أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمير العادلي - قصة قصيرة - موت -















المزيد.....

قصة قصيرة - موت -


سمير العادلي

الحوار المتمدن-العدد: 2953 - 2010 / 3 / 23 - 23:34
المحور: الادب والفن
    


المحطة التالية تيوبليستان*..
استيقظتُ على صوتٍ نسائي يُبْلغُ ركابَ قاطراتِ المترو الموسكوفي العتيقِ بتلكَ العبارة.. تجاوزتُ سبعَ محطاتٍ حتى الآن، شمالاً حتى الجنوب.. نحوَ نصفِ ساعة .. مُدْةٌ غَفْوتُ فيها بعد أن سَرَحتُ بين قصائدِ ليرمنتوف* في كتابٍ ذي طبعةٍ قديمةٍ برائحةٍ سوفيتية..
قبل أن توصدَ أبوابِ القاطرةِ دخَلَتْ مسرعةً جَلْجَلَتْ ضرباتُ حذائها الـ"شبيلكا"* فضاءَ القاطرةِ.. تَنبَهتُ إلى خجلٍ هفَ على شفتيها بابتسامةٍ لم تدمْ سوى ثوان.. طأطأتُ رأسي ثانيةًً على أشعارِِ ذلك النبيلِِ مرةً أخرى.. لكن لم أجدْ هذه المرةَ ذلكَ الشاعرَ في كتابه.. فـَرَ موصِداً بابَ الخيالِ أمامي، ربما احتجاجاً على شرودي عنه لوهلة.. أو..
اكتشفت أن القراءةَ ستتوقفُ عندَ هذا الحد.. أغلقتُ الكتابَ، أو بضعَ وريقات هو كل ما تبقى منه، لكني مازلت أسمعُ همهماتِ شاعرِ يحتضر.. تلك الشقراءُ سرقت انتباهتي مجددا.. وما أن رفعتَ رأسي حتى ذُهلت.. فقد كان متلفعا برداءِ نبيلٍ، يجلسُ قريباً من جنانِها وسطَ الزَحام.. هو يقتنص الفوضى.. يتحسسُ شيئا.. مما تقدمَ من نُبله.. صامتاً، يجلس وقد اجتمعت فيه قماماتُ الموسكوفيين، برمتها.. رداءُ النبلاء لم يعد كذلك.. مهترىء.. بالٍ.. لكنه مازال محتفظاً بأثر طعنة السيف..
بعد برهة وجدته جالساً وحيداً..
- كئيبا؟
- .. لا..
- حزيناً؟
- .. ربما..
ليس بمقدورِ الرُّكاب الإستمرار باستنشاق تلك العفونة أكثر.. إلا عجوزاً في الغابرين.. بدأت تتقدم منه، وأنا كذلك.. أنا أعرفه جيدا وإن كنت لا أحمل جنسيته.. شاعر متمرد أدركَ الرومانسية مبكرا.. لكن هناك تساؤلاً تسرب إلى داخلي.. هل تعرفت على ذلك النبيل المتنكر بالنتانة.. تسلل الشكُ إلى نفسي.. حاولتُ التقصي.. أقتربُ أنا.. لكن هي أكثرُ قرباً منه.. الرائحة أزكمت أنفي.. الدوار يفقدني توازني.. منذ زمن لم أتعرض لمثله أبداً.. حتى عندما كنت أتحرى عن قصصي التلفزيونية، على مقربة من برادات الموت اليومي في مشافي بغداد في مرحلة القتل على الهوية..
هي تقترب.. وأنا كذلك.. كإني ابتعد..
وليرمنتوف توفي بطعنة سيف، قبل قرنين تقريبا.. وأنا مازلت أبعثر، بنظري، تلك الجثثَ بحثا عن مشاهد مؤثرة.. يجذبني عالمُ الأموات ثانية.. تقترب هي.. ملامحها تتضح لي.. شيئا فشيئا .. أما أنا فلا أعلم لِمَّ تسمرت قدماي أمام بوابةِ القاطرةِ وأنا أمعنُ النظرَ في ملامحِه.. هو ليرمنتوف، لكني لا أستطيع أن أقارن..صورته اختفت من الكتاب.. ومن صورته الشبحية في ذاكرتي.. أما هو فمازال جالساً يحدق أمامه صوب شيء ما.. شفتاه ترسمان ابتسامة لم أفقه معناها.. عدت أقترب منه.. حتى بدأت تتسرب إلى نفسي أصواتُ من أحب،.. ولا أحب.. صورُهم.. شريط سينمائي.... أطفال وشباب..رجال ونساء.. أمي.. أبي.. أصدقائي من شعراء وعمال وبلد فاحش الثراء يعلم أبناءه منذ الصغر التسولَ وحلم اللجوء إلى بلدان أفقر منه.. كل أولئك تركتهم وسط بلد يصدأ بدم ابنائه.. تساءلت – لماذا أهذي وأنا صامت- أنفاسي تتهالك في صدري.. بصري يشخص بتثاقل.. كنت أؤمن بأني يوما ما سأموت.. هنا في بلد الغربة أو في أجواء تشع بالضوء وينهمر فيها الرصاص كالمطر صيفاً شتاءً..
- شتاءً.. شتاءً.. شتاءًً.. شتاءً.. شش..شـــــــ ..
أتجمد تماما في هذا القفص المتنقل.. تتوقف قدماي على مقربة منه..
- متى نصل محطة تيوبلستان؟..
أتساءل، ماكنة الزمن تتوقف عند هذه اللحظات.. إني سأتوقف عند المحطة التالية.. لكني مازلت اقترب.. والمرأة الغابرة في القدم.. تسير باتجاهه فاقدة للحيوية.. متصلبة.. لكن لديها ابتسامة ليرمنتوف ذاتها.. أصبحت البرودة تسري في أوصالي كلما اقترب أكثر.. وتاريخ من الصور مازال يُعرض أمامي.. وفجأة.. أمسك بيدي.. قطعة من جليد موسكو تتسرب داخلي... تمتم ولا أدنى حركة من شفتيه.. وكإني به يتمتم بكلام لكن شفتاي تلهجان بدلاً عنه.. صوته، صوته وشفتاي..
مَاتَ الشَّاعر *!
سَقَطَ شهيداً
أسيراً للشرفِ
-
الرصاصُ في صدرِه يَصرُخُ للانتقام
والرأسُ الشَّامِخُ انحنى في النهاية
مَات !
يتلاشى ليرمنتوف صورةً كالرذاذ.. وأذوب أنا، صوتاً، كحبة ثلج.. وتتحول المرأة في الغابرين إلى فاتنة ترتدي حذاء شبيلكا* برداء قصير وتشرق بياضاً في غرفة نومي ..
أدركت إني في حلم.. استيقظت على صورة أخرى..مشوشة.. فالصباح معطر، وأولغا تستعد للذهاب لعملها في المشفى السويسري وسط موسكو.. ومازال في جمجمتي جزء من صدى قرع أقداح الفودكا وجنون الليلة الماضية وحديث عن قصيدة.. وناتشا تتهمني بإنني أبحث عن الرومانسية وسط القمامة.. مازلت أذكر تلك العبارة:
- أنتَ تسكنُ شفافيةََ الماضي لكنكَ تعيشُ معي الحاضرَ بكلِ غبائِه وجنونِه وتفاهتِه..
حينَها لم أكنْ أتصورَ أن أولغا ذات الستة والعشرين عاما، لا تعرف ليرمنتوف..
- أعرفه.. قرأت عنه في مكتبتنا الصغيرة في صباي..
ومنذ البيروسترويكا والغلاسنوست وثراء أبيها الفجائي، إثْرَ ذلك.. تشبعت ذاكرةُ فتاتي، بتاريخ جديد، ومفردات تتعامل مع الدولار واليورو وسيارة البورشيه والـ بي أم فيه، التي تملكها.. أولغا لم تعد تتعامل بالروبل.. هي تفتقد قاطرات مترو الأنفاق، الذي أزاول امتطاءه كلَ يوم.. وسيلة النقل الموسكوفية، الأسرع، والأرخص بالنسبة لي، وسيلة أمارس فيها لعبة البحث والتقصي بين وجوه غابرة، حفر التاريخ السوفيتي آثاره، عميقا، فيها.. وجوه لا تطالع في شيء سوى الكتاب.. أما أولغا، مذ ذاك الحين، لم تعد تصغي لحديث الشعراء المُغبِرين بين رفوف مكتبةِ أبيها..
--
موسكو / مطلع 2010
* محطة مترو أنفاق جنوبي موسكو
* ميخائيل يوريفيتش ليرمنتوف: أديب روسي رومانسي يُدعى أحياناً "شاعر القوقاز".. قُتل على يد زميل له في الدراسة في مبارزة أواخر يوليو 1841.
* شبيلكا: حذاء نسائي ذو كعب عالي
* (موت شاعر): قصيدة كتبها ليرمنتوف رداً على مصرع شاعر روسيا العظيم الكسندر بوشكين في مبارزة غامضة عام 1837 .. قصيدة حفظها وتداولها الناس في جميع أنحاء روسيا، ما أدى إلى إثارة غضب السلطات التي قررت اعتقاله ونفيه إلى القوقاز.



#سمير_العادلي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مبادرة جديدة لهيئة الأفلام السعودية
- صورة طفل فلسطيني بترت ذراعاه تفوز بجائزة وورلد برس فوتو
- موجة من الغضب والانتقادات بعد قرار فصل سلاف فواخرجي من نقابة ...
- فيلم -فانون- :هل قاطعته دور السينما لأنه يتناول الاستعمار ال ...
- فصل سلاف فواخرجي من نقابة فناني سوريا
- -بيت مال القدس- تقارب موضوع ترسيخ المعرفة بعناصر الثقافة الم ...
- الكوميدي الأميركي نيت بارغاتزي يقدم حفل توزيع جوائز إيمي
- نقابة الفنانين السوريين تشطب سلاف فواخرجي بسبب بشار الاسد!! ...
- -قصص تروى وتروى-.. مهرجان -أفلام السعودية- بدورته الـ11
- مناظرة افتراضية تكشف ما يحرّك حياتنا... الطباعة أم GPS؟


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمير العادلي - قصة قصيرة - موت -