|
-الإرسي- لسلام ابراهيم: الرواية والكناية عن التجربة العامة
سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 2967 - 2010 / 4 / 6 - 02:09
المحور:
الادب والفن
في ربيع 2009 أقام البيت الثقافي ندوة عن روايتي قبل الأخيرة - الإرسي - أنشر هنا في موقعي أوراق الندوة وهذه ورقة الروائي أحمد السعداوي
"الإرسي" لسلام ابراهيم: الرواية والكناية عن التجربة العامة أحمد سعداوي هذه هي المرة الاولى التي اطلع فيها على عمل للروائي سلام ابراهيم، ولم تكن المصادفات وحدها هي التي جعلتني أقرأ رواية "الإرسي"، وانما حرص المؤلف مشكوراً على إيصال نسخة من روايته لي، وانتقلت النسخة بين الاصدقاء حتى وصلت الى يدي قبل ايام معدودة. ولكن، من خلال المصادفات، ومن خلال سعي الروائيين ـ وانا منهم ـ الى توزيع النسخ المحدودة من رواياتهم، ندعي إننا نحصل غالباً على تصور عام عن المشهد الروائي العراقي الآن، وهذه حالة تستدعي ملاحظة سأوردها لاحقاً. ولأن الحديث هنا عن "الإرسي" الرواية الصادرة حديثاً لسلام ابراهيم، ولأن الحديث ضمناً هو عن سلام ابراهيم ايضاً، أجد نفسي، بدايةً، أمام ضرورة النظر الى علاقة الرواية بكاتبها، خصوصاً مع العديد من الاشارات النقدية والمتابعات الصحفية التي نشرت عقب صدور الرواية، عربياً في الغالب، التي وضعت الرواية في مواجهة كاتبها، بكونها، ليست عملاً مختلقاً، وانما منقولاً عن التجربة. وضمن حدود الرواية كنص، سنجد ما يعزز هذا التصور، فالكاتب يهدي عمله الى جملة من الاسماء (ناهدة، همسة، كفاح، صلاح) ونخمن انها اسماء لأفراد من العائلة، ونرى لاحقاً انه يستخدم بعض هذه الاسماء بالاشارة الى ابناء البطل. كما ان جزءاً من احداث الرواية يجري في الديوانية، مدينة الروائي، بالاضافة الى ان المسار العام للاحداث، ابتداءً من الديوانية نفسها، وحتى معاقل الانصار الشيوعيين في جبال كردستان، هي مسارات للتجربة الخاصة بسلام ابراهيم نفسه. والرواية بذلك تعلن تداخلها مع التاريخ الشخصي للمؤلف، وتعالقها مع التاريخ العام، لتجربة لم تكن محصورة بالمؤلف فقط، وانما شملت شريحة واسعة من العراقيين، مازالت تجربتهم للإن غير مكرسة في متن الذاكرة الحياتية والثقافية العامة. ولربما لهذا السبب الاخير، يغدو هذا التعالق والتداخل الشديد لرواية الإرسي مع التاريخ أمراً مهماً وحيوياً، لجهة الأرشفة والتوثيق، ليس لمجرد الحوادث والتجارب المروية، وإنما للنسغ الانساني الذي تخللها، والطبيعة الداخلية للتجربة الانسانية التي أنتجت في مرحلة تاريخية محددة إبتدأت مع حرب الثمانينيات وتفرقت نهاياتها لاحقاً. ومن الطريف بالنسبة لي، انني كنت اقرأ في وقت متقارب رواية أخرى، لروائي عراقي آخر مر بنفس التجربة، هو كريم كطافة، الذي تتشابه محطات السيرة لديه مع سلام ابراهيم كثيراً، ولكن كريم كطافة، في روايته "حمار وثلاث جمهوريات" أختار الفنطازيا، مع اشارات شحيحة الى تجربة الانصار في كردستان، ظلت ترقد في العمق من عمله المشغول بلغة ساخرة، بينما كان سلام ابراهيم مشغولاً بمعمار قائم على التفاصيل الصغيرة، والى استغوار تجارب صغيرة ايضاً ضمن المشهد العام للتجربة الكلية للبطل، فيبدأ من تساقط نتف الجص من سقف غرفة الارسي ووقعها على الارض، ولا ينتهي بتأمل ماسورة البندقية او المسدس ومحاولة الكشف عن حجم الشجاعة التي لديه والتي تمكنه من اطلاق النار على نفسه في الحظة الحاسمة، التي قد تكون الوقوع في أيدي اجهزة النظام السابق القمعية. غير ان قيمة الرواية لا تكمن في ارشفتها او سردها السيري فحسب، وانما في براعة البناء وثراء اللغة المحبوكة بمهارة عالية، وبالقصديات الفنية التي سعى المؤلف الى إبرازها ومنها دلالة الإرسي نفسها، هذه المفردة التي تشير الى مكان العزلة الخانقة، حيث لا فرصة للعطاس او السعال، فتغدو غرفة الارسي داخل الرواية، ليست مجرد غرفة لم توجد اصلاً للأستخدام الشخصي من قبل سكان البيت، بقدر ما هي مخزن للمؤن والمهملات في البيت، تغدو هذه الغرفة رمزاً لجوانيات البطل، المحجوز والمأسور بوضع عام يطارده ويحوطه من كل اتجاه، حيث الحرب المشتعلة على الجبهة الشرقية والتي تحصد ارواح الشباب المجندين دون ارادتهم، وحيث القمع السياسي، الذي لم يترك احداً من المعارضين او المخالفين خارج اقبية السجون او منصات الاعدام، فيغدو الهرب، أو الارتداد الى عزلة قسرية هو المتاح من حلول امام انسان يسعى للحفاظ على حريته. والرواية كانت حريصة على تصوير هذه الثنائية، حيث الهرب او العزلة داخل البلد، يحملان نفس الدلالة في نهاية المطاف، فكلاهما نوع من الاقامة في الإرسي. فالبطل الهائم بين وديان وجبال كردستان محجوز بأنغلاق الافق، حيث لا أمل واضح لبقائه كمجند معارض في عصبة تقاوم النظام الديكتاتوري، مع وقوع العديد من زملائه قتلى لاطلاقات تأتي بها المواجهات مع جيش النظام، او قتلى خطأ اعتباطي ليس إلا، كالانزلاق من حافة الجبل والسقوط في الوادي دون ان يصدر عن الساقط صوت، ودون ان يستحق هذا السقوط أي وقفة تعاطف مفرط من قبل السائرين الى المجهول، فهذه الوقفة قد تكلفهم حياتهم ربما. وهناك طبقة من العزلة أكثر قسوة، حيث الحنين الى الزوجة والعائلة، والحنين الى الحياة المدنية والى التجوال في الاسواق، تلك التي يطل عليها بطل الرواية من غرفة الارسي في بيت عمته، فيرى حركة الناس في سوق قريب، ولا يستطيع القيام بأكثر من هذا. ويحضر الاشتياق الى الحياة، في غرفة الارسي ببيت العمة، او في عزلة الجبال بكردستان، على شكل اطياف جنسية، تمثل، بصورة بالغة الدلالة، اعمق ما في الأنسان من شهوة للحياة. هذا الاشتياق والرغبة بالحياة يغلفان الرواية بنوع من النوستالجيا المريرة، تلخص جانباً من الفقدانات التي عانى منها الانسان العراقي، كما انها تغطي الرواية بنفس غنائي، يتصاعد في بعض المقاطع على شكل ابتهالات وشكوى، أو يتسرب الى اللغة السردية فيقربها من اللغة الشعرية. ويعزز ذلك الاحكام في ضبط اللغة، بما يشي بكتابة متأنية غير متعجلة، كتابة مجلوة ومشغولة بصبر ومراجعة قد لا يصبر عليها الكثير من كتاب الرواية اليوم. رواية الإرسي لا يمكن ان تقرأ بعجالة، ونفاذها الى مخيلة القارئ وعقله يأتي من خلال القراءة المتأنية والمنصتة الى جوانيات التجربة المسرودة، فهي، بعيداً عن الخشية من تهمة السيرية، ترقى في نهاي المطاف الى مستوى الكناية الاجتماعية العامة، وهي من القيم الاساسية التي تسعى اليها أي رواية تكتب اليوم. وبالعودة الى الملاحظة التي أرجأتها في بداية هذه الورقة، أقول، أن الرواية العراقية الأن، التي يكتبها روائيون عراقيون كثر، تشبه، وبصورة مثيرة للتأمل، الذاكرة العراقية التي ينطلقون منها، فنحن على مستوى التجربة العامة، نعاني من ثغرات وقطوعات، وتشويه في ذاكرتنا الوطنية، والرواية العراقية ايضاً متفرقة ومشتتة، على مستوى المتن العام، حيث ما زلنا، رغم مرور ست سنوات على زوال الديكتاتورية، نعاني من أدب عراقي يصدر في الخارج ولا يصل الى بالمصادفات الى الداخل، وادب في الداخل لا يكاد يصل الى الخارج إلا بجهود شخصية وبالمصادفات ايضاً، مازلنا، رغم كل الكلام الذي قيل خلال السنوات الماضية، نعاني من ثنائية وجود متنين للأدب العراقي، ينطلقان من حاضنة اجتماعية وتاريخية واحدة، ولكنهما لا يتواصلان بسهولة. وبما أننا نتحدث هنا عن الرواية، وعن رواية محددة، نرى بان الرواية اليوم، ونحن نشهد هذا التدفق المتصاعد للمشغل الروائي العراقي، هي الاقدر على سد ثغرات الذاكرة، وعلى ارشفة التجربة العراقية المحتدمة والمتنوعة والضاجة بالتفاصيل والحكايات والمواقف الأنسانية، فرغم كل ما نقرأه من تدوينات عن تجربة الشباب الشيوعيين الهاربين من سطوة النظام المستبد الى جبال كردستان خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، تبقى الرواية، ونحن نتحدث هنا عن مثال واحد هو رواية الإرسي، هي الصوت الاكثر التصاقاً بابدان وارواح وعقول هؤلاء الشباب، وهي التي تحفظ تجربتهم من الزوال او الاعتباطية في الاحكام، او الاختزال، ليس لغاية تقديس ونمذجة، وانما لجعلها حاضرة في الذاكرة، وقابلة للتأمل ضمن اطار التجربة التاريخية العامة للمجتمع. بودي هنا، وانا انهي هذه الورقة، ان اتقدم بطلب ورجاء لدار الشؤون الثقافية العامة، بأن تتصدى لمشروع لم الشتات الثقافي العراقي، من خلال اصدار سلسلة خاصة تعيد طباعة كل مؤلفات المثقفين العراقيين المنفيين التي كتبت وصدرت في الخارج خلال العقدين الماضيين على الاقل، من رواية وقصة وشعر وفكر ونقد، لأعادة توحيد المتن الثقافي العراقي إزاء القارئ العام والقارئ المتخصص، لكي نخفف من شقاء المثقف العراقي وشقاء ثقافته الممزقة. • القيت في ندوة بأتحاد الأدباء بغداد في 3-2009 •
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(الإرسي)..إشكالية التجنيس، والأسئلة المعلقة!!
-
رواية الإرسي.. رحلة الكينونة المعذبة ....من منظور اخر
-
أماكن حارة/ محاولة لكتابة التاريخ العراقي الحي عبر قرن
-
الإرتياب في المكان - قراءة في رواية- الإرسي
-
سلام إبراهيم.. الحياة والصداقة
-
الحياة لحظة رواية الكاتب العراقي سلام إبراهيم
-
-الحياة لحظة - . رواية تجسد العذاب العراقي في نصف قرن
-
رواية حسن الفرطوسي - سيد القوارير - عن أحوال العراقيين في بق
...
-
التسلل إلى الفردوس ليلاً
-
الصراع الثقافي في المجتمعات الديمقراطية الحقيقية - عن ساعات
...
-
سلام ابراهيم: رواية الإرسي أحدثت ثورة داخل عائلتي
-
ندوة في القاهرة لمناقشة رواية سلام إبراهيم - الإرسي
-
كلاب الألهة مجموعة القاص العراقي نعيم شريف سبعة أناشيد تهج
...
-
فيلم الجذور لأحسان الجيزاني: إنحياز للإنسان العراقي المسحوق
...
-
حكاية من النجف لحمودي عبد المحسن عالم النجف المكتظ بأساطير
...
-
-دنيا -علويَّة صُبح خلاصة حياة لا الحياة في تفاصيلها
-
منجز القصة العراقية
-
بيت النمل-* مجموعة هيفاء زنكنة القصصية المنفي كائن هش.. لا ع
...
-
حضن هو الدنيا#
-
دروب وغبار رواية جنان جاسم حلاوي عن العراقي التائه الباحث
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|