بدأت الحركة الاجتماعية العالمية المناهضة لشكل "استعمار السوق"، الذي تتمظهر من خلاله، حالياً، ظاهرة العولمة، تستقطب اهتمام رجال السياسة والاقتصاد والإعلام، من مختلف المسارب والاتجاهات، في العالم بأسره. فهذه الحركة، التي اكُتشفت للمرة الأولى في مدينة سياتل الأمريكية، في تشرين الثاني 1999، خلال حملة الاحتجاج على منظمة التجارة العالمية، باتت اليوم تتشكل من عدد كبير من المنظمات والحركات والجمعيات التي تجمعها، بالرغم من تنوعها الشديد. أهداف مشتركة واحدة يمكن تلخيصها في رفض تسليع العالم، وتهميش غالبية شعوبه، والقضاء على تنوعه الثقافي، واستنزاف موارده، وتخريب البيئة المحيطة به، وفرض إرادة القطب الواحد الأمريكي عليه. وقد برزت القوة الكبيرة، التي صارت تتمتع بها هذه الحركة، والطاقات الهائلة التي تختزنها، خلال انعقاد المنتدى الاجتماعي العالمي الثاني في مدينة بورتو أليغري البرازيلية، ما بين 31 كانون الثاني و5 شباط 2002. وقد أتيحت لي، أثناء مشاركتي في " الجمعية الأولى لمواطني العالم" التي نظمها في مدينة ليل الفرنسية في شهر كانون الأول الفائت " التحالف من أجل عالم مسؤول، تعددي ومتضامن "، فرصة حضور أحد الاجتماعات التحضيرية لذلك المنتدى، شارك فيه عضو اللجنة البرازيلية المنظمة، عالم الاجتماع البرازيلي، من أصل بولوني، كانديو غرزيفوسكي. وقد لمست من مشاركتي في جمعية ليل، ثم من متابعتي لأخبار المنتدى، بأن الاعتبارات الإنسانية والوطنية، على السواء، تتطلب منا كفلسطينيين، الانفتاح السريع والتفاعل الجدي مع هذه الحركة الاجتماعية العالمية المناضلة من أجل " عولمة بديلة"، لكونها قد تفتح أفقاً لقيام " عالم آخر" اكثر عدلاً، من جهة، وتمثل، من جهة ثانية، عاملاً رئيسياً من عوامل تعزيز وتوسيع حملات التضامن الشعبي، على مستوى العالم، مع نضال شعبنا، وعنصراً مهماً من عناصر الضغط على حكومات الدول الكبرى التي اختلطت على بعضها الأمور، بعد أن نجحت الأوساط الصهيونية في استغلال الظرف الدولي الجديد، الذي نشأ بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وتجييره لصالح دعايتها التي تماهي بين الإرهاب وبين نضال شعبنا المشروع من أجل التحرر والاستقلال.
وفي هذا المقال عن منتدى بورتو أليغري، والذي هو أقرب إلى التقرير الإخباري، سأعتمد على الملف الخاص الذي نشرته صحيفة " لوموند" الباريسية ، عشية انعقاد المنتدى ( عدد 27-28 كانون الثاني 2002، ص 11-18)، وعلى تغطيات مراسلي الصحيفة نفسها من بورتو أليغري، خلال أيام انعقاده. بالإضافة إلى الرسائل اليومية، التي كان يبعثها من البرازيل موفد صحيفة" السفير" البيروتية، الصديق زياد ماجد، وإلى بعض مقالات أجرتها وسائل إعلام أخرى مع وجوه بارزة في المنتدى، ومنها المقابلة التي نشرتها صحيفة " النهار" البيروتية (9 شباط 2002، ص 10) مع الفرنسية الأمريكية سوزان جورج، نائب رئيس جمعية "أتاك".
بورتو أليغري ومنتداها العالمي
شاع اسم هذه المدينة البرازيلية لدى استضافتها أعمال المنتدى الاجتماعي العالمي الأول في كانون الثاني 2001، والذي انعقد بمشاركة عشرة آلاف شخص. وتقع هذه المدينة في ولاية " ريو غراندي دو سول" الجنوبية، التي تمثل، من حيث عدد سكانها، الولاية الخامسة من بين الولايات السبع والعشرين التي تتكون منها البرازيل، ويحكمها منذ العام 1989 تحالف يساري بقيادة حزب العمّال البرازيلي. وبقيادته، بدأت هذه الولاية تجربة فريدة للمشاركة الشعبية في الحكم، من خلال " ديموقراطية تشاركية"، جعلتها تسجل أعلى مؤشرات التنمية البشرية على المستوى الوطني العام، حيث نجح اليسار، بالاستناد إلى شعار( تجذير الديمقراطية)، في رفع مستوى الحس المواطني للسكان. وأتاح له، عبر ممثليهم في لجان الأحياء والنوادي الرياضية والجمعيات الثقافية، فرصة المشاركة في تقرير أبواب صرف الميزانية التشاركية، وتحديد أولويات الإنفاق الاجتماعي العام.
وقد انعقد المنتدى الاجتماعي العالمي الثاني خلف شعار( إن قيام عالم مختلف هو أمر ممكن)، بمشاركة ما يقرب من خمسين ألف رجل وامرأة، قدموا من 121 بلداً، وكان في عدادهم سياسيون ونقابيون وممثلون عن حركات اجتماعية ومنظمات غير حكومية، وغطت أعماله أكثر من 500 وسيلة إعلامية وحوالي 2000 صحفي. وخلافاً لمنتدى العام الفائت، كان حضور الآسيويين والأفارقة ملموساً، هذه المرة. كما شارك العرب بوفد ضّم أربعين شخصاً، كان في عدادهم عدد من الفلسطينيين، منهم الدكتور مصطفى البرغوثي.
وكما لاحظ موفد صحيفة " السفير " بقي حضور اللغة الإنجليزية هامشياً في هذا المنتدى، بينما كان حضور اللغات الإسبانية والفرنسية والإيطالية، هو الأبعد دلالة، مع طغيان البرتغالية بوصفها لغة الشعب المضيف، ولإعطاء فكرة عن مدى الاهتمام العالمي بهذا المنتدى، يمكن الإشارة إلى التمثيل الرسمي الفرنسي فيه، والذي شمل ستة وزراء في حكومة ليونيل جوسبان ( في مقابل ثلاثة شاركوا في المنتدى الاقتصادي العالمي في نيويورك)، ومستشار رئيس الحكومة، ومستشار رئيس الجمهورية، وثلاثة مرشحين للرئاسة، يتقدمهم الوزير السابق جان بيير شوفنمان، والأمين الوطني للحزب الشيوعي الفرنسي، والأمين الأول للحزب الاشتراكي الفرنسي، وممثلين عن معظم الاتحادات النقابية، الذين شاركوا في إطار وفد الكونفدرالية الأوروبية للنقابات. وقد أرجع بعض المحللين توسع حجم المشاركة في هذا المنتدى، وارتفاع مستواها، إلى أسباب ثلاثة هي : النجاح غير المتوقع للمنتدى الاجتماعي العالمي الأول، والحاجة إلى إبراز الطابع المسؤول، وإعطاء المصداقية لحركة مناهضة العولمة، بعد العنف الذي شهدته التظاهرات التي جرت على هامش قمة الدول الصناعية السبع الكبرى زائد روسيا، التي انعقدت في جنوى بإيطاليا في تموز 2001، والرغبة في إزالة التماثل الذي صار يجريه البعض، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، بين الإرهاب ونزعة العداء لأمريكا، وحركة مناهضة العولمة وإظهار أن المأساة التي تعرضت لها الولايات المتحدة، قد أبقت المشكلات الكونية قائمة، وأن منظمات المجتمع المدني، على المستوى العالمي، قد قررت النضال من أجل إيجاد مثل هذه الحلول.
أبرز الشخصيات والمنظمات المشاركة
ومن أجل التعرف إلى هوية ومكونات هذه الحركة الاجتماعية العالمية، التي التقت في بورتو أليغري، سأستعرض عدداً من الشخصيات والمنظمات، التي ساهمت في تنظيم المنتدى العالمي، مع إشارة سريعة إلى المواقف التي تتبناها :
* يوجه الاقتصادي الماليزي، مارتن كور، مدير " شبكة العالم الثالث"، التي تأسست في عام 1984، وتضم عدداً كبيراً من المنظمات غير الحكومية في آسيا وأفريقيا، المدافعة عن البيئة والمرتبطة بمنظمات مماثلة لها في أوروبا وأمريكا، يوجه نقداً شديداً إلى البنك الدولي لدوره في تمويل مشاريع اقتلاع الغابات. معتبراً بأن الاتفاقيات التجارية الدولية باتت تسمح للشركات المتعددة الجنسية بأن " تفعل كل ما تريد " . وينبه كور إلى "أن على الشعوب والحكومات ،في الشمال،أن تستيقظ وأن تدرك خطورة النتائج المترتبة على السياسات، التي تفرضها على الجنوب، حيث تؤدي أشكال الظلم والتفكك الاجتماعي الناجمة عن صيرورة العولمة المنفلتة من عقالها إلى نشر الفقر والإحباط،اللذين يقودان إلى العنف".
* يرأس الفرنسي برنار كاسن، وهو أستاذ جامعي متخصص في اللغة الإنكليزية وآدابها وصديق لجان بيير شوفنمان، وزير الداخلية الاشتراكي السابق ورئيس "حركة المواطنين"،والذي يتعاون منذ سنوات عديدة مع هيئة تحرير شهرية "لوموند ديبلوماتيك"ويرأس "جمعية فرض الضرائب على الصفقات المالية ومساعدة المواطن" التي تعرف باسم"أتاك".وكانت هذه الجمعية قد تشكلت في باريس في عام 1998،وهي تضم،اليوم، 28000عضو،و 230لجنة محلية،وتشكلت لها بنى تنظيمية مماثلة في ما يقرب من 40بلدا.وتطالب هذه الجمعية بفرض ضرائب منتظمة على الصفقات المالية،وتوظيف الأموال الناجمة في النضال ضد أشكال اللامساواة. وهي تطرح نفسها،بوصفها "حركة تربية شعبية"لتعزيز النضال ضد "العولمة الليبرالية". وتحتل اليوم مكانة مؤثرة على الساحة السياسية في فرنسا،حيث نجحت،في 19 كانون الثاني الماضي،في جمع 6000رجل وامرأة لمناقشة بيانها لعام 2002.
* وقد أعلنت سوزان جورج،وهي فرنسية_أمريكية، ونائب رئيس جمعية "أتاك"،بأن المنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو أليغري، يمثل فسحة لصوغ بدائل سياسية من العولمة الليبرالية، ويعبر عن تصميم أناس في جميع أنحاء العالم على محاربة نظام يؤدي إلى الفقر، وانعدام المساواة، والاضطهاد، والمظالم من كل نوع، ولا يفيد سوى أقلية محدودة جداً. وأكدت أن المنتدى، إذ يطمح إلى أن تصبح الحركة المناهضة للعولمة النيوليبرالية قوة مضادة على مستوى العالم، إلاّ أنه لا يسعى إلى أن تتحول هذه الحركة إلى حزب سياسي، ولا أن تستلم دفة الحكم في شكل مباشر، وإنما يريد منها أن تتحول إلى أداة ضغط على السلطات وملاحقتها وانتخاب أشخاص يضطرون إلى الإصغاء إليها. وتابعت أن من الضروري، اليوم، العمل على تغيير شروط الحوار السياسي، وهذا ما نجحنا فيه في فرنسا، حيث نتحاور، اليوم، مع وزير المالية حول فرض ضريبة "توبان" على الصفقات المالية. وجيمس توبان، هو عالم اقتصادي أمريكي، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وكان قد اقترح فرض ضريبة نسبتها نصف، أو عشر في المائة، على الصفقات المالية وبخاصة على عمليات صرف العملات، وذلك بهدف الحد من المضاربة، التي كانت تمثل، في زمنه، 80 مليار دولار يومياً، بينما تمثل في زمننا 1500 مليار دولار يومياً، وهدفنا لا يقتصر على الحد من المضاربة وحسب- كما تابعت- بل ويشمل وضع أسس لفرض ضريبة دولية يقوم على أساسها صندوق تستخدم أمواله للحد من أشكال اللا مساواة السائدة في العالم، ولبناء حياة لائقة لثلثي سكان المعمورة المهمشين.
* دعت الفليبينية ليدي نابسيل، المنسقة الدولية في قيادة " يوبيل الجنوب "، دول الجنوب إلى الامتناع عن تسديد الديون، وأشارت إلى عدم شرعية هذه الديون " لأنها منحت غالباً إلى حكومات شمولية وفاسدة سخرّت الأموال إلى صالحها، ولأنها حصيلة نهب الشمال لثروات شعوب الجنوب، خلال قرون الاستغلال"، مؤكدة بأن سكان الجنوب " لم يعودوا قادرين على تحمل هذا العبء، الذي يظل أداة سيطرة وتحكم في أيدي البلدان الغنية تستغله ضد البلدان الفقيرة" . ويمثل " يوبيل الجنوب " الذي تأسس في عام 1999، تحالفاً يضم 85 حركة ولدت في 42 بلداً، ويعتبر القوة الأكثر تنظيماً بين مجموع الحركات المناضلة، على امتداد العالم، من أجل إلغاء ديون العالم الثالث، التي باتت تصل إلى حوالي 2000 مليار دولار. وكان هذا التحالف قد أطلق مبادرة تشكيل" محاكم الديون"، وهي محاكم أقيمت في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، ومنها الأرجنتين. حيث تشكلت في أيلول 2000 " محكمة أخلاقية حول الدين الخارجي والتصحيح الهيكلي "، ترأسها الحائز على جائزة نوبل للسلام أدولفو بيريس إسكفيل، الذي أعلن، بعد الاستماع إلى شهادات حقوقيين واقتصاديين وممثلي منظمات غير حكومية، أن " مديونية الأرجنتين الخارجية باطلة، وذلك بسبب أصلها المشبوه وغير المشروع، وبسبب نتائجها الظالمة وغير الإنسانية ".
* أعلن رافئيل أليغري، الأمين العام لحركة " فيا كامبيسينا " ( صوت الفلاحين) أنه " لا يمكن مكافحة الفقر من دون توفير الإمكانية للشعب كي يحدد سياسته الغذائية بمعزل عن الشركات المتعددة الجنسية ". وقدّر بأن الولايات المتحدة " قد استعادت، بعد الحادي عشر من أيلول الفائت، مساحة إلى السيطرة الكونية كانت قد راحت تفقدها ". وأنه يتم، منذ ذلك اليوم " تجريم " الحركة العالمية المناهضة للعولمة، ومماهاتها بالإرهاب. لكنه أكد بأن ذلك لا يجب أن يحول دون استمرار النضال ضد الشركات المتعددة الجنسية، وضد منظمة التجارة العالمية، وضد النموذج الليبرالي، الذي بات يواجه أزمة، كما دلّ على ذلك الانهيار الاقتصادي في الأرجنتين. وتضم " فيا كامبسينا " حوالي 51 مليون عضو موزعين على ما يقرب من ستين بلداً، ومعظمهم من الفلاحين المحرومين من الأرض، ومن صغار المزارعين، ومن ممثلي السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية. وتمثل كونفدرالية الفلاحين في فرنسا، التي يقودها جوزيه بوفيه، واحدة من أبرز الحركات الأوروبية المنضوية تحت لوائها. وتناضل هذه المنظمة، منذ عشر سنوات، ضد سياسات الشركات المتعددة الجنسية، وضد الشركات التي تلجأ إلى تعديل المزروعات جينياً، وفي سبيل الإصلاح الزراعي والأمن الغذائي، ودعم زراعة الفلاحين، والحفاظ على التنوع الحيوي. وقد عقدت في هافانا، في أيلول 2001 ، المنتدى العالمي الأول حول السيادة الغذائية.
* وحذرت الحقوقية الأمريكية لوري والاش، من جمعية " المواطن العام "، التي أسسها رالف نادر في عام 1991، وهي أكبر جمعية أمريكية للدفاع عن حقوق المستهلكين، حذرت من نتائج تحرير التجارة، ورأت أن العولمة الحالية تخدم الشركات المتعددة الجنسية وحدها، وذلك على حساب شروط العمل والصحة والبيئة.
* ولعبت " حركة المحرومين من الأرض " البرازيلية، التي تشكلت في عام 1980 بهدف النضال من أجل فرض الإصلاح الزراعي، دوراً بارزاً في تنظيم المنتدى، وجمع الأموال اللازمة له، وبخاصة من خلال أحد قيادييها، وهو عالم الاجتماع البرازيلي كانديدو غرزيفوسكي، الذي كان من المناضلين المعروفين ضد الديكتاتورية العسكرية، التي سيطرت على الحكم ما بين عامي 1964 و 1985، ويرأس حالياً " المعهد البرازيلي للتحليل الاجتماعي_الاقتصادي_.
* كما برزت في المنتدى حركة " أصدقاء الأرض "، التي تشكلت في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1969، وهي تضم حالياً أكثر من مليون عضو موزعين على 66 بلداً، وتستخدم ما يقرب من 700 موظف دائم، وتبلغ ميزانيتها حوالي 200 مليون دولار. وكانت هذه الحركة أول من فضح التمفصل القائم بين النظام المالي السائد في العالم، وبين تخريب البيئة وإهدار مواردها.
· كما شارك بفعالية في منتدى هذا العام " الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان " وهو من أقدم منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، وله منظمات محلية في 90 بلداً. ومع أنه اشتهر، من خلال النضال الذي خاضه دفاعاً عن الديموقراطية وحرية التعبير، إلاّ أنه صار يركز في السنوات الأخيرة وبخاصة بعد قيام منظمة التجارة العالمية في العام 1995، على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان، ويناضل من أجل ضمان الحق في العمل، والحق في الغذاء، والحق في السكن، والحق في الصحة، والحق في التعليم، ويسعى إلى تنظيم حملة عالمية واسعة للنضال ضد انتشار الجوع في العالم.
· وكان من الوجوه البارزة في منتدى بورتو أليغري الفيلسوف الإيطالي توني نيفري، الذي ألهم في السبعينات منظمات أقصى اليسار الإيطالي، وحوكم بتهمة التحريض على قيام " تمرد مسلح على الدولة ". ويسبح هذا المثقف الثوري الإيطالي عكس التيار السائد داخل المنتدى، إذ هو يدعو إلى تجاوز النظرة الضيقة، التي تجعل من إدارة الولايات المتحدة الأمريكية العدو الوحيد الذي تتصدى له حركة مناهضة العولمة. ويرى بأنه لم يكن في وسع هذه الإدارة أن توجد أصلا لولا الدعم غير المحدود الذي تتلقاه من الطبقات الحاكمة في البلدان الرأسمالية الأخرى، وأنه ينبغي تجاوز "النزعة العالمثالثية " التي عجزت، إلى الآن، عن النضال بفعالية ضد الرأسمالية ،لأنها لم تأخذ في اعتبارها بعد وحدة الرأسمالية على المستوى العالمي، معتبرا بأن الانقسام بين شمال وجنوب لم يعد قائما اليوم، وأن ضعف الحركة المناهضة للعولمة يكمن في الوهم ،الذي يتملكها بإمكانية العودة إلى زمن لم يكن قد تم فيه بعد تجاوز الدولة _ الأمة _ . ويعتبر ليفري بأنه لا ينبغي على حركة مناهضة العولمة أن تقصر نضالها على الاحتجاج، وحسب، بل عليها أن تسعى إلى بناء سلطة مضادة، وأن تعي، دون أن تكون مهووسة بالسلطة، بأنه لا بد من قلب السلطة القائمة، وذلك عبر حركة اجتماعية متواصلة تقاوم وتبني وتناضل وتبدع، في آن معاً، من أجل رسم معالم عالم جديد.
التمويل والتنظيم ودور شبكة " إنترنت"
ساهمت بلدية بورتو أليغري بمليون دولار لتمويل انعقاد المنتدى، وتكلفت مؤسسات أجنبية ومنظمات غير حكومية كبيرة، مثل " أوكسفام" ومنظمات إنسانية ودينية بدفع مبلغ 650000 دولار. كما سددت حوالي 2000 جمعية رسوم اشتراك بلغت 350000 دولار. وضمت اللجنة الدولية المنظمة للمنتدى ممثلي أربعين حركة من قارات العالم، بالإضافة إلى ممثلي اللجنة البرازيلية، ومن أبرزهم كانديدو غريزيبوفسكي، الذي عمل طوال العام على تعبئة القوى والتنسيق فيما بينها وتوفير الموارد المالية. وتوزع المشاركون في المنتدى على 26 ندوة موسّعة، وعلى أكثر من 700 ورشة عمل اجتمعت في جامعتي المدينة، وناقشت قضايا كثيرة.
وقد أسهمت شبكة " إنترنت" بدور بارز في التحضيرات التنظيمية للمنتدى، وهي توفر اليوم للحركة المناهضة للعولمة ترسانتها اللوجستية. فهذه الشبكة، بوصفها أداة اتصال وتنسيق، تحولت إلى أداة رئيسة في النضال من أجل خلق " إعلام بديل معولم " منتشر على مواقع كثيرة. فموقع جمعية " أتاك " الفرنسية، على سبيل المثال، متوفر اليوم بخمس لغات، ويمكن الوصول إليه انطلاقاً من 130 بلداً، وبلغ عدد المشتركين في رسالته الإعلامية الإلكترونية 50000 مشترك. وهي رسالة تلعب دوراً مهماً للغاية، حيث تضمنت، في آذار 2001، دعوة إلى مشتركيها لإرسال رسالة إلكترونية إلى مسؤول في لجنة تابعة للأمم المتحدة مكلفة بتمويل التنمية في البلدان الأكثر فقراً، فكانت النتيجة أن انفجرت علبة البريد الإلكترونية لذلك المسؤول، نتيجة الضغط الكبير عليها. ويستخدم المناضلون ضد العولمة شبكة " إنترنت " للتعبير عن مواقفهم، بعيداً عن وسائل الإعلام التقليدية، التي يتهمونها بأنها مسخرة لخدمة النظام الاقتصادي العالمي السائد. وقد تشكلت في إطار السعي من أجل إقامة إعلام مضاد في تشرين الثاني 1999، أممية للإعلام البديل تحت اسم " انديميا" تغذي ما يقرب من 60 موقعاً موزعة في أمريكا وأوروبا وآسيا وأفريقيا. كما تأسست وكالة إعلام باسم " سيراندا " كي تغطي بصورة دائمة نشاطات المنتدى الاجتماعي العالمي. وفي هذا السياق أعلن روبيرتو سافيو، أحد منظمي المنتدى، بأن قيام عالم آخر لن يكون أمراً ممكناً، من دون خلق إعلام آخر. أمّا سالي بورش، رئيس الوكالة اللاتينو-أمريكية للإعلام، فقد رأى بأن الاتصالات باتت تمثل اليوم عاملاً مفتاحياً للعولمة، وأداة رئيسية للسيطرة الأيديولوجية، ومظهراً أساسياً للنضالات الاجتماعية. ويرى المناضلون ضد العولمة أن مجتمع الإعلام هو " ملكية عالمية مشتركة " وأن تكنولوجيات الإعلام في وسعها الإسهام في تحقيق تقدم اجتماعي لا تجاري وحسب. ويدعونا إلى ضمان " التملك الاجتماعي لوسائل الاتصالات " وكان الآلاف قد احتشدوا في بورتو أليغري للاستماع إلى محاضرة المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، الذي أكد مسؤولية النظام العالمي وراعيته الولايات المتحدة الأمريكية، عن خلق ظاهرة الإرهاب، وتطرق إلى الدور الخطير للإعلام في صناعة الرأي العام، رابطاً بين هذا الإعلام المسيطر، وبين مراكز السلطة المالية المؤثرة في صنع القرارات السياسية في عالم اليوم.
أبرز المواضيع والاقتراحات والنتائج
عكست المواضيع، التي نوقشت في الندوات الموسعة وفي ورش العمل، التنوع الكبير للمشاركين في المنتدى، حيث تطرقت النقاشات إلى السياسة ومفهومها، وإلى المواطنة والسلطة، وإلى الحركات الاجتماعية والأحزاب، وإلى النضال العمّالي ومعناه، وإلى النضال النسائي، وإلى الشباب والمشاركة السياسية، وإلى مستقبل الدولة القومية، وإلى القطاع العام والخصخصة، وإلى التوازن البيئي، وإلى العلم ودوره في خدمة البشرية، وإلى التنوع الثقافي والهوية الإنسانية، وإلى ديموقراطية صنع القرار على الصعيد العالمي، وإلى ديون العالم الثالث، وإلى التنمية البشرية، وإلى التربية والتعليم، وإلى ديموقراطية الإعلام، وإلى شروط ولادة عالم خال من الحروب، وإلى إرهاب الدول وإرهاب الأفراد…الخ. وقدمت خلال النقاشات اقتراحات عديدة، من أهمها فرض ضرائب على الصفقات المالية، وعلى الاستثمارات المباشرة الأجنبية، وعلى نشاطات الشركات المتعددة الجنسيات، وذلك كله بهدف مكافحة المضاربة، وتوفير الأموال اللازمة لدعم مشاريع التنمية في البلدان النامية والفقيرة، وإلغاء ديون العالم الثالث، وإقامة توازن بين المؤسسات الدولية، بحيث لا تظل المؤسسات النقدية والمالية والتجارية طاغية على المؤسسات الدولية المهتمة بشؤون العمل والصحة، وإعادة تنظيم الإنتاج الزراعي على قاعدة ضمان السيادة الغذائية، واستثناء الزراعة من مفاوضات منظمة التجارة العالمية، ومنع إنتاج المزروعات المعدلة جينياً، وإصلاح الديموقراطيات القائمة من خلال توسيع وتعزيز المشاركة المواطنية، وإقامة نظام جديد وعادل لإدارة شؤون العالم.
ولم يصدر المنتدى، في ختام أعماله توصيات ولا بيانات، وتم الاتفاق على اعتماد شكل لا مركزي في المستقبل، بحيث ينعقد لقاء رئيسي في بورتو أليغري في العام المقبل، واعتباراً من عام 2004 في مكان آخر سيكون غالباً في الهند. وتنعقد إلى جانب اللقاء الرئيس لقاءات صغرى موازية، واحد منها في بيروت. وهكذا يبدو بأن المنتدى قد أصبح إطاراً قائماً بذاته، بحيث سيجعل منه قرار عقده بصورة دورية في كل سنة، ونقله بين القارات، وإقامة منتديات مناطقية على هامشه، قطباً عالمياً فاعلاً ومؤثراً تلتقي في إطاره، كل عام، قوى اجتماعية وسياسية متزايدة. وكانت كواليس المنتدى قد شهدت انعقاد لقاءات وتشكيل شبكات تبحث عن استراتيجيات لتطوير الاحتجاج، وإقامة تحالفات وطنية وإقليمية، وتجمعات دولية، أو قارية، لوضع أجندة للتحرك المستقبلي. أما التحدي الكبير المطروح على المنتدى، بعد لقاء بورتو أليغري، فهو أن يعرف منظموه كيفية إدارة التنوع الذي يميزه والحؤول دون أن يؤدي هذا التنوع إلى انفجار مكوناته.
بورتو أليغري في مواجهة دافوس " صدام بين عولمتين"
تزامن المنتدى الاجتماعي العالمي الثاني مع انعقاد " المنتدى الاقتصادي العالمي " الذي يجذب إلى منتجع دافوس السويسري، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كل ما يضمه العالم من أقوياء في ميادين السياسة والمال والأعمال، ومن أنصار حرية التبادل وغلبة السوق.
وكان قد تقرر عقد دورة هذه السنة في نيويورك، تعبيراً عن التضامن معها ومع مواطنيها، وطرح للنقاش موضوع " القيادة في أزمنة هشة " رؤية للمشاركة المستقبلية، وقد ترك انعقاد منتدى بورتو أليغري تأثيراً واضحاً على النقاشات التي دارت في منتدى "الأقوياء" في نيويورك، والذي حاول أن يعطي لنفسه في دورته هذه صورة مختلفة، وأن يبرر اهتمامه بالبعد الاجتماعي، حيث اعتبر كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة، أن هناك ضرورة أكبر مما سبق بالنسبة إلى رجال الأعمال والحكومات لتمويل مشاريع مكافحة الفقر. ودعا رئيس البيرو أليخاندرو توليدو إلى بناء جسر بين دافوس وبورتو أليغري والعمل على إعطاء " وجه إنساني للعولمة والتنافس " . وأكدت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ماري روبنسون، ضرورة التوجه " صوب عولمة ذات طابع أخلاقي وإيجاد الوسائل التي تكفل قيام ديموقراطية شعبية على المستوى الدولي ". وقد تعرضت واشنطن لانتقادات كثيرة بسبب أحاديتها في التعامل مع المشكلات العالمية، وأحياناً كثيرة بمعزل عن حلفائها، كما تعرض للانتقاد تحالفها الوثيق مع إسرائيل. ومع أن نضال الحركة الاجتماعية العالمية قد فرض على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تشكيل لجان خاصة لدراسة إمكانية إلغاء ديون البلدان الأكثر فقراً. وصادقت منظمة التجارة العالمية في مؤتمرها الأخير في الدوحة على توجه يقضي بتوفير تسهيلات لحصول البلدان الفقيرة على أدوية نوعية لمواجهة الأوبئة والأمراض القاتلة، إلا أن ساعة الحوار بين المنتديين، في بورتو أليغري ودافوس، لم تدق بعد، كما يبدو، إذ تواصل المشاركون في المنتدى الاجتماعي مع المتظاهرين المعارضين للعولمة في شوارع نيويورك، لكنهم رفضوا الدخول في حوار مع المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالمي، وذلك نتيجة اقتناعهم، كما ذكرت لوري والاش، بعدم جدواه، على اعتبار " أن النيوليبراليين غير مستعدين للتغيير، وأن الحديث عن حوار معهم هو مضيعة للوقت" .
التضامن مع نضال شعبنا الفلسطيني
كانت القضية الفلسطينية حاضرة في بورتو أليغري، حيث دعت جمعيات نسائية برازيلية إلى مسيرة تضامنية مع الانتفاضة، وارتفعت الأعلام الفلسطينية بكثرة خلال التظاهرة الحاشدة، التي افتتحت أعمال المنتدى، إلى جانب صور ماركس وجيفارا وأعلام أحزاب اليسار البرتغالي، وأعلام الأرجنتين ونقاباتها العمالية. وكان المشاركون العرب في المنتدى قد اتفقوا على التركيز على ثلاث قضايا هي فلسطين والحصار المفروض على العراق والنضال العربي في سبيل التنمية والديموقراطية. وأكد زياد ماجد، موفد صحيفة "السفير" البيروتية إلى المؤتمر، وأحد الناشطين اللبنانيين في شبكات مناهضة العولمة، قوة حضور القضية الفلسطينية، وعمق الدعم لها في صفوف الحركات النسائية والقوى النقابية والتجمعات الشبابية والهيئات الثقافية الوافدة من العالم الثالث، ومن أوروبا، وهو ما يجب أن يدفعنا إلى العمل لتعزيز هذا الحضور وتحويله إلى فعل سياسي مؤثر لصالح فلسطين وأهلها"، كما أشار. وكانت واحدة من الوجوه البارزة في بورتو أليغري، وهي سوزان جورج، قد أكدت هذه الحقيقة لدى إجابتها عن سؤال خاص بالتضامن مع الشعب الفلسطيني، حيث قالت: " إن مصير الفلسطينيين لحسرة كبيرة. فمن يستطيع ألا يتأثر بقضية الشعب الفلسطيني؟ من الواضح للغاية أن شارون لا يريد السلام على إطلاق، ولا أعرف ما الذي يريده في أي حال.. هل يظن أن في وسعه إبادة الفلسطينيين؟ يبدو لي من الطبيعي أن يحتل هذا النزاع الدائر، منذ الأزل، موقعاً في المنتدى الاجتماعي العالمي".