صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 898 - 2004 / 7 / 18 - 08:10
المحور:
القضية الفلسطينية
و"قمة العالم" التي اقصدها هي النرويج! فتلك الدولة الاوربية الصغيرة تستحق اللقب ليس من الناحية الجغرافية فقط, حيث تمتد على رأس الارض كشريط يلامس القطب الشمالي, ولكن كذلك من الناحية الانسانية والدولية, حيث نجحت, اضافة الى تقديمها لاعلى مستوى معيشي في العالم لسكانها, نجحت في تثبيت نفسها دوليا كراعية للسلام في مناطق النزاعات بالعالم.
فمواقفها ونظرياتها الداعمة لمبدأ إحراز التفوق والسلام معا دون اللجوء إلى الحرب وأعمال العنف، جعل النرويج أكثر دول العالم استقرارا ورفاهية، وأقلها في معدلات الفساد المالي والإداري, وهذا بالذات ما جعلها اكثر منعة تجاه تأثيرات ذوي النفوذ العالمي - اسرائيل والولايات المتحدة - , ففشلت المجموعات اليهودية في شراء جماعة بليتز واسعة الشعبية والنشاط, والهادفة الى محاربة الظلم أينما كان، والتي تعتبر الولايات المتحدة وإسرائيل أهم أعدائها. وليس ادل على الثقة العالية باستقلالية النرويج ومواقفها المبدئية الوسام الذي منحه المناضل الاسرائيلي ضد تسلح اسرائيل النووي, مردخاي فعنونو, حين طلب اللجوء اليها فور خروجه من السجن الاسرائيلي الطويل
كذلك قاومت النرويج الابتزاز الامريكي الذي خضعت له العديد من الدول, لتوقيع اتفاق ثنائي يهدف الى حماية مواطني البلدين من ملاحقات قضائية محتملة في إطار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. فالنرويج لا ترى مبررا لوضع مواطنيها فوق القانون ولا الامريكان كذلك.
الا ان هذه الجنة الحضارية لا تخلو من اصوات ناشزة من القرون الوسطى. فقبل ايام, شن عضو البرلمان النرويجي كارل هاكن الذي يتزعم الحزب التقدمي النرويجي, هجوما عنيفا على الإسلام في كلمته بمهرجان جمعية "الكلمة الحية" المسيحية المؤيدة لإسرائيل في بارغن, ثاني أكبر المدن النرويجية بعد العاصمة أوسلو, مشبها ايديولوجية الاسلام بافكار هتلر في السيطرة على العالم. وقال إنهم نجحوا بالتوغل في أفريقيا وبدؤوا زحفهم إلى أوروبا "وعلينا أن نتخذ خطوات حاسمة وسريعة قبل فوات الأوان".
قال إنه لا يرى أي وجه شبه بين المرتكزات التي انطلقت منها المسيحية والإسلام خاصة فيما يتعلق بالجوانب المعنوية ومبادئ العدل والمساواة.
وحذر هاكن من أنه إذا خسرت إسرائيل حربها مع الفلسطينيين وانحسر وجودها في منطقة الشرق الأوسط فإن أوروبا ستخضع وتستسلم للمد الإسلامي.
وأضاف أن إسرائيل بوابة لصد من أسماهم الإرهابيين عن أوروبا، "فإذا سقطت إسرائيل في معركتها هناك فستسقط أوروبا كاملة بيد الإرهابيين"، مؤكدا أن على إسرائيل "أن تقاوم بكل ما أوتيت لقطع الطريق على الإرهابيين والقضاء عليهم"، وأنه يجوز لها في إطار ذلك استخدام أي وسيلة ممكنة وستكون مشروعة للدفاع عن نفسها وترسيخ استقرارها وأمنها.
خطاب هاكن قوبل بالرفض واعتبر محرجا حتى للاحزاب اليمينية في النرويج والتي شاركت استنكاره, واشار اليه العديد من الشخصيات السياسية والاكاديمية النرويجية بامتعاض, كما فعلت ذلك الكنيسة النرويجية التي اعتبرته "تلاعب بالالفاظ لن يفضي الا الى الصراع والمأسي." ( http://www.aljazeera.net/news/europe/2004/7/7-14-7.htm )
يبدو لي ان هاكن قد كتب خطابه بالتسلسل التالي: كتب الحقائق حول المسلمين والاسرائيليين, وحللها وعلق عليها بصدق, ثم استعمل الحاسبة ليبدل كل كلمة "مسلمين" ب "اسرائيليين" و "فلسطين" ب "اسرائيل". وبعد تعديلات بسيطة اختار من ورقته العبارات التي كونت كلمته.
فمن هو الاجدر بتهمة محاولة السيطرة على العالم؟ المسلمين الذين يعيشون بلا استثناء في بلدان متخلفة ولاحول لهم ولا قوة حتى في تقرير سياستها, ام اسرائيل التي تسيس الدولة العضمى الوحيدة في العالم من خلال لوبي متغلغل في ادارة رئاستها؟ من الذي "توغل" في افريقيا؟ العرب الذين يسكنون ساحلها الشمالي منذ قرون, ام الاسرائيليون الذين جاءوا من الخارج, وصاروا يضعون الحكام ويغيرونهم مثلما حدث في موريتانيا.
اما عن التوغل الاسلامي في اوروبا فلا نرى له اثرا الا في الاظطهاد المستمر للمسلمين واحراق مساجدهم واعتقالهم لسنوات بدون توجيه تهمة لهم, دون ان يستطيعوا الدفاع عن انفسهم. اما اسرائيل فقد اتاح لها توغلها في المؤسسات السياسية الاوربية ان تكسب من الحكومات (المنتخبة ديمقراطيا) دعما اقتصاديا وسياسيا كبيرا, بالرغم ان شعوب اوروبا(الغربية) قاطبة اعتبرت اسرائيل اكبر تهديد للسلام العالمي, وتطالب بفرض عقوبات عليها ومقاطعتها. اسرائيل التي تسيطر على اجهزة التنصت في اميركا وكل اوروبا الغربية, بضمنها النرويج, وتستطيع الانصات الى كل الاتصالات الجارية فيها, بل وتغيير محتوياتها من خلال الانترنيت دون ان يعلم مالكيها بذلك.
يستعير هاكن تعبيره بان اسرائيل بوابة لصد الارهابيين عن اوربا من مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل. لكن هرتزل نفسه, الذي صادفت ذكرى وفاته المئة مع حكم المحكمة الدولية بلا شرعية جدار التوسع الاسرائيلي سيدهش ان عرف ان قضاة اوروبا قد اجمعوا بلا استثناء على ادانة اسرائيل لبناء جدارها التوسعي.
لم يكن صوت هاكن الصوت النشاز الوحيد في شبه الاجماع النرويجي على تأييد الحق الفلسطيني, فقد سبقه عضو البرلمان النرويجي يان سيمونسين الذي سبق له ان هنأ الحكومة الإسرائيلية بما سماه "نجاحها المبهج في اجتثاث شأفة الإرهاب" بعد قيامها بمذبحة اغتيال ثلاثة من القادة الفلسطينيين وأربعة ناشطين آخرين في حي القصبة بنابلس.
سيمونسين المعروف بكرهه للأجانب ومطالبته بترحيلهم من البلاد, ويتحدث عن الفلسطينيين المقاومين للاحتلال باعتبارهم "أعوان الشيطان في الأرض" وما شابهها من الفاظ عصور الظلام في اوروبا.
لكن المرء يجب ان يكون سعيدا بحصوله على اعداء بهذا المستوى الاخلاقي والثقافي المتردي , فذلك اهون كثيرا من ان يرتبط اسمه باسمهم كاصدقاء.
اما من يفخر المرء بهم كاصدقاء له فهم وفرة للمسلمين والفلسطينيين في النرويج. فهاهو رئيس وزراء النرويج الأسبق كوره ولوك يعبر عن ذلك قائلا إن تقديم تهنئة لقتل الأبرياء وهدم المنازل لا يتفق مع عادات وطبيعة الشعب النرويجي المحب للسلام، مضيفاً أن كل ما يصدر من مباركة أو تهنئة ما هو إلا مشاركة فعلية في عمليات القتل وانتهاك القانون الدولي.
الشعب النرويجي بمنظماته الشعبية واحزابه ايدت صدق كلام ولوك في كل مناسبة ممكنة, من الحضور الشعبي الواسع للفعاليات الفلسطينية الى الاحتجاجات التي تتميز بالجرأة والصراحة البالغة في ادانة الجرائم الاسرائيلية مثلما حدث عند اغتيال الشيخ ياسين, فقد أظهرت نتائج الاستطلاع الذي أجراه مركز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية النرويجي -وهو مركز مستقل يعنى برصد ومتابعة أنماط وسلوك المجتمعات- أن 62% من النرويجيين يرفضون عملية اغتيال الشيخ ياسين ويرون أنها "إرهاب دولة"، وبين الاستطلاع الذي أجري لحساب صحيفة "داك بلاده" اليومية وشبكة "أناركو" التلفزيونية بأن 82% من النرويجيين يعتقدون أن الولايات المتحدة طرف غير نزيه في عملية السلام في الشرق الأوسط وطالبوا بضرورة إيجاد بديل أوروبي
وأدان ستارين ليللي بولدن أحد مسؤولي الجماعة بليتز في كلمته أمام السفارة الإسرائيلية ردة فعل المنظمات الدولية وعجزها عن فعل شيء إزاء الممارسات الإسرائيلية. كما طالب الحكومة النرويجية بإخراج السفارة الإسرائيلية والأميركية من أوسلو، مؤكدا أن كلا السفارتين مصدر للتوتر والإرباك لعامة الشعب النرويجي. ووصفت الناشطة الإنسانية إنكري إيستاد - زارت فلسطين مرات عديدة - سياسة إسرائيل بداء فتاك ما أن يصل إلى مكان حتى يحصده.
ولعل اشد ما استفز اسرائيل, قصة الحافلة المعروفة. ففي محاولة لكسر النفور الذي تحسه الشعوب الاوربية تجاه سياسة اسرائيل, لجأت جمعية أصدقاء إسرائيل الى استقدام حافلة كان احد الفلسطينيين قد فجرها عام 2002, الى اوروبا, فمرت في لاهاي في هولندا وصولا الى النرويج.
وقد استقبل النرويجيون الحافلة بفتور وتحول العرض الى مناسبة لانتقاد سياسة اسرائيل, فاعتبرت الناشطة في حقوق الإنسان سيسل ستولهنا عرض الحافلة تشويها للحقائق وقلبا للصورة. وقال الكاتب الصحفي النرويجي آرنا نوردبي قولته المشهورة- إن الفلسطينيين لو تمكنوا من إحضار خسائرهم وعرضها لاحتاجوا إلى قاطرات تمتد من القدس إلى أوسلو. وأضاف "إنني ضد الإرهاب بكافة صوره وأشكاله، ولكنني في الوقت ذاته أمقت دموع المجرم الذي يبكي على خسائره التي صنعها بيديه وكان سببا فيها". لقد كان عرض الحافلة معركة خاسرة كما عبر عن ذلك رئيس وزراء النرويج الأسبق كوره ولوك, وقال إن على إسرائيل إذا أرادت كسب التأييد أن تراجع حساباتها في المجازر التي ترتكبها بحق الفلسطينيين.
ومقابل البرود الشديد الذي قابل به الشعب النرويجي عرض الحافلة الاسرائيلية, كان هناك تعاطف شديد مع سعاد حجو خالة الطفلة إيمان حجو ذات الأربعة أشهر التي قتلتها قوات الاحتلال وهي في حجر أمها, والتي اثارت استياء شديدا من اسرائيل عندما أكدت في محاضرتها أن الفلسطينيين يضطرون بسبب أوامر منع التجول في الكثير من المدن, وبعد امتلاء ثلاجات الموتى في المستشفيات, إلى وضع الموتى الأطفال في ثلاجاتهم بالبيوت.
لقد اضاف قرار المحكمة الدولية بعدم شرعية جدار التوسع الاسرائيلي حملا ثقيلا جديدا على اللوبي الاسرائيلي في اوروبا. فاسرائيل لم تعد تلك الدولة المسكينة التي تحضى بدعم شعوب اوروبا قبل حكوماتها, بل اصبحت مثالا للعنصرية الوقحة والنهب والعنف, وصارت اعمالها مثارا للكره والاشمئزاز. فعلى مدى اكثر من نصف قرن تمكن هذا اللوبي من جعل الشعوب الاوربية مشاركة فعلية في جريمة اغتصاب فلسطين, وتقديم ذلك على انه عمل انساني يمثل تعويضا لما لاقاه اليهود على يد الاوربيين من اظطهاد خلال تأريخهم وخصوصا خلال الحرب العالمية الثانية.
لكن الامر تغير وبشكل متسارع منذ الانتفاضة الفلسطينية, ودفعت صور التفجيرات الاسرائيلية وهدم المنازل على شاشات التلفزيون, دفعت المواطن الاوربي الى مراجعة صورة الاسرائيلي الذي طالما دعمه, والى التساؤل عن اخلاقية هذا الدعم.
لقد صار اللوبي الاسرائيلي في النرويج كالواقف على الرمال المتحركة: كل حركة يقوم بها, تسرع في غرقه في العزلة والاستنكار. وكل محاولة لتحسين صورة اسرائيل, حتى المبدعة والمكلفة منها تستثير اسئلة ومناقشات تنتهي بكشف المزيد من الحقائق التي لاتود اسرائيل كشفها.
يقال ان حبل الكذب قصير, لكنه لم يكن قصيرا جدا بالنسبة لاسرائيل التي تمكنت من مده على العالم لاكثر من نصف قرن. لقد ساهم الاوربيون في خنق الفلسطينيين بحبل الكذب الاسرائيلي هذا وحان الوقت للتوقف (على الاقل) عن المشاركة بتلك الكذبة البشعة, بايقاف الدعم الذي ماتزال حكوماتهم تقدمه لاسرائيل بشكل افضليات اقتصادية ودعم سياسي رغم احتجاج شعوبهم.
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟