|
دائرية الإيماءات ، و الصور .. قراءة في تجربة علاء عبد الهادي
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2943 - 2010 / 3 / 13 - 22:28
المحور:
الادب والفن
تتميز كتابة علاء عبد الهادي بنحت الأثر الشعري المكثف ، و تداعياته التي تبرز العالم كمجموعة من الإيحاءات التصويرية الفاعلة ؛ و ذلك لأنها ذات قدرة سردية تكشف غالبا عن تداخلات الحكائي ، و الأسطوري ، و الخيالي ، و المادي في التكوين ، و كذلك انحراف المدلول عن الخطاب الأول ، و من ثم يمكننا قراءة المدلول في نصوص الشاعر طبقا للصخب السردي لا الرؤية ، أو الحالة الشعرية المتواترة . و نستطيع قراءة هذه الملامح الفنية ، و غيرها في تجربة علاء عبد الهادي ، في ديواني " حليب الرماد " ، و " أسفار من نبوءة الموت المخبأ " ؛ فلا يمكن الفصل عنده بين الإنتاجية الإبداعية للصورة ، و الدوال ذات الطبيعة الحتمية ؛ مثل السقوط ، و الموت ، و العبث ، و غيرها ؛ إنه يجددها في تكوينات ملتبسة مكثفة ، و طائرة ، و أحيانا دائرية ؛ كي يقوض إلحاحها على وعي المتكلم ، و من ثم يستبدلها بالصيرورة المتغيرة للأخيلة . * تكوين شفاف ، أو طيفي / التكوين التصويري عند علاء عبد الهادي يتميز بخاصيتين ؛ الأولى هي التداخل الأصلي مع الأثر ؛ أي طيفية الصورة ، و نزوعها إلى التناقض كبديل عن الإحالة إلى بنية ، و هو ما يمكن أن نطلق عليه التكوين / الحالة ؛ لأنه يميل إلى الاختراق المستمر بواسطة الدوال الشفافة ؛ مثل الهواء ، و الأصوات ، و الشبق ، و الروائح ، و الإيماءات ؛ و من ثم نجد الصيرورة الخيالية تعبر مجال التعاطف الكوني ؛ و هو ميل العناصر إلى الاتحاد ، و لكنه في حليب الرماد يشير إلى التغير ، و الطيفية كنزعة كامنة في صلابة المادة الطبيعية . * كثافة سردية / يولد السرد في كتابة علاء عبد الهادي أصالة الوظيفة الشعرية في اللغة ، و الكون معا ؛ إذ إنه لا يمكن تخيل الصورة دون النزعة السردية التي تخبرنا ببراءة ما سيتم تشكيلة من تكوينات جديدة ، ثم إمكانية استبدالها بأخرى مغايرة ، و هذا الانتقال السريع بين الصور يؤكد الكثافة الأكثر ارتباطا بالتغير الديناميكي الذي يحدثه السرد في النص . إن أصالة السرد هنا تحيلنا إلى التداخل الذي أشار إليه جيرار جينيت في مفهوم النص الجامع ، و هو في هذه الكتابة أكثر وعيا بعملية التداخل ؛ إذ يستعاد في سياق خارج تغليب وظيفة أدبية على أخرى ، كما أنه يكثف المسافة بين عناصر الكون ، و النص ، و هي سمة ما بعد حداثية . يقول في حليب الرماد : " تأكلني يداي / أحك مصيري على حجر الطريق / متسلقا ليلي إلى كوة / أحتسي فيها العواء / و المر في القهوة / يقودني قبري إلى حلم بقربي / تضخمت في قبضتي شهقة للعشب " . المتكلم هنا يعاين الوظيفة الإبداعية داخل الذات ، و خارجها ؛ و كان تفتيت الأشياء يقود إلى وهج جديد للمادة ، أو تكوين تخترق فيه الأطياف صلابة المادة من داخلها ؛ فدوال الموت ، و المصير ، و العواء ، و القرب ، و الشهقة صارت فاعلة في حركية المادة ، و منحتها طابعا شعريا أصيلا ، و مضادا للنهايات ؛ فاليد تلتهم المتكلم ، و تمنحه قوة كونية في آن ، و الموت يؤدي إلى التئام تنبع فيه الخصوبة من داخل الذات . ثمة تأويل للمتكلم في الديوان ينبع من أصالة الاستبدال الإبداعي للكينونة ، و إعادة تشكيلها في سياقات مجازية مختلطة ، و مركبة ، و كأن التجدد هو المولد الأول للبناء في العنصر الكوني ، أو الفضاء الذاتي الممتد في المادة الجديدة للأطياف . يقول : " أنا النبوءات / أنا انعتاق البروق على عظايا القدم / أنا قفص من نوافذ / يلوي اندهاش الرؤى / و يطلق مد السحاب الكسيح " . إن تكرار الأنا يعني تأكيد الحضور ، و لكن بوصفه تجددا ، و استبدالا مستمرا للأصل ، و رغبة مستمرة في جلب التكوينات التصويرية للداخل ، و منحها فاعلية تصويرية كونية . الشاعر نافذة للإغواء ، لمعاينة الدوال المختلطة ، و المتناقضة في سياق مؤول للذات ، و ليس محددا لملامحها ؛ فهي أقرب للطاقة التي تجذب الصورة ، و تعيد إنتاجها ، و تدخلها في الصوت المتكلم ، و وعيه بالعالم . و قد يتوحد الصوت بالأداء الشعري للأطياف ، و العناصر ؛ فيبدو أثرا مختلطا بحد ذاته ، و يجتمع في بنيته عاملان : الأول : الأداء التصويري المجرد ، و التابع لصيرورة الإيماءات ، و هنا تغيب الأصالة الأولى للصوت بتكرار ضمير المتكلم ، أو إحالة الاستعارات إليه ؛ إنه أثر أدائي لحالة تحول الصور ، و إعادة إنتاجها في شكول مختلفة . الثاني : القدرة على إحداث تحول جمالي في المشهد ؛ فثمة منظومة موسيقية تقوم على تداعي المؤثرات الجمالية بشكل أفقي دون نهاية ، و فيها نجد الصوت محفزا للطاقة الجمالية في الدوال الأخرى . يقول : " يقذفني العواء / فيستيقظ البحر على مخلب الصخر المشرد / و ترتل جوقة الصخر بللها المخبأ في الحفر / استنشقتنا .. حين ارتقى الليل المخدر أنفاقا و أقبية " . الوعي في المقطع السابق يحيلنا إلى بنية هوائية لا إلى أصل ، فقد انبثق من طيف للعواء ، ثم صار مؤثرا جماليا في البحر ، و نشيد الصخور ، و الهواء . إن السياق الجمالي المتجدد للدوال في الديوان يقوم على الزيادة المستمرة في الفراغ ؛ فتارة يستبدل الصوت نفسه بتأويلات عديدة تؤكد الامتلاء المستمر للذات كموقع ، و أخرى نرى الصوت أثرا يحفز امتلاء الكون بتكوينات قيد التشكل في تداعيات الإيحاءات ، و موسيقاها الخفية . إن الأشياء تولد في نسيج التتابع السردي ، و كذلك الصوت ؛ فقد ولد المتكلم في قذف العواء ، و الاستنشاق ، و ولد الصخر في الإنشاد ، و البحر في اليقظة المجازية ، و الأقبية في حركية الليل . و من أصالة الأداء تنبع دائرية الدوال ، و تحيل إلى نفسها في عودة متجددة لأصل غائب ؛ و ذلك لأنها تحتفي بوهج الحركة ، و تقاوم الموت ، و السقوط ؛ إذ تدخلهما في تكرار موسيقي يرتكز على تجدد فعل التعاطف الكوني ، و تكراره الذي يجمع بين الموت ، و الخصوبة ، و الامتلاء ، و الفراغ . يقول : " الشمس تراوغ سيزيف / و سيزيف تراوغه الصخرة / و الصخرة تتمنى الماء / و الماء مولع بالتربة / و التربة مغرمة ببهاء الشمس / و هباء الشمس يتمنى الحقل / و الحقل يتبنى الخضرة / و الخضرة تصطاد الشمس " . و قد وضع علاء عبد الهادي المقطع السابق في فضاء تشكيلي دائري يحيل فيه كل عنصر إلى الآخر ، و يتنامى من خلاله حتى نعود في القراءة إلى أية نقطة بدأنا منها ، و مثل هذه الدائرية التشكيلية تؤكد لا مركزية نقطة البداية أو الأصل من جهة ، و تجدد الدال من خلال ولوج الآخر من جهة أخرى ، و هو ما يؤكد النزوع ما بعد الحداثي في كتابة الشاعر ، و اهتمامه الكبير بصيرورة الأثر المجازي ، و تجدده . و أرى أنه استعار دال سيزيف من الميثولوجيا اليونانية ، ليعزز من مراوغة الموت في الأسطورة ، لا حتمية العقاب ، و أوليته في الخطاب ؛ لأن الصخرة تعتمد بدورها على الماء ، و هي تراوغ سيزيف في النص مثل الشمس ؛ أي أنها تتميز بالفاعلية ، و تفكيك دائرية العقاب في سياق جمالي دائري جديد يرتكز على التعاطف ، و تجميع العناصر ، و لو كانت ضمن سياق عبثي ، أو عدمي ؛ فالديناميكية السردية تسير باتجاه الالتئام ، و دائرية الحياة . إن السقوط يحفز الحياة الأخرى لسيزيف ، و يجددها في بكارة الانتقال إلى دورة وجود ثانية ، تحمل تاريخ الأسطورة دون السقوط في بنيتها . • تفجير المدلول / يستمر علاء عبد الهادي في نحت أشكال جديدة من التصوير فيما وراء مركزية الوعي ، و النص معا ؛ فهو يفجر المضاد ، و المختلف من المدلول الأول في ديوان " أسفار من نبوءة الموت المخبأ " فمن العشق يولد اللحد ، و من النتوءات يخرج الشبق ، و من الغياب ينبع كتاب العشق ، و غيرها . إن الصورة تتجدد فيما وراء المدلول الأول دائما ، و تتوهج من داخل التناقضات الإبداعية ، و الإحالة إلى الصور الدائرية المناهضة لمركزية الجسد ، أو بنية المدلول الشعري . إنها كتابة تفتتح البدايات من داخل الحدود ، و النهايات ؛ كي تعزز من الارتباط الأصلي بين اللاوعي ، و الصيرورة الكونية . يقول : " القلب باب العشق / طلسم الرياح / و الثدي تمر الجناح / أفسح مياهك في اصطفاق اللحد / جرحا على وهم الخرير / و اربط عقدتك بالرعدة الأولى " . لقد تولد دال اللحد من تعاطف العناصر ، و الدوال في منظومة العشق الكوني ، و ما فيه من تبديل للذات ، و المتكلم باتجاه بكارة النشوء المتجدد للاوعي الإبداعي في لقائه السري بالعالم . إن الشاعر يرغب في منح الأشياء دائرية جمالية تقع فيما وراء الحدود ، و المعاني ، و تفجرها في اتجاه النقيض . يقول : " الأرض رمانة / و الشمس تفاحة للسبيل / و الزند قشرة من فضاء / هو خاتم .. يسور سياحة القلب الصغير " . الشاعر يرى البهجة ، و البزوغ الإبداعي للأشياء ، و تفككها في دائرة تقع بين الوعي ، و الدال المختلط ؛ و من ثم فالدائرية عنده تتصل من خلال الاختلاف ، و التناقض ، لا التكرار ؛ فثمة جديد تعد به الدائرة دائما ؛ فالتفاحة ، و الرمانة ، و أخيلة الخاتم تؤكد مجازات الأنوثة ، و عودة الصوت إلى أصوله التي تجمع بين التكرار ، و ولادة الآخر . هكذا يجتمع في السياق الشعري الموت ، و البعث معا في سياق يتميز بالتوهج ، و الصخب ، و حب الحياة الكامنة في الموت ، و تشبيهاته النصية . يقول : " جعران مسهد / تنبؤ ذؤابته بسفر يخبئ نبوءة الموت السريعة / دماء تساقط على صندل النار زيتا ... هو البعث يفتح توراته و إنجيله .. " . لقد ولدت للتو حركة الانفتاح الجمالي للبعث من اختباء الموت ، و كأنما يحدث النص حالة من التوحد الصاخب بينهما ، و يعاين توهج القداسة السرية لمثل هذه الصور الدائرية ، و دلالاتها بين العشق الكوني ، و صخب الغياب .
محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحكي ، و تجدد الحياة .. قراءة في مجموعة نصف ضوء ل عزة رشاد
-
الإيماءات الإبداعية للحكي .. قراءة في نوافذ صغيرة ل محمد الب
...
-
لعب التشبيهات ، و الأصوات .. قراءة في كأنها نهاية الأرض ل رف
...
-
نقطة الخروج في مسرح أوجين يونسكو
-
نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الد
...
-
الوعي المبدع يتجدد .. قراءة في كتاب المغني ، و الحكاء ل فاطم
...
-
انطلاق القوى اللاواعية .. قراءة في دموع الإبل ل محمد إبراهيم
...
-
الإكمال الثقافي في فكر أرنولد توينبي
-
الاندماج الأول بالعالم .. قراءة في تفاصيل ، و تفاصيل أخرى ل
...
-
سرد في نسيج الحجر .. تأملات في طبعات الأيدي القديمة
-
امتداد التجارب النسائية .. قراءة في نساء طروادة ل يوريبيدس
-
سياق شعري يشبه الحياة .. قراءة في تجربة فاطمة ناعوت
-
تأملات جمالية في الأنا الأعلى
-
تجاوز الذات التاريخية .. قراءة في أحب نورا .. أكره نورهان ل
...
-
العولمة ، و الاختلاف
-
شهوة الكتابة ، و نشوة الغياب .. قراءة في الرغام ل علاء عبد ا
...
-
الأنا ، و إيحاءات الأشياء الصغيرة .. قراءة في اسمي ليس صعبا
...
-
التأويل الإبداعي ، و دراسة التاريخ .. قراءة في دروس التاريخ
...
-
الانتشار الإبداعي ، و التناقض في قضايا النوع
-
تجدد الحياة في صمت النهايات .. قراءة في مواسم للحنين ل محمد
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|