محمد السعدي
الحوار المتمدن-العدد: 2926 - 2010 / 2 / 24 - 18:48
المحور:
الادب والفن
عرض على قناة البغدادية في شهر رمضان الفضيل من العام 2009 مسلسل هدوء نسبي , ووقع العمل وأحداثه التراجيدية لا زالت تلقى بظلالها على المشهد السياسي العراقي الدامي , يعاد عرضه حاليا , وعلى خطى نهجها في سبر أغوار التاريخ البعيد والقريب, بتجلياته الحلوة والمرة في حياة الشعوب , ولملامسة الحدث بصوره الواقعية , ومحاكمته تحت ضربات المطرقة والسندان .
أذن قناة البغدادية عودت مشاهديها دائما وفي كل شهر من أشهر رمضان ومنذ أنطلاقتها المباركة, أن تكون سباقة في رصد أحداث التاريخ ومحاكمة تداعياته , هدفا في خدمة التاريخ ومصير الناس .فالاهتمام منصبا على الاحداث التاريخية بجانبه السياسي وللاشارة فأن هذا المسلسل تم عرضه على قنوات أخرى .
هدوء نسبي ... عمل درامي تاريخي تتشكل خيوطه الاولى من عاصمة مصر ( القاهرة ) ويحتدم في مدينة جنين الارض الفلسطينية المغتصبة , فيدوي في عاصمة العباسيين بغداد , عبر حياة صحفيان يتنقلان بين تلك العواصم والمدن , ليغطيا أعلاميا أحداث الحرب والعدوان ومآسيها على شعب أعزل جردوه من ابسط مقومات العيش بكذبة أمتلاك أسلحة دمار شامل , وهبة الديمقراطية . في الوقت الذي حمل المعتديين تلك الانواع من الاسلحة ليلقوا بها على رؤوس الناس الابرياء.
هدوء نسبي .. عمل من تأليف الروائي السوري خالد خليفة , وتدور احداثه حول المخاطر التي يتحملها الصحفيين العرب والاجانب في نقل الحقيقة للناس , وحرب مثل التي وقعت على العراق , تحمل هؤلاء الصحفيين عبء كبير في نقل الحدث والصورة والواقع , وبخطورة مواجهة ماكنة أعلامية وعسكرية عدت سلفا وأتت مع المحتل للتغطية على الوقائع وتشويها وخدمة لأجندة المحتليين, وأستهداف كل من يلامس تلك الوقائع والجرائم بحق العراق وأهله والمعاناة التي تحملها الصحفيين على حد سواء من رجال النظام السابق قبل الاحتلال ومن قوات الاحتلال بعد احتلاله في تقييد حريتهم بنقل الصورة والكلمة الى العالم .
العمل كان من أخراج المبدع التونسي شوقي الماجري , الذي عرف بمواقفه الشجاعة من خلال تناوله لاحداث تاريخية طرحت بجرأة على الشاشة , ونالت اعجاب النقاد والمتابعين وحصلت على جوائز عالمية , كمسلسل الاجتياح الذي حصل على جائزة أيمي العالمية كأفضل مسلسل. ومن أهم أعماله , أبناء الرشيد , أسمهان وأبو جعفر المنصور . ولمسلسل هدوء نسبي مكانته العربية من خلال مشاركة ألمع نجوم الشاشة العربية والعالمية مما أعطى للعمل قضية وموقف , جسدت احداث ذلك العمل جرائم الحرب العدوانية على العراق وحضارته , نيلي كريم, كريم كوجك من مصر , عابد فهد قمر خلف من سوريا ,نادين سلامة من فلسطين , ابراهيم الزدجالي من الخليج , جواد الشكرجي من العراق , ونادرة عمران من الاردن , وبيير داغر من لبنان , والفنانين الامريكي جويل أدامز , والفرنسي سيسيل بزوي . يبدأ المسلسل بقصة حب تعد غريبة في ظل أوضاع وأحداث معقدة وأستثنائية , بين صحفي سوري وأعلامية مصرية نيلي كريم , تمكنت وبامتياز من تجسيد شخصيتها على ارض الواقع بين أوساط أناس أنهكتهم الحروب والحصار من خلال ملابسها ونظراتها وتعابيرها كمواطنة عربية , هي التي كانت تعبر عما يجري على أرض الواقع, جاءت لنصرة شعب محاصر ومستهدف , وهي تتطلع وتعيش مآسيهم من خلال تطلعها وبحثها المتواصل في سوق السراي وشارع المتنبي , حيث ألتقت بالمثقف والشاعر وهو يتوسط قارعة الطريق لبيع أعز ما يملك من كتب وبحوث لسد رمق العيش لاطفاله بسبب سياسة الحصار الدامية التي استمرت 13 عاما , وقتلت مليون طفل عراقي . في خضم تلك التداعيات ... تتسآئل بحصرة وألم مواطنة عربية – هل يتمكن هذا الشعب المثخن بالجراح والمشبع بالمرارات من سياسة حكامه , وحصار دامي بالوقوف بوجه المغول الجدد ( الغزاة ), في ذات الوقت ترى يوميا حجم الدمار ونذالة الحقد على ابناء الرافدين من طائرات الاباتشي , وصواريخ عابرات القارات ذكية وغبية تتشظى على البنى التحتية وبيوت الناس المساكين والفقراء . جهود المخرج كانت واضحة من خلال علاقة الصحفيين بالاحداث , جسدها وبنقلات درامية مؤثرة من أرض الواقع , مما أعطى للمتلقي والمشاهد التفاعل مع الحدث بروح المواطنة والانتماء . هاهي الممثلة نيلي كريم تتصرف ومن خلال ريبورتاجاتها عبر الأثير بروح المسؤولية الوطنية , رغم دخول الغزاة الى ارض بغداد . بقيت تواصل أملها انه سرابا , بغداد لن تسقط بهذه السهولة لكن عندما بات واقعا سلطت كامرتها وحسها الوطني المندفع على جرائم المحتليين والمتعاونيين معهم في قتل الناس الابرياء , وسرقة تراث العراق , وتحطيم بنيته التحتية , وتعرية حجب الحقائق عن الرأي العربي والعالمي. هذا الموقف الانساني تحملت عبئه الى الملاحقة والاعتقال من الاطراف التي تضمر حقدا وعدوانية على العراق وأهله . قصة حب ناجي وناهد جلال لها رموز دلالية بدأت أيضا في جنين المغتصبة , وحبكوا خيوطها تحت همجية الاسرائليين في حصارهم على جنين , وتفرقا بعد ان فك الحصار عن كنيسة المهد , وفرقوا المقاوميين المعتصميين بداخلها الى دول الشتات , لكن تلك القصة كتب عليها ان تعاد مرة اخرى وفي عاصمة عربية أستبيحت مثلما أستبيحت القدس , بغداد تشهد ولادة جديدة من الحب بين عدد من الصحفيين رغم الاحتلال والدمار والقتل . هنا يعطي لنا العمل الدرامي انطباع مبكر بقدرة الناس المخلصة , ان يعيدوا مجد بغداد ثانية . تراجيدية العمل تنقلنا الى عائلة عراقية مواقفهم متباينة من الحرب والاحتلال وسقوط النظام . عائلة جواد الشكرجي ( كاظم كمال ) وأبناءه دلشاد , موسى , سامي وأخيه كريم ... الاستاذ في الجامعة , والمعارض لسياسة النظام السابقة , فقد بسبب هذا الموقف عقله على أثر التعذيب الذي تلقاه في أقبيتهم السرية , كان الشاهد على دخول الامريكان الى بغداد وحجم الدمار من خلال تجواله في شوارعها وهو في حالة يرثى لها , نموذج لقساوة حكامنا الراحلين . تراجيدية المشهد تظهر من خلال المواقف المتضاربة والمتصارعة لتلك العائلة العراقية من مشاهد الاحتلال , عائلة كانت ميسورة الحال قبل الاحتلال رغم معارضتها لسياسة وقمع ذلك النظام , الذي أطيح به يوم 20030409 .
تمكن المخرج شوقي الماجري من خلال عائلة كاظم كمال وهو الفنان العراقي جواد الشكرجي أن ينقل صورة , كانت أكثر قربا الى الواقع ومعطياته , وتداعياته المستقبلية . شخصية كاظم , الذي كان مستاءا من أساليب وممارسات النظام , وهو رمز للمثقف العراقي , باحثا ومرحبا بأي بديل للخلاص من سنوات الاستبداد والجور , هنا أستطاع المخرج , ان يوظف هذا الموقف لتاريخ العراق في المقاومة والنضال . فبعد أيام من احتلال بغداد , ومشاهداته اليومية للهمر الامريكية تجول في شوارع مدينة العباسيين بغداد , يتبنى موقفا أخرا , يتعزز به روح المواطنة العراقية , رافضا هيمنة الاحتلال وداعيا الى مقاومته من خلال محاولاته في أصدار صحيفته المستقلة, يندد من خلالها بالاحتلال وأساليبه القذرة , باستهداف المبدعيين والوطنيين وكنوزهم الحضارية والتاريخية , أذن واجه المثقف العراقي بشخصية جواد الشكرجي , الذي حاله كحال المئات الذين وقع عليهم الجور من سياسة النظام السابق , في موقف لم يكن بمستوى الحدث والغزو , أن المستهدف هو ناسنا وعرضنا وحضارتنا , وان الرئيس الراحل صدام حسين كان جريرة لهذا التدمير والخراب والتقسيم .
رغم قدرة المخرج وحياديته ومهنيته في مواكبة الاحداث بالتفاصيل عن ما كان يجري قبل الاحتلال وما آلت اليه الاحداث بعد الاحتلال , وهذا لم يأتي عن معايشة يومية وميدانية على أرض الواقع ... وأنما عبر وسائل الاعلام والقنوات وشهود عيان ورواة , ولهذا رافقت أحداث المسلسل بعض السقطات المهمة كان يفترض أن يسلط الضوء عليها , لانها شكلت مرارة وغصة في قلوبنا نحن المعارضين للحرب والقرصنة . وحاملي مشروع وطني عراقي , يستند الى دولة القانون ونظام المؤسسات . أن قرية حدودية في أقاصي الجنوب العراقي ( أم قصر ) تقاوم وتتصدى للغزاة ببسالة وبطولة ليلأ ونهارأ, أيام وليالي , وبغداد الحبيبة تغتصب ولاعاشق ولهان يدافع عنها . وأن تحصيل الحرب والاحتلال وتداعيتها المرة والمهزومة على حد
سواء مصير صقورها , وتوبة عملائها ... صقورها الذين تهاوه وسقطوا , وأعترفوا بقبح ضمائرهم بدأ من رامسفيلد ووصولا الى المجرم توني بلير . أما عملائها ممن هرولو
وراء الهمر الامريكية بالعين غبار ترابها , وممن سوق أجندة الاحتلال بحجة نظام قمعي يبرر أحتلال أرض وأبادة شعب وتدميره , لكن تلك السقطات لم تعترض طريق نجاح هدوء نسبي من خلال واقعية تجسيد الحدث ومواكبة تطوراته الميدانية , طبعا أضافة الى ذلك العامل التاريخي , حدث بمستوى هذا الدوي والتآمر, يحتاج الى عقود من السنيين لتغطية أحداثه , لكن براعة وجرأة المخرج شوقي الماجري , كانتا ضمانة لنجاح العمل .
#محمد_السعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟