كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 894 - 2004 / 7 / 14 - 05:38
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
الأحزاب الديمقراطية العراقية, ومنها القوى اليسارية واللبرالية, تعيش مرحلة جديدة معقدة وعسيرة لم تعهدها من قبل. فهي من جانب تعيش في مرحلة تتميز بالحرية إلى حد يمكن تسميته بفوضى الحرية أو حرية الفوضى في البلاد. إذ نشأت ولأول مرة العشرات من الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والنقابات والمنظمات والجمعيات المهنية ...الخ, وصدرت الصحف والمجلات بأعداد كبيرة, وهي تمارس النشر والنقد بحرية مطلقة تقريباً تتجاوز أحياناً المعقول والمقبول في الحوار الديمقراطي المنشود, سواء أكان هذا في ظل الاحتلال المباشر الذي دام 15 شهراً وقبل انتقال السلطة, أم في ظل وجود حكومة عراقية مؤقتة مع وجود أعداداً غفيرة من القوات الأجنبية في البلاد. ولكنها من جانب آخر تعيش تصاعد عمليات الإرهاب والعبث بالأمن واستقرار البلاد من قبل عصابات وفلول النظام الدكتاتوري السابق والقوى الشريرة لتنظيم القاعدة وأنصار الإسلام وجيش أنصار السنة وأتباع مقتدى الصدر وغيرها, وكذلك عصابات الاختطاف وقتل الأجانب وعمليات النهب والسلب, إضافة إلى عصابات الجريمة المنظمة التي أطلق سراحها المستبد بأمره المخلوع صدام حسين. وهي حالة غريبة حقاً يصعب تجاوزها عند البحث في الواقع الذي تعيش وتعمل فيه الأحزاب السياسية العراقية وتلمس المصاعب التي تواجهها في مختلف المجالات قبل توجيه النقد أو الملاحظات حول عملها الراهن والمستقبلي.
إن الوضع الجديد المتسم بالفوضى وفقدان الأمن والاستقرار في الوسط والجنوب والموصل وكركوك بشكل خاص يساهم في خلق أجواء تمنع أو تعرقل تحقيق جملة من المهمات الأساسية في حياة ونشاط الأحزاب السياسية العراقية, ومنها:
• إعاقة جدية في توجه الأحزاب والقوى اليسارية الديمقراطية والديمقراطية اللبرالية نحو تنفيذ عملية إصلاح جدية في بنيتها الداخلية وأسس عملها التنظيمي واتجاهاتها الفكرية والسياسية وخطابها السياسي.
• وإعاقة توجه الأحزاب السياسية نحو العمل في صفوف الجماهير خشية وقوع تفجيرات تؤدي إلى قتل عشرات ومئات الناس الأبرياء, إضافة إلى عمليات الاغتيال الجبانة ضد قياديي وكوادر تلك الأحزاب.
• إعاقة إنجاز مهمة عقد المؤتمرات والاجتماعات الواسعة والمفتوحة لغرض التفاعل الفكري والسياسي مع الجماهير والمساهمة في تثقيف الجماهير الواسعة, التي تعرضت طيلة أربعين عاماً لأفكار شوفينية واستبدادية وقهرية, بالمبادئ والقيم الحضارية العامة والشاملة, مثل مبادئ لائحة حقوق الإنسان وبقية العهود والوثائق الدولية والإقليمية المرتبطة بها.
• ويتسبب فقدان الوضع الأمني في عدم الاستقرار السياسي وعرقلة مسيرة إنجاز المهمات الأخرى لهذه المرحلة التي يفترض فيها نقل البلاد إلى الشرعية والحياة الدستورية والبرلمانية والتعددية والتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة وإقامة الدولة الفيدرالية الديمقراطية.
• وهي تعيق قدرة الأحزاب والقوى السياسية, جماعات وأفراداً, على القراءة الجادة لمنتجات الفكر الديمقراطي الحديث وتطوير الثقافة الذاتية وتحسين مستوى الأداء الفكري والسياسي والتفاعل مع الفكر العالمي والاطلاع على الثقافات الأخرى والتفاعل معها.
وربما تتخذ بعض الأحزاب والقوى الديمقراطية من هذا الواقع المرير حجة لاستمرار ممارسة النهج غير الديمقراطي في علاقاتها الداخلية وفي ما بينها وبين القوى الأخرى ومع الجماهير الواسعة وتستمر في الاكتفاء الذاتي بما تمتلكه من معلومات ومعارف على قاعدة المحافظين والكسالى "ليس في الإمكان أبدع مما كان". ويأمل أن يكون هذا البعض قليلاً ومحدود الأثر على حياة هذه الأحزاب.
ومن الجانب الآخر فأن الأوضاع الراهنة تضع جميع القوى والأحزاب السياسية الديمقراطية أمام مهمات أساسية إلزامية لا مندوحة منها, إن كانت تريد حقاً تحقيق الصالح العام, وأعني بذلك إنجاز المهمات التي تمس وجود وعمل وعلاقات الأحزاب السياسية المعنية, كما تمس التطور الديمقراطي المنشود في العراق وتقليص البطالة وتحسين مستوى حياة ومعيشة الغالبية العظمى من الشعب الفقير والمرحوم. فهي, كما أرى, ملزمة بما يلي, وعلينا جميعاً مساعدتها في تحقيق ذلك من خلال المشاركة والنقد البناء والدفع بالاتجاه الصحيح:
- إغناء الحياة الحزبية بالمبادئ الديمقراطية والتي يفترض أن تتجلى في تغيير نظمها الداخلية وطبيعة العلاقات بين القيادة والقاعدة وتحديد فترات زمنية لرئاسة الأحزاب أو عضوية المكاتب السياسية واللجان المركزية أو التنفيذي والهيئات المختلفة بهدف تعزيزها بالشباب من النساء والرجال.
- منع نشوء عبادة الفرد وتأليه القائد ونشر صوره في كل مكان على طريقة صدام حسين ومن ماثله في الدول العربية وغير العربية وإرهاق المواطنات والمواطنين يومياً وعبر جميع محطات التلفزة والإذاعة بخطبه وأحاديثه وصوره ومقابلاته.
- إجراء تعديلات في برامج الأحزاب السياسية بما ينسجم مع الواقع العراقي القائم وحاجات المجتمع وضرورات التغيير الديمقراطي المنشود. فالنظرية ليست سوى مقولات تتغير مع تغير الواقع, فالأهم هنا تكمن في كيفية استخدام أداة التحليل العلمية للوصول إلى مقولات جديدة تنسجم مع القوانين الموضوعية للمرحلة ويقبلها الواقع وتتفاعل مع تطلعات الإنسان وحاجاته.
- السعي إلى طرح تلك البرامج للحوار على صعيد الجماهير الواسعة وليس على صعيد أعضاء وكوادر الأحزاب بهدف التعبئة والتثقيف والتعديل في ضوء مشاركات الجماهير التي تجسد حساً عمليا ملموساً ومعبراً عن الحاجات الفعلية ومستوى التطلعات.
- العمل من أجل تنظيم الحوارات بين القوى والأحزاب السياسية القائمة لضمان تقليص هذا العدد الهائل من الأحزاب التي لا تمتلك سوى عدداً محدوداً من الأعضاء ولا تتمكن من التأثير الفعلي في الأحداث الجارية. كما يمكن خلق تحالفات سياسية تساعد على تكوين تحالفات مرحلية أكبر وأمتن وأكثر تأثيراً في العملية السياسية الجارية في البلاد.
- العمل من أجل كسب القوى التي تركت العراق والتي تلقحت بأفكار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لتعمل في داخل أحزابها لضمان التطور الديمقراطي فيها والتأثير المباشر على الجماهير الواسعة وممارسة أساليب جديدة وناجعة في هذا الصدد.
- لقد قدمت الأحزاب السياسية الديمقراطية في العراق كله تضحيات غالية في الأشخاص بسبب النضالات التي خاضتها من أجل إقامة عراق حر فيدرالي ديمقراطي, سواء أكان ذلك في حرب الأنصار في كردستان العراق أم في وسط وجنوب العراق وخاصة في مناطق الأهوار أم في العمل السياسي اليومي في مواجهة السلطة الدكتاتورية الغاشمة. والعملية الجارية في العراق تتطلب الحذر في تقديم التضحيات الجديدة, ولكن يفترض أن لا يترفع الحذر إلى الدرجة التي تساعد الإرهابيين في تحقيق أهدافهم الأساسية, أي بث الرعب وتعطيل العمل السياسي ومنع احتكاك القيادات والكوادر والأعضاء بالجماهير الشعبية الواسعة وبالنشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. إن التحدي المحسوب ضرورياً جداً في هذه المرحلة وإلا سنخسر المعركة مع قوى الإرهاب الدولي, وعلى الأحزاب السياسية أن تجد الموازنة المناسبة في هذا الصدد, ولست ممن يعلمها ذلك فهي أدرى بذلك, ولكن التنبيه لا يضر أن لم ينفع.
- إن ممثلي الأحزاب والقوى السياسية الديمقراطية يفترض أن لا يكفوا عن عملية النقد المتبادل التي لا تدخل في باب المهاترات, وإلا فأن الانتهازية والمجاملة الفارغة والمضرة بالجميع ستهيمن على أوضاعنا الحزبية وتقود إلى عواقب وخيمة, فلا المهاترات مطلوبة ولا السكوت عن الأخطاء مطلوب, بل النقد الأخوي البناء والمسئول هو المطلوب في هذه المرحلة من عملية بناء العراق الفيدرالي الديمقراطي الجديد.
- كما يفترض في ممثلي جميع الأحزاب الديمقراطية, سواء أكانت عربية أم كردية أم تركمانية أم آشورية أم كلدانية, عند قيامها بسفرات وزيارات إلى خارج البلاد أن ينظموا لقاءات فكرية وسياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية مع النوادي والجمعيات العراقية الموجودة في تلك البلدان بهدف التفاعل الفكري والسياسي وتبادل المعارف والمعلومات والتأثير المتبادل على أوضاع الجاليات العراقية في الخارج. وتزداد أهمية ذلك بسبب النشاطات التي تقوم بها فلول صدام حسين على الصعيدين العراق والعربي التي تمارس تعاوناً مع جماعات ومنظمات وقوى أجنبية مختلفة الاتجاهات والمشارب, من بينها جماعات يمينية فاشية أو تلك الجماعات العاملة في سبيل السلام والمناهضة للإمبريالية والتي ترتكب خطأ فاحشاً في مواقفها غير العقلانية إزاء العراق حالياً, لتشويه الواقع الجديد والدفاع عن نظام صدام حسين الدموي المخلوع بحجة مقاومة الاحتلال في العراق.
- ولا شك في أن المرحلة تتطلب من الأحزاب السياسية العراقية, سواء أكانت في إقليم كردستان العراق أم إقليم وادي الرافدين, التي لها امتدادات في الخارج أن توعز لأعضائها ومؤيديها بالعمل المشترك في إطار قواسم مشتركة قائمة فعلاً. وهذا لا يمنع من النشاط الخاص بكل حزب أو جماعة أيضاً.
إن القوى الديمقراطية العراقية, سواء أكانت من الجناح اليساري أو الوسط اللبرالي, ليست قادرة في المرحلة الراهنة على لعب الدور الكبير المطلوب منها في الحياة السياسية العراقية إن لم تجر التغيير المطلوب في حياتها الحزبية وفي علاقاتها في ما بينها ومع الجماهير. ولكن تراثها النضالي المنفرد والمشترك يمكن أن يساعدها على أداء مثل هذا الدور إن حققت الإصلاح المنشود فيها.
إن هيمنة فكر التيارات الدينية المختلفة ومن مختلف أطيافه لم يأت عبثاً أو عفوياً, بل بسبب الغياب الطويل للفكر الديمقراطي والتقدمي عن الساحة السياسية العراقية نتيجة إرهاب النظام, في حين استمرت المساجد بالعمل والتثقيف والاستفادة من الحملة الإيمانية البائسة لصدام حسين. وعندما ينظر الإنسان إلى كردستان يجد أن الأحزاب الكردستانية في حالة أفضل من الأحزاب الديمقراطية في الوسط والجنوب أو الموصل وكركوك, بسبب أن كردستان العراق قد تخلصت من الحكم المركزي الاستبدادي عليها منذ نهاية عام 1991, وكان في مقدورها أن تكون في وضع أفضل لولا تلك الصراعات التي نشبت في النصف الأول من العقد الأخير من القرن العشرين. ويمكن أن تكون الأوضاع أفضل أيضاً لو عولجت بمسئولية عالية الخلافات المتبقية في الساحة الكردستانية بين الحزبين الديمقراطيين الرئيسيين, الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني, وبذلك يقدمان نموذجاً صالحاً لمعالجة المشكلات بالطرق الحضارية السلمية ووفق آليات ديمقراطية. إن العلاقة الراهنة بين الحزبين المذكورين جيدة نسبياً ويفترض فيها أن تتطور نحو الأفضل وأن تعالج مشكلة الإدارة الموحدة بما يخدم فيدرالية كردستان العراق ويسنح بحل ديمقراطي سليم لمشكلة كركوك.
إن على القوى الديمقراطية في العراق أن تعي بأن هناك قوى محلية وعربية وإقليمية وعالمية لا تريد الخير للعراق ولا تريد أن تراه ديمقراطياً فيدرالياً حراً وموحداً, بغض النظر عن الأهداف الخاصة لكل منها, ولكنها تتفق على إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار, بل تريد تحويل العراق إلى ساحة معارك فعلية بين الإسلام والحضارة الإسلامية من جهة, والغرب والحضارة المسيحية, وهو ما يفترض أن نتصدى له ونفشله تماماً. وهي مستعدة لتقديم الدعم المستمر لتلك القوى الإرهابية لمواصلة إرهابها في العراق وتعطيل الحياة السياسية وعملية إعمار وتنمية البلاد وتحقيق الحياة الجديدة, وعلينا أن نكون مستعدين أيضاً لمواجهتها بكل السبل الممكنة, فهي فرصتنا الثمينة لعراق جديد. والأحزاب السياسية الديمقراطية بكل تياراتها واتجاهاتها معنية بذلك ومسئولة عن النهوض بمهماتها, وكلنا أمل بقدرتها على تأمين ذلك رغم الصعاب التي تواجهها.
برلين في 13/07/2004
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟