راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 2916 - 2010 / 2 / 13 - 18:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا تقتصر هداية حضرة بهاء الله لنموّ الناس روحانيّاً على الصلاة والمناجاة والتعاليم، إذ أن بنية المجتمع البهائي بكاملها ترتكز على الهدفين التوأمين اللذين ذكرا سابقاً: تهذيب وتنمية حياة الفرد الداخليّة وكيانه الروحاني، واستحداث تحوّل اجتماعي في حياة الإنسانية بكاملها. حتى الجمال المعماري لبيوت العبادة البهائية يهدف إلى انعاش الروح. وبما أنه لا يوجد في الدين البهائي قساوسة أو أئمة أو غوروgurus أو قادة دين آخرون ليقوموا بدور المرشد على المسار الروحاني؛ تحلّ هيكليّة المجتمع البهائي وطريقة عمله مكان هؤلاء.
يُصرّح حضرة بهاء الله أنه مهما كان الدور الذي لعبه قادة الدين في السابق مفيداً، إلا أنهم تسبّبوا في رفض المظاهر الإلهية كلّما جاء أحدهم إلى العالم . الآن وقد أصبح لدى الإنسانيّة إمكانية تثقيف الجميع على هذا الكوكب ليتمكّنوا من قراءة الكتابات المقدسة بأنفسهم، لم تعد هناك حاجه لهذه المؤسسة. وقد أوجد حضرة بهاء الله بدلاً عنها النظام الإداري البهائي الذي لا يتبوأ أي فرد فيه بصفته الشخصية مركزاً قيادياً أو سلطة من أي نوع. وينتقد حضرة بهاء الله أولئك ( من أتباع الأديان الأخرى) الذين يتبعون أو يقلّدون رجال دينهم أو مرشديهم بشكل أعمى لأن هذا التقليد يؤدي إلى الركود الروحاني حيث أن كل جيل يستمر بالمفاهيم والتوجيهات التي ورثها، ولا يوسّع آفاق الانجازات الإنسانيّة الروحانيّة. عوضاً عن ذلك، يودّ حضرة بهاء الله من الجميع ان يتحرّوا الحقيقة لأنفسهم ويأمر اتباعه: ( اخرقوا باسمي الحُجُب الغليظة التي أعمت بصيرتكم وبقوّة إيمانكم بوحدانيّة الله، اكسروا أصنام التقليد.)27
بما أنه كما ذكر أعلاه، يُدعى الجميع الآن لاتّباع المسار العرفاني mystic Path للنمو الروحاني، لا يقتصر دور النظام الإداري البهائي على إدارة دين فحسب بل يتحمل أيضاً مسؤوليّة قيادة مجتمع عرفاني mystic community، ويسدي الهداية الروحانيّة والمساعدة على النموّ الروحاني وهي أعمال قامت بها مجتمعات عرفانيّة في السابق أمثال المجتمعات الصوفية والمرشدون الروحيون أمثال مشايخ الصوفية. كما ذكر أعلاه، يمكن الحصول على بعض الهداية الروحانيّة المطلوبة بالصلاة والمناجاة ودراسة الكتابات المقدسة والتأمل فيها. بالاضافة إلى ذلك، تُهيّيئ التعاليم البهائيّة الفرص للإفادة من حكمة المجتمع البهائي الجماعية كمصدر للهداية. وتطبّق عملية التشاور المعمول بها في جوانب الحياة البهائية كافة للحصول على الهداية من الكتابات المقدسة أيضاً. لذلك، تتلاقى في مجموعات بهائية معاً، وتتشاور في معنى مقتطفات من الكتابات المقدّسة. كلٌ يعرض مفهومه بحرية وصراحة ثم تُبحث الأفكار في جوٍّ تسوده المحبة والصفاء الذي تولّده حالة المناجاة. إذا مورست عملية التشاور بأسلوب صحيح تأتي النتيجة أسمى وأعلى من أفكار أفراد المشاركين. يتفضل حضرة بهاء الله قائلاً إن المشورة هي ( سراج الهداية إنها تهدي السبيل وتَهِبُ المعرفة)28. ويتفضل حضرة عبد البهاء قائلاً إنه ( من المؤكد أن وجهة نظر عدد من الأفراد مفضلة على وجهة نظر شخص واحد، كما أن قوّة عدد من الرجال هي أكثر من قوّة رجل واحد ).29
وعلاوة على توفير الهداية الروحانيّة، تساعد عملية التشاور بحدّ ذاتها على نموّ الفرد روحانياً. وأما الصفات المطلوبة ليشارك الفرد في مشاورة بهائية جيّدة، فهي بموجب الآثار البهائية المقدّسة: (خلوص النيّة، وبهاء الروح والانقطاع عمّا سوى الله والانجذاب بنفحاته والخضوع والخشوع بين أيدي احباء الله والصبر والجلد في تحمل البلايا وعبودية العتبة الإلهية السامية).30 وهي الصفات الروحانيّة بعينها التي يحاول البشر تنميتها. من هنا، كلّما شارك الفرد بتفكُّر وجدية في عمليّة التشاور التي تحدثُ في جميع نواحي حياة المجتمع البهائي، تطوّر ونما روحانياً.
لقد شجعت الشخصيات الرئيسيّة في الدين البهائي وبشكل دائم وجود أكبر قدر ممكن من التنوع في المجتمع البهائي. فقد شجّع البهائيون ليتقبلوا دخول اناس في المجتمع البهائي من كل عرق وإثنيّة وخلفيّة دينيّة وطبقة اجتماعيّة. لذلك، وخلافاً لمجتمعات الأديرة التي تتشابه فيها خلفيّة غالبيّة الأفراد، فان الكثير من المجتمعات البهائية متنوعة للغاية وكل بهائي معرّض للتفاعل مع مؤمنين من خلفيات اجتماعية وثقافية متعددة مما يؤدي في مناسبات عديدة إلى نشوء تجارب وخلافات نظراً لتصادم الآراء أو الثقافات. يَذكُر البهائيون عادة ان أكبر التجارب التي يواجهونها تأتي من إخوانهم في الإيمان.
تُحَل التجارب والمصاعب التي تنشأ داخل المجتمع البهائي حيث توجد آليات متعددة في حياة المجتمع تساعد على ذلك. تُنفّذ غالبيّة نشاطات المجتمع بما فيها الإدارة بجو من الدعاء والتوجه ويشجّع أفراد المجتمع عملياً، لان يتفاعل بعضهم مع بعض بجوٍ من المحبة والاتحاد، وهناك تحريم للغيبة التي، كما يتفضّل حضرة بهاء الله: (...تطفئ سراج القلب المنير وتميت الحياة من الفؤاد.)31
وعلى الرغم من النزعة الطبيعية التي تؤدي إلى إنقسام مثل هذه المجموعة المتباينة من الأفراد تضمن مؤسسة الميثاق بقاء المجتمع موحداً في سعيه لحل المشاكل التي تنشأ. باختصار، يسعى البهائيون لخلق مجتمع ديني مساند بعضه لبعض بدرجة كافية تمكن أفراده من تنمية أنفسهم روحانياً في جو آمن. وكما ذكر أعلاه فإن التغلّب على هذه التجارب والصعاب هو بحدّ ذاته يؤدي إلى التطوّر الرّوحاني وطبعاً التعالي على ما يفرّق بين الثقافات والأجناس هو الذي يبني وحدة العالم انطلاقاً من المستوى المحلي.
من فوائد عملية التشاور والتفاعل داخل المجتمع أنها تُصحّح أية تصوّرات غير صحيحة لدى الفرد بالنسبة لدرجة تقدمه الروحاني. من السهل أن يظن الإنسان أنه محب وصبور عندما يكون محاطاً بأشخاص من خلفيته كما هي الحال في جوّ الرهبنة. بينما من الصعوبة أن يخدع الإنسان نفسه بمستوى المحبة والصبر لديه عندما يتفاعل مع أشخاص تختلف إلى حد كبير خلفيتهم عن خلفيته. وتلازماً مع ما حرّمه حضرة بهاء الله في إقامة مجتمعات رهبنة، شجع اتباعه على المشاركة مشاركة كلّية في العالم فتفضّل قائلاً (أن اهتمّوا اهتماماً بالغاً بما يحتاجه عصركم وركّزوا مداولاتكم في متطلباته ومقتضياته.)32 ولهذا يُشجّع البهائيون أينما سكنوا على المساهمة بمشاريع التطوّر الاجتماعي ونشاطات المجتمع.
وهذه المشاركة في العمليات الاجتماعيّة هي ناحية من التعاليم البهائية التي تبرز فيها أهمية خدمة الإنسانية حيث أنه توجد علاقة متبادلة فيما بين الدرجة التي يخدم من خلالها الفرد وتقدّمه الروحاني. كلّما زادت خدمة الفرد زاد نموّه الروحاني وكلّما زاد نموّه الروحاني زادت فرص الخدمة أمامه. فعندما يشارك الفرد بروح الخدمة في نشاطات إجتماعيّة تتوّلد علاقة إيجابية متبادلة بينه وبين المجتمع تؤدي إلى نمو صفاته الروحانيّة وتطويرها. لذلك على الفرد ان يطوّر، من ناحية، مزاياه الروحانيّة ليتمكن من خدمة المجتمع خدمة بنّاءة ومفيدة، ومن ناحية أخرى فهو من خلال سعيه إلى مثل هذه الخدمات يتوصّل إلى اكتساب الفضائل الرّوحانية المرجوّة: يتوصّل الإنسان إلى تقدير أهمية صفة الأمانة وبالتالي يمتلكها عندما يساهم في أية مناسبة تتطلّب قيادة المجتمع ويتوصّل الإنسان إلى تقدير وامتلاك فضيلة العدالة عندما يساهم في نشاطات تسعى لتحسين حقوق الاقليات في المجتمع، أو يعمل على تخفيف الفقر حول العالم؛ ويتعلم الإنسان الصبر عندما يبدأ التعامل مع المتضررين والمعوزين في المجتمع. يؤدي هذا إلى بلّورة مفهوم يوَضّح أن مايعمل له البهائيون ليس خلاص الفرد بقدر ما هو خلاص اجتماعي جماعي. بكلام اخر، على الفرد ان يُركّز أفكاره وأعماله على مايؤدي إلى خدمة الغير، ويطوّر الخير العام ( والقصد هنا من الخير العامّ هو خير العالم بأسره وليس فقط الزاوية التي يحيا فيها الفرد). إن مجهود الفرد في مضمار الخدمة يغذي نموّه الروحاني، وبالتالي خلاصه مرتبط بشكل متداخل ومتلازم مع خلاص العالم. .(من كتاب-فهم الدين البهائي)
الهوامش
27 بهاء الله, Baha u llah,1983,p.143 (معرّب بتصرّف)
28 بهاء الله, مجموعة ألواح حضرة بهاء الله, ص 149
29 بهاء الله, Baha u llah, cited in Compilation 1,1991,pp.97-8 (معرّب بتصرّف)
30 عبد البهاء, المحفل الروحاني المحلي, ص19- (معرّب)
31 بهاء الله, كتاب الايقان, ص163, (معرّب)
32 بهاء الله, منتخباتي...,فقرة رقم 106 (Gleanings,CVI).(معرّب بتصرّف)
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟