آلان كيكاني
الحوار المتمدن-العدد: 2924 - 2010 / 2 / 22 - 20:25
المحور:
الادب والفن
عند أصيل يوم صيفي حار جلسنا نستفيء بظل شجرة وارفة الأفنان مفترشين ملاءة عسكرية أمام مستوصفي العسكري الذي أترأسه في واد ليس ببعيد عن دمشق , تجمعنا , نحن الأربعة , كؤوس الخمر وأوراق اللعب ومعسول أحاديث ربيع العمر . مد الملازم هوريك قدحاً نصفه بيرة ونصفه رغوتها الذهبية إلى المقدم مفيد الغاضب بسبب خسارته في لعبة التريكس , وقال رداً على تعليق الضابط على أغنية كردية للفنان الشعبي علي تجو كنا نسمعها من جهاز المُسجِّل :
آه , لو كنت تفهم الكردية يا سيدي , لسكرت دون أن تشرب هذه !
التقط الضابط الكأس من يد هوريك ورشف منه ثم راح يوزع الورق بعصبية , بينما بدأ هوريك يحدثنا عن سهرة قضاها مع الفنان علي تجو حيث قال : كنا مجموعة من الرجال في سهرة معه في إحدى ليالي شتاء جبل الأكراد الباردة في دار لصديقه وقد وجدنا أن أداءه لم يكن على ما يرام فسألته قائلا : ما بك يا أبا علي , أراك لست سعيدا في عزفك وغنائك هل ثمة ما يشغل بالك ؟ أم أن وعكة تشوش على أصابعك وحنجرتك ؟ فرد أبو علي قائلاً بنبرة فيها شيء من العتب والاحتجاج : أنتم تلزمونني على قول الحقيقة , يا أخي , إن لم يكن من سيدة تأتي لتجلس معنا وتسمع صوتنا , فعلى الأقل علقوا ثوب امرأة أمام عيني هنا على هذا الحائط كي أعرف كيف أعزف وأغني !
انفرجت قليلاً أسارير وجه الضابط المولع بالحديث عن النساء ارتكاساً لما قاله هوريك , بينما تفاعل المهندس بركل , شريك المقدم مفيد في اللعب , مع الموقف بقهقهة بصوته الأجش من فرط التدخين كاشفا عن أسنانه الصفراء الضاربة في التسوس وبعد أن التقط أنفاسه بدأ هو الآخر بالحديث عن قصة قريبة من قصة هوريك فقال : كان المطرب الشعبي المعروف باقي خضر يزور قريتنا بين الحين والحين فيجتمع حوله الشيب والشباب يستمتعون بسماع أغانيه الملحمية الطويلة بصوته العذب وأدائه الجميل , والعرف كان لا يسمح للنساء بالجلوس مع الرجال لذا كانت النسوة يجلسن على بعد عشرات الأمتار من مجلس الرجال المقام غالباً في العراء أمام أحد بيوت القرية في الصيف , كان شعور باقي باستماع النساء إليه يلهب حنجرته فيدوي صوته الرنان لساعات دون كلل أو ملل , أما في الشتاء كانت السهرات تقام في مضافات القرية وخلف الأبواب المغلقة , في هذا الفصل لم تستطع النساء الاستماع إلى عروض باقي الغنائية الذي كان يتماطل في أدائه ويبح صوته بقصد منه في محاولة للتهرب بعد دقائق من بدء الغناء , ولتصحيح الموقف كان بعض الشباب يلجأ إلى تعليق كوفية امرأة على الجهة الخارجية من بلور نافذة المضافة حيث كان ذلك يوحي لباقي أن النساء مجتمعات في الخارج خلف النافذة في هذا الجو البارد للاستماع إلى أغانيه فيجلجل صوته الجهوري وكأنه نارٌ هامدة سُكب عليها الزيت .
بعد أن أكمل حمو قصته حدثت ضيوفي عن قصة ذلك الشاب المراهق الذي تربى في بيئة محافظة لا تسمح له حتى برؤية وجوه أخواته والحديث معهن بحرية والذي لجا إلى السهر في غرفته على الهاتف متصلا بالساعة الإلكترونية الناطقة بصوت أنثوي .
كنا نسرد هذه الأحاديث من باب إمضاء الوقت والتسلية الممزوجة بالسخرية دون أن نكون مدركين لمغزى ما كانت ترمي إليه الأحداث التي كنا نتناولها بيننا وربما كان السبب في ذلك أننا , كرجال , لم نُحرم يوما من مشاهدة وجه المرأة وسماع صوتها , محرمة كانت أم غير محرمة , فكلنا كنا من أبناء مناطق يتوفر فيها الحد الأدنى من الحرية , ومسالة الحديث إلى الأنثى ورؤية وجهها لم يشغل بالنا قط , لكن آكل العصي ليس كمن يعدها كما يقال , فقد دار دولاب الزمن وأوقفني في موقف علي تجو وباقي خضر حين دفعتني أمواج الحياة إلى السفر إلى السعودية للعمل فيها بصفة طبيب . وصلت إلى الرياض وأقمت في أحد فنادقها شهرا من الزمن أنتظر فرزي من وزارة الصحة إلى إحدى مشافي المملكة , وخلال هذه المدة أخذتني دهشة عظيمة , وأنا أتجول في ربوع المدينة المترامية الأطراف , إذ سحرتني الأضواء المتلألئة والأبنية البديعة والسيارات الفارهة والشوارع المرصوفة بإتقان والحدائق الخضراء المزدانة بشتى أنواع الورود , إلا أنني شعرت بوحشة كبيرة وأحسست أن الضجر والملل تربعا على قلبي وأن قوة عظيمة تشدني إلى العودة إلى موطني .
كنت أتلقى كل يوم رسائل إلكترونية من نسرين , وقد جمعني الله بها على ألفة ومودة صادقة , وهي تكيل لي سيولا من كلمات العتب والتوبيخ على رداءة ردودي على رسائلها وخلوها من عبارات معسولة شاعرية كانت قد اعتادت على سماعها مني ونحن ننعم بالتداني والوصال . والواقع أنها كانت على حق , فقد عصرت دماغي كثيرا ليجود بعبارات تداعب أحاسيس نسرين ولكني فشلت , بيد أنني قبل السفر في مدينتي كنت أسير من بيتي إلى بوابة حديقة عامة قريبة عصر كل يوم وأرى السمراوات والبيضاوات تفوح منهن رائحة العطر وكلما مررت بإحداهن كانت تزرع زهرة بين تلافيف دماغي ثم لا ألبث أن أقطفها وأرويها شفاها لأصدقائي في جلسات السمر التي تجمعني بهم أو أن أقطفها وأزرعها بين صفحات دفاتري . لقد فقدت هذه القدرة في الرياض وكأن دماغي حقل زرع قطعت عنه المياه حتى جف , إذ لم يكن الدفتر والقلم يجذبانني البتة .
بعد شهر من إقامتي في الفندق تلقيت اتصالا من الوزارة يطلب مني الالتحاق بأحد المستشفيات , لم يكن ذلك المستشفى بعيدا عن محل إقامتي فذهبت إليه مساء راجلاً , صعدت إلى الدور الثالث حيث قسم الجراحة فرحبت بي ممرضة غير ذات نقاب , كان أول وجه أنثوي أراه في الرياض , قالت أنها هندية واسمها مانجو , نظرت إليها فبدا لي وجهها الأسمر الداكن المنمش بحب الشباب والموسوم بندب عديدة أجمل من وجه مارلين مونرو وخال لمسامعي أن صوتها الأجش طيف من أطياف الجنة أسمعه على وقع خرير أنهارها ووشوشات حواريها وأنا متكئ على أرائكها , أحسست بنشوة عارمة ورحت أدندن بفمي بعذب الألحان حين انشغلت مانجو بالمرضى قليلا ووجدت نفسي أميل إلى الإمساك بالقلم لأكتب شيئاً .
ولكن سؤالا واحدا غزا ذهني ولم أجد له في تلك الليلة جوابا شافياً هو : كيف غاب عن بالي أنني لم أر وجه امرأة وأسمع صوتها منذ شهر , الأمر الذي كان سببا لانطوائي على ذاتي وضعف قدرتي على الكتابة ؟!
في تلك الليلة عدت من المستشفى إلى البيت وأول عمل قررت القيام به هو الرد على رسائل نسرين وقد استهللت رسالتي قائلا لها :
اعذريني يا نسرين على ما بدا من الجفاء في عباراتي .
فلا زهرة تنبت في أرض محرومة من ضوء الشمس .
ولا إلهام في بلد يخبئ النساء وراء الستائر ويمنعهن من الإجتماع إلى الرجال .
أجل يا نسرين , لا وحي في أرض تحجب وجهك عني !
#آلان_كيكاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟