|
الأولى والآخرة : مَرقى 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2958 - 2010 / 3 / 28 - 18:25
المحور:
الادب والفن
هنا ، في يقظة هذا الصباح ، الأسنى . في السدرة العليا من جزيرة الأروام هذه ؛ أين المنزل الصغير ، المحتفي بحلولي فيه مُسَرْغناً منذ مدة ما ، قصيرة أو طويلة ؛ مدة ، معلومة بأرقام التقاويم ، ومجهولة ، بالمقابل ، من وعيي . في هذا الفجر الأغر ، إذاً ، رأيتني أتناهضُ مبكراً ـ كما دأبت عليها عادتي مؤخراً ، مذ شروعي بطقس الكتابة في الكناش المنذور لمدوّنة مدينتي ووقائعها ، التي شهدتها بنفسي : نحو المدينة تلك ، الحبيبة ، تريّش كلمات الحنين هذه ـ كسهم طاشَ لبّه ؛ نحو الشام الشريف ، المفصولة عني ببرّ سحيق من الجَوى وببحر عميق من الهيمان .
رحمة ، ما فتأت غافيَة ، وهيَ ما تني على حلمها السرمديّ ، المقيم ، الذي يجمعها مع ميخائيل ؛ منقذها . ولكنّ لينُ قدّها صُكّ ليلاً بفرق وجزع فكرة ، أنّ الموجَ المهتاج ، الصخاب ، كان بسبيله للتوقل صخرة ً صخرة نحوَ التلة العليا ، المُحتبيَة بيتنا . على ذلك ، ما كان غريباً أن تفارق الفتاة حرَجَها المثاليّ ، المطبوع بخلقها ، فتغادر وحدة حجرتها إلى إفتراش منامتها بالقرب من أنفاسي وغطيطي . على أنّ الشمسَ ، بدورها ، دأبت منذ الفجر أيضاً بطرد السحبَ الرمادية ، الدخيلة ، بوساطة عصا الريح ، التي تجيدُ إستعمالها بمهارة ـ كعصا الشوم بيد أحد زرب الشام . كلّ ما تشتمله عيناي ، من كائنات وتكوينات ، يُعيد لي ذكرى مدينتي تلك ، المفقودة : خلائط البشر المتنوعي الملل والأزياء ؛ أشجار الزيتون والرمان ؛ كروم العنب والصبّار ؛ تعريشات الجوري والياسمين والمجنونة ؛ الأزقة الضيقة بدروبها المُحجّرة ؛ أبواب البيوت الخشبية والمقوّسة . لولا أنّ اليمَّ هنا ، مقلوبُهُ النهرُ ثمة .
برحَ بي مقامُ الحنين ، حدّ أنني إعتدتُ الكسلَ والمللَ . وما يُنكي أكثر ، أنّ فرمان النفي ، الموصول به قدَرُ حياتنا هنا ، يُحرّم بتاتاً على المعنيّ ممارسَة مهنته السابقة . داعي الأمرُ السلطانيّ هذا ، هوَ حرمان بدرخان باشا ، من باب أولى ، من سلطته كأمير ؛ هوَ المشكل نجم تبان مجرة المنفيين في كريد ـ كما حال هذه الجزيرة بالنسبة لأخواتها في بحر الروم . وبالأمس ، شهدنا جميعاً ، نحن خاصّة الأمير ، غرغرة الدمع في مقلتيه العميقتين ، حينما شاءَ شاعرُهُ المقارنة بين أحوال جزيرة السُرْغون وجزيرة بوطان . بيْدَ أنني ، على كل حال ، لستُ منفياً بصورة إجبارية ؛ وبكلمة اخرى ، فالفرمان ذاك لا يشملني . إنّ مقدوراً أعمى ـ وليغفر ليَ الربّ شطحي ـ هوَ من قذف بي إلى هذه الجهة القصية من السلطنة ، بعد وقائع وأهوال لا يكاد يحيط بها وصف ؛ أو على الأقل ، سيكون على كناشي هذا مشقة المحاولة وصفاً .
في عارض الورى ، المحكومُ به قدَرُ حياتي هنا ، ما كنتُ معنياً ، بطبيعة الحال ، بقرار منع المنفيين من ممارسة حرفهم أو وظائفهم . إلا أنّ إشتغالي على الكتابة ، الذي إحتل حيّز وقتي بحاشية تلو الاخرى من رسائل وأشعار وتأريخ وتراجم ؛ هذا الإشتغال ، بدا تعويضاً لي عن إهمال شأن المهنة التي لم اُجد غيرها . ولكنني أعترف ، أنه لطالما داعبت العطارة خيالي ؛ لطالما حننتُ إلى عدّتها ـ كما شوق الشرّيب ، في سجنه ، للدورق والإبزيم . ولو كان عليّ أن أخوض في لجة مهنتي ، لأغنيتها ولا ريب بما إكتسبته من معارف سبقَ أن أمدّنيها ذلك الرجل الداهيَة ؛ القاروط ، الذي اُجيزَ له ، وبتدبير ربانيّ ، تغييرَ وجهة مركب حياتي ، وصولاً به إلى هذه الجزيرة البائسة : إنه ثمة اليدُ العليا ، المُتسلطة ، الحائلة دوني والعودة لموطني ؛ إنه كذلك ، مذ يقينه بأني من كشف حاصلَ خططه وأحابيله ، وجرائمه ربما ؟ فلأمسك ، إذاً ، بدفتر تذكرتي ، سعياً لتسجيل دقائق ما إلتبَسَ من أمور ، في تلك الشدائد التي جعلتْ الشام الشريف على حافة القيامة . لأتكل على الربّ ، في سعيي لتدوين ما كان قد سلف ودوّنه في آبدة اللوح المحفوظ .
لعلمكَ ، قأنا رجلُ أهواء . في آخر النهار ، أنقلبُ من بائع مستقرّ في السوق الشرعيّ ، إلى زبون جوال عبْرَ الدرب السريّ ؛ أين يتبجّس نبعُ المتعة . وإذا كانت حياتي ، حتى ذلك الحين ، غريبة عن الفوضى ، فإنّ دورتها اليومية لم تك بالضرورة منتظمة دوماً . وربما كان هذا حال الكثير من اندادي ، ما ظلّ الملكان ، الأخوان ، متفرغين لمآثرالنهار الحكيم والليل الماجن . وكان من شأن شيمتي إعتياد تجاهل ذاك الوجود الدخيل ـ أستغفره تعالى ـ وبالرغم مما يُسببه لكتفيّ من تنميل يبعث السأم . بيْدَ أنّ السلوان ، من جهته ، عليه أن يسليَ المرء الهمّ المورث تلبّك الأمعاء وعسرالهضم . هذه إحدى صفات العطارة . ولكنني أنصحُ بالجعة ـ كغاسول للمعدة ، فضلاً عن نجاعتها في غسل الكلية من الأدران . ها أنا أصعّد بحدَس ما ، غارب ، المَرْقى المفضي للدارة الحبيبة . يهمي عليّ مشهدُ الشرفة ، المطلة على الفناء الجوانيّ ، تتوسّطه فسقية مرخمة منها تندفع نافورة من ظلال ، معوّضة عن مسيل أمواهها ، النائمة بعد . الظلال تتضخم بنور البدر ، الساهر ؛ ظلال الحديقة المهوّمة كما وشبحي الساري بحذر يقظ ، حقّ له التوجّس من مفاجأة ما ، محتملة ، لأنفار الأورطات ، الملاعين ، المدججين بالعربدة والحماقة . إنه قدَرُ مدينتنا ولا شك ، مع أنه يُحال غالباً لأمور الساعة ، العجاف .
وأقول لزمرّد ، فيما هيَ تساعدني على خلع الجبّة ، الوقورة : " يبدو الطريق ، قد خلا من أهل الشرّ ؟ " " أبقى الله لنا ، إبن الطريقة " ، تجيبني باسمة عن سنّ مذهّبة . قأقول لها بلا مبالاة : " لستُ سوى إبناً للكرمة " . ثمّ أميل على آنية الشراب ، الخزفية ، أصبّ منه ما تيسر من الصهباء ، النارية ، في كأسي البللوري . وقبلَ أن أرفعه إلى فمي ، تكون قبلة زمرد موقعة هناك ، على شفتيّ . ينطبع على فمي وشمُ شفتها السفلى المضيء ذكرى طفولتها في موطن البربر ، المنطبع بدوره على الأطلس القصي . هي ذي بإيماءة تنتمي ، أيضاً ، للطفولة ما تني معابثة : " رحم الله والدكَ ، الشيخ الصالح " " لو سلكتُ طريقه ، ما قنصتني أنت ؛ يا بنة الجبل " " إبنة الجبل ؟ " ، تردد بلهجة غامضة ، والشذرات راحت تتوارى رويداً من فمها الممسّك . بدورها ، فالمشكاة تتلقف الصدى ، فتهتزّ جذوتها ، ساكبة على المشهد المتعرّي نوراً جذلاً ، مستسلماً برخاء ودعَة . وكان مربّي السالكين ، إذا لم تفوتني ذاكرتي ، قد دأب على تأنيث مفردة " الصدى " ؛ فيقول أنه إبنة الجبل . وعن أخبار الأعراب ، يُروى أنها العنقاء ، تفلت من فم القتيل ولا تريم ظامئة ، تدوّم فوق رؤوس أقاربه حتى تروى بدم مجرم .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : مَرقى
-
الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
-
الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
-
لماذ قتلتم مروة ؟
-
رؤى
-
بحثاً عن طريدةٍ اخرى
-
قيثارة الأطياف
-
تراتيل
-
ترانيم
-
الأسبار
-
الصفعة في السينما المصرية
-
فيلم حين ميسرة : أكشن العالم الأسفل
-
منزل المنفى
-
دمشق ، قامشلي .. وربيعٌ آخر
-
قلبُ لبنان
-
الصراع على الجزيرة : مداخلة تاريخية في جدل مستحيل
-
حوار حشاشين
-
نفديكَ يا أردوغان !
-
فضائيات مقاومة
-
عمارة يعقوبيان : موضوع الجنس المحرّم في السينما
المزيد.....
-
ثبتها الآن.. تردد قناة كراميش للأطفال 2024 على القمر الصناعي
...
-
جيمس كاميرون يشتري حقوق كتاب تشارلز بيليغريمو لتصوير فيلم عن
...
-
كأنها خرجت من أفلام الخيال العلمي.. ألق نظرة على مباني العصر
...
-
شاهد.. مشاركون دوليون يشيدون بالنسخة الثالثة من -أيام الجزير
...
-
وسط حفل موسيقي.. عضوان بفرقة غنائية يتشاجران فجأة على المسرح
...
-
مجددًا.. اعتقال مغني الراب شون كومز في مانهاتن والتهم الجديد
...
-
أفلام أجنبي طول اليوم .. ثبت جميع ترددات قنوات الأفلام وقضيه
...
-
وعود الساسة كوميديا سوداء.. احذر سرقة أسنانك في -جورجيا البا
...
-
عيون عربية تشاهد -الحسناء النائمة- في عرض مباشر من مسرح -الب
...
-
موقف غير لائق في ملهى ليلي يحرج شاكيرا ويدفعها لمغادرة المسر
...
المزيد.....
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
-
تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة
/ كاظم حسن سعيد
-
خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي
...
/ أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
المزيد.....
|