|
الدولة وسياق العولمة
نجيب الخنيزي
الحوار المتمدن-العدد: 2915 - 2010 / 2 / 12 - 13:36
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
مفهوم الدولة – الأمة الكلاسيكي القديم ( بمفهومه الغربي )ارتبط تاريخيا بنشوء وتبلور البرجوازية وحاجتها إلى إقامة سوقها الرأسمالية ( القومية ) الخاصة مما فرض وتطلب القضاء على كافة أشكال التفكك والتشرذم الإقطاعي المستند إلى تعدد الو لاءات والانتماءات والروابط القديمة لصالح قيام رابطة قومية ( مدنية ) جديدة تحل محلها ، تعبيرا عن التبدلات البنيوية العميقة الحاصلة في البناء الطبقي – الاجتماعي ( التحتي ) وتشكل بناء سياسي – حقوقي ( فوقي ) يتناسب معها والتي تمثلت في مفهوم الدولة – الأمة ، في سيرورتها كمركز" مستقل "للتوازن وتنظيم الصراع وممارسة العنف وفقا للمصالح ( البرجوازية ) الطبقية السائدة ، وبغض النظر عن أشكال السلطة ( ملكية أو جمهورية ، ديكتاتورية أو ديمقراطية )التي تمظهرت فيها ومن خلالها الدولة الحديثة ألتي قررت أو ارتأت أنها تعبيرا عن مصالح الأمة ، تكفل الحماية والأمن للأفراد والجماعات عن طريق القانون وممارسة العنف المنظم ، إلى جانب المحافظة على الاستقلال والمصالح الوطنية ( الاقتصادية والسياسية ) العليا وسلامة الحدود ومنع تدخل الآخرين في شئونها ( السيادية ) الداخلية .ظلت هذه الصيغة محافظة إلى درجة كبيرة على حيويتها وتم تكريسها من خلال المعاهدات والتعاقدات الدولية والإقليمية ، كما ثبتت في نصوص مواثيق عصبة الأمم ثم منظمة الأمم المتحدة ، وفي الواقع فان ماشهده القرن العشرون من حروب دموية ومآس إنسانية شنيعة كما تمثل في الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وتفشي خطر الفاشية ، يعود في جانب رئيسي منه إلى الإخلال بهذه الصيغة والمبادئ التي قامت عليها الدولة الحديثة ، حيث خاضت الدول الرأسمالية الكبرى في ما بينها حروبا مدمرة من اجل إعادة النظر في الخرائط والحدود بغرض التوسع والتمدد واقتسام حصة اكبر من الأسواق والثروات و الأراضي بما في ذلك أراضي المستعمرات ، أما شعوب المستعمرات التي أجهض تطورها الطبيعي واندثرت معالم الدولة فيها نتيجة السيطرة والتدخلات الاستعمارية ( الكولينيالية ) فقد كافحت من اجل نيل الحرية والسيادة والاستقلال وبناء الدولة ، علما بان بعض المجتمعات في مايعرف بالعالم الثالث لم تعرف في تاريخها مفهوم الدولة وكانت تعيش مرحلة البربرية وتسودها العلاقات المشاعية القبلية والعشائرية القديمة حين دخلها الاستعمار . من هنا نبعت الفكرة الغربية ذات الطبيعة العنصرية والاستعلائية حول الدور ألتمديني المزعوم التي قامت به الحضارة الغربية ، متناسية أن العديد من تلك الشعوب ( المتخلفة ) شهدت قيام العديد من الدول والتجمعات الحضرية العريقة واستمرت لآلاف السنين . لقد مرت الدولة تاريخيا بأطوار متعددة ولعبت أدوارا مختلفة ، وما شاهدناه من التراجع المستمر لدور الدولة ( إلى ما قبل الأزمة المالية والأقتصادية العالمية الراهنة ) على مدى العقود الثلاث الأخيرة من تأكل سلطتها وتقلص مهامها خصوصا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بمستويات ودرجات متفاوتة هو احد التجليات المباشرة في ظل العولمة، التي أنهت دولة الرعاية الاجتماعية ( النظرية الكنزية ) التي سادت في المجتمعات الغربية في فترة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينات والتي اتسمت بالتدخل القوي للدولة في النشاط الاقتصادي وصياغة تشريعات اجتماعية لحماية حقوق العاملين والتخفيف من حدة التباينات الطبقية – الاجتماعية الواسعة و التصالح بين الرأسمال والعمل للحد من جاذبية الأفكار الاشتراكية وتأثير الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي . غير أنه و منذ مطلع الثمانينات من القرن المنصرم شهدنا الصعود القوي لليمين والقوى المحافظة وخاصة ما عرف " بالريغانية " في الولايات المتحدة و "التاتشرية " في بريطانيا وغيرها من البلدان الرأسمالية المتقدمة ، وتعمق هذا التوجه مع الإستفراد الأمريكي في الهيمنة العالمية ، في اعقاب انتهاء الحرب الباردة وزوال المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي العد و اللدود للغرب. تلك العوامل وغيرها أدت إلى ترسيخ مابات يعرف " بالليبرالية الجديدة "و ظاهرة " المحافظون الجدد " في المجتمعات الغربية ، الذين نادوا بضرورة استقالة الدولة عن وظيفتها ومهامها الاقتصادية والاجتماعية وإطلاق العنان أمام قوى وقوانين السوق الحرة وإلغاء وإزالة كل القيود والعقبات من أمامها على مستوى الحكومات والدول والعالم باسره . و قد مثلت أطروحات فوكوياما حول نهاية التاريخ والايدولوجيا والانتصار النهائي لليبرالية وقوانين السوق ، ونظرية صمؤيل هينجتون حول صدام الحضارات وأفكار برنارد لويس حول حتمية الصراع بين الغرب والإسلام وغيرهم من المنظرين اليمينين الإطار الاديولوجي للمحافظين الجدد ، والتي تعتبر الإدارة الأمريكية ا السابقة الممثل النموذجي الفاقع لها . إذ انه في أعقاب أحداث 11سبتمبر 2001الارهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة فان الأجندة والتوجهات الإستراتيجية الأمريكية أخذت منحى ومنعطفا جديدا تمثل في إعلان الولايات المتحدة حربها المفتوحة ضد الإرهاب ، فيما عرف بالحروب الإستباقية على مستوى العالم والذي يشمل الجماعات الإرهابية والدول التي تساندها أو تشكل قو اعد أمنة فيها ووفقا لذلك أخذت الولايات المتحدة تفويضا أمميا لإسقاط نظام " طالبان " في أفغانستان ومطاردة فلول القاعدة وزعيمها بن لادن ، وفي الحالة العراقية فان الولايات المتحدة وبريطانيا اتخذتا قرار غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين دون تفويض دولي وتحت مبررات تكشف زيفها ، مع انه في الحالتين جرى فيها إنهاء نظام قرسطوي ( إفغانستان ) متخلف وهمجي ، و حكم قمعي وفاسد واستبدادي ( العراق ) بحق شعبه ، مثلا بحق عامل توتر وتهديد للأمن والاستقرار الإقليمي . ومع إن التاريخ وفقا لماركس لا يتكرر وإن تكرر فمرة بشكل مأساة ومرة بشكل ملهاة ، هناك مؤشرات جدية لتفاقم ألازمة بين الولايات المتحدة وإيران ، حيث أخذت مسار وبعدا خطيرا بسبب الموضوع النووي ومسائل أخرى تتعلق بالعراق ولبنان وفلسطين وما تعتبره واشنطن دعم إيران للإرهاب ، ويندرج في هذا الإطار الأزمة مع كوريا الشمالية بسبب الموضوع النووي وحقوق الإنسان ، كما نستذكر الأزمة مع ليبيا حول قضايا مشابهة قبل أن تتراجع الأخيرة وترضخ للمطالب الأمريكية . فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط بوجه عام فان الولايات المتحدة ( وخصوصا في عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش ) أخذت على عاتقها أعادة صياغته من جديد وفقا لمشروعها المعروف " الشرق الأوسط الكبير "الذي أقرته قمة الدول الثماني في لندن ( يونيو 2004) والذي اخذ لاحقا تسمية " الشرق الأوسط الجديد " ثم " الفوضى الخلاقة " وفقا لتعبير وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس ، والذي تضمن محاور أساسية معلنة من بينها تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح وبناء مجتمع معرفي وتوسيع الفرص الاقتصادية وكذلك تحديد آليات تطبيقها وهو ما أثار حفيظة الدول العربية واعتبرته تدخلا في شئونها الداخلية ويمس سيادتها الوطنية ، خصوصا ما يتعلق منها بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والدفاع عن حقوق الأقليات الاثنية والدينية والطائفية ومواضيع أخرى مثل حقوق المرأة ومكافحة الفساد وتجفيف منابع الإرهاب عن طريق إعادة النظر في الخطاب الديني – الإعلامي والمناهج الدراسية وغيرها . هذه الأطروحات سرعان ماجرى التراجع عنها في ظل الفشل الواضح في العراق وإفغانستان ، وتدني الثقة لدى الشعوب العربية والإسلامية في مصداقية الولايات المتحدة والغرب عموما مع التداعيات المأساوية للإحتلال وما تكشف من ممارساته الشنيعة . السؤال الذي يطرح نفسه هنا :ما هي المعايير التي تتحدد من خلالها مشروعية التدخل من عدمه وما آليات هذا التدخل ومراميه ومقاصده وحدوده وتوقيته ومن هي الجهة التي من حقها الاضطلاع بهذا الدور ؟المسألة هنا لا تتعلق بجواز أو عدم جواز حق التدخل والحماية في البلدان التي يتعرض فيها المواطنون أو جزء منهم لأعمال الإبادة و القمع والتضييق والتمييز لأسباب تتعلق بانتماءاتهم السياسية والفكرية أو بمنحدراتهم العرقية والدينية والطائفية . التدخل الأممي على الصعيد النظري ، هو تعبيرا عن المصالح والأهداف والقيم الإنسانية الكونية المشتركة في عدم إفساح المجال لأي طاغية و حاكم جائر في التلاعب بمصائر شعبه ومواطنيه ، أو تهديد ه للأمن والأستقرار والسلام الإقليمي والعالمي . ولكن المشكلة تتعلق فيمن هو مخول بتحديد الحالات التي تستوجب التدخل ومدى ارتباط ذلك بالمصالح الإستراتيجية للدول المهيمنة على القرار الدولي ، ومحاولتها فرض المعايير المزدوجة في تطبيقه . ليس أدل على ذلك من تجاهل الولايات المتحدة والغرب عموما وغض الطرف عن إستبداد وانتهاكات الدول الحليفة لها في المنطقة ،أو في بلدان لا تشكل وزنا بالنسبة لمصالحهم الإستراتيجية ، ناهيك عن تجاهل الجرائم البشعة ألتي ترتكبها إسرائيل ضد حقوق الإنسان والمدنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة وما تمارسه من الحصار والتجويع الاقتصادي بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عقابا له على فوز حركة حماس ( بغض النظر عن الموقف منها ) في انتخابات حرة و شرعية ، والأمر ذاته ينسحب على ما تملكه إسرائيل من ترسانة نووية جبارة تشكل مصدر تهديد جدي للدول العربية ولمجمل الأمن في المنطقة والعالم ، وذلك في الوقت الذي يجري تصعيد المواجهة ( بما في ذلك التلويح بالتدخل العسكري ) ضد إيران بسبب الموضوع النووي وبغض النظر عن المخاطر الكبيرة الناجمة التي ستلحق بعموم المنطقة والعالم .
#نجيب_الخنيزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يخرج العرب من التاريخ ؟
-
هل يصلح أوباما ما أفسده بوش؟ ( 6 )
-
باراك أوباما والتركة الداخلية الثقيلة ( 5 )
-
هل ينجح أوباما في إستعادة - الحلم الأمريكي - ؟ 4
-
تحت شعار «التغيير».. انتصار كاسح لباراك أوباما ( 3 )
-
ظاهرة أوباما في المشهد الأمريكي ( 2 )
-
ظاهرة أوباما تعبير عن أزمة أم مؤشر للتغيير ؟ ( 1)
-
الميزانية والميزان 3
-
الميزانية والميزان 2
-
الميزانية والميزان «1»
-
الذكرى الأولى لرحيل المفكر والمناضل المصري الكبير محمود أمين
...
-
ظاهرة الصالونات الأدبية الثقافية وتصدّر القبيلة والطائفة
-
لايزال يحدونا الأمل.. برجوعك ياأبا أمل
-
معوقات قيام مؤسسات المجتمع المدني ( 9 )
-
ثقافة الفساد
-
التمايز ما بين المجتمعين الأهلي والمدني ( 8 )
-
نشوء الدولة المركزية السعودية والمجتمع المدني ( 7)
-
السجال حول طبيعة الدولة في الإسلام ( 6)
-
التيارات الاصولية والموقف من الدولة المدنية (5 )
-
الدولة العربية الحديثة ومستلزمات المجتمع المدني ( 4 )
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|