أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - قحطان محمد صالح الهيتي - رحلة في تراث هيت















المزيد.....


رحلة في تراث هيت


قحطان محمد صالح الهيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2940 - 2010 / 3 / 10 - 20:25
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



ومن الباب الغربي لمدينة هيت ادخل مع الباحث عبد الرحمن جمعة حاملا معي كتابه هيت في ظلال الماضي - صور تراثية شعبية- وأمر وإياه من تحت قوسي ذلك الباب مزهوا بالفرح وكأني أمر من تحت قوسي النصر في أعرق إمبراطورية في التاريخ.ونبدأ رحلتنا مع السيد حسين عز الدين، ونقعد على دكة دكانه،فاقرأ في كتاب ثان للباحث هو كتاب هيت رجال وحكايات عن هذا المتصوف الذي وصفه بأنه نخلة وقورة،وأصيلة وعرفت مما كتبه بأسلوب اقرب ما يكون إلى الخاطرة، أو القصة القصيرة بان السيد حسين عز الدين كان فلاحا ومهندسا زراعيا من طراز خاص، وانه كان طبيبا ماهرا، وخطاطا مبدعا، وكاتبا متنورا في الأدب والقصة.وبعد أن نعرف حياة الزهد والتقشف التي عاشها هذا إلهيتي المتصوف نودع من في الساحة لنستمع إلى منصور ساجر وهو " يرطن " بالانكليزية، ومع منصور ساجر نحلم بتلك الدشاشة البيضاء التي حصل عليها في خلال حلمه، وسُعدَ وسُرَ بها كثيرا كونها جديدةً بفصال حديث فنفرح معه ،ولكننا سرعان ما نحزن ويصيبنا الأسى حين يستيقظ فيجد بان دشداشته القديمة قد (رعطت) بسب دخول احد أضافر قدمه في احد شقوقها فتمزقت .لقد حلمنا مع منصور ساجر كما حلم الكثير من الهيتيين بالحصول على دشداشة بيضاء، ولكن الحلم لم يتحقق، فما أسهل أن نحلم وما أصعب أن نحقق الحلم.
لقد كانت رحلتي مع الباحث في احد شتاءات هيت الباردة، وبالذات في احد أيام "المربعانية" وهي الأيام التي تعرف باللغتين الكردية والفارسية ب"جله" بالجيم المعجمة ومدتها أربعون يوما ولعل اسم "من جلقه"-المشركانه- التي أوردها الباحث للدلالة على المكان الذي كان يجلس به الهيتيون في أيام البرد القارص متأتية من هذا المدلول. استمعت أنا والباحث في" منجلقة" الباب الغربي إلى أحاديث الرجال عن الزرع والضرع والنواعير والشخاتير، ومن تزوج من أهلها، ومن رزق بمولود، ومن سيتزوج في القادم من الأيام.وسمعنا هناك إلى حكايات عليوي الصعب ،وفهمنا منها ومن دلالاتها الكثير، وتمنيا لو أن ما كان يحكيه قد دُوّن وكُتب.
تركنا الأهل مع شمسهم في" المنجلقة" ودخلنا من تحت إحدى السقائف، وادينا التحية والسلام على من كانوا في مقهى بيت دبو، ورد الجميع التحية بأحسن منها، واقسم الكل إلا أن نجلس لنشرب الشاي السيلاني، وكان لهم ما أرادوا، فلا يرد الكريم إلا البخيل،وتسابق الجمع كل ينادي على من قدم الشاي لنا بان الحساب واصل، وأيا كان من دفع الحساب بعد أن ودعنا المقهى وكرمائها، فانه حساب لا يمكن لكل أعداد الحساب أن تقدر الرقم الذي يمكن أن يساوي ذلك الطيب وذلك الكرم.
وقادنا الطريق ورؤوسنا مرفوعة، وعيوننا سامية كسمو مدينتا إلى منارة جامع الفاروق، لنرى طبعة الكف التي يقول الأجداد بأنها كف الإمام علي (رض) التي انطبعت على المئذنة لما مالت آيلة إلى السقوط؛ ولم نكتف بالنظر إلى المنارة ،بل دخلنا في جدل حول حقيقة الرواية، وهل هي صحيحة أو أنها أسطورة من أساطير الأجداد؟ واستمر الجدل والنقاش وتعددت الآراء واختلفت، ولكنها لم ولن تفسد للود قضية.
وبينما نحن في حوارنا، وبين اختلافنا واتفاقنا، سمعنا صوتا يدعونا لأن ننهي الأمر وان نقر بان الكف هي كف الإمام علي،وهنا سكت عبد الرحمن،وأيد صاحب القول على مضض وأراد أن يزوغ كون صاحب الصوت هو والده جمعة ذياب الذي اطل علينا من دكان حلاقته هو وشقيقه علي ذياب، فليس من الأصول أن يخالف الابن أباه. لقد كان ذلك الدكان بمثابة عيادة طبية لأبناء المنطقة وما جاورها، و مستقرا لبعض طلبة العلم.
لقد كان بودنا أن ندلف إلى دهانة سعيد ذياب لنتذوق فيها طحينته المشهورة، ولكن ذلك لم يتم ،وبعد أن تنفس الباحث الصعداء كونه ابتعد عن والده وعمه، وقد يلزمه وجودهما بالسكوت، وهو الباحث الحر الطليق الذي يريد أن يقول ما عاشه فعلا،وسرنا وسار بنا الدرب إلى مدخل الدرب الأخضر الذي لم ندخله، فعبرناه كما عبرنا بعض الدروب الأخرى التي صادفتنا في طريقنا إلى أن وصلنا إلى ساحة الباب الشرقي، وعندها وفيها وجدنا عالما من طراز فريد ففيها الدكاكين والعلاوي الممتلئة بشتى أصناف البضائع والسلع .
مع الباحث ندخل إلى اشهرعلوة في المدينة هي علوة الحاج عاشور ذلك الرجل السخي الطيب الذي استحق عن جداره قول الشاعر بدران بريكع:
حجي عاشور وما نجيبه بلاشه يطلع على التجار هو الباشا
تلكي الحريم بعلوته معتاشـة نفسه وطيه وما أظن يتكبر
ويروي لنا الباحث في كتابه هيت رجال وحكايات قصة رائعة تعد بحق واحدة من طرق التكافل الاجتماعي حيث يقول:هناك رجل مسن أعمى اسمه عبادي ، يقوم بالعطارة صيفا وفي الشتاء يتخذ من علوة الحاج عاشور مستقرا له دون عمل، وحين انتبه الحاج عاشور إلى ذلك طلب من عبادي أن يقوم بجمع ليف النخل من بساتين هيت ويجلبه إلى العلوة بعد تنظيفه، ولما احضره طلب منه أن يوزعه على النساء الفقيرات والأرامل في المدينة ليقمن بعمله حبالا من الليف، وقد قامت النسوة بذلك،فصرف الحاج عاشور درهمين أجرة لكل منهن.
وفي الساحة نفسها يشير الباحث إلى احد الدكاكين، ويقول لنا بان هذا الدكان كان عامرا بما كان فيه من سلع متنوعة، وكان يعرف بمغازة حردان ذلك الرجل الذي انفق كل ما كان في المغازة من سلع على أعمال البر والإحسان متصدقا بها على فقراء المدينة حتى أصبح لا يملك من الدنيا شرو نقير فأصبح حمالا، وبهذه المهنة الشريفة عرف هذا الرجل الكريم، والذي يصفه الباحث بأنه الطيبة المتجولة.
وفي هذه الساحة وفي خلال تواجدنا بها كانت لنا وقفة مع فتيان المدينة، وهم يطوفون مبتهجين فرحين مسرورين بزفتهم كونهم أكملوا ختمة القران الكريم عند الملا فليح وأصابنا من الخرفيش والجكليت وأصابع العروس نصيب.
ونفتح الباب الشرقي على مصراعيه،ونخرج من القلعة،وننزل إلى ساحة المركز أو الخندق وهي اكبر ساحات مدينة هيت، وواسطة العقد بين القلقة والولاية وقرى الصوب الآخر من نهر الفرات، ومدخلها الرئيس إلى سوق المدينة الجديد، وفيها نجد بقايا السراي القديم والسراي الجديد الذي أقيم بدلا عنه واتخذ جزءً منه مقرا لمديرية الناحية لقد كانت هذه الساحة بمثابة القلب النابض للمدينة فمنها تغادر سيارات الأجرة إلى بغداد والرمادي والحديثة وكبيسة وفيها ملتقى أبناء الريف بأبناء المدينة وفيها الخان الرئيس الذي كان بمثابة القسم الداخلي لطلاب القرى المجاورة والذي قال فيه شاعرنا المرحوم محمد أمين علي قصيدته المشهورة في حفل استقبال السيد عبد الوهاب مرجان رئيس وزراء العراق(الوزارة السابعة والخمسون في العهد الملكي والتي تولت الحكم للفترة من 15/كانون أول/1957 إلى 3/آذار/1958) أي أن مدة حكمها كانت ثمانين يوما وقد تمت الزيارة يوم 29/12/1957 أي بعد تسنمه منصبه بأسبوعين :
اليوم بالغـــار لا بالقـــار تزدان هذي الربى ويمسي ألآس والبان
اليوم تختـــال تيها في مفاتنهــا هيت وتحسدها في الأرض بلدان
هــذي طلائع آمــال تراودنـا أن يشمل البلد المنسي عمــران
بالنفط تزخــــر والكبريت تربته والمعدنان يواقيـــت وعقيـان
مولاي الجسر لا تحصى منافعه تنمو على الجسر أسواق وتزدان
والثانوية ترجـــو أن يكون لهـا مأوى لقد نال من أبناءها الخـان
والثانوية يا مولاي ينقصــــها صفان لو كملا لم يبق نقصــان
وفي الساحة يعود بنا الزمن إلى منتصف خمسينات القرن العشرين ، والى تلك المساحة الترابية التي كنا نتخذها مجلسا نحن أطفال المدينة، وفتيانها، وبعض رجالها لمشاهدة عرض سينمائي تقوم به السينما المتجولة التابعة للدولة، حيث توضع الشاشة المتوسطة الحجم على جدار مدرسة خديجة الكبرى للبنات فنرى فلما عن مشاريع الأعمار وعن الزراعة والمدارس ثم ترفع الشاشة وتذهب السيارة بعد أن ينتهي العرض ونصفق لصورة جلالة الملك فيصل الثاني ملك العراق.
ونترك الساحة ومقاهيها ومن فيها ونقفل راجعين إلى "الولاية" وندخل مع الباحث إلى بيت هيتي أصيل ولعله بيت عائلة الباحث نفسه،وحين ندخل نجد التحية والترحاب من سيدة البيت، وهي تهلل وترحب بأصدقاء ابنها راكضة لتفرش لهم مََدَةً أو مَدَتين ليجلسوا عليها على أرضية الدار المبلطة بالقير الهيتي الذي يعتبره الهيتيون بركة لهم ،فمنه طلى نوح سفينته قبل أن تستوي على الجودي.ومنه بنى السومريون مدنهم، وعبد البابليون شوارع بابلهم.
ويدخلنا الباحث إلى إحدى غرف الدار الصغيرة والتي هي ملاذه وملاذ أخوته الأخريين ،تلك الغرفة التي لا تتجاوز مساحتها أمتارا ستة، وبعد أن نعد جذوع السقف نجد أنها سبعة جذوع كانت بمثابة الحَسّابة للباحث فعن طريقها تعلم العمليات الحسابية الأربع ، ومنها عرف بان الأسبوع سبعة أيام تمثل الجذعة الأولى يوم السبت والجذعة الأخيرة يوم الجمعة. وفوق الجذوع صُفَّ جريد النخل بكلل دقة وإتقان ،ويطلعنا الباحث على إحدى الروازين التي اتخذ منها شقيقه الأكبر مكتبة لكتبه وكراريسه .ليس للغرفة شبابيك ومن يدخلها فكأنه دخل ملجأ عسكريا ولا يربطه بالعالم الخارجي سوى فتحة صغيرة في وسط سقفها،وحين نسال الباحث عن هذه الفتحة يقول لنا هذه هي السُوامَة فنطلب منه أن يشرح لنا ما يعرفه عنها فيطلب منا أن نخرج إلى وسط البيت لأن للسُوامَة قصة وحكاية، وبعد الصلاة على النبي يبدأ الحكاية،لقد سمعنا قصة السُوامَة من الباحث فكانت قصة رائعة رسم منها في عقولنا وبسرد إبداعي رائع صورة جميلة، سمت بنفوسنا إلى العلياء حين وضح لنا بان اسمها مشتق من السماء كونها المنفذ الوحيد الذي ترى منه السماء ومن السمو الذي كانت تتميز به حين يدخل ضوء القمر من خلالها حينما يبدر ،كما أن الهواء يتجدد في الغرفة من خلال دورته فيها.
وتحت درج البيت اتخذت سيدة الدار حيزا صغيرا جعلته موقدا لها وحين شم الباحث رائحة البصل الذي شاط بقدر شوربة العدس الذي كانت تعده أمه تذكر قصة تلك الجدة التي أعدت لحفيدها عشاءا من هريسة الهرطمان في ليل شتائي بارد وبعد أن أصبحت الهريسة جاهزة حملت القدر النحاسي الذي تم تبيضه قبل أيام عند ناصر الصفار وقامت بصب الهريسة على البقعة المنورة التي كانت أشبه ما تكون بصينية فضية حيث ظنت أنها إناء فضاعت الشوربة وضاع معها التعب وبقي الحفيد يتضور جوعا.
لقد كان حظنا أحسن من حظ ذلك الحفيد ،فأصابنا من شوربة أم سبتي نصيب، وبعد أن خدر الشاي على بقايا نار الحطب التي طبخت الشوربة عليها شربناه وشرب كل منا دلوا من الماء من الحب المنصوبة على محملها والمبرقعة بغشغيش ابيض كالعروس في ليلة زفتها، ولما لم تبقَ للضيف حجه، ودعّنا أهل البيت وخرجنا وفي أثناء خروجنا توقفنا أمام بابه وتطلعنا غالى أعلاه فوجدنا رأس غزال وأم السبع عيون ،وحين قرأ الباحث ما يدور في عقولنا من تساؤلات حول هذا الأمر قال بان ذلك هو لإبعاد حسد الحساد عن البيت وعن أهله.ولا ندري عن أي حسد يتكلم ولا يوجد في البيت سوى رحى حجرية، وباطية قير للعجين ، وعدد قليل من القدور، وبعض أدوات الطبخ ومنقلة،وإبريق وجنبيلتين،إحداهما للعدس والثانية للماش وحصيرتان وجلة.وقلائد من البامياء المجففة،وكوشر من الباذنجان اليابس.
ومشينا وقبل يمضي كل منا إلى غايته رأيناها واقفة حائرة فكأنها من قال بحقها الأعشى
غراء فرعاء مصقول جوانبها تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجل
غضضنا الطرف عنها حيا، فهي جارة رفيقنا، ولكن الجمال وسطوته أخذا منا مأخذا أثر في نفوسنا، فطلبنا منه أن يحدثنا، وكان لنا ما أردنا.يقول الباحث:هذه أمينة وهي اسم على مسمى، وإنها على موعد لعودة زوجها بعد انتظارها له لمدة أربعين يوما حيث ذهب في احد الشخاتير، وقد اقترب موعد عودته، وها هي بانتظاره، وقد تزينت له فحنّت رأسها ويديها،وتعطرت له بالسعد بعد أن غسلت جسمها بالإشنان، وتبخرت ببخور كبيسة، ووضعت الحسن يوسف على وجنتيها والديرم على شفتيها لقد كانت أمينة معطرة بانتظار الزوج الحبيب .ومحبة منا لها دعونا أن يعود إليها سليما معافى.
لم نبتعد كثيرا وعن أمينه فعلى مقربة منها قبلَّ الباحث طفلا وكان مهتما به كثيرا وقد دلّعه بأسماء عدة، فقال لنا هذا حميد وحمود وحمودي وحيت رأى الوجوم علينا قال لا تعجبوا من أن يكون لهذا الطفل أكثر من اسم فاسمه محمد رزق به والداه بعد سبع بنات ومحبة به فان كلا من أخواته تدلعه باسم خاص بها، فقد تكون له مع هذه الأسماء أسماء أخرى،ولكن الأهم من ذلك فان لحمودي قصة قلنا وما هي؟ فأجاب الباحث قائلا: نظرا لكون حمودي الولد الوحيد في العائلة فقد كان متميزا برعاية خاصة من ذويه، فكان لحمودي ما يريد الحلوى، والبقصم، وكان يرتدي أجمل الثياب، وكان يحمل اجل الأوسمة والأنواط من الودع وسن الذيب،والشناشيل وكان له جناغ من الذهب معلقا على كتفه الأيمن لإبعاد الحسد عنه.وصادف أن ضاع جناغ حمودي ولم يعرف السبب هل تمت سرقته أو سقط عنه أو انتزعه احد أقرانه ؟ بحثت الأم والأخوات عن جناغ حمودي في كل مكان خطى فيه حمودي، ولم يجدنه وحمودي لا يعرف ما القصة ، وما السر، وما كل هذه الضجة،وحين فقدت الأم الأمل في إيجاده داخل بيتها، وقفت وكالعادة في مثل هذه الأمور على باب دارها صائحة بأعلى صوتها "الصلاة على محمد الصلاته غالية ... إلي لاقى جناغ حمودي" ويعيد الجيران "صلاة محمد غالية" ومن نداء أم حمودي فهم الجيران أنها فقدت جناغه ،ولما لم يأتها احد بخبر عن الجناغ عمدت أم حمودي إلى طريقة هي أروع طرق البحث عن الحق بالفضيلة فتقوم بإحضار طبق خصف" طبك خصف" وتضع فيه كفا من التراب وتطوف إحدى بناتها بالطبك يمنة ويسرة إلى سابع جار لهم ليضع كل جار تمر به الفتاة كفا من التراب فوق ما تجمع من تراب في الطبق وبعد الانتهاء من هذه المهمة تعود بالطبق إلى أمها مملوءا بالتراب وحين تستلمه أمه منها تقوم بنخل التراب بمنخل عندها تجد جناغ حمودي دون أن يعرف الفاعل كونها لا تعرف بأي كف من التراب كان قد وضع فيه جناغ حمودي، وهذه واحدة من صور الألفة والمحبة والستر التي كان يتمتع بها الهيتيون ، فكم هم رائعون.
ويحلو الحديث ويحلو السمر مع عبد الرحمن جمعة وعنه وسأمنحه من الوقت أياما قد تصل إلى أربعين يوما لا أربعين دقيقة كالتي قررها لي واجتزأ منها بعضا واستمع إلى ما عنده من أمثال شعبية هيتية جمعها عبر عمره الطويل أمد الله فيه وأرجو له أن يكون كده مثمرا وليس كـ"كد عمار عند سيد وهيب"
أودع عبد الرحمن جمعة وأكمل الرحلة في مدينتي مع الحاج نجاح ساسون في كتابه شذرات من تراث هيت ومع أن لي على الكتاب ملاحظات سأناقشها بيني وبينه ولكني أقول بداية ما قاله السيد ناظم محمد خوير في تقديمه للكتاب: " وخواطر السيد نجاح ساسون صالح الذي اعتمد المأثور التراثي والفولكلور والأدب الشعبي الهيتي والأمثال الهيتية الأصيلة ووزع مفرداتها بشفافية وجمالية على مساحة كتابه"إنني اتفق مع السيد ناظم في أن ما كتبه الحاج نجاح هو خواطر وهي خواطر جميلة بسيطة كبساطة كاتبها ولكنها خواطر مبعثرة. ولن ادخل مع الباحث في تاريخ هيت وفي تسميتها مدخلا يخرجنا مما نحن فيه، واكتفي بما كتبته عن هذا الموضوع.
إن ما كتبه الحاج نجاح فيه الكثير من تراث مدينتا، إن ما كتبه عن المدينة يمثل عقدا من اللؤلؤ لا شذرات قليلة، فبعد أن يذكرنا ببستان شوكة - القريب من محلته وموطن صباه- وما كان يحصل فيه من دبكات وأفراح أقامها أجدادنا الهيتيون مع الطبل والمزمار ،يذكرنا بعبد عوينه الرجل الذي كان يوقظ أمهاتنا في سحر ليالي رمضان لإعداد السحور واستقبال صوم يوم جديد.
ويتذكر الحاج نجاح نذور خضر الياس ونواعير هيت وسمك خويلق وشخاتير بيت مرهون، وتنكة دلي، ونخوة اخو ملكة، وصرناكة حنوش، ودولاب الهوى الذي ركبناه صغارا في العيدين الصغير والكبير. كما يذكر لنا تلك الألعاب البسيطة التي كنا نمارسها في أيام طفولتنا وصبانا والتي كنا ننهزم من ساحتها خوفا عند سماعنا صافرة البصواني برتو أو عايش .
كثيرة هي شذرات نجاح ساسون، والحديث عنها يطول، وتحتاج كل شذرة منها إلى بحث مستقل،فأية دلالة أسمى وأروع من حكاية ذلك القروي البسيط عبد الرحيم فلاج التي اعتبرها ياقوتة في القيم و زمردة في الأخلاق،فقد كان عبد الرحيم فلاج يجلس في إحدى علاوي هيت، وكان عند صاحب العلوة خمسة دنانير في جرارة خزنته ولما أراد صاحب العلوة الخروج إلى السوق لانجاز عمل خاص به طلب من جليسه أن يحل محله في العلوة إلى أن يعود، وحيت عاد لم يجد الدنانير الخمسة في الخزنة فسأله عنها فأجابه: لقد أخذتها لأنني بحاجة إليها ، ومرت الأيام وكان على عبد الرحيم أن يوفي الدين،ولم يكن يملك حينذاك غير حمار فباعه وسدد الدين المزعوم، وفي ذات يوم عثر صاحب العلوة على المبلغ في إحدى فتحات خزنته فتعجب من الأمر،وحين التقى بصاحبه قال له: لماذا فعلت هذا ؟فقال له: خشيت أن لا تصدقني وان لا يصدقني احد فتصرفت بما يحفظ كرامتي.
لقد كان الباحث مبدعا وكريما فيما قدمه لنا عن الصناعات التراثية الهيتية وهي جهود قيمة وعظيمة وان له في بعضها السبق على غيره، وقد اجتهد كثيرا في جمع كل ما يتعلق بها ابتداء من صناعة الناعور مرورا بصناعة وسائط النقل النهري"الكاية والشختور" وصناعة المواد الإنشائية" القير، والنورة،والجص"وصناعة المواد الغذائية"الدبس والطحينية" وصناعة الفخار والحياكة والفروات والخصف والسف وطلاء أواني النحاس.
ويبدو أن الحاج نجاح كان لاعبا ماهرا في لعبة "الكعاب" فقد صور لنا اللعبة تصويرا جميلا تبدأ بصبغ الكعاب بالأحمر والأزرق والأصفر والأخضر عند أية جارة تصبغ خوص السف أو الخصف دون مقابل،وبعد الصبغ تأتي مهمة أخرى أكثر صعوبة من سابقتها وهي صب الرصاص في ثقوب الكعاب كي تثقل وزنها وتؤدي الغاية في اللعبة ثم يوضح لنا بدقة مراسيم اللعبة وفنونها. ونظرا لعدم إتقاننا لهذه اللعبة التي سبقت زمننا فقد لعبنا الدعبل بعد خططنا الأورطة على الأرض وتعفرت وجوهنا من ترابها .
كثيرة وجميلة هي العاب مدينتي التي ذكرها لنا الحاج نجاح وكان بودي أن أشارك اللاعبين فيها لعبهم،ولكن للعمر حرمة،فلم استطع أن العب الغبية، ولا الشيكركع ولا الجنجرص،ولا إلحاح،ولا الخوزل،وربما استطيع أن العب المشواش وان اكسر العبدة وان أخذ الحديدة.
ونترك اللاعبين ولعبهم ونستريح قرب ناعور شوكة، ونستمع من الباحث إلى ما استطاع جمعه من الأمثال الهيتية والتي أكد أنها هيتية أبا عن جد من خلال ارتباطها بالأشخاص الذين رويت عنهم أو من خلال مواقع الأحداث التي ارتبط المثل بها . لقد كان فعل الباحث هذا راقيا كنجارة حنوش، فلم يكن كعمارة بيت محبوب، وأننا سعيدون بما جاء به فلن نطك طكة بنجه ولن نطمس، وحتى لو طمست دوس بكوثلها وأرجو أن يطمئن الباحث فلن يخرب الكدر ولن نلزم السيم وسنكون كما هو نافعين فلسنا حجر باب الغربي،وليطمئن الحاج نجاح ويقول للعجوز طالما أنها سلمتنا ثمن الزمارة زمّر ابنج يا عجوز.
ونلتقي مع الباحث لنستمع إلى أهازيجه الهيتية التي تفاخر بها الهيتيون وهزجوا بها فمن منا لم يسمع " صفره اخشاب إحنا تلوكنا" ومن الهوسات إلى الغزل والعتاب
لو هلهلتي ياعــــمتنا وإحنــــــا الصبيان بلمتنا
من سابج هذي عادتنه لياخذ حلوه يطب الجنة"
ثم يمر بنا على الميمر، ويغني مع المغنين
علميمر وعلميمر وعلميمر حاير أحب الحنج ولا المنحر
و في أثناء نقاشنا عن أيهما أجمل لنقبله الحنج ولا المنحر نستمع إلى صوت المغني يغني الابوذية:
سـره ضعن ألأوده دوم يسره
وعسى يمناي ما تعتاز يسره
الله الكال بعـــــد العسر يسره
العسر شفته اليسر ما مر عليه
وأيا كان شاعر هذه الأبيات هيتيا أم غير هيتي ندعو الله أن ييسر أمره وان يكون له بعد العسر يسرا . ولنا مع الباحث وقفة عتاب على ما نشره من تراث في باب العتابة فاغلبه إن لم كله تراث غير هيتي، بل هو تراث عربي فمن منا لا يعرف قصة عبد الفاضل وكلبه شير حين قال معاتبا:

هلك شالو علامك حولي يا شير
وذبولك إعــــظام الحيل يا شير
يلن تبجي بكل الدمـــــع يا شير
هلك شــــالو على حمص وحما
واكرر عتبي على الباحثين عبد الرحمن جمعة، ونجاح ساسون بأنهما أهملا، ولا ادري عن قصد أو دون قصد تراثا غنائيا هيتيا أصيلا رسم فيه مبدعه إسماعيل احمد عبد نصيف صورا جميلة عن تراث مدينتنا، فمن منا لم يصفق له أو يدق معه اصبعتين عندما كان يغني في ليالي الأعراس في ستينات القرن العشرين؟ ومن منا يمكن له أن ينسى آه من المعلمين، والكصاصيب والكصاصيب، ويالسواق ويا السواق، لقد خلد لنا إسماعيل احمد أسماء أصحاب تلك المهن والحرف، كما خلد لنا فيضان 1967 بأغنيته يترنى الترنبول على السدة عرض وطول، وقبلها خلد لنا تاريخ مشروع الماء بأغنيته منين جتنا هالمكينة ، وخلد لنا أروع يوم من أيام نساء هيت وهو يوم ألكسله بأغنيته " للكسلة اطلعت يا ناس للبنية" انه تراث مدينتا تجب علينا كتابته فهو ملك لنا وعلينا أن لانفرط به.



#قحطان_محمد_صالح_الهيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغيرة
- ايمان
- ويكفينا الفرح بما تحقق
- قراءة في قصص باب السنجة
- نصاب المصلحة ونصاب السلوك
- بطاقة الى العام 2010
- أيها النواب افتحوا القائمة واجعلوا العراق دائرة واحدة
- أنا، وهيت ، وأعيادي
- ليست العبرة بتغير الرؤوس،الحكمة بتغير النفوس
- عندما تدور النواعير في الصحراء
- هيت ، وأنا، والزعيم
- ربي اجعل هذا البلد آمنا


المزيد.....




- رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري ...
- جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
- مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في ...
- لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج ...
- لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن ...
- قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
- كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
- أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن ...
- شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة - ...
- -عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - قحطان محمد صالح الهيتي - رحلة في تراث هيت