|
أكبرُ طفلٍ في التاريخ
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2922 - 2010 / 2 / 19 - 00:04
المحور:
سيرة ذاتية
قبل أيام، كان عيدُ الحبّ. 14 فبراير. منتصف الشهر الأقصر الذي يأتي في ثمانية وعشرين يومًا، اللهم إلا في السنة الكبيسة، كل أربع سنوات، يزيد يومًا ليغدو تسعة وعشرين. وتمتلئ دفاترُ الأحبّة وكروت المعايدة برسومات الطفل البرونزيّ كيوبيد، بقوسه الوحيد وسهامه الكثيرة التي يضرب بها القلوبُ فتسقطُ صريعةً في لجّة الهوى. وتضجُّ جذوعُ الشجر بخطوط الطباشير آخذةً هيئة قلوب تجاورُها الحروف الأُوَل من أسماء العاشقين. وتعجُّ الطرقاتُ بالصبيان والصبايا يحملون القلوب الحمراء والدباديب الملونة وكروت المعايدات تحمل كلماتِ الحبِّ وبعضَ قصائد الشعراء. الحبُّ لغزٌّ حيّر الفلاسفةَ وأوجع القلوب، لكن البشريَّ يظلُّ يسعى إليه رغم الوجع ورغم الحيرة. ويقول الفيلسوف رالف إميرسون في كتابه "الجمالُ مُفعِّلُ الحياة": "الحبُّ يُعلي من طاقة الموهبة، وبه نتغلبُ على العثرات." وأما كيوبيد، فهو أكبرُ طفلٍ في الوجود. يبلغُ عمرُه، اليوم، ثلاثة آلاف عام. ومازال طفلا سرمديًّا، لا يشيخ! ذاك أنه عابرٌ الزمنَ؛ شأنَ الحبِّ، ومعصوبُ العينين؛ شأنَ الحبِّ، ويصيبُ القلوبَ من دون إنذارٍ ولا مَنطقٍ، شأنَ الحبِّ أيضًا. هو، في الميثولوجيا الرومانية، ابنُ فينوس، إلهةِ الجمال، ومارْس، إلهِ الحرب. تقول الأسطورةُ إن الغيرةَ ضربتْ قلبَ فينوس من الأميرة سايكي Psyche، لأن جمالَ الأخيرة الفائقَ شغلَ الناسَ عن عبادتها، فينوس، فأمرتْ ابنَها كيوبيد أن يصيبَها بسهمٍ لكي تقع في حب الرجل الأكثر فقرًا ودمامةً في الكون. لكن كيوبيد سينبهرُ بجمال سايكي ويقعُ في هواها ويقذفُ قدمَه بسهم. ولأنه إلهٌ وهي إنسانٌ، فقد كان ممنوعًا عليها أن تراه، وفق القانون الميثولوجي الإغريقي. ظلَّ يزورُها كلَّ ليلة، يراها ولا تراه، يأنس بها ولا تأنس به، إلى أن أوعزت شقيقتا سايكي لها أن تنظرَ إليه بغتةً. ولما فعلت، غضب كيوبيد عليها واختفى، واختفت معه قلعتُهما الجميلةُ بحدائقها الغنّاء الفاتنة. ضربها الحَزَنُ وأثقلَها الفقد، فهامتْ على وجهها شاردةً كسيرة الخاطر، حتى صادفت هيكلَ فينوس. فأمرتها ربّةُ الجمال أن تحملَ صندوقًا صغيرًا وتذهبَ به إلى العالم السُّفلي لتعبئه من جمال زوجة بلوتو، على ألا تفتحَ الصندوق مطلقًا. لكن فضولَها، البشريّ، جعلَها تفتح الصندوق فلم تجد جمالا، بل وجدت نومًا يشبه الموات. ضربها النوم فنامت إلى أجل غير مسمى. ولمّا وجدها كيوبيد ملقاةً في الصحراء كالموتى، رقَّ قلبُه لها، فانتزعَ منها النومَ وأعاده إلى الصندوق، ثم تزوجها. فمَنَّ عليها جوبيتر بالألوهية، لتصيرَ ربّةَ الروح. ومنها اِشْتُقَّ اسم علمُ النفس سيكولوجي Psychology. وفي العصر الوسيط، آمنتْ إنجلترا وفرنسا بأن منتصفَ فبرايرَ هو بدايةُ موسم تزاوج الطيور. ولذا غدا رمزًا للرومانسية والحياة والخصب. يتبادلُ فيه العشاقُ، والأصدقاء أيضًا، بطاقاتِ تهنئة وهدايا. وترقدُ لليوم، في مكتبة لندن، أقدمُ تهنئة في التاريخ، من تشارلز، دوق أورليانز، لزوجته، حين كان سجينا في برج لندن في القرن ال 15. أما عند قدامى الرومان، فيعتبر منتصفُ فبرايرَ، يوم 14 منه، بَدْءَ فصل الربيع. فيقيمون مهرجانَ الخصب والنقاء. يكنسون البيوتَ وينثرون بأركانها القمحَ والمِلحَ. ثم يذهبُ الكهنةُ إلى الكهف المقدس، حيث كان الطفلان الإلهان: روميلوس وريميس؛ مؤسِسا الدولة الرومانية، يعيشان تحت رعاية أنثى ذئب. يذبحون القرابين: عنزةً، رمزًا للخصوبة، وكلبًا، رمزًا للنقاء والوفاء. ثم يُقطّعون جلدَ العنزة شرائحَ صغيرةً يغمسونها في الدم، يجوبُ بها الأولادُ الطرقاتِ والميادين، ليمسحوا وجوهَ النساء، والحقول؛ فيعمُّ الخصبُ: إنجابًا للنساء، ومحاصيلَ للحقول. وعند المساء، تُلقي الفتياتُ في جَرّة أسماءهن المكتوبة على وريقات صغيرة، ليأتي شبابُ الرومان يلتقطُ كلٌّ ورقةً، فيتزوجُ صاحبتَها. هذا كان قبل الميلاد. أما الأساطيرُ الأحدث فتقول إن قدّيسًا اسمه فالنتين عاش في عهد الإمبراطور كلاوديس، الذي جَرّم الزواجَ على الشباب؛ إيمانًا منه أن الزواجَ يُضعفُ لياقة الجُنْد القتالية. لكن القديسَ الطيبَ رأى ذلك القانونَ مُجحفًا وغيرَ شرعيّ، فراح، متحدّيًّا قرار الإمبراطور، يزوّجُ العاشقين في كنيسته سِرًّا. ولما اِكتُشفَ أمرُه أُعدِم. فصارَ أيقونةً للمحبّين. والحب عندي له معنًى شاملٌ أوسعُ من قضية المرأة والرجل. الحبُّ فن رفيع، وكما الشعر، "صعبٌ طويلٌ سُلَّمُه، إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمُه، زلّتْ به إلى الحضيضِ قدمُه." الحبُّ فنٌّ عصيّ لا يتقنه إلا ذوو الأرواح المُحلِّقة. كيف نستطيع أن نحبَّ المخلوقات والموجدات حتى الجوامد منها. وتلك الورقة الصغيرة المرمية بإهمال جوار الحائط، أليست تحملُ تاريخًا وأسرارًا وحكاياتٍ؟ فكيف لا نعبأ بها ولا نغمرها حبا؟ الرؤية العُمانية. أحبّوا تصحّوا.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكرةُ... وعَلَمُ مصر!
-
كتابٌ يبحثُ عن مؤلف
-
كلّ سنة وأنت طيّب يا عالِم!
-
شمعةٌ مصريةٌ ضد القبح
-
شابّان من بلادي
-
آثارُ مصرَ في مزاد الأثرياء
-
ما لن تتعلّموه في المدارس
-
وردةُ أنطلياس، عصفورةُ الشمس
-
المهذّبون يموتون غرقًا
-
اقرأوا تصحّوا!
-
انظرْ خلفك -دون- غضب
-
كلَّ عام ونحن أجمل!
-
حوارٌ متمدِّنٌ في ثماني سنوات
-
رجلُ الفصول الأربعة
-
اسمُه: عبد الغفار مكاوي
-
أولى كيمياء/ هندسة القاهرة
-
المحطةُ الأخيرة
-
هُنا الأقصر
-
وتركنا العقلَ لأهله!
-
لا شيءَ يشبهُني
المزيد.....
-
العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500
...
-
ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
-
حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق
...
-
نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي
...
-
اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو
...
-
مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر
...
-
بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
-
لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
-
الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
-
تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|