|
طفولةٌ مغموسةٌ بتلاوينِ الحياة
صبري يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 2934 - 2010 / 3 / 4 - 12:28
المحور:
الادب والفن
طفولةٌ مغموسةٌ بتلاوينِ الحياة
إهداء: إلى الطالبة العزيزة آنجيلا عبده وعموم آل لحدو عبده وعبده
تزهو قامتكِ أمامي مثل السَّنابل، طالبة نجيبة، ذات حرفٍ أنيق، متفوِّقة إلى أبهى درجات التفوّق، تشاركيني فرحي عبر تألّقكِ في النجاحات المتواصلة فوق وجنةِ ديريك، تحصدين نجاحاً تلو الآخر، ثم فجأة ترخين ظلالكِ تحت قناديل الغربة، غربة من نكهة الاشتعال، تتواصلين مع حرفي كأنّكِ حبري المتناثر من شفير غيمة، هل حملتِ بين أجنحتكِ عناقيد الكروم، كرومنا التي أكلتها نعاج الغجر، واقتلعها ذوي الشأن، ظنّاً منهم انهم سيبنون قلاع الحصن، فيلات على شاكلة طموح العصرِ، لكن عبق الكروم، كان أحلى من ناطحات السحاب، أحلى من برجِ الأبراجِ، تعالي يا صديقتي نغنّي للكرومِ، لأزقة ديريك وهي تبتسم للقمر في مساءات الصيف، ونرسم أحزان الأزقة فوق شهوةِ القصائد، كم من الحنين حتّى اندلعت من روحي حفيف القصائد، وحده حرفي انتشلني من مغبّة البكاء، من ورطةِ غربتي المفتوحة على جنائنِ الغربِ، غربتي رصيدي في رسمِ ملامح القصيدة، تفجِّر بي ينابيع سردٍ كأنها منبعثة من هلالاتِ الحلمِ، قلمي وغربتي شهقتا حرفٍ يتطايران عالياً كأنهما وميض نور يتسامى إلى قبّةِ السماءِ.
هل يراودكِ أن ترسمي خيوط غربتنا التي تلامس مرابع الغسقِ، كيف تتواءمين مع شوق الرُّوحِ، مع حنين القلب إلى تلكَ التلالِ المتاخمة لبيتِ جدّكِ لحدو عبده؟ جدُّكِ ذات القامة الممشوقة ولا كلَّ القاماتِ، يشقّ طريقه إلى أعلى التِّلال، يحصد باقات الحنطة على إيقاع صهيل الخيل، يرفع والدي قامته القصيرة مرّحباً بجدِّكِ يضحكان فرحاً منبعثاً من حدّةِ المناجل، مناجلٌ مسنونة بأحجارِ الصوانِ، يغنون على إيقاع المناجل، أغاني منبعثة من نكهة النارنج، جاءت أمّي تهلهل وأمُّكِ تطوفُ في خصوبةِ البراري، يقدمان كؤوس اللبن، أهرب بعيداً أعبر تخوم الحقول، أسمع هسهسات الحشرات الصغيرة، ويبهرني أصوات "الجزجزوكاتِ*" أبحث عن مصدر الصوت، أتعقبَّهم طويلاً، أحاصرهم فوق شيقان الحمّص والعدس، أتقدَّم بحذر أجد "جزجزوكةً" صغيرة صفراء فاتحة اللونِ، من لون النباتِ، أمدّ يدي إليها أمسكها بهدوءٍ كي لا أؤذي جناحيها الغضَّين، أنظر إليها، أرغب أن تطلق "جزّجزَّها*" عالياً، لكنها تصمتُ بين أصابعي، هل تنتظر أن تفلتَ منِّي، تطير مثل نحلة هائجة؟ أضعها على راحة يدي ثم أرفعها عالياً فتطير بعيداً، ثم أصغي إلى سيمفونية الطبيعة المنسابة مع هبوب تماوجات الهواءِ، يستمر جدّكِ ووالدي في الحصاد، وأنا أستمرُّ في العبور في أعماق البراري، أبحث عن الجرادِ وفرس الأمير، تناديني أمّي، فيرنُّ صوتها في أذني، آتي مثل البرقِ، تُقدِّمُ لي كأساً من اللبنِ، ثم أتناول خيارتين صغيرتين، وقليلاً من الجبنِ وقطعةً من خبزِ التنّور، خبزٌ ولا أشهى، كانت تخبز أمّي مرَّتين بل ثلاث مراتٍ في الأسبوع، آكل خبزاً طازجاً، خبزاً شهيَّاً كأنّه مغموس ببهاراتِ الكونِ! أين أنتَ يا خبز أمّي ويا تنّور أمّي، أين هي جرار الماءِ؟!
فجأة تسطع أمامي (قوشات*) الحنطة، وأيام الجراجرِ (النَّوارج)، كان لجدِّكِ جَرْجَرَاً، ولا كلّ الجَّرَاجِرِ، أتذكّر جيداً أن جدّكِ كان ثقيل البنية فعندما كان يركب على الجَرْجَرِ ما كان أحداً يستطيع الركوب بجانبه لضخامة البنية وكي لا تتعب البغال من جرّ الجَرْجَرِ فكنتُ أطلب منه أن يركِّبني بجانبه فكان ينظر إلى نحافتي قائلاً، تفضّل أنكَ لا تؤثر على قوّةِ البغالِ، أركب معه برهةً من الزمنِ ينشغل في لملمة القوشة المتدفِّقة على الأطراف، ينزل مهرولاً نحو "ملْحيْبِهِ*" ذات الأسنان الأربعة، يلملم ما تناثر من التِّبن والحنطة بسرعة خاطفة، أمسكُ نفسي فوق الجرجر، تسير البغلتان بتمهّلٍ، يقول لي اسرع قليلاً يا ابني، أطلبُ من البغال السرعة، "وشّ وشّا*" مرّاتٍ ومرّات، لكنهما لا تتجاوبان مع "وشّ وشّاتي*" فأمسك (القامجين*) وأسلِّطه عليهما ثم أردِّد "وشّ وشّا"، يجفلان ويرفسانني، تأتي رفساتهما في الهواء، لكني أحكِّم نفسي بالامساك بأطرافِ الجرجر، مبتعداً إلى أقصى ما أستطيع إلى جهة الخلف، يجن جنون البغلتين فيعبران القوشة، داخل دائرة الفراغ، مجرجرين خلفهم الجرجر فأسمع صوت "الدَّفَرَاتِ" تترجرج فوق الأرض، يغضب جدّكِ غضباً شديداً ثم يصرخ في وجه البغالِ، يتقدَّم نحوهما يتوقفان عن الدوران في القوشة، وأنا كنتُ أرتجف من الخوفِ، يجرهما فوق قوشة الحنطة ثم يهدئني قائلاً، ماذا عملت حتى جنَّ جنون البغلتين، فقلت له ضربت لكل منها قامجيناً وإذ بهما ينحرفان عن دائرة القَوْشَةِ ويعبران داخل القوشة فقال لي لا تضربهما بهذه الطريقة لأنها غير معتادين على الضرب من قبل الأطفال، وهل هما معتادتان على ضربِ الرجالِ؟ ضحك جدَّكِ قائلاً هكذا يبدو، ركب جدَّكِ على الجرجر، صوتُ أمّي من بعيد يناديني، نزلت متوجّهاً نحو الصوتِ، كان موعدُ طعام الغذاء قد حانَ، جلسنا في قيظِ ظهيرةِ الصيفِ، تحت خيمة صغيرة، (كولّكة*) مفتوحة من كل الجهات، فقط تحجب وهج الشمس من الأعلى، كانت أمي تصنعها من أكياسِ الخيش، كولّكة تكفي لأفراد العائلة ولبعض الضيوفِ، نجلس تحتها أثناء الاستراحات، يمر الهواء من تحتها، نرشرشُ الظلَّ بالماء كلّما تشتدُّ حرارة الأرض، مندهشٌ أنا، كيف كنّا نتحمَّل تلك الحرارة ونحن في عمرِ الزُّهور، هل كنّا نتأقلم مع خشونةِ الحياةِ، فرحٌ رغم حرارةِ الصَّيفِ، رغم شظفِ العيشِ، فرحٌ عند دستِ السليقةِ، عندما يحلّ الليل، نلعب (التوش والبوكة والبرّي والبرو برفانو بري وا جاوا يا*)! طفولة من نكهة الفرح، من نكهة الصفاء، من نكهةِ العذاب، طفولةٌ مغموسة بتلاوينِ الحياةِ. غالباً ما يخيّل إليَّ، أنه لولا طفولتي البائسة، ولولا جموحي في البراري وفي أزقََّّتي المعفّرة بأكوام الطين، ولولا بساتين الكروم، وحقول البطيخ والجبس والترعوزِ* والفنجكات*، لولا سهول القمح والحمص والعدس، لولا اخضرار الرُّوح في سماء ديريك، لما ترعرع هذا الهاجس مع حفيف الحرف، وحدها ديريك كافية أن تفتح قريحتي على تماوجات شهوة الشعر، على كتابةِ مداخل القصصِ وخفايا الرِّواياتِ، ديريك من لونِ البهاء، من حبرِ الخلاصِ، خلاصنا من ضجرِ العمرِ، من ضجرِ غربتي المفتوحة على شفيرِ السنينِ، تعالي يا بلدتي أزرعكِ موجةً هائجة فوقَ حنينِ البحرِ، تعالي يا صغيرتي أرسمكِ بيدراً مكتنزاً بالخير، ببذورِ المحبّة بتواشيحِ السَّخاءِ!
ديريك صديقةُ ليلي ومسائي، ترتيلةُ غربتي المنسابة فوقَ خمائلِ حرفي، ديريك قنديلُ ناسكٍ عندَ نداءِ الصَّباحِ، زهرةٌ مسترخية بينَ ربوعِ الأقاحي!
ستوكهولم: 18/01/2007 صبري يوسف كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم [email protected]
هوامش:
*جزجزوكة: حشرة صغيرة خضراء ضاربة إلى الاصفرار الفاتح لها جناحان شفيفان، تصدر صوتاً تصفيرياّ متناغماً مع إيقاع الجززززززززززززززززز، بشكل متواصل ولهذا أُطْلِقَ عليها جزجزوكة، نسبة إلى صوتها المجزجز، وجمعها جزجزوكات. *تجزجزُ: الفعل الذي تم صياغته من تسميتها (الجزجزوكة)، جَزْجزَتْ تجَزْجِزُ جَزْجَزَةً فهي جزجزوكة!!! هاهاهاها *قوشة: هي الفراغ المتشكِّل من القوشة المدروسة بالنَّورج/الجرجر، حيث يتمُّ ربط البغلتين بحبل في وسط الدَّائرة وتسير البغال فوق الحنطة لدراستها وتحويلها إلى تبن ناعم ، فهذا الفراغ يسمى قوشة، وجمعها قوشات. وهي مصطلحات فلاحية أطلق عليها الفلاحون الهلازخ منذ زمنٍ بعيد. *الجرجر: يعني النَّورج، وجمعه جراجر. *ملحيب: هو آلة لجمع التبن يتألَّف من أربعة أسنان حديدية رفيعة مع يدٍ خشبية طويلة، وهناك ملحيب من الخشب يتضمن أسناناً خشبية عديدة ومتقاربة يستخدم للملمة التبن والتذرية بعد جمع التبن المدروس. *وشّ وشّا: اصطلاح يطلق على الدواب لتحريضها على الحركة والمواظبة والمتابعة في السير. *وشّ وشّاتي: أي نداءاتي التحريضيّة على الدواب. *القامجين: يعني السُّوط. *الدَّفرات: وهي أسنان النَّورج/الجرجر الحادة، وهي شفرات عريضة مسنونة بشكلٍ حادّ، يسير عليها النَّورج وهي تدور وتقصُّ أكوام الحنطة وتحوِّلها عبر مرحلة دراستها إلى تبن، وتساهم في إخراج حبَّات الحنطة من السَّنابل. *التَّرعوز والفنجكات:التَّرعوز أي القتّي وهي طويلة ورفيعة ومفردها ترعوزة، والفنجكات مفردها فنجكة، مدوَّرة ومن فصيلة القتّي وهذه الخضار لذيذة ويتم نضجها في أوائل الصيف مع الشمّام والبطيخ والجبش، حيث نلفظ السين شيناً.
#صبري_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحنُّ ينابيعُكِ إلى ارتعاشاتِ سوسني 6
-
يرقصُ قلبي مع طقوسِ الغجرِ 5
-
أرسُمُكِ ضوءاً على إيقاعِ المزاميرِ 4
-
وردةٌ يانعة مثلَ نضارةِ الثَّلجِ 3
-
يا شهقةَ اللَّيلِ الطَّويلِ! 2
-
هطلَّ الدُّفءُ علينا مثلَ غيماتِ المساء 1
-
تاهَتِ الحكمةُ عن دربِ المنارة 42
-
بينَ مساماتِ الغمام! 41
-
إليكِ أيتها المتعرِّشة في بوحِ القصائد
-
فوقَ رذاذاتِ الماءِ الزُّلال! 40
-
بزوغُ زنبقة في ثغرِ تلّة 39
-
رحلةٌ مسربلة بالآهات 38
-
شوقُ الطَّبيعة إلى سفوحِ الوئامِ 37
-
جراحُ الرُّوحِ من أعتى الجراحاتِ 36
-
أبهى من حفيفِ الفراشاتِ 35
-
تأتي الطُّفولةُ مثلَ بياضِ الثَّلجِ 34
-
أنتظرُ رعشةَ الخلاصِ من خشخشاتِ اليباسِ! 33
-
مطرٌ من لونِ المسرَّة 32
-
حوار مع الأديب والفنَّان صبري يوسف
-
عندما يهبطُ اللَّيل 31
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|