|
الذهنية التلمودية.. ليبرمان مثالاً!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2951 - 2010 / 3 / 21 - 14:32
المحور:
القضية الفلسطينية
يقول برنارد شو: "ما أتعس الأُمَّة التي تكون بحاجة إلى قادة؛ ولكن ما أتعسها الف مرة عندما تكون بحاجة إلى قادة عقلاء".
في حديث لأسبوعية "دير شبيغل" الألمانية، قال وزير الخارجية الإسرائيلية ليبرمان إنَّ النزاع مع الفلسطينيين (والعرب) ليس نزاعاً على أرض حتى يُحَلَّ بـ "تَنازُل" إسرائيل لهم عن أراضٍ، فمبدأ "الأرض في مقابل السلام" إنَّما يشوِّه ويزوِّر طبيعة وحقيقة هذا النزاع، الذي وصفه ليبرمان بأنَّه "صراع حضارات"؛ و"صراع الحضارات" لا يُحَل إلاَّ بوسائل وأساليب تتَّفِق، لجهة طبيعتها وماهيتها، مع طبيعة وماهية هذا الصراع.
ليبرمان، مثله مثل كل يهودي ضيِّق الأُفْق، لا يميِّز "الدِّين" من "الحضارة"، فوصف "صراع الحضارات" هذا بأنَّه "صراع حضارات بين الإسلام وبين المسيحية ـ اليهودية الغربية"، قائلاً إنَّ إسرائيل، وبصفة كونها "أُمَّة متحضِّرة متمدِّنة" تخوض صراعاً ضدَّ "حضارات متوحِّشة"، أي ضدَّ الفلسطينيين بصفة كونهم ينتمون إلى "الحضارة العربية الإسلامية".
ويحسبُ ليبرمان أنَّ كلامه هذا سيقع، بفضل "دير شبيغل" الألمانية، على أسماع غربية تشبه سمعه، وسيُوفَّق في الزَّج بالغرب في حروب إسرائيل ضدَّ الفلسطينيين والعرب، وكأنَّه أراد أن يقول للأمم والمجتمعات الغربية "إنَّنا وأنتم في خندق (حضاري) واحد ضدَّ عدوُّنا الواحد، وهو الحضارة العربية الإسلامية المتوحِّشة".
إنَّني أنضم إلى حقائق التاريخ والواقع في تحدِّي ليبرمان، وأمثاله من مخلوقات أوهام "العهد القديم"، على أن يَجِدَ في نفسه من الجرأة الحضارية والثقافية والعلمية ما يسمح له بأن يَقِف محاضِراً (فينا وفي الأوروبيين) في أمر "الحضارة اليهودية" المُسْتَغْلَق على الفهم، وعلى كل عقل أنعم الله عليه بنعمة التحرُّر من الأوهام التلمودية، فإنَّ "حضارة بني إسرائيل"، لجهة وجودها، ولجهة إثبات وتأكيد وجودها، هي المجهول الأعظم في معادلة صراع الحضارات التي بسطها لنا ليبرمان، واللغز المحيِّر للألباب، والعنقاء ذاتها.
إنَّ منسوب الحضارة، في الحضارة العالمية، وعلى وجه العموم، يرتفع في استمرار؛ وثمَّة مقاييس عدَّة نقيس بها هذا المنسوب، أحسبُ أنَّ في مقدَّمها المقياس الذي به نقيس درجة تحرُّر عقل العالم (والعالم الغربي على وجه الخصوص) ووعيه وثقافته من الأوهام التلمودية، ودرجة تحرُّر اليهود أنفسهم من هذه الأوهام، التي خلقها بنو إسرائيل القدامى على مثالهم الاجتماعي والتاريخي، أي على مثال نمط عيشهم البدوي القديم، قبل أن تشرع هي تعيد خلقهم على مثالها.
ليبرمان إنَّما يُفكِّر ويعتقد ويتحدَّث بما يقيم الدليل على أنَّ أسوأ طريقة في النظر إلى الأمور هي الطريقة التي يتَّخِذ صاحبها من أمور في حاجة إلى الإثبات دليل إثبات أو نفي لأمور أخرى، فـ "المُسلَّمات"، في عقل ليبرمان، والتي يتَّخِذ منها دليل إثبات أو نفي في قضايا سياسية، هي التي تحتاج إلى أنْ يُثْبِتَ أنَّها تستوفي معنى "المسلَّمة"؛ إنَّ الخلل الأعظم يكمن في "المسطرة" التي يستعملها ليبرمان في القياس.
فضائية "الجزيرة" القطرية، وعملاً بمبدأ أنَّ نصف الحقيقة، أو ربعها، أو بعضاً منها، يمكن، ويجب، العثور عليه في "الرأي الآخر"، حاورت، ذات مرَّة، إسرائيلياً "تلمودياً" في أمْر الاستيطان اليهودي في القدس الشرقية.
على أنَّ هذا الإسرائيلي قرَّر أن يكون في إجابته عن سؤال صحافي (سياسي) تلمودياً خالصاً، وكأنَّ التلمود في مقدوره استنبات أجنحة للحمير، فتحدَّث، معبِّراً خير تعبير عن "الفكر" الذي بـ "عينه" ينظر كثير من الإسرائيليين إلى أنفسهم، ودولتهم، وإلى الفلسطينيين، وقضيتهم القومية.
قال: إنَّ أحداً في العالم ليس من حقه أن يسأل إسرائيل في أمر بناء منازل في القدس الشرقية (عاصمة الملك داوود) لأنَّها عاصمتها منذ ثلاثة آلاف سنة، وإنَّها كانت يهودية خالصة عندما كان أجداد العرب يعاقرون الخمر، ويئدون البنات، ويعبدون اللات والعزَّى. والقرآن نفسه لم يَذْكُر اسم القدس؛ و"خريطة الطريق" لم تُشِرْ لا من قريب ولا من بعيد إلى القدس الشرقية. أمَّا الضفة الغربية (ومعها القدس الشرقية) فهي أرض لا سيادة لأيِّ دولة عليها؛ لقد كانت قبل حرب حزيران 1967 تحت "الاحتلال الأردني"، ثمَّ سيطرت عليها إسرائيل؛ وعليه، لم تستولِ عليها إسرائيل من أيِّ دولة حتى تعيدها إليها؛ وعليه، أيضاً، يحق لإسرائيل أن تفعل فيها ما تشاء.
وأذْكُر أنَّ إسرائيلياً آخر، يُنْظَر إليه على أنَّه واسع الأفق، هو شمعون بيريز قد سوَّلت له أوهامه الدينية التوراتية أن يهزأ ويسخر من هرم خوفو، ومن كل الحضارة المصرية القديمة؛ لكونها "وثنية"، ليمجِّد ويُعظِّم "سِفْر الأوهام الأوَّل" في العالم، وهو "التناخ"، الذي صوَّره على أنَّه "المأثرة الحضارية العظمى" لقبائل "بني إسرائيل"، و"نعمة التوحيد" التي أسبغوها على الناس كافَّة.
إنَّ أحداً لا يجادِل في أنَّ ثقافة ليبرمان تَعْدِل قطرة في بحر ثقافة بيريز؛ ومع ذلك، أتانا بيريز نفسه بما يقيم الدليل على أنَّ الأوهام التلمودية في رأسه لها من النفوذ والسلطان ما يَحْمِله على إنكار أشياء هي منزلة البديهية الهندسية، فالرأس المشبعة بأوهام "العهد القديم"، والمثخنة بجراحها، يمكن أن تَحْمِل صاحبها، ولو كان له عقل آينشتاين، على الإيمان، وعلى دعوة غيره إلى الإيمان، بأنَّ الشمس هي التي تدور حول الأرض، وبأنَّ باريس هي عاصمة بريطانيا.
بيريز أراد ذات يوم أن يَخْلِق لبني إسرائيل حضارة من العدم، فقال، وكأنَّه يحاضِر في عالَمٍ من الأغبياء، إنَّ حضارة مصر القديمة لا شيء، وإنَّ حضارة بني إسرائيل القدامى هي كل شيء، فهي، على ما زعم هذا اليهودي الذي أذلَّت عقله وذكاءه الأوهام التلمودية، أصل الحضارة العالمية وجوهرها وروحها.
لقد تساءل، في دهشة واستغراب، وكأنَّه أراد أن يقول إنْ لم تَسْتَحِ فَقْل ما شئت، عن سبب إعجاب العالم بحضارة وادي النيل؛ ثمَّ سعى في إقناع العالَم بأنَّ "التناخ"، أو "التلمود" بشقَّيه، "الميشناه" و"الجمارا"، أعظم شأناً (من الوجهة الحضارية) من الأهرام خوفو وخفرع ومنقرع، معيباً على المصريين القدامى "وثنية" حضارتهم، ومشيداً، في الوقت نفسه، بـ "عقيدة التوحيد"، التي جاء به "التناخ"، الذي صوَّره، إذ صوَّرته له أوهامه التلمودية، على أنَّه "المأثرة الحضارية العالمية العظمى"، والنعمة التي أنعم بها بنو إسرائيل على العالم، أو العالمين!
تخيَّلوا أنَّ إنساناً، في القرن الحادي والعشرين، ألَّف قصَّة خرافية، زعم فيها أنَّه وبني قومه يختلفون عن سائر البشر لجهة كونهم قد خلقوا من تراب القمر؛ ثمَّ سعى في إقناع العالَم بأنَّ قصَّته أعظم شأناً، من الوجهة الحضارية، من هبوط الإنسان على سطح القمر!
إنَّهم، كمثله، في موقفهم من الحضارة المصرية الوثنية، والذي لا يقفه إلاَّ كل تلمودي ضيِّق الأفق، يستبد به الشعور بالدونية الحضارية.
هناك مَثَلٌ يقول بما معناه إنَّ الشخص الذي يُحِبُّ قطف وأكل عنقود عنبٍ حلو، ولكنه لا يستطيع الوصول إليه، يقول، معزِّياً نفسه، إنَّه، أي عنقود العنب، حامض المذاق.
تذكَّرْتُ هذا المَثَل؛ لأنَّ القبائل الرُحَّل من بني إسرائيل كانوا عاجزين لأسباب موضوعية عن أن يبتنوا لهم "حضارة وثنية"، بعظمة حضارة وادي النيل، فكيف للذين لا يعرفون من متاع الحياة الدنيا غير الخيام والمواشي، يرتحلون معها من مكان إلى مكان، بحثاً عن العشب والماء، أن يبتنوا معبداً كالكرنك، أو أن يصنعوا تماثيل عظيمة مهيبة كالتي صنعها الإغريق وقدامى المصريين.
نمط حياة البداوة اضطَّر تلك العشائر والقبائل من بني إسرائيل إلى أن يكونوا "غير وثنيين"؛ وليس في الاضطِّرار فضيلة. لقد كانوا عاجزين عن أن يبتنوا لأنفسهم "حضارة وثنية"، فاخترعوا لهم "إلهاً"، على شاكلتهم، ينتقل معهم من مكان إلى مكان؛ ثمَّ "وظَّفوه" في خدمة مصالحهم الفئوية الضيِّقة والتافهة، وفي سعيهم إلى التغلُّب على شعورهم بـ "الدونية الحضارية والتاريخية"، والذي منشأه جوارهم الحضاري الذي كانوا يعيشون على هامشه.
على صورتهم الملوَّنة بلون البداوة خلقوا لهم إلهاً، يوزِّع الأوطان، ويقيم الدول، ويقود الحروب، ويحضُّ على حُبِّ المال والربا، ويَقْسِم كل شعوب وأمم الأرض قسمين: اليهودي، وغير اليهودي.
كانوا أقلية عرقية، عديمة الوزن الحضاري والتاريخي، تخشى الاندماج والانصهار (والفناء بالتالي) في المجتمعات الحضارية، فاشتدت الحاجة لديها إلى أرض تعيش فيها، وهي التي لم تذق طعم "الوطن"، فاخترعت ذلك "الوعد الربَّاني لإبرام العبراني". ولقد كان إبرام راغباً في أن يزرع ويغرس أبناء جلدته الغاطِّين في البداوة في أرض أبدية، لعلَّه يدرأ عنهم مخاطر الانحلال في الأمم الحضارية العظيمة، ويجعلهم يشبهون غيرهم لجهة العيش في وطن، والانتماء إليه، فأظهر لهم رغبته هذه على أنَّها "وعد"، فـ "أمر"، إلهي.
وليس بيريز فحسب، فها هو الجنرال الضيِّق الأفق باراك يحاضِر في "الحضارة"، قائلاً: ليس من حضارة عربية، وإنْ وُجِدَت فهي حضارة الكذب.. إنَّ الحضارة الحقيقية، أو حضارة الحقيقة، هي، فحسب، الحضارة اليهودية (والمسيحية).
أين هي تلك الحضارة اليهودية التي يزهو بها باراك ويفخر؟! أين مسقط رأسها؟! وما هو تاريخ ميلادها؟! أين معالمها وآثارها التي لم يقوَ الزمن على محوها وطمسها؟!
لسنا نحن من يتحدَّى باراك، ومن هم على شاكلته مِمَّن يزعمون الانتساب إلى بني إسرائيل، وهم قوم باد، عِرْقاً، منذ آلاف السنين، بعدما سكنوا "مكاناً" يسمى "اللا زمان"، أن يأتي بمعجزة إثبات ما ليس موجوداً؛ وإنَّما الواقع هو الذي يتحدَّاه.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفاوضات صديقة للاستيطان!
-
-أزمة الفهم والتفسير- في عالَم السياسة!
-
متى تتحرَّر المرأة من -يوم المرأة العالمي-؟!
-
-فساد الانتخابات- يكمن في -فساد الدَّافِع الانتخابي-!
-
موعدنا الجديد في تموز المقبل!
-
فتوى الشيخ البراك!
-
الحاسَّة الصحافية
-
بيان اليأس!
-
قانون -ولكن-!
-
المواقع الأثرية اليهودية.. قائمة تطول!
-
حَلٌّ يقوم على -تصغير الضفة وتكبير القطاع-!
-
حكومات مرعوبة تَلِدُ إعلاماً مرعوباً!
-
-تحرير- السلطة الفلسطينية أوَّلاً!
-
صناعة التوريط في قضايا فساد!
-
-فالنتياين-.. عيدٌ للتُّجار أم للعشَّاق؟!
-
الأمين العام!
-
عصبية -الدَّاليْن-!
-
مجتمعٌ يُعسِّر الزواج ويُيسِّر الطلاق!
-
العدوُّ الإيراني!
-
-التوجيهية-.. مظهر خلل كبير في نظامنا التعليمي والتربوي!
المزيد.....
-
سحب الدخان تغطي الضاحية الجنوبية.. والجيش الإسرائيلي يعلن قص
...
-
السفير يوسف العتيبة: مقتل الحاخام كوغان هجوم على الإمارات
-
النعمة صارت نقمة.. أمطار بعد أشهر من الجفاف تتسبب في انهيارا
...
-
لأول مرة منذ صدور مذكرة الاعتقال.. غالانت يتوجه لواشنطن ويلت
...
-
فيتسو: الغرب يريد إضعاف روسيا وهذا لا يمكن تحقيقه
-
-حزب الله- وتدمير الدبابات الإسرائيلية.. هل يتكرر سيناريو -م
...
-
-الروس يستمرون في الانتصار-.. خبير بريطاني يعلق على الوضع في
...
-
-حزب الله- ينفذ أكبر عدد من العمليات ضد إسرائيل في يوم واحد
...
-
اندلاع حريق بمحرك طائرة ركاب روسية أثناء هبوطها في مطار أنطا
...
-
روسيا للغرب.. ضربة صاروخ -أوريشنيك- ستكون بالغة
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|