|
السوريالي المعكوس حامد ندا .. لاوعي الواقع في وعي الفنان
يوسف ليمود
الحوار المتمدن-العدد: 2924 - 2010 / 2 / 22 - 18:24
المحور:
الادب والفن
ترجع أهمية المنجز التصويري للفنان المصري حامد ندا، 1924 - 1990، إلى رفعته الفنية الشاملة: رؤيةً وفكراً وغوصاً في جسد الواقع وسراديبه المظلمة، وتمريرها عبر قنوات الفنان الأكثر اشعاعاً وشفافية. ارتبط اسم حامد ندا وللأبد، بالسوريالية. لا عيب في هذا، لكنه بعض الحقيقة وليس كلها. أما الحقيقة، فإن ندا لم يكن سوريالياً كما يجب للسوريالي، حسب النظرية، أن يكون. لم يغُص ندا في لاوعيه الشخصي ليستخرج أشكاله وخيالات كوابته ويفردها على السطح، لكنه فعل العكس تقريبا: غاص في لاوعي الواقع، يصطاد المفارقات والمتناقضات والعشوائيات والهلاميات والطفيليات والانكسارات وكل ما يحمله ذلك الماء الراكد من صور وأشباح وأحلام، لا ليرسمه كما هو، بل ليعيد صياغته في رموزٍ بلورتها الضرورة الفنية والروح العالية للحظة الإبداعية الفائرة من كيان الفنان. لذا، رغم أنه لا معنى كبيراً للمسميات، بالإمكان أن نطلق عليه: السوريالي المعكوس. إنها الأنا الكبيرة، ولاوعيها الكبير، ذلك الذي تسلل إلى وعي هذا الفنان الحادّ، الحاضر في فعل الرسم وفي صميم الرسم. كذلك تعود أهمية عمل هذا الفنان إلى الوقت الذي جاء فيه (كان صبيا في ثلاثينات القرن الماضي)، حين كانت مصر تفور بمختلف التيارات الفكرية والسياسية الباحثة عن هوية هذه الأرض وانتشالها من الرقاد والركود والتخلف والرواسب التي تراكمت على جسم المجتمع خلال قرون، فأصابته بكل أنواع الرزايا والأمراض والعقائد الغيبية والخرافات والتعاويذ وممارسات السحر وبخور الزار وحكايات الجن والهلاوس... من جسم الخرافة الشعبي هذا ولد ندا ونشأ وشرب من لبنه طفلاً ورَشفه حتى الثمالة. لكنه انتقل في صباه، من بيت والده البسيط في حي القلعة، ليعيش في قصر فخم يمتلكه جده في حي البغالة، وبدأ رحلة تثقيف نفسه بالاطلاع على الفلسفة والفكر والأدب والموسيقى الغربية، إلى جانب اكتشاف الفيلسوف الفنان حسين يوسف أمين لموهبة ندا وهو بعد تلميذ في المدرسة الثانوية، فاحتضنه ووجهه إلى الكنوز الخبيئة في الواقع وفي ذاته لينهل منها في رحلة إبداع طويلة لن توقفها سوى خيانة اللحظة التي رحل فيها. نظر ندا إلى تضاريس الواقع كما طبيب مستنير يفحص جسداً يظن صاحبه أنه مسكون بالعفاريت. الجسد الذي تعامل معه ندا كان مسكوناً بما هو أكثر من العفاريت، حد استحالته إلى شبح. كيف حوّلت ريشة هذا الفنان هلامية الشبح إلى جسدانية الجسد: أي إلى عصارة حرية، رحيق، انطلاق، ركض، رقص، طيران، حلم، سباحة في أثير وجود أسمى... هذا هو سر السحر في لوحات حامد ندا ورسمه، سواء انفرد الجسدُ الأنثوي الممطوط، كفرسة النبي، بحسابات الجمال الرفيع على اللوحة ليملأها متلوّياً أمام ديكٍ أو قط أو حصان، أو انتشر وتعدد في شبكة من أجساد دقيقة كالنمل أخذها الرقص في متاهة حركية لا تدع للعين فرصةً لانزلاقةِ سكون، كما لو أن الحركة، في لوحاته، ترجمة لموسيقى غجرية تهدر في الأذن الداخلية لهذا الفنان الذي اختاره الصمم في أخريات حياته، أو بالأحرى، اختار هو لنفسه الصمم، كرغبة عميقة في إسكات صوت واقعٍ يصرخ كل من وما فيه بالقبح. في كتابة لي سابقة عن ندا قلت: "... فبعض اللوحات تبدو وكأنها إحدى مقابر وادي الملوك وقد ثارت الشخوص والقرابين والجدران والزوايا والسقف والأقواس علي سكونية الموت الطويل ذاك لتعاود الرقص والركض علي تراب أزمنة منسية تتبادل فيها الكائنات والجمادات أدوار بعضها البعض وأعضاء بعضها البعض في دوران محموم هو جوهر الطاقة الحيوية للعالم بعدما تخلصت من أسباب علائقها النفعية الرخيصة ووصلت إلي محطة وراء الخير والشر، فليس عجيبا هنا أن يقف الثور علي البيانو ولا أن يحلم الديك بالمرأة ولا أن يرقص الحمار سكرانا ولا أن يحوم الطاووس حول المرأة ليقبلها ولا أن تعوم السمكة الضفدع في بطن البنت الجميلة ولا أن تنصت القرود خاشعة للربابة ويتجول القط كإله مخمور في درب الهوى ذاك". أعمال حامد ندا بؤرتها الجسد، الأنثوي تحديدا، إنه الواجهة أو المستوى الأول. إنه رمزية احتفاء الفنان بالحياة والتجدد والأمل. أما الرجل، فمتأخر عن الأنثى، أصغر حجما، أبعد، هامشي. والجسد في عمله يعتمد على الرسم، أي على الخط المحدد. أما الفراغ الذي تسبح فيه الأجساد، فمبرقش بالرموز وأخيلة المدينة وكِسارات الماضي والحاضر، مفروشة بغير تحديد وكأنها أحلام تلك الأجساد المحفورة بموسيقى الرسم. يقول الفنان في حوار معه عن فنه: "التجريد نوعان: الأول يستخدم الأشكال من واقع حياتنا، والثاني يعطينا أشكالاً مبهمة تكون موجودة في إحساسات الفنان الداخلية، وهي تعطي شكلا، وأنا أحب الجانب الأول، وأرحب بالجانب الثاني وإن كنت أشعر بالعجز عن تحقيقه"، وهو من قال أيضا: "أي عمل فني يخلو من السوريالية لا يمكن أن يعد عملاً فنيا، بمعنى أن التعبير التلقائي مهما كان لونه واتجاهه، لا يمكن أن يخلو من ذاتية الفنان إذا كان عملاً صادقاً". فيالها من أعمال امتزجت فيها ذاتية الفنان بذاتية المجتمع، تلك التي تركها لنا هذا الرسام النادر الذي خانه الظلام وحافة السلم الحجري في زلة قدم فرحل بعد شهر في صراع مع قدر أعمى! يوسف ليمود م. جسد يتبع: جسد جبران رابط مادة سابقة ذات صلة: http://www.doroob.com/?p=42173
#يوسف_ليمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجسد العربي في وعي الفن
-
القبلة بين الالتحام والانفصال
-
من العيون في العيون 3
-
نبي العربدة الحمراء هيرمان نيتش
-
ستيلارك .. الجسد الناقص وامتداداته التكنولوجية
-
قديسة الجسد الجديد أورلان .. خطوة في اللحم لا يحتملها العالم
-
الجسد حقلا استكشافيا وكونا يحوي الكون
-
مقاطع في حيز العابر 5
-
-الخبز- بين خميرة الفن وشحّ الواقع في معرض بالقاهرة
-
مقاطع في حيّز العابر (4)
-
وجوه بالدم المتجمد لمارك كوين
-
مقاطع في حيّز العابر (3)
-
بعد أربعين عاما على غيابه، طيف رمسيس يونان يزور القاهرة في م
...
-
ملاكمة بقفازات الفن
-
القيامة في فوتوغرافيا اندرياس جورسكي ومعرضه من جناح طائرة
-
مقاطع في حيّز العابر (2)
-
Art | Basel | 40
-
مخلوقات البيرتو جياكوميتي بين رؤيا الفناء والانتحار البطيء
-
الفنان الألماني ميخائيل بوته .. بورتريه عن قرب
-
مقاطع في حيّز العابر
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|