ، وفي الشوارع، الحياة تنبض . الرياح تحرك أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض في حركة دائمة لا تعرف تفاصيلها سوى عين الكاميرا التي ترصد التفاعلات دون كذب أو تزوير . الأوراق تتحرك شمالاً ويميناً ، شرقاً وغرباً ، تدور دوراناً جنونياً ، تعلو وتهبط ، تجعلك في حالة ارتباك دائم أمام توقعات عديدة على رأسها : زوبعة قوية ستأتي بعد لحظات تكنس كل الأوراق الساقطة وتقذفها حيث يجب أن تكون، بل ربما تأتي الزوبعة فتسقط ما تبقى من أوراق الشجر رغم أن الموسم ليس خريفاً ، وربما تبقي إيقاع الحركة على تماوجها حتى تستمر في سيطرتها على انتباهك وتحفزك، وشحنك بمزيد من التوقعات ، باستثناء واحد منها ، بقائك خارج دائرة القبض على الأحداث والتصرف بها ، كما لو أنها تخشاك ، تخشى قدراتك التي لا تعرف عنها الكثير ، لا تعرف متى، وأين، وكيف، تستخدمها بأقصى طاقاتها كي تنتج حالة جديدة غير متوقعة ، فتستقطب كل الأنظار إليك وحدك ، فتكون كما ينبغي لإنسان غريب ، مغترب أن يكون حتى يضع حداً لحالة الاغتراب. كمن يستيقظ فجأة ويوقظ حواسه خوفاً من أن يغرس شخص آخر نصلاً في خاصرته ، يطعنه في ظهره ثم يطالبه بالهدوء حتى لا يلفت انتباه الآخرين . لنعبر التاريخ من قلب النفق المظلم . لقد طالت الغربة حتى تعودنا عليها ، لا ، بل تحولت إلى حالة اعتيادية والتخلص منها بات بحاجة إلى مقاومة شرسة ، وربما يصعب التسليم بأننا جادون بالتخلص منها ، أصبحت جزء منا بقدر ما نحن جزء منها . نحن الاثنان جزء لواحد ، مكمل لبعضه ، تافه ومريض ويستحق الشفقة ، شفقة القادر على الضعيف ، المهمش ، الجالس على رصيف المعاناة والذكريات واجترار الماضي والتغني به .. دائماً علينا أن نفكر بالضرورات المزعجة للاختيار . نعم ، ولكن لماذا لا نفعل مرة واحدة على الأقل ، عكس ذلك ؟ هل لأننا نخاف على ما نملك ونحن لا نملك شيئاً نخاف عليه ؟ إذن ، دعونا نبحث عن مخرج آخر ، ليس توافقياً ، يبيح المحظور ويؤسس للمستقبل . الخوف من الفشل ليس ذريعة ، وليس المرة الأولى التي نفشل فيها . ولماذا دائماً يتعين علينا أن نفشل ؟ هل من أجل أن نفشل مجدداً ما دمنا لا نتوقع النجاح ؟ . ربما الإدمان على المرض عامل مهم من أجل تعافي الجسم ، فعدم الشعور بالألم يفسح المجال أمام الأطباء حتى يثبتوا جدارتهم على جدران الجسم المنهك ، الممزق النسيج جراء ثقوب الإبر المتواصل في محاولة تأكيد أن المعجزة تبدأ من الثقب وتنتهي عند التئامه . أليس هذا مضحكاً بقدر التباكي عليه ؟
#حبيب_هنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل 13 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 12 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 11 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 10 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 9 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 8 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 7من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 6 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 5من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 4 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل3 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل2 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل1 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل16 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 31 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 23 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل22 من رواية تصبحون على غزة
-
أيام السينما الخليجية في فلسطين
-
حكاية بحرينية
-
الروائي الفلسطيني : العزلة والحواجز
المزيد.....
-
فوز ترامب يهيمن على نقاشات قمة المرأة العالمية بواشنطن
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
-
إعلامية كوميدية شهيرة مثلية الجنس وزوجتها تقرران مغادرة الول
...
-
اتهامات بغسيل رياضي وتمييز ضد النساء تطارد طموحات السعودية
-
جريمة تزويج القاصرات.. هل ترعاها الدولة المصرية؟
-
رابط التسجيل في منحة المرأة الماكثة في المنزل 2024 الجزائر …
...
-
دارين الأحمر قصة العنف الأبوي الذي يطارد النازحات في لبنان
-
السيد الصدر: أمريكا أثبتت مدى تعطشها لدماء الاطفال والنساء و
...
-
دراسة: الضغط النفسي للأم أثناء الحمل يزيد احتمالية إصابة أطف
...
-
كــم مبلغ منحة المرأة الماكثة في البيت 2024.. الوكالة الوطني
...
المزيد.....
-
العنف الموجه ضد النساء جريمة الشرف نموذجا
/ وسام جلاحج
-
المعالجة القانونية والإعلامية لجرائم قتل النساء على خلفية ما
...
/ محمد كريزم
-
العنف الاسري ، العنف ضد الاطفال ، امراءة من الشرق – المرأة ا
...
/ فاطمة الفلاحي
-
نموذج قاتل الطفلة نايا.. من هو السبب ..؟
/ مصطفى حقي
المزيد.....
|