|
الصداقة بوصفها خطيئة
حسام هلالي
الحوار المتمدن-العدد: 2919 - 2010 / 2 / 16 - 14:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يستدل الكاتب في تطرقه إلى أي قضية مهما بلغ تباينها عما يليها عادة بأحد أمرين: النصوص الدينية، وأرسطو. بالنسبة للدين، ترجع المدرسة الذكورية في تفسير الميثيولوجيا الدينية – المتجاهلة في نسختها الإسلامية لشخصية ليليت التوراتية – سبب خلق حواء إلى حالة الوحشة التي كان يعيشها سي آدم في الجنة، فبغض النظر عن الخطة المسبقة لله بإنزال خليفة إلى الأرض (يفسد فيها ويسفك الدماء) والخطة المساعدة التي سيقوم بها إبليس لاحقاً لطرد البشر من الفردوس. نجد أن حياة كائن مخلوق من طين يحمل في خلاياه 23 زوجاً من الكروموسومات وسط جمع هائلة من كائنات مجنحة لا يشغلها شيء سوى الصلاة أمراً بالغ الإثارة للضجر. حتى لو كانت كل هذه الملائكة قد سجدت له بأمر من الخالق الذي أعلمه بأسمائهم. هل من مهمة أخرى بدلاً من هذا التسكع بين أنهار العسل واللبن ؟ فكانت حواء!
وإيفا العزيزة التي استيقظ آدم ليجدها في مخدعه كمفاجئة سارة لم تكن في البداية محض وسيلة لاستمرارية النوع الجديد، فقبل اكتشاف جدنا الأول للغرض الثاني لعضو الإخراج. كان جل ما يشغله هو أنيس يبدد عنه وحشة الجنة وخلوها (لا بد أن حور العين لم يخلقن وقتها !) فكان خلق الله لصاحبة آدم من ضلعه، تبعاً لطريقة "من دقنو وافتلو"!
إذن فهي الصداقة لا الجنس ؟ - صباح الخير يا فرويد! - ولكن ما الضير في القول أن الجنس هو شكل من أشكال التعبير البيولوجي للصداقة ؟ ألا نجد أن الخليل أو العشيق يأخذ في اللغة الإنجليزية لفظ Boy-Friend على سبيل المثال ؟ فهو شخص يمكن للفتاة أن تنعم بصحبته، في سراءها وضراءها. تخرج بصحبته إلى السينما، تناقشه في أمور حياتها، لا وبل تشاركه فيها، ولا يجدا أي حواجز أو إحراج في الذهاب معاً إلى غرفة النوم لينعما بشيء من القيلولة معاً. لماذا لا نجد في اللغة العربية كلمة مشابهة ؟!
نأتي للشيخ أرسطو، فوفقاً لرؤيته التي دائماً ما تأخذ منحاً تصنيفياً لتقسيم الأشياء إلى أنواع بحتمية واثقة، نجده يقسّم الصداقة إلى ثلاثة مصطلحات: المنفعة، والمتعة، وصداقة الفضيلة. وكما هو واضح هنا أن تصنيفه يأخذ بعداً أخلاقياً يميل فيه تماماً إلى النوع الثالث، بما لا يخلو من إدانة للصنفين الآخرين، باعتبارهما "زائلين". فإننا ووفقاً لأرسطو نكتشف بسهولة أن التفسير البيولوجي للصداقة ( أي الجنس ) يندرج تحت بند المتعة الزائلة، وعلى الرغم من أن الجنس غريزة أساسية لا تنتفي الحاجة إليها حتى يفنى الكائن المتكاثر جنسياً، إلا أن الزوال المقصود به هنا هو زوال استمرارية الصداقة والمتعة المؤقتة مع شريك معين، وهو ما قد يجده الكثيرين أمراً مستحباً لا مكروهاً، فنقف أمام نسبية الفضيلة وسذاجتها كقيمة مطلقة. فما المانع أن أنتقل من سالي إلى نيفين إلى نفيسة ؟ إنها الفضيلة اللعينة يا عزيزي! أما المنفعة فهي في الشق التكاثري للجنس، أي عواقب الجنس.. وأي عواقب! فما كان يشغل آدم وحواء لم يكن توفير الحفاضات ولبن نيدو لهابيل وقاببيل، بل في ابن يقتل أخاه من أجل أخت أجمل من الأخرى. أي من أجل الجنس أيضاً! إنها تبعات أكل التفاحة والخطيئة المتناسلة. التي لن يخلص البشر منها غير المسيح، هنا كانت المثيولوجيا أكثر حرصاً بحيث يكون المخلّص بتولاً ابن بتول، (وانسوا أمر نيكوس كازانتاكس!) فلا وجود لمصدر الخطيئة الأساسي، فيصح الخلاص من خطيئته الأولى التي طالما ما أُلحقت بإيفا، وفرّت من إثمها ليليت بتمردها، وليذهب الراهب غريغور مندل لأكل المزيد من البسلة!
أيكون الزواج هو ما يصبو إليه أرسطو ؟ علينا أولاً أن نؤكد أن الصداقة التي تحدث عنها شيخ الإغريق هي العلاقة بين شخصين في المطلق، ولم يكن يقصد بها تحديداً العلاقة بين ذكر وأنثى، وهو بكم الفضيلة الفائض عن الحد الموجود في فلسته لا يبدو بطبيعة الحال مؤيداً لزواج المثليين، فهو يعرّف الصداقة في المجمل بأنها حد وسط بين خُلقين, حيث يكون الصديق هو الفرد المقبول من الآخرين, ولا بد ألا يكثر من التمثيل والمبالغة في أن يكون مقبولاً للدرجة التي تجعله يساير الجميع، بينما يأتي الضد المتشكل في شخص لا يبالي بالمجتمع إطلاقاً، ويرى أرسطو أن الصداقة هي مودة متبادلة بين فردين أو أكثر يريد كل منهم الخير للآخرين، والعيش في سلام ووئام. أين هي الحلوى يا ماما ؟!
ولكن ما التفسير الأمثل لما يصبو إليه أرسطو بالقول أن الصداقة الفاضلة تحقق المتعة والمنفعة أيضاً ولكن بتحقيق شرط الاستمرارية والخلود ؟ ( هذه الطوباوية التي لا شفاء منها! ) بل إنه يغالي في مدح الصداقة القائمة على الفضيلة بالزعم أنها لو وجدت بين البشر لما احتاجوا إلى العدالة والقانون! هنا يأتي مربط فرس عربي لطالما ركضت في بادية الأمثال : " المستحيلات ثلاث : الغول، والعنقاء، والخل الوفيّ! ".
على الرغم من احترامنا لأرسطو ولتراثه المعرفي – ولا أدري لماذا شغلت نفسي به أكثر من اللازم في هذا المقال ؟ – إلا أن أحداً لا ينكر أن كل ما تفوه به كان ناجماً في فترة مراهقة بالنسبة للتاريخ البشري. لنذهب إلى من هو أكثر نضجاً إذن، فالصداقة عند نيتشه تأخذ شكلاً قد يبدو فيه الأمر وكأنه أراد أن يذهب إلى أقصى نقطة عن أثينا فقط ليبدو مناقضاً لأرسطو، فهو بتكشيرته تلك وشاربه الطارد للأصدقاء يرسخ المقولة العربية المؤكدة على استحالة الصداقة، فهو يكشف لنا خللاً بنيوياً في هذه الرابطة يتمثل في قيامها على قدر لا بأس به من المسكوت عنه بين الصديقين، ويكمن المحك الأساسي في كبت الصراحة بينهما. أخطاء متبادلة وعيوب قاتلة تحيل المرء أحياناً إلى التساؤل: ما الذي يجعلني صديقاً لهذا الغبي أو ذاك ؟ بماذا كنت أفكر عندما أعطيته رقم هاتفي ؟! أتساءل متى رأيت هذا الموقف ؟ بل قل كم مرة ؟!
روكانتان رجل وحيد، آدم آخر. يقضي حياته بين مطعم ومقهى ومكتبة عامة، لا يرسخون سوى معاناته من الوحشة والكآبة، في رواية الغثيان. فإذا ما انجررنا وراء التساؤل الساذج الذي يحيل بطل أي عمل روائي إلى نسخة من كاتبه. هل يكون روكانتان هو صورة الكاتب في حوجته الماسة إلى إيفا ؟ أو سيمون دي بوفوار بالنسبة لجان بول سارتر. أشهر ثنائي أدبي في فرنسا الحديثة. وبعيداً عن التفسير البيولوجي، فإن ما جمع أبو الوجودية بأم النسوية من صداقة وحب كان أشهر ما في سيرتهما. بحيث لا يذكر الواحد منهما دون التلميح بالآخر. زميلا دراسة مشغولان بالفلسفة والأدب. متعة ومنفعة ؟! فبعيداً عن إسهاماتها في فلسفته، كانت بوفوار عينا سارتر عندما أصيب بالعمى. قد تبدو هذه منفعة بالنسبة له، ولكن ألا نشتم رائحة الفضيلة في دوافع سيمون ؟ أم أن علينا فقط أن نتجاهل أرسطو فقط لنرتاح ؟! وماذا عن نيتشه ؟ الذي فشل في العثور على "سيمونه" فاتسمت حياته بالكآبة، أنجد ذلك دافعاً أساسياً لرفضه للصداقة ؟ فشله الشخصي في تكوينها ؟
قد يكون هذا التجاذب بين نيتشه وأرسطو في الوصول إلى إمساك الصداقة اصطلاحياً هو في صلب تحديدها كحد بين نقيضين – وفقاً للأسلوب الكلاسيكي – فبطبيعة الحال، لم يكن الفلاسفة فقط كدريدا واسبنوزا وغيرهما من شغلوا أنفسهم بتحديد الصداقة، ولكنه صراع حياتي يوميّ يعيشه كل فرد فينا في سعيه المضطرب نحو الاستقرار، فإن لم يكن هنالك ذلك الكم من الدراما بين إصرار نيتشه على انعدام جدوى الصداقة وترويج أرسطو لحب الخير بين الأصدقاء، لاختفت الدراما التي خلقت العلاقة المتقلبة بين روس وريتشل، ولبدا جوي أكثر إثارة للملل من خطاب للملك عبد الله بن عبد العزيز.
بالنسبة للنبي محمد، فقد كان موفقاً أكثر بكثير في مسألة الأصدقاء والزوجات على حدٍ سواء، وهو ما يدفع المؤرخين إلى التأكيد على قوة كاريزماته كقائد، فخليفته ومؤسس الدولة الإسلامية بشكلها السياسي عبد الله بن قحافة، كان أول من اقتنع بفكرة إمكانية الطيران من مكة إلى أورشليم والسفر عبر النجوم لا وبل العودة في ليلة واحدة، في القرن السادس الميلادي. أو ما سمي برحلة الإسراء والمعراج، فاشتهر من يومها بأبي بكر الصدّيق، كونه صدّق محمداً، فكان له صديقاً ورفيقاً في أحلك الظروف. لذا قيل لنا في الإذاعة المدرسية: "الصديق من صَدَقَك وليس من صَدّقك"! وهو اشتقاق لغوي للصداقة يحيلها إلى مدى مصداقية الرفيق. فنعود مرة أخرى إلى الفضيلة وأرسطو.
هنا تنطلق مشروعية أن يقطع المرء علاقته بمن يكتشف كذبه، وعلى الرغم من كوني كاذب محترف – وكثيراً ما أفضح – إلى أنني لا أتوانى بكل أنانية في قطع علاقاتي بكل من أكتشف استمراره في الكذب بشكل متواصل، أو القيام بأي فعل فاضح آخر، ولم تردعني العشرة يوماً، فما نفع العشرة على سبيل المثال إذا حاول صديق لازمني لست سنوات النصب علي في 60 دولاراً ؟ أي بواقع عَشر دولارات لكل سنة عِشرة ؟! بئس الخسارة!
أن يكون المرء منتشراً في الأوساط الثقافية والفنية هو أمر مكلّف، الكثير من المعارف والعلاقات المتشابكة، والكثير والكثير من المصلحة والتسلق على الأكتاف. هذا يعرفك لكثرة معارفك، وهذا رغبة في الحصول على فرصة للعمل، وتلك لتسجية الوقت مع ود حليوة، وليس بالضرورة أن أكون أنا الحليوة، لكن الأصدقاء يجلبون الأصدقاء، والمزيد من الجلبة تجلب الصداع، وفجأة بعد أن تأكل مع هذا وتشرب مع تلك، يراك ويتجاهلك، وذاك يصافحك بطريقة غير لائقة رغم أنه لم يعد لك العشرة جنيه التي استدانها! ثم هناك الانترنت، والمواقع الاجتماعية وبرامج المحادثة، هذا حذفك وتلك أضافتك، هذه جميلة، وذاك مشهور، أصدقاء حقيقيين لا تجدهم على الخط "أون لاين" وآخرين هوائيين لا تراهم على أرض الواقع. علِّق على هذه الصورة! وشاهد هذا الفيديو! وفي الجلبة تضيع المعايير ولا تعرف هل البحر أزرق أم أن العطش يجعل الرمل في الأفق ماءً ؟!
وسواءً أجابت الفلسفة على سؤال : من هو الصديق ؟ أم لم تجب – كعادتها – وبغض النظر عن تعريف قاموس أكسفورد لكلمة Friend ونتائج البحث في موقع Wikipedia، وسواءً صار أصدقائك في Facebook يفوق الألف فقط ليهنئوك على ترهاتك ويعلقوا على تفاهاتك ويرسلوا لك قوالب حلوى مصنوعة من الغرافيك في عيد ميلادك. أو احتفظت "بفردة أو فردتين" في الشلة القديمة، سيظل الأصدقاء شيئاً دائم التقلب في محتواه محافظاً على ثباته في الوجود، ولن تعرف أبدا الصديق الجيد من السيئ اعتماداً على تعريف أرسطو أو نيتشه، ولكنها الحياة يجب أن تعاش ليُعرف كيف هو طعمها.
#حسام_هلالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عشر فقرات لا تتضمن حلاً للصراع العربي- الإسرائيلي
المزيد.....
-
الشرع: الرياض ستدعم سوريا لبناء مستقبلها
-
الاتحاد الأوروبي والرد على واشنطن
-
واشنطن تجمد ملياري دولار من أموال روسيا المخصصة لمحطة -أكويو
...
-
- الجدعان الرجالة-.. مشهد بطولي لشباب ينقذون أطفالا بشجاعة م
...
-
مفاجأة غير سارة تنتظر أوكرانيا من أحد حلفائها
-
زيلينسكي لا يعرف أين ذهبت الـ200 مليار دولار التي خصصتها أمر
...
-
إعلان حالة التأهب الجوي في ثماني مقاطعات أوكرانية
-
قطر: مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق غزة يفترض أن تبدأ غدا
...
-
مصر والكويت توقعان اتفاقية عسكرية
-
نائبة رئيس الوزراء الكندية السابقة تتهم الولايات المتحدة بال
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|