جمعة الحلفي
الحوار المتمدن-العدد: 896 - 2004 / 7 / 16 - 06:56
المحور:
الادب والفن
يضع بائع أشرطة كاسيت، وسط دمشق، لافتة على باب محله مكتوب عليها: (أحزان عراقية بعشرين ليرة فقط!) طبعاً المقصود بالعشرين ليرة فقط، هو سعر شريط الكاسيت، لكن مع ذلك تظل العبارة السالفة مليئة بالمعاني. فقد ارتبطت الأغنية العراقية، دوماً، بالحزن فصار عنواناً لها، مثلما هو عنوان للواقع العراقي برمته. ولم تشفع أغنيات كاظم الساهر، من قبيل (يضرب الحب شو بيذل!) في تخفيف أو تغيير وطأة المأساة المرافقة لهذه الأغنية، على مسامع وقلوب العرب.
والغريب أن هذه الأغنية، التي تجلب الكآبة والنكد لسامعيها، محبوبة ومطلوبة بكثرة من قبل أوساط واسعة من العرب السوريين وغير السوريين، وكأنها تسد نقصاً تفتقده الأغنية الشامية، الخفيفة واللطيفة على الأسماع، حتى عندما تكون كلماتها حزينة. أو أنها تلبي حاجة روحية، فائضة لدى العراقيين وشحيحة عند أشقاءهم.
وأذكر مرة كنتُ مدعواً فيها لأحياء أمسية شعرية، وما أن اعتليت منصة القراءة حتى صاح بيّ واحد من بين الجمهور: بكيّنا…. بكيّنا.. أبو الشباب! وفي مرة أخرى قرأت قصائدي ونزلت عن المسرح فاحتضنني شخص سوري وقبلني بحرارة ثم قال (شو يا زلمة.. من وين تجيبون ها لحزن؟) وفي سياق الموضوع ذاته أذكر حكاية رواها لي صديق شاعر، قال: في بداية السبعينات، بعث مدير الإذاعة والتلفزيون في بغداد (وكان في حينها محمد سعيد الصحاف) على كتّاب الأغاني والمغنين، وألقى عليهم محاضرة طويلة شرح لهم فيها ضرورة الإقلاع عن تأليف وإنتاج الأغاني الحزينة لأنها، كما قال، لا تنسجم مع واقع العراق الجديد ومع منجزات الحزب والثورة، طالباً إليهم البدء بإنتاج أغنيات فرحة ومتفائلة. وبعد أسبوعين من ذلك اللقاء، ظهرت أغنية قحطان العطار الشهيرة، التي يقول مطلعها: يكَولون غني بفرح وآنا الهموم غناي! وممن اضطروا لتلبية طلب الصحاف، المغني المعروف ياس خضر، فقد غنى في حينها أغنية يقول مطلعها: وداعاً يا حزن.. ولا نرجع بعد! لكن المشكلة في تلك الأغنية أن الياس كان يغنيها وهو يكاد يبكي.. ربما من شدة الزعل على وداع الحزن!
واليوم، بعد سنوات الكوارث والفواجع، التي حلت بالعراق والعراقيين، ولا تزال مقيمة، لم تعد الأغنية العراقية حزينة فقط وتتحدث عن الفراق والغربة والفقدان، بل أصبحت كارثية، تتحدث عن الموت والقبور والدماء والخوف والرعب. ومن آخر ما سمعت،على هذا المنوال، أغنية يقول مطلعها: ما خايف على مالي..آنا خايف من خيّالي.! هذا عدا عن أشرطة القراءات الحسينية واللطميات، التي لا يخلوا منها شارع أو بيت أو مقهى أو سيارة، الأمر الذي يحتاج، برأينا، الى "إعادة أعمار" خاصة بالأغنية العراقية ، بل وبالذائقة أيضا!
#جمعة_الحلفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟