|
في رداء امرأة . . لن يغادر المسيح قصة قصيرة
أمين أحمد ثابت
الحوار المتمدن-العدد: 2929 - 2010 / 2 / 27 - 00:28
المحور:
الادب والفن
…. لا اله إلا الله. …. لا اله إلا الله. .. محمد رسول الله. .. محمد رسول الله . موكب الجنازة يسير خفيفاً- من مات.. من مات؟!، سؤال استفهام، ومع الجواب الخارج من أفواه عدة من مواضع مختلفة داخل الحشد، ينضم كل من كان عابراً الشارع، أو واقفاً أمام أحد المحلات، حتى الشباب المرتكنون زوايا متعددة لاستهلاك زمن بطالتهم لمغازلة فتيات المعهد- والحق يقال ان منهم من كان يجذب نظر بعضهن، فانكشفت الإشارات والإيماءات، حتى أن واحداً لحق بأنثى متفجرة الخصوبة بشكل ملفت، قطعت عرضياً الطريق الرئيسي إلى اقرب زقاق، بعد دقائق وقفا يتحادثان، كانا ثدياها هائمين بشكل ملحوظ- لم تسعفهما كثرة الملابس والحجاب على إخفائهما- كان يموجان كالبحر الهادر، مفرقين جناحي الحجاب لينكشف عنهما تلين بيضاوين ناعمين كالقطن يرتجان رعشة أشبه بوضعهما عند الهزات الأرضية – غابت عنه اللغة - تسمَّر كالمسحور يرقبهما، تنقطع مفرداته ويسيل الزبد من جانبي شفتيه المنفرجتين لهثاً- كان جسده يرتعش كما لو سُلّط عليه تيار
كهربائي عالي الفولت، كذلك المستخدم مع أعتى المناهضين- الخطرين حسب قولهم- في غرف الاعتقال…
.. من مات؟! .. من مات؟ وينخرط السائلين.. وغير السائلين في الحشد، بل يتبارى الداخلون الجدد، والسائرون قبله في الموكب.. على حمل ركناً من اركان السرير الخشبي قصير القوائم، المغطى بوشاح جميل كتب عليه الشهادتين.. تطريزاً، حيث تستقر داخله جثة المرحومة مغطى بململ قطني شديد البياض، وتعبق الروائح الشذية من سرير الموت هذا، لتصل إلى بُعد عشرين قدماً، رغم الروائح النتنة التي يمتلئ بها الشارع، والغبار المتطاير المضيق لعملية تنفس العابرين البؤساء الذين.. لم تتكرم عليهم الدولة بمنحهم سيارة- أو منح آبائهم او أجدادهم.. قبلاً.
إنها أرملة الأستاذ حاتم -رحمة الله عليها- رَبتْ ثمانية أيتام - كان زوجها قد مات وهي في ربيع العمر، رفضت الزواج من عدد تقدم إليها من الميسورين- كانت غاية في الجمال- اكبر أبناءها لا يتجاوز الحادية عشر من العمر.
كانت من أسرة كبيرة - هو الوصف اليمني - حتى انه يبدو واضحاً من ملامحها ومسلكها اللذان لا يغادراهما العزة والحياء.
ثلاثون عاماً .. وقليل، لم يسحقها غدر الزمن.. الذي ابتلاها بسرقة أملاكها من أخيها وأبناء اخوتها.. مستغلين ضعفها، والذي ابتلاها بدولة لصوص يتقادم بعضهم بعضاً.. على إباحة نهب أملاك زوجها، والتآمر المدمر على اكبر أبنائها -جاعت.. شاخت- كما لو أنها لوحدها في هذا العالم- لتوفر لهم ما يطفيء جوعهم، وحاجتهم للدراسة- ينبغي أن تكونوا الأوائل دائماً، هذا عهد قطعته بعد موت أبيكم، يجب ان تكونوا كما كنتم أثناء حياته- انتم أبناء الأستاذ حاتم.. من اعظم من ولدته اليمن- كان الإمام يخاف منه، ثلاث مرات حكم عليه بالإعدام، حتى انه أعلن من يأتي بأبيكم حياً أو ميتاً- له بوزنه ذهباً- إنها الحقيقة، أربعون عاماً انتقل الرعب من الإمام يحيى إلى احمد- سجنوه اكثر من خمسة عشر مرة، وهرب إلى خارج الوطن ولم يترك الإمامة- التي أخرست كل العقول والألسن- حتى سقوطها- تأفف المشاركة في المسؤولية- كان يقول قاتلنا اكثر من أربعين عاماً الإمام، وللأسف عند انتصارنا.. خرج من أحشاء هذا المجتمع الذي بعنا أرواحنا وآباءنا وكل ما نملك فداءاً له.. خرج ألفاً.. بل مئات الآلاف من الأمام …
.. انتم كأبيكم، لن تكونوا .. اقل منه - هكذا كانت تقول، كلما ضاق الحال، واضطربت حياة أسرتها الصغيرة، وبدأ الأبناء يتساءلون لماذا نحن؟ لماذا يعملون بنا كل هذا؟- أمثالنا.. الذين
يجب ان تكون لهم حياة.. كريمة، نحن المتفوقون.. نلبس رُقَعْ الملبس المُتَصدِّق علينا، وفي كل عام دراسي ندخل في شريعة مهينة.. عدم القدرة على دفع مبالغ التسجيل والأنشطة المدرسية نحن.. لولا رحمة من بقي من أصدقاء الوالد.. الكرماء، لكنا متسولين- كانت عدتنا المدرسية غالباً متبرع بها من مدرسين.. أو أب زميل رق قلبه لمتفوق ينقصه قلم أو دفتر!!..
.. لماذا يفعلون بنا.. هكذا، لعنة الله على بلد كهذه- ما ان يضيق الحال، ويدخل منزل الأسرة ذات الغرفتين الصغيرتين، الشبيهتين بزقاق مهمل يفتح على كهف ضيق، كما لو انه سكن للخفافيش، فالضوء كان يكشف البيت اكثر قبحاً من حالته المظلمة.. قبل زمن الإنارة، والشمس لم يزل باقٍ لوقت زوالها ثلاث ساعات من الغروب- صراخ، شكوى.. بكاء، كل يحتاج شيئاً - يديها مفرغة منه - كانت تقول: لن ينسانا الله، انه رحيم بعباده، تضيق حتى تفرج- كانت صلواتها لا ينقطع منها فرضاً، حتى في أسوأ حالتها الصحية، تكثر الدعاء، وطرح أمانيها على بارئها: ألا تُذل.. وأبناءها - وجهها دائماً منير.. هذا ما يقوله الكثيرون، حتى بعد ان تقدم بها السن.. كثيراً- ربكم سيفرجها.. لا تحزنوا.. *** - من أين جاء كل أولئك الناس.. في جنازتها؟ .. امتلأ الشارع العام.. من أوله إلى آخره.. بالمشيعين - صُدِم بموتها غير قليل من الناس.
.. من أين جاءت كل تلك النساء.. للعزاء .. حتى اللاتي عرفنها ولم يرنها منذ عشرين عاماً.. - إنها امرأة صالحة. - كم كانت عظيمة. - لا يذكرها أحد .. إلا ويترحم لها. - ليت موتي يكون مثلها. (واحدٌ من المشيعين)
.. رحلت كالطيف. لم تتعذب. وجهها شديد النور والبسمة لم تزل مرسومة على وجهها الساحر.. حتى في شيخوختها وموتها- كما لو ان الله أراد لها ان تموت في عزة موت ملك صالح، مهابة، وكل تكاليف وإجراءات تشييعها.. كما لو ان الأرض انشقت وأخرجت الصالحين لإقامة تكريماً عظيماً.. لرحيلها عن الدنيا.
- الله يرحمنا. ويعزنا بموت كريم كـ.. مثلها. أعوام تمر- بعد زمن من التحاف القبر- غير معلوم- يجلس خيالها على الحافة اليمنى من القبر في أوقات اكتمال وجه القمر، وفي الليالي شديدة السواد، يتسمر بصرها لساعات في اتجاه المدينة، مثـقبة سور المقبرة- مازال السوء يعتصر البلد، بل يزداد سوءاً - إنها ترى أبناءها واحداً.. واحداً.. وكيف تؤلمهم حياتهم- ولضرورة سنة الحياة.. انجب بعضهم- إنها تسمع وتحس بما يجري لهم.. كما لو أنها معهم، بل إنها أصبحت تعرف
ما في عقولهم و.. أنفسهم.. من أحاديث مكتومة- لكم الله يا أبنائي- تدمع عيناها على الدوام- أعوام.. فأعوام على ذلك الحال.. تدخل في أنين باك- لو سمعه أحد المتنفذين، لانخلع قلبه من بين أضلعه.. رعباً.. من أفعاله في الدنيا- حتى قبل انبلاج ضوء الصباح بسويعات قليلة، تقف رافعة يديها إلى السماء مبتهلة.. مكثرة بالدعاء.
زمن غير معلوم من التحافها القبر- بعد ان جُنِّب جسدها يميناً في اتجاه القبلة، وكِشف عن رأسها في القبو، وعفر برذاذ من التراب الناعم، وقريء على جسدها المسجى آيات من القرآن، وغُطِّيَ جسدها بالبكاء المر من أبنائها- ومن أحبها- اغلق القبر، فسكنت في وحشة وحدتها، تسمع كل شيء جار في المدينة، بعد ان هجـر الجميع المقبرة- تحول عالم المترو والنصف الترابي المظلم إلى فضاء مفتوح.. مضيء، ينقاد أسطوانياً إلى فضاء.. آخر- شعرت بتحررها الجسدي من الرقاد الذي فرض عليها. أجالت النظر إلى أعلى الحفرة المدفونة- إنها ترى المارة، الشوارع البيوت- نفس الوضع.. الرديء- لمجرد ان حضر إلى ذهنها ابنتها البكر، وابنها المطارد ظلماً، والحزن القاتل وحيرة البدء في الحياة لبقية الأولاد، وجدت نفسها حاضرة معهم- لكنهم لا يعرفون ذلك- كانت قوة تدفعها للمضي في الهالة المضاءة، سارت لمدى غير بعيد.. ثم وقفت برهة تستغفر الله باكية.. مسترحمة عفوه وقبوله، حتى عادت أدراجها راكضة إلى الدنيا،
حيث يكون أبناءها في حاجة لها.. تدعو لهم بالخير.. والخلاص من زمن هذه الحياة.. الرديئة!!..
#أمين_أحمد_ثابت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أغنية مرتبكة . . لزهرة الاقحوان نثر شعري
-
السياسي .. قصة قصيرة
-
تسريب
-
حلم الورد المتعب قصة قصيرة
-
احلام الفراشة قصة قصيرة
-
وعد قصة قصيرة
-
المعذبة قصة قصيرة
-
غرباء – نحن – في بلد الجنرال ( قصة قصيرة )
-
المدنية .. وحلم الفلاح قصة قصيرة
-
مؤتمر لندن - مكشاف عورة العقل السياسي اليمني ( الجزء الاول )
-
صنعاء .. أتا ... والرقص البحري نثر شعري
-
الشتاء . . البلاد نثر شعري
-
تعب المدار نثر شعري
-
زمن . . بلا نوعية قصة قصيرة
-
ليس للجنوب ان ينتظر الشمال
-
جامعة تعز . . مسار للانهيار
-
الراقص قصة قصيرة
-
حوارية .. اصدقاء في التجرد قصية نثرية
-
جيش.. وعكفة ...... صحوة لذكريات الطفولة والمراهقة
-
ليس للجنوب أن ينتظر الشمال
المزيد.....
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|