علي شفيق الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 2941 - 2010 / 3 / 11 - 02:49
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من بلاد الرافدين وحوض النيل الى ضفاف السين
روائع من تلاقي حضارات الشرق والغرب
د. علي شفيق الصالح (*)
القليل منا يعرف المكانة الرفيعة التي كان عليها علماء الآثار ورواد الإكتشافات التي أظهرت لنا حقائق وخفايا حضارات بلاد الرافدين وحوض النيل, ومدى تفانيهم في إنقاذ آثارنا النفيسة وتعريف العالم بعمقها وقيمتها الإنسانية.
وتكشف لنا الكنوز الأثرية والتحف القيمة المعروضة في صالات "متحف اللوفر" في باريس مدى شغف الفرنسيين وإهتمامهم بآثار الشرق القديم. ولا بد أن تتبادر الى ذهننا في البداية إنجازات الباحث الأثري دومنيك ﻓﻴﻔﺎﻥ ﺩﻭﻨﻭﻥ. ( Dominique Vivant Denon ) ﺍﻟﺫﻱ كان له الدَور المتميز في انشاء هذا المتحف .
ان التاريخ يذكر بأن دونون هو دبلوماسي سابق وفنان ماهر, وكان قد رسم عدد غير محدود من النصب أثناء وجوده في ﻤﺼر, وهو صاحب ﻜﺘﺎب " ﺭﺤﻼﺕ ﻓﻲ ﻤﺼﺭ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻭ ﺍﻟﺴﻔﻠﻰ ". وقد شغل وظيفة مدير عام المتاحف الفرنسية منذ عام 1804 وخلال عمله أنشأ متحف بونابرت الذي أصبح فيما بعد متحف اللوفر, أحد المعالم الرئيسية التي يسعى ملايين القادمين لباريس سنوياً إلى زيارتها.
وكان نابوليون بونابرت قد كلفه بإنشأ قسم المصريات باللوفر وبالمشاركة في اعداد الكتاب الشهيرالذي إصدره عن "وصف مصر". وأنه كان دائم الإتصال بالمنقبين الفرنسيين في بلاد الرافدين, وحصل اللوفر على مقتنيات ثمينة من أشهر الآثار التي عثروا عليها ومنها المجسمات الاشورية العملاقة للثيران المجنحة ذات الرؤس البشرية الحارسة لمدخل غرفة العرش إلى جانب تماثيل الأسود المروضة.
في الحقيقة ان الدور الرئيسي في إكتشاف ونقل هذه التحف الأثرية يعود الى خبراء الآثار الذين وصلوا الى الموصل منتصف القرن التاسع عشر , وفي مقدمتهم الباحث المعروف "باول أميل بووتا" Botta Paul الذي شغل منصب قنصل فرنسا في الموصل, وهو الذي عثر بخبراته ومثابرته على آثار مدينة نينوى القديمة عاصمة الاشوريين. ومنهم كذلك الباحث الفرنسي "فيكتور باليس" الذي أشرف على نقل بعض الاثار التي يزن بعضها عدة أطنان بواسطة نهر دجلة الى ميناء البصرة ومن هناك تم نقلها الى باريس, وكانت إحداها قد وقعت في نهر دجلة لثقلها.
ويحتضن متحف اللوفر أيضاً "مسلة حمورابي" التي تعرف بشريعة حمورابي والتي تعتبر برأيي من أعظم كنوز اللوفر، وهي تتصدر الآن الصالة الحديثة التي أطلق عليها إسم "حمورابي".
وقد اكتشفت هذه المدونة على يد بعثة أثرية فرنسية برئاسة "جاك دي مورغان" Jacques De Morgan , في حفائر مدينة "سوسة" التي تبعد عن بابل بمئات الكيلومترات, حيث كان قد نهبها ونقلها العيلاميون الى هناك. وبذلك كان وما زال دي مورغان محل تقدير في الأوساط الثقافية, مع العلم أنه مهندس مناجم وجيولوجيا وعالم آثار, وكان قد شغل منصب مدير عام الآثار في مصر خلال القرن التاسع عشر.
والآن, وبعد مرور أكثر من ملئة سنة على إكتشاف مسلة حمورابي, فإن أبناء بلاد الرافدين, بقدر ما يشعرون بالفخر, فأنهم ما زالوا يحملون التقدير الى الشخص الذي عثر على هذا الأثر الحضاري واستخرجه من أعماق الأرض ليظهر للعالم مدى التطور الفكري الذي عاشه أسلافنا, وأعطانا الحق في أن ندخل بثقة العصر الحديث بتراثنا.
وفي جنوب العراق نالت المدن الرئيسية للسومريين أيضاً القدر اللائق من إهتمام مجموعات الباحثين , ومنها مدينة " لجش" بقيادة أرنست دي سارزيك Ernest de Sarzec منذ بداية 1877 الذي كان في نفس الوقت نائب القنصل الفرنسي في ولاية البصرة, ومنها أيضاً مدينة " كيش " بقيادة هنري دي جينويلاك Henri de Genouillac بين عامي 1911 و 1912.
والكل يذكر بتقدير رائد آخر وهو العالم "جان فرانسوا شامبوليون" (Jean-François Champollion) ، الذي استطاع في عام 1822 عبر مهارته اللغويه ومثابرته الطويلة فك رموز الكتابة المصرية القديمة "الهيروغليفية", مستعيناً بحجر رشيدReset الذي كان قد اكتشفه ضابط في الجيش الفرنسي أثناء الحملة لمصر والموجود في المتحف البريطاني ونسخة منه في باريس. وهكذا ذاع صيت هذا العالم لإنه جعل آلاف الصروح والبرديات الأثرية ترفع ستار الصمت عنها, وتأسس إثر ذلك علم المصريات Egyptology.
وعندما نقرأ ما سجله التاريخ عن شامبوليون, نجد أنه قد توفر على مواهب فريدة منذ صغرة وأظهر نبوغاً مبكرا جدا، فقبل أن يبلغ السابعة عشرة كان قد قدم بحثا متميزاً وكان يحسن 9 لغات قديمة مما لَفَت الأنظار اليه.
وأذكر هنا حادثة طريفة تدل على المهارة المبكرة لهذا العالم, فانه لما أراد أن يدرس في ليسيه باريس طُلب منه إن يكتب مقالة للتعرف على مستواه، فكتب لهم كتاباً بدل المقالة وقرأُه شامبوليون على الأساتذة، فانبهروا به وأدركوا عبقريته، وبدلاً من أن يقبلوه كطالب عندهم عينوه مدرساً معهم. ومما يروى عن تميزه أيضاً أنه قد عُينَ منذ أن كان عمره 19 سنة استاذاً للتاريخ القديم في جامعة غرنوبل. وبعد عودته من مصر التي زارها سنة 1828 شغل وظيفة أستاذ كرسي للآثار المصرية في الكوليج دي فرانس.
ولكي أُوضح مدى إخلاص شامبوليون لمصر, أذكر أنه كتب مذكرة لمحمد علي باشا يناشده إنقاذ الآثار المصرية من الصراع الشرس بين جامعي التحف , وقال فيها: انها مصلحة عليا لمصر نفسها ان تحافظ على الآثار التي تتعرض للنهب والتدمير يوميا. وأذكراحتفالات التكريم التي اقيمت في فرنسا قبل عامين بمناسبة مرور 170 سنة على رحيله والتي حضرت بعضها, وكذلك إحتفالات مصر إمتناناً لمساهمته التاريخية.
ولا بد أن يتبادر إلى ذهننا أيضاً عالم المصريات "جورج لوجران" Georges Legrain الذي ولد في باريس عام 1865، والذي يطلق عليه بعض العلماء «رجل الكرنك» بامتياز، لكونه مكتشف خبيئة الكرنك وكاشف أسرار معبد آمون رع.
وجاءت بداية دخول لوجران ميدان علم المصريات بقيامه بمهمة النسخ النهائي للرسوم التخطيطية الملحقة بمجلد نصوص معبد حورس. وفي عام 1892 التقى بمورغان رئيس هيئة الآثار المصرية، الذي ضمه إلى فريق عمله ليبدأ رحلة الحفر والتنقيب عن الآثار المصرية المدفونة تحت الرمال.
والكل يشهد على ولع لوجران بالحضارة المصرية الذي امتد لكل من كان يعمل معه في من مساعدين وعمال حفر, ليس فقط من أجل المكافآت ولكن أيضاً تقديراً لحماسته وحرصه على حمايتهم من الأخطار. وفي عام 1908 حصل لوجران على وسام الشرف من مصر. وعرف عنه أنه وظف كل إمكانياته لحماية معبد الأقصر من أخطار الفيضان المتكررة, حتى أنه في عام 1917 ظل أياما في الكرنك يشرف على جهود الحماية رغم مرضه، حتى فارق الحياة, وكان هذا محل تقدير في مصر.
وحسب علمنا أن متحف اللوفر حريص على أن تكون الآثارالمعروضة لديه قد تم خروجها من بلدها بصورة مشروعة , وإلا فانه يقوم بإعادتها إلى بلدها وفقا للقوانين والمعاهدات الدولية ومنها اتفاقية اليونسكو لعام 1970. وعليه تقرر مؤخراً أن يعيد المتحف الى مصر اللوحات الجدارية الخمس التي طلبتها بعد أن تبين له ان خروجها من الأقصرعام 1980 لم يتم بصورة مشروعة.
كما أصبح بإمكان البلدان أن تطلب من المتاحف إستعارة بعض القطع من آثارها المعروضة ليشاهدها مواطنيها, حتى يشعروا بالزهو بما تركه أسلافهم من صور حضارية وإنسانية, ويتذكروا من كان وراء إكتشافها وتعريف العالم بها, لكي تتواصل الروابط الحضارية وجسور المحبة عبر الأجيال.
وهذه خطوات هامة وقد تتوفر في المستقبل الظروف المناسبة للتوصل الى اتفاقات دولية تسمح بإعادة بعض هذه القطع الأثرية لكل بلد من البلدان الأصلية حينما يستطيع توفير الأمان والعناية اللازمة لها.
(*) استاذ القانون العام والمقارن / باريس
e-mail: [email protected]
#علي_شفيق_الصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟