أكثر ما يهمنا من نتائج الانتخابات البلدية هو الاستفادة منها الى أقصى حد ممكن للتعامل مع المرحلة القادمة، وبالتحديد مع الانتخابات البرلمانية القادمة القريبة جداً بمقياس الزمن المتفور للإعداد لها فالانتخابات القادمة ستكون في أكتوبر، أي بعد حوالي أربعة أشهر• نتائج الانتخابات البلدية عكست لحد كبير واقع الحال القائم في البلاد، وموازين القوى السياسية التي أفرزها المجتمع بما حفل به من أحداث وتطورات، وما أنتجته العلاقات التي كانت قائمة فيما بين أطراف المجتمع• الفترة السابقة على عهد الانفتاح، لم تكن فقط خالية من أي نشاط سياسي شعبي حقيقي، وإنما كان ذلك محرماً• امتدت تلك الفترة ما يقارب الثلاثة عقود وهي فترة من الركود السياسي والفراغ التشريعي لم تكن قصيرة، وقد ولد وتربى خلالها اعداد كبيرة من المواطنين، أثرت عليهم سمات تلك الفترة تأثيراً مباشراً وكبيراً وزرعت في نفوسهم الخوف والريبة واللامبالاة، وأشاعت السلبية في مواقفهم وفعاليتهم في المجتمع• وشكل هؤلاء، وخاصة في المناطق الفقيرة والمهملة، تربة خصبة وجاهزة للحركات الدينية السياسية، التي كانت قبل وأثناء اندلاع المواجهات العنيفة طوال النصف الثاني من عقد التسعينات، اللاعب الوحيد تقريباً في الساحة• وكان هؤلاء ولا زالوا، القوة الضاربة لتلك الحركات• لقد تشكل بفعل ذلك ميزانا قويا في المجتمع يختلف عن فترة الركود والفراغ التشريعي وما قبلها وهو مائل بشكل واضح لصالح تلك الحركات• ولكي يتحقق شيء من التوازن في النشاط السياسي في المجتمع، لا بد من تفعيل دور القوى لليبرالية والعلمانية، والعمل على تعزيز التقارب فيما بينها وتوصلها الى توحيد جهود ووحدة عمل فيما بينها على أساس برنامج مشترك، وإن كان برنامج حد أدنى• لعل من الشروط الهامة لتحقيق هذه الأهداف أو هذه المساعي، أن تسود العلاقات الصحية فيما بين هذه القوى بأن تقوم على الفهم والتفاهم وعلى الثقة المتبادلة وفي ظل أجواء الشفافية والواقعية والعقلانية• واليوم، تعيش بلادنا في أجواء لا تختلف فقط عن تلك التي سادت فترة ما قبل الانفتاح، وإنما تختلف تماماً عن اجواء الخمسينات والستينات وحتى السبعينات، حيث كان التناقض الرئيسي حينها بين الشعب بجموعه وقوى الهيمنة الاجنبية، والبريطانية بشكل خاص، وحيث كانت النشاطات السرية والعلاقات المتوترة هي السائدة، بكل ما تحلم تلك النشاطات السرية من اشكاليات وتعقيدات ومن جوانب ايجابية وسلبية• لقد كان أي نوع من العلاقة ومن الحوار فيما بين السلطة وباقي اطراف المجتمع معدوماً تقريباً، وكان هم السلطة المتنفذة في ذلك الوقت هو محاولة استئصال المنظمات السياسية التي كانت مضطرة للعمل السري بسبب تلك الملاحقات والمحاولات• لم يكن في الامكان تصفيتها، لأنها كانت تعبر عن قطاعات عريضة في المجتمع ولأنها كانت متجذرة في تربة الوطن• ورغم مضي عقود من الزمن لم تشهد بلادنا انفراجاً معقولاً إلا لفترة وجيزة، كانت هي عمر المجلس الوطني القصير• ورغم الفشل الذريع الذي كانت تمنى به سياسة العسف•• إلا أن ذلك النهج استمر فرضه على بلادنا حتى مجئ عهد صاحب العظمة• اتسم العهد الجديد منذ الايام الاولى بمسات تميزه بوضوح عما عداه من عهود• من سمات هذا العهد نزوعه نحو لاديمقراطية وطموحه بأن ترقى هذ الديمقراطية الى مستويات الديمقراطيات العريقة، وادراكه بأن الديمقراطية تقوم على قواعد أساسية يجب أن تكون متينة وراسخة، تلك هي قواعد الانفراج السياسي العام الذي قوامه هو الآخر الحريات العامة والخاصة واحترام الحقوق والواجبات واحترام القانون من قبل الجميع وبحيث يكون الجميع سواسية أمام القانون•• دع عنك تكريس حرية الرأي والتعبير والصحافة••• الخ• ومن هنا، يكون من حق العهد الجديد، بل ومن واجبه، أن يسم مجمل الأوضاع والقوانين والاجراءات بسماته التي تميزه• وانطلاقاً من هذه الحقائق يتوقع المواطنون من الجهات المنوط بها إعداد القوانين والأنظمة والاجراءات أن تأتي متفقة مع سمات العهد ومتفقة مع توجهاته• وإذا ما جاءت على خلاف ذلك فإنهم ينتظرون من صاحب العهد تصويب الأمور ووضعها في نصابها• والداعي لهذا القول، هو ما أعلن عنه، في تصريح سعادة وزير شئون رئاسة مجلس الوزراء، من أن مجلس الوزراء قد أقر عدداً من القوانين من بينها قانون الانتخابات للمجلس النيابي المنتخب• ومن العناوين الرئيسية التي أشار إليها سعادة الوزير، يتضح أنها تتضمن توجهات تختلف عن ما تم التأكيد عليه في كل التصريحات، وأهمها أن تأتي القوانين والأنظمة المنظمة للعملية الديمقراطية، محققة لهذا الهدف• وعلى سبيل المثال، وكما أوضح ذلك سعادة الوزير، فانه لا يجوز لجمعيات السياسية أن تقدم الدعم بشكل مباشر للمرشحين أو تقوم بالدعاية لهم، من منطلق أن هذه الجمعيات ليست أحزاباً• ومثل هذا الكلام يثير الاستغراب والحيرة إزاء موقف السلطة التنفيذية من الجمعيات السياسية• فهي تتعامل معها في الحياة اليومية على أساس أنها جمعيات سياسية، وعند دورها في العملية الانتخابية تنفي عنها هذه الصفة!! ونقطة أخرى على سبيل المثال كذلك، وهي التي تتعلق بتمثيل المرشح للمجلس النيابي، إذ كما يفهم من كلام سعادة الوزير فإنه يمثل دائرته الانتخابية، وهذا يعنى أنه لا يختلف عن عضو المجلس البلدي، في حين أن الاختلاف في مهامهما واسع• فعضو البرلمان يمثل الشعب كله، في حين أن عضو المجلس البلدي يمثل دائرته البلدية• وهو أمر معروف ومتعارف عليه، ولا نظنه يغرب عن رأي وتصور المشرعين• على أي حال، هذه مناقشة أولية لنقطتين فقط، أما ابداء الرأي حول كامل مواد هذا القانون أو غيره فيتطلب الاطلاع على نصوصها• لكن الواضح مما نصت عليه هاتان المادتان، أنها لاتتفقان مع الديمقراطية التي نطمع جميعاً لتحقيقها في مجتمعنا• وفي كل الأحوال نتمنى على صاحب العظمة بالنظر في ذلك عند رفع هذه القوانين لعظمته لاصدارها، كما فعل في حالات سابقة•