|
الإباء وعزة النفس في شخصية المتنبي بين التعالي والعتاب والحكمة - القسم الثالث
خالد يونس خالد
الحوار المتمدن-العدد: 2966 - 2010 / 4 / 5 - 20:16
المحور:
الادب والفن
القسم الثالث د. خالد يونس خالد
المتنبي فيلسوف القوة بين شعراء الحكمة بلا منازع هناك مسالك واضحة سلكتها الفكرة الشعرية. نجد مثلا التعالي وتقديس القوة في أدب شعراء الحماسة، ولا سيما أبي تمام الطائي. لكن فلسفة القوة تجلى بوضوح في شعر أبي الطيب المتنبي إلى درجة اعتبره البعض، ‘‘فيلسوف القوة بين شعراء الحكمة بلا منازع‘‘، حيث ظهر أكثر ما ظهر في مفاخره ومدائحه الحماسية. (ينظر: كمال اليازجي، معالم الفكر العربي، ص106-107). وقال الدكتور اليازجي أستاذ الأدب العربي والفكر الاسلامي، أن نزعة القوة إلى جانب الحكمة في شعر المتنبي ‘‘هي ولا شك، وليدة الطموح الذي لم يكن ليقف منه عند حد. فقد كان كثير التعاظم، شديد الثقة بالنفس. ولما كان عصره عصر استبداد واستئثار واغتصاب، وكانت القوة هي الوسيلة إلى السيادة والسيطرة، فقد اعتبرها مرتكز الخُلُق ولُبّ الحياة وجوهر القيم، فكانت لذلك في شعره العنصرَ الذي التقى عنده الفخر والمدح، فجاءت من ثم أروع حكمه مسلوخةً من معنى القوة، منسوجة من خيوطها‘‘.(كمال اليازجي، معالم الفكر العربي، ص107-108) واعتبر ذلك في قوله: أين فضلي إذا قنعت من الدهر بعيش معجل التنكيد أبدا اقطع البلاد ونجمي في نحوس وهمتي في صعود عش عزيزا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود واطلب العز في لظى، ودع الذل، ولو كان في جِنانِ الخلود! واقرأ معي مجموعة مختارة من حكم فيلسوف القوة والحماسة أبو الطيب المتنبي، لتجد بين أبجدياتها البلاغة والنباهة إلى جانب العزة والشهامة. و من يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا
أزل حسد الحساد عني بكبتهم فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
و ما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
تركت السرى خلفي لمن قل ماله و أنعلت أفراسي بنعماك عسجدا إذا سأل الإنسان أيامه الغنى و كنت على بعدٍ جعلنك موعداً فسار به من لا يسير مشمرا وغنى به من لا يغني مغردا
أجزني إذا أنشدت شعراً فإنما بشعري أتاك المادحون مرددا وأقرأ أيضا: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني أنا الصائح المحكي والآخر الصدى
ثم اقرأ الفخر والتباهي إلى درجة لا يتخيل المرء أن الأعمى يبحث عن شعر المتنبي ليقرأه، وأن ذكره قد انتشر في الآفاق حتى سمعه الأصم. قال: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صممُ وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
ثم اقرأ تحديه للنكبات طالما أنه يعيش في العلا، رافضا الذل، دون أن يبالي ما يصيبه طالما أنه عزيز النفس أبيٌ فيقول: ولست أبالي بعد إدراكيَ العلا أكان تراثا ما تناولت أم كسبا وفي الجسم نفسٌ لا تشيب بشيبهِ ولو أن ما في الوجه منه حرابُ يغيّر مني الدهر ما شاء غيرها وأبلغ أقصى العمر وهْي كَعابُ ثم يبين لنا حبه للعلم والقراءة، وعدم خوفه من الموت لأن الموت لابد منه، لذلك يجب على المرء أن يعيش عزيزا كريما: أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الأنام كتابُ مـاذا لقيت من الدنيا وأعجبها أني بما أنا شاكٍ منه محسودُ تمرستُ بالآفات حتى تركتها تقولُ: أمات الموت، أم ذعر الذعرُ
هل ذهب المتنبي ضحية بيت شعر أو ضحية جشع الأعراب أو ضحية التباهي؟
انتقد بعض الباحثين في الدراسات الأدبية أبا الطيب المتنبي من أنه أطلق لسانه دون رادع لهواه. بل انتقدوه لأنه لم يكن يفكر بالعواقب في هجائه لبعض الملوك والأمراء . أقف عند هذه الإشكالية، كما وقفت عند إشكالية ‘‘لقب المتنبي‘‘ في القسم الأول من هذا البحث. هناك مَن يقول أن المتنبي ذهب ضحية للسانه، وهناك مَن لا يطمئن لهذا الرأي، ويقول أنه لم يذهب ضحية للسانه ولا ضحية لجشع الأعراب ، إنما ضحية تباهيه أو إلى القرامطة والعرب. أصحاب الرأي الأول القائل أن المتنبي ذهب ضحية لسانه يرددون قول الشاعر: كم في المقابر من قتيل لسانه . . . كانت تهابُ لقاءهُ الفرسان كيف كان ذلك؟ قيل أن أبا الطيب المتنبي نظم قصيده هجاء في ضبَّة بن يزيد فأفحش فيه وفي أمه القو، قائلا : ما أنصف القوم ضبّة....... وأمّه الطُرطُبّة فلا بمن مات فخرا....... ولا بمن عاش رغبه وانما قلتُ ما قلت ....... رحمة" لا محبّة وحيلة" لك حتى ...... عُذِرتَ لو كنت تِيبه ومن يبالي بذمٍّ ..... اذا تعوّد كسبه اما ترى الخيل في النخل .... سُربة" بعد سًربه فسل فؤادك يا ضب...... اين خلّف عجبه وان يخنك لعمري ...... لطالما خان صحبه وكيف ترغب فيه ..... وقد تبيّنت رعبه ماكنت الا ذباب ..... نفتك عنّا مذبّه وكنت تفخر تيه ....... فصرت تضرط رهبه وان بعدنا قليلا ....... حملت رمحا" وحربه وقلت : ليت بكفّي ....... عنان جرداء شطبه ان اوحشتك المعالي ...... فانها دار غربه او آنستك المخازي ...... فانّها لك نسبه وان عرفت مرادي...... تكشّفت عنك كربه وان جهلت مرادي....... فانّه بك اشبه
يلاحظ القارئ أن القصيده وصف شنيع وتهجم وهجاء إلى درجة الإهانة لضبة وأمه. ولما سمع فاتك الاسدي خال ضبه هذه القصيده في اختة وابنها نصب العداء للمتنبي فخطط لقتله. وأثناء سفر المتنبي وابنه محسد وخادمه، إضافة إلى حمله أمواله الكثيرة، قال له رجل إن فاتك الأسدي ومعه عشرون فارسا، ويُقال ثلاثون فارسا يبحثون عنك، فكن حذرا وخذ بعض الفرسان لحمايتك. لكن المتنبي رفض أن يأخذ معه أي فارس لقناعته بنفسه، ورحل. وفي الطريق أخبره غلامه بصحة رأي الرجل الذي نصحه أن يأخذ بضعة فرسان معه للدفاع عنه، فغضب المتنبي وشتم الغلام وقال له: والله لاتتحدث العرب عن أني سرت بخفارة غير سيفي. وبينما كان المتنبي وابنه وخادمه في الطريق قابلهم فاتك الاسدي خال ضبة. وعندما رأى المتنبي كثرة عدد الفرسان مع الأسدي أراد أن ينهزم، فقال له ابنه ياأبتي: ألستَ القائل : الخيل والليل والبيداء تعرفني ...... والسيف والرمح والقرطاس والقلم فقال له أبوه: ويحك قتلتني، ثم قاتل حتى قتل.
وهناك رواية أخرى تقول أن غلامه قال له، أين أنت من قولك: الخيل والليل والبيداء تعرفني...... والسيف والرمح والقرطاس والقلم فجاوبه المتنبي: قتلتَني قاتلك الله، ثم رجع وقاتل حتى قُتِل.
ومن هنا جاء قول البعض من أنصار هذا الرأي، أن هذا البيت: الخيل والليل والبيداء تعرفني ...... والسيف والرمح والقرطاس والقلم هو الذي قتله، فأصبح قربانا لعزة نفسه وكبريائه، معتبرا أن الشعر مسؤولية، وأنه يعبر عن شخصية الشاعر في كل حرف من حروفه. بينما قال البعض الآخر أنه ذهب ضحية سلاطة لسانه وهجائه لضبة بن يزيد العيني في الكوفة، وأفدى بحياة إبنه وخسر كل أمواله. أما اصحاب الرأي الثاني فيؤكدون أن المتنبي لم يعرف الاستسلام، حتى دفع حياته ثمنا للتعالي وعزة النفس. وبسبب شهرته كثرت حساده . ولعل أبلغ ما يمكن الاعتماد عليه هو ما ذهب إليه عميد الأدب العربي (طه حسين) في الرأي القائل أن أبا الطيب المتنبي لم يذهب ضحية للسانه. يقول طه حسين ‘‘أحس من نفسي ترددا في قبوله، وأراها تنبو عنه ولا تطمئن إليه، وأرى خاطرا يلح عليَّ ولا يكاد يفارقني منذ درستُ شعر المتنبي وحياته في شئ من التدقيق والتفصيل ... وهذا الخاطر يُلقي في نفسي أن المتنبي لم يذهب ضحية لهذه القصيدة (يعني القصيدة التي هجا بها ضبَّة بن يزيد)، ولا ضحية لجشع الأعراب فيما كان يسوق من مال ومتاع، وإنما أدى بموته، إلى القرامطة من جهة، وإلى العرب من جهة أخرى. ثمن هذه الخيانة التي اقترفها في الكوفة، وسجلها في نفسه في شيراز، وعاد وفي نفسه أن يمعن فيها ويباهى بها، ويملأ بها الأرض إذا انتهى إلى بغداد. أما الذين قتلوه كانوا من القرامطة، فشئ لا أستبعده (طه حسين، مع المتنبي، في: من تاريخ الأدب العربي، المجلد الثالث، ص352 ).
(لعل نصا، فيما نقله البغدادي في خزانة الأدب من كتاب ‘إيضاح المشكل لشعر المتنبي من تصانيف أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني‘ يقرب هذا ويؤيده. فهو يحدثنا بأن فاتكا لما أبى المتنبي ماعرض عليه من خفارته في الطريق جمع له سبعين من الأعراب الذين يشربون دماء الحجيج فقتلوه وقتلوا مَن معه. وإنما كثر الإعتداء على الحجيج وفحش، وهان على الأعراب أن يستبيحوا دماءهم ويشربوها، بعد أن اشتد تأثر البادية العراقية بدعوة القرامطة (أنظر خزانة الأدب الجزء الأول، صفحة289) نقلا عن (طه حسين، مع المتنبي، مصدر سبق ذكره، ص352). يقول طه حسين: ‘‘فقد كان الأعراب منتشرين في بادية العراق في ذلك الوقت، متأثرين بدعوة القرامظة أشد التأثر، يُظهرون ذلك إن أمكنتهم الفرصة فيغيرون على المدن والسواد، ويُخفون ذلك إذا ظهر بطش السلطان. وما أدري، إذا كان ضبة الكلابي داعية من دعاة القرامطة في الكوفة، فما الذي يمنع خاله الأسدي أن يكون متأثرا بهذه الدعوة أيضا؟‘‘، (طه حسين، نفس المصدر، ص352). هذا هو الشاعر الذي عاش وحيدا ومات وحيدا بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس.
#خالد_يونس_خالد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإباء وعزة النفس في شخصية المتنبي بين فلسفة القوة والتعالي
...
-
الإباء وعزة النفس في شخصية المتنبي بين فلسفة القوة والتعالي
...
-
بين شاعر الفلاسفة المعري وفولتير العرب طه حسين - القسم الثان
...
-
بين شاعر الفلاسفة المعري وفولتير العرب طه حسين - القسم الأول
-
متى تنهض ليسقط قصر الباستيل ويتفجر البركان؟
-
قراءة نقدية في كتاب ‘‘التيار القومي الإسلامي‘‘ للمفكر الإسلا
...
-
إشكالية الثقافة وأزمة المثقف العراقي والبؤس الاجتماعي
-
اليتيم
-
بغدادُ العَفةُ في روحكِ والكُلُّ يُريدُكِ
-
الديمقراطية والخبز - أيهما اختياره أولا؟
-
لنتعظ من التاريخ حتى لا تتكرر المأساة بعد سقوط الصنم
-
محاضرة مفتوحة بعنوان ‘‘نظرة في الاتجاهات والأساليب النقدية‘‘
-
محاضرة عن ‘‘فرضية طه حسين حول الشعر الجاهلي والتحقق من منهجه
...
-
يا غزة أصرخ لألمك ولا أستكين!!
-
هل يغيب النقد لصالح سلطة النقد أو لصالح الشاعر نفسه؟ قراءة ن
...
-
تفاوت القيم الثقافية الوطنية وآليات العقل الأوربي المؤثرة في
...
-
هل نقرأ بوعي تاريخ الأدب العربي؟ قراءة نقدية
-
حوار مع الناقد والإعلامي الفلسطيني نبيل عودة في بحثه -حتى يج
...
-
أسمع محمود درويش يهمس في أذني
-
استراتيجية حركات المجتمع المدني في العراق ودورها في البناء و
...
المزيد.....
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
-
-مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|