|
الكذب اكبر مصادر الدخل في العالم
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2928 - 2010 / 2 / 26 - 21:37
المحور:
كتابات ساخرة
تقيس دول عديدة في العالم مستوى دخلها وميزانيتها السنوية بصادراتها إلى العالم من الزراعة والصناعة، وتقيس دول أخرى موازنتها السنوية بإنتاجها من تكنولوجيا المعلومات بشقيها الهارد وير والسوفت وير، وتُقدّر ثروات كثير من الأمم بمخزوناتها من الخامات والمعادن ! غير أن ميزانيات دولٍ أخرى كثيرة تُحسبُ بمنتج آخر، ليس من قبيل الصناعات ، ولا من فئة المنتجات الزراعية ، ولا هو حتى من طراز المواد الخام ، وهو أيضا لا يدخل أبدا ضمن إنتاج المعلوماتية ، ولكنه مُنتج جديدُ قديم يخشى كثيرون الإفصاح عنه،لأنه مُصنّفٌ من العيوب والرذائل ، وهذا المنتج لا يحتاج إلى مكتشفين أو علماء مخترعين ، ولا يحتاج إلى وزارات وموظفين ، بل يحتاج فقط لشفاهٍ وألسن .... إنه خام (الكذب) ! فهذا الخام متوفرٌ بكثرة في كل بقاع الأرض، وهو بحق الدخل الرئيس لكثير من الدول في عالم اليوم! ويُشرع في استغلال (خام الكذب) كمصدرا رئيسي من مصادر الدخل القومي في كثير من الدول، أو لعله المصدر الأهم ، في سنوات التربية الأولى فيبدأ الأبناء بتعلم كيفية الاستفادة من الكذب لكي يحصلوا على منافعه في سن مبكرة، فتُشتل فسائل الكذب وتُربى في أُصص دفيئات الأسر والمدارس والشوارع وأماكن العمل، فيصير الغنى والنجاح مقرونا بالكذب، والفشل والفقر والضيق مقرونا بالصدق . جالت بخاطري قبل النوم قصة ثراء أحد معارفي ممن فشل في التعليم، فقرر أن يبدأ تجارته مستخدما خام الكذب فاختصّ بتجارة عسل النحل، ونجح في اختيار مساعديه ممن اجتازوا بتفوق مسابقته في اختبار طاقم من الكذابين، واستخدم منهم مجموعة يروجون لعسله الذي تم إنتاجه بلا نحل أو خلايا، فأنتجه في منزله، باستخدام نكهة العسل المضغوطة المركزة، وصبغات الألوان . وشرع طاقم تسويق بضاعته يغزون المجالس ويقولون : إنهم اشتروا عسلا نقيا صافيا أفرزته ملكة النحل والشغالات التي تتغذى فقط على أزهار البيلسان والسمر والبشام البرية الصحراوية المباركة، ( على الرغم من انقراض سلالات الأشجار السالفة) وهذا العسل شفاءٌ من كل الأمراض السارية والمتوطنة ! وتمكن خلال شهور برأسماله من الكذب الصافي ، أن يتحول من بائع لعلبٍ صغيرة ، إلى أكبر تاجر للمواد الغذائية ، وهكذا نقله الكذب على بساط ريح إلى عالم الثراء والغنى ، وأصبحت تجارته تدخل في قطاع الدخل القومي الوطني ! ومرتْ على خاطري أيضا حكمة عربية مشهورة جدا وهي (الكذب ملح الرجال) أي أنها هي التي تقوي الرجال وتجعلهم أقوياء في وجه أعدائهم، هذه الحكمة صاغت تواريخ شعوب كثيرة ، وجعلتْ كثيرين من حكام دول الكذب يؤسسون أوطانهم وفق هذا (الخام)! فأسست على خام الكذب إمبراطوريات ودول عظيمة في التاريخ ، فقد كان يكفي أن يكذب أحدهم قائلا: سمعتُ مظلوما يستغيث بالأمير لتقوم حرب بين دولتين ، أو أن يهان رجلٌ من سلالة ملكية حتى يقوم الكذابون بتكبير القصة وجعلها في حجم الوطن ، فاستعمرتْ بلدانٌ واغتصبت أراض وأوطان. وما إن يستولي مدمنو الكذب على الحكم أو يفوزون بواسطته في الانتخابات حتى يشرعوا في تأسيس بطانة الكذابين ، لنشر هذا المنتج بين الناس ، ثم يصدرون تعليماتهم بتأسيس وزارات الكذب ، ودائما يكون الفائزون بالوزارات والمناصب العليا هم الأبرع في فن الكذب، القادرون على إقناع أكبر عدد من الناس بفضيلة الكذب وبراعة الكذابين ، وأثر الكذب على الصحة العامة، فتنتعش المجاملات، ويزدهر سوقُ الألقاب والمناصب ، وتفتح مزادات الإطراءات وأوصاف الشخصيات، وتُنحتُ المسميات الجديدة ، وتُسلب ألقاب القادة الأوائل ومسميات الأنبياء والرسل ، وحتى تصل إلى اغتصاب ألقاب الله ، فتنتشر الوساطات لتعليم فن الكذب، وتزدهر صناعة كتاب الأكاذيب من كتبة عروض الحال إلى مساعدي القضاة والمنافحين عن الحقوق وأهل الحل والربط ، وهذا بالطبع يساهم في زيادة الطلب على الهدايا الجميلة والفاخرة فتزدهي تجارةُ الاستيراد، وينشط بائعو الألبسة التي يختفي خلفها الكذابون ، وتزدهر صناعة أوراق عرض الحال والكتب المزركشة البديعة التي تشيد بفضائل المسؤولين وقبائلهم وعشائرهم وأسرهم . وتنتعش في كنف خام الكذب صناعات متعددة تستمد قوتها ورأسمالها من الخام الرئيس (الكذب) فتصبح - وفق مفهوم الكذب - أغلفة البضائع أهم من البضاعة نفسها ، وفي كثير من الأحوال يكون ثمن الغلاف أغلى من ثمن البضاعة نفسها ، فأغلفة كثير من الأجبان أغلى من القطعة التي في داخلها والتي تسمى جبنا تجاوزا ، لأنها مصنوعة من شيْ آخر غير الحليب ، وهي في الغالب قطعة من النشاء بطعم الجبن . أما أبرز صناعات (درفلة) الكذب وصكه في قوالب ، فهي صناعة إعلانات الكذب الصريح ، فيكفي أن يتابع فردٌ مستيقظ قناة تلفزيونية واحدة ليدرك بأن هذه الصناعة التحويلية التي تعتمد على خام الكذب هي أكبر الصناعات التي تدر أكبر دخل في كثير من الشعوب والأمم في الألفية الثالثة . فمن الصابون الذي يزيل شحوم ودهون الكروش، إلى منتجات الأدوية التي تزيل كل الأمراض ومن بينها السرطان ، ومن المراهم المرطبات التي تُشفي الأوجاع إلى المراهم التي تُؤخر الشيخوخة وتعيد سنوات العمر عشرات السنوات إلى الوراء ، أما عن أنواع الشاي التي تشفي من الأوبئة فهي كثيرة، أما منظفات الأسنان الطباشيرية ، فهي لا تقاوم الأوبئة فقط ، بل تعمل على تثبت الأسنان الهشة، وتقوّم الأسنان المعوجة ! ومسلسل المنظفات والمطهرات معروفٌ للجميع ، وكل هذه المنظومة الصناعية في عالم اليوم وبخاصة في الدول التي لا رقيب ولا حسيب على صناعاتها من الكذب، تُدرّ أضعاف الدخل القومي من خامات البترول والحديد والنحاس البائدة ! لقد حول المخزون الهائل من الكذبُ العالمي تعبير (الدول الحرة المستقلة) إلى بضاعة تُباع وتشترى ، بعد أن تم اقتسامُ دول الكذب وتمزيقها إلى قطع صغيرة في مجزرة منظمات الدول الكبرى ، وتمَّ توزيعها بين المنظمات، التجارية والعسكرية والسياسية ، ولم يُبقِ الكذبُ لتلك الدول سوى أسمائها وأسماء رؤسائها المكتوبة في خرائطها الخاصة .
وفي عالم الكذب تحولت كثيرٌ من هذه الدول، دول خام الكذب، إلى أسواق للنخاسة ، تبيع أبناءها العاملين بعد أن تغسل أدمغتهم بالكذب ، وتهجِّرهم بعد أن تتقاضى منهم ثمن التهجير وتقنعهم بأن غربتهم وخدمتهم للدول القوية سوف تبني وطنهم وتعززه وتقويه، وتجعلهم يتحولون قبل موتهم – إذا تمكنوا من العودة إلى أوطانهم- من عبيد إلى أسياد ! وفي هذه الدول يتحول الرؤساء والمسؤولون الكذّابون، يتحولون إلى نخّاسين في السوق السوداء، وتتحول أوطانهم إلى أسواق نخاسة، تجعل من هذا السوق هو مصدر الدخل الرئيس ! وأخيرا نسيتُ أن أقول بأن كل ما ورد في المقال إن هو إلا حلمٌ مفزعٌ وكابوس مزعجٌ فرحتُ كثيرا حين استيقظتُ بعد أن نجوتُ من هذا الكابوس ،فوجدتُ نفسي أعيش في وطنٍ ديموقراطي حر مستقل ذي سيادة، صور زعماء الوطن(الصادقين الأوفياء) وهم في ميعة شبابهم تملأ الجدران والغرف ومكاتب العاملين وفي الميادين العامة والساحات والمتنزهات ، هذا بدون إحصاء لشعاراتهم وحكمهم وأمثالهم التي تملأ الصحف والمجلات وكل وسائل الإعلام، أما عن أعلام ورايات أحزاب الوطن، فهي كفيلة بصنع أغطية وكساء لكل مشردي زلزال هايتي . أما عن خرائطها الجغرافية الورقية والبلاستيكية المنتشرة في الشوارع والدوائر وفي البيوت وفي قاعات المؤتمرات، فهي إذا جمعتْ أكبر بكثير من حدودها الحقيقية !
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البخل العربي
-
فايروسات الخفافيش في الإنترنت
-
فقط في غزة
-
رعب الرقم 25
-
لماذا سمي معبر رفح فيلادلفي ؟
-
تخريفولوجيا
-
مملكة الحواجز والجدران
-
عرب أثمن الساعات وأرخص الأوقات
-
من غرائب الأخبار في إسرائيل
-
أسرار قوة الحكومات العربية !
-
مسابقة البلع الكبرى
-
الكوشير الإسلامي
-
بشير وعاموس رواية فريدة
-
رياضة داحس والغبراء
-
من تجربتي مع صحافة الإنترنت
-
عملاء خمسة نجوم
-
تلحين نشرات الأخبار
-
المعلقة النعلية
-
فلسطين وطن الحروب والمعارك
-
من قصص الإذلال في غزة
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|