|
هل تراجعت العلمانية في سوريا، حقاً؟
نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 2926 - 2010 / 2 / 24 - 11:53
المحور:
كتابات ساخرة
حسناً فعلت تلك الجهة، وأياً تكن، التي وقفت وراء قرار منع عقد المؤتمر الثاني لما يسمى بالعلمانية في المشرق. إذ لا يجوز عقد مؤتمر لشيء وهمي وغير موجود، كما هو الحال لما سمي باليسار العربي في مرحلة ما، والذي تبين أنه ليس سوى فقاعة هواء بعد انفجار البركان الصحوي، ورأينا كيف تحول رموز اليسار إلى شيوخ ودراويش متصوفة، وكما هو حال بعض من مدعي العقلنة والتمركس والعلمانية السوريين الذين وقفوا على يمين بن لادن.
العلمانية أو الدنيوية، ومن دون الغوص بعيداً في إشكاليات المصطلح وتأويلاته، قد تعني مجازاً، وفي إحدى تأويلاتها القطع المطلق مع الغيب والأسطورة وتحييد الدين بعيداً عن المجال العام. ومن هنا لا يمكن إيجاد تعريف للعلمانية العربية، لأنه لم يكن هناك، أصلاً، أي قطع علني، وعملي، في أية مرحلة ثقافية أو تاريخية مع الغيب والأسطورة فيما عرف بالتاريخ العربي. وقد كثرت، في الآونة الأخيرة، الكتابات والتعليقات والتلميحات، عن عملية تحول نتيجة توغل سلفي في عمق الحياة السورية التي اتسمت بعض جوانبها، تاريخياً، بالانفتاح المجتمعي، نتيجة بعدها عن التأثيرات والمراكز الدينية في مهبط الوحي، ولوجود إرث حضاري متراكم من حضارات سابقة قبل أن تقع في قبضة الغزاة البدو الأعراب. وهذا الانفتاح المجتمعي الموجود في بعض الجغرافيات السورية، هو، بالطبع ليس علمانية، على النمط الحداثي التنويري الغربي، الذي كان تحرراً من كهنوت الكنيسة الصكوكية، فهنا لا يوجد فصل، عملياً، بين الدين والسياسة، حيث أن الدين موجود بعمق، في ظل غياب مطلق للسياسة في عموم المنطقة، ولا حتى في المرحلة "العلمانية" السورية المفترضة، حيث كان يتداخل الدين، في كل شيء تقريباً من حياة المرء، ويكاد أن يكون، المحرك لمجمل النشاط العام، ليس لمكون بعينه، ولكن لجميع المكونات، واستشرى اليوم بشكل أكبر لاسيما بعد بروز وعي ديني عام نتيجة هبوب الموجة الصفراء العاتية التي تضرب جميع شواطئ المنطقة، وبلا استثناء، وبقوة عشرة فاصلة عشرة على مقياس الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رضي اله عنه وأرضاه.
ويسهب الأخوة "المعزّون" الكرام بوفاة العلمانية واضمحلالها وتراجعها السوري، حد انهيارها، وكأنها كانت في عز شبابها وحيوتها. لا بل إن أحدهم ربط بين قلة انتشار محلات بيع الخمر وانتشار العلمانية، واستدل به كشاهد على انهيار لعلمانية مفترضة، ونحن نعلم أن حاخامات اليهود ، والمتديين اليهود لا يشربون الخمر، ويقول بعض الباحثين في شؤون الأديان المقارنة، أن هذا الطقس الديني، مع تحريم لحم الخنزير، قادم إلى الإسلام من اليهودية، مع العلم أن إسرائيل أيضاً دولة دينية لكنها تبيح تعاطي الخمر وبيعه والاتجار به. إذاً هناك ثمة تداخل غير واضح المعالم في هذه القضايا، ووجوده هذه الطقوس والممارسات، وعدم وجودها، ليست مؤشراً على وجود، أو لا وجود علمانية هنا أو هناك. فالسعودية الدولة الدينية، هي أنشط سوق لتهريب واستهلاك الخمور وتصنيعها في المنطقة تقريباً. فالقضية أعقد من هذه السطحيات المبتذلة بالتأكيد، وهي قضية بنيوية . كما أن عملية بدونة المنطقة الممنهجة لا تعني تديناً، وبنفس القدر لا يعني، عدم التدين، علمانية في الأساس، فغير المتدين ليس بالضرورة علمانياً. والقبائل البدائية غير المتدينة لم تكن علمانية، أبداً.
وللإجابة على سؤال العنوان الافتراضي ، لا بد من طرح سؤال آخر، وهو متى كان هناك علمانية في سورية، حتى تتراجع؟ ومتى عرف أي من شعوب المنطقة، أو تذوق أي نوع من العلمانية كي يستشعر اليوم بغيابها وأفولها عنه؟ وهل هناك "بنية تحتية" علمانية حقيقية مؤسساتية في سوريا أو في غيرها من دول المنطقة، أم أن كل البنية التحتية، في عموم المنطقة هي دينية ولا علمانية؟ وفي الحقيقة فإنه لأمر جميل جداً، أن يكون هناك علمانية في سورية، أو أحزاب وجماعات علمانية حقيقية ترفع لواءها. ولا يمكن اعتبار الجماعات والأحزاب القومية واليسارية القادمة من الحقول القومية، أحزاباً علمانية، طالما أن المرجع النهائي لهذه جميعاً هو الدين، وهو مصدرها الوحيد، كما أن "القبائل" الشيوعية السورية لا تقع ضمن النطاق العلماني طالما أن الشيوعية قامت على اضطهاد الدين ونبذه، هذا إذا قرأنا العلمانية بنسختها الحداثية التنويرية الأوروبية التي لا تتعارض مع الدين. ولو كان هذا الأمر صحيحاً، كله، أو جزء منه، أي وجود وجه علماني ما، لكان كل كلامنا عن محاربة الظلامية السلفية الشرق أوسطية، هو مجرد ثرثرة وهراء، ولما كنا بحاجة لكل هذه المماحكات والمناطحات على غير صعيد ومجال، ولكنا وفرنا على أنفسنا، كما على "غيرنا" الكثير من الجهد والتعب والعناء. ففي الحقيقة لم يكن هناك أي نوع أو وجه من العلمانية الحقيقية التشريعية، أو القانونية، لا في سوريا، ولا في غيرها، لاسيما أن المادة الثانية، التي تتربع على عرش جميع دساتير المنطقة تشير إلى الدين بوصفه مصدراً للتشريع، وهوية للشعوب، وشرطاً رسمياً تقريباً، للممارسة العمل الرسمي الرفيع، وتحفل الدساتير والقوانين بالكثير من المواد مما هو غير علماني، ولا عقلاني حتى. وكما أسلفنا، إن انفتاح بعض المكونات، وتجاوزها للشرط الديني والعقائدي ولرزمة الزواجر والموانع والروادع التي ما زالت تكبل سلوك كثيرين، لا يعني علمانية، بأي شكل من الأشكال. فوجود جماعات معينة، مثلاً، في لا زمان، ولا مكان، لا تلتزم بضوابط دينية محددة وصارمة، لا يعني، بالضرورة أن هذه الجماعات، هي جماعات علمانية. قد يكون لديها استعداد للانخراط في العلمانية، لكن طريق العلمانية بشكلها العلماني الغربي الممأسس بنيوياً وتشريعياً وقانونياً، أمر بعيد جداً، وشهدت سوريا معركة ضارية مؤخراً لفرض قانون أحوال شخصي أقل ما يقال فيه أنه غير علماني، ولو كانت سورية علمانية لما فكر أحد بطرح ذاك القانون بصيغته الظلامية تلك. لذا فإطلاق صفة العلمانية هكذا، ووفق منظور تطورها الغربي، أمر فيه الكثير من المبالغة، والتقول غير المنطقي أو الموضوعي. فلو كانت سوريا علمانية في أي يوم من الأيام، فلما كان هناك أية مشكلة من الأساس، ولربما وفرنا على أنفسنا الكثير من الجهد والمشكلات. وإن كل ما حصل، ويحصل الآن، وقد يحصل مستقبلاً، ولا سمح الله، هو بسبب انتفاء تاريخي مطلق للعلمانية.
يتقول نفس النادبين والشاكين أن لا سياسة في سوريا، ويفصلون في غياب السياسة عن الحياة، فاعطونا سياسة كي نعطيكم علمانية، فكيف يريدون فصل شيء غير موجود عن شيء موجود؟ ألا يبدو الكلام هنا رمياً عشوائياً في كل اتجاه عله يصيب أياً كان؟
من يقدر في ظل هذا الطغيان والطوفان الغيبي، أو يفكر في فصل الدين عن أي شيء في الحياة؟ لا بل هناك اتجاه لعقد قران الدين على الاقتصاد بحيث ستصبح عمليات الفصل مستقبلاً، أكثر من معقدة، ومستحيلة وبعد أن تم تزويج الدين بالمجتمع، والتعليم، والصحة..إلخ زواجاً كاثوليكياً، لا جدوى من أي حديث معه عن أي انفصال. (تسود اليوم موجة أسلمة الاقتصاد عبر شركات التأمين، والاستثمار، والبورصات والبنوك الإسلامية ...إلخ). فمن يقدر أن يفصل، اليوم، من عمـّن؟
إذن كل هذا الكلام والتهويم والتهويل حول تراجع لعلمانية ما هو إلا محض توهم وأحلام يقظة وخيال، قد تخفي وراءها ما تخفيه من مقاصد ونيـّات. فيجب منطقياً أن يكون هناك علمانية حتى تتراجع ونقول أنها تراجعت، فهل يجيبنا أحد ما متى كانت هناك؟ حين يكون هناك علمانية في سورية، أو في غيرها، سنعرف إن تراجعت ولمصلحة من فيما لو تراجعت، أو تقدمت، وحاشاها وحاشاكم جميعاً، ولا سمح الله و قدّر.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فضيحة للموساد أم فضائح بالجملة للعرب؟
-
تاريخ وحضارة تندى لها الجباه 3
-
تاريخ وحضارة تندى لها الجباه2
-
تاريخ وحضارة تندى لها الجباه
-
مأزق الإخوان المسلمين: لا حل إلا بالحل
-
الموساد: غلطة الشاطر بألف
-
هل حسن نصر الله أحمد سعيد؟
-
زلزال الخليج القادم
-
هل يحاكم سفاحو البدو الكبار بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟
-
ما أحوجنا لثقافة الحب...ما أحوجنا لفالانتاين!!!
-
هل هم عرب اعتدال، فعلاً؟
-
سيرك الفتاوى الدينية
-
لماذا يخاف العرب والمسلمون من العولمة؟
-
خطر الأدمغة أم خطر المؤخرات؟
-
شيطنة سوريا
-
انتهى زمن العربدة الإسرائيلية يا ليبرمان
-
السادة وزراء الثقافة العرب: هذه ليست ثقافتي
-
العلاقة السورية الإسرائيلية
-
الزعران
-
الخليج على كف عفريت
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|