|
عناق الأحبّة يتعانق مع فضاءات الأدب
صبري يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 886 - 2004 / 7 / 6 - 04:47
المحور:
الادب والفن
تعقيب صبري رسول على قصّة: "حالات إنفلاقيّة قُبيل الإمتحان" اـ: صبري يوسف
العزيز جداً صبري يوسف . لك تحية من كازية سيد أحمد بديريك إلى محطة باب الشرقي بدمشق . صحيح أننا نحمل نفس الاسم ( صبري ) وصحيح أننا من نفس المدينة ( ديريك ) وصحيح أننا ننتمي إلى المدرسة الفنية والكتابية نفسها وإن كنت أكبر مني سنا وعلما وفي فن الكتابة . لكن كل ذلك لا يعطيك الحق لتكتب سيرتي الذاتية وبهذه التفاصيل . العزيز صبري الفنان : لما تكتب القصص لم لا تذكرني معك ؟ ألم أكن واقفا في طابور المحطة ؟ ألم تأتينا تطلب الماء وهو مقطوع حتى عندنا ؟ ألم ألم ألم سؤال وألم ؟ ننام على بحر من الماء ونحن عطشى ، وعلى بئر من النفط ولا كاز لدينا . وعلى مساحة واسعة من الأرض ولا نقدر نتنفس . أكتفي بهذا عزيزي الرائع . فقط ملاحظة صغيرة : لمَ ابتعدت عن لغتك الشاعرية في هذه القصة ؟ أم إن الألم من تلك المواقف غلب على شاعريتك الفنية . رغم ذلك لغتك القصصية جاءت موفقة إلى حد جيد ، لكنني أردت زيادة في الانزياح الشعري . ردّ صبري يوسف على تعقيب صبري رسول الصديق العزيز القاص الحميم صبري رسول، مَن قال لكَ أنّكَ ما كنتَ في الطابور الطويل، مَن قال لكَ أنني أنساكَ عندما أنسج قصصي وأشعاري، أنتَ والأصدقاء الرائعين ململمين بين خمائل قصصي وأشعاري لكنّكم مسترخين في الزوايا الخفية من ثنايا القص، لغتي الشعرية إنزاحت في هذا النص لأن جوّ النص فرض نفسه بهذه اللغة وقد جاءت القصة وصفية سردية خالصة لم تترك بيدونات الكاز الفارغة أفقاً للجموحات الشعرية كلما كنتُ أحلّق بومضة شعريّة خفيفة كانت بيدونة الكاز تجحظ عينيها ساخرة منّي، تسألني هل الآن وقت الشعر ووقت جموحاتكَ يا شيخ؟! فكنتُ أتلملم على ذاتي المهشّمة مطيعاً بيدوناتي البائسة، على أمل أن أعود يوما إليها وأكتب شعراً وأنثره على جراحنا المثخّنة بالعذاب، هل تعلم أن كازيّة "سيّد أحمد أسعفتني عشرات المرّات من هكذا ورطات" وكان يرحّب بي ببشاشة وأملأ بيدوناتي وأنا شامخ القامة وكأنني فاتح الأندلس من جديد، لكنّ عندما كنتُ أعبر المسافات حيث المقررات السميكة تنتظرني بفارغ الصبر، وسماكات الحزن تلاحقني وتحاصرني على الجانب الآخر، ... هنا يفرحني أن أسرد لكَ مايلي، حصل معي مرة نكتة رائعة في جامعة حلب، أيام زمان كنتُ آنذاك أدرس الأدب الإنكليزي في تلكَ الجامعة العريقة، وكنتُ بصحبة أحد الزملاء على ما أظن كان يحمل إسم "أحمد" من حمص، وهذا الأحمد كان شرهاً للقراءة والتحضير بشكل غريب وعجيب، واستضافني وسهرنا عنده نحضّر في المدينة الجامعية حتى الساعات الأولى من الصباح، ثم خصّص حضرته أن ننام بحدود ساعة واحدة فقط قبيل الإمتحان، ثم فجأةً وفيما كنتُ في سابع نومة، وإذ به يوقظني من نومي العميق، وتعرف جيداً نحن أبناء الشمال عندما ننام ننام بعمق حتى ولو كانت الزلازل تتزلزل من حولنا، لدينا طابع غريب في إستسلامنا للنوم العميق رغم عمق جراحنا وآهاتنا! لكننا نعرف كيف نتوازن مع أحلامنا المتلاطمة عبر نومنا الهادئ، فنهضت من نومي وأنا نائم فعلاً ثمّ إرتدينا ألبستنا الجامعيّة ومن السرعة زررتُ أزرار قميصي بغير أماكن العروة المخصّصة لكل زر فجاءت قميصي"مجوجقة" بشكل ملفت للإنتباه والسخرية أيضاً ولم أنتبه إلى"جوجقات" القميص ثم ركضنا بإتجاه مدرّج الجاحظ في كلية الآداب، نركض وكأننا نطارد لصّاً إختلس تعب عمرنا، وكنّا نصادف على الدرج الذي نهبط عليه مَن يصعد ونحن ننزل بسرعة البرق فكان الصاعدين يخلون إلينا الطريق بخوف وتساؤلات عديدة تراودهم، لم أجد نفسي إلا في مدرّج الجامعة متلملماً على كرسي متاخم للطاولة الكبيرة التي عليها أوراق الإمتحان بجانب أحد المراقبين وبعد أن أخذت نفساً عميقاً وهدأ قليلاً روعي، سألته هل هذه هي قاعة الجاحظ؟ فقال أيوه ، ألا تعرف قاعة الجاحظ بعد ؟ فقلت له أعرفها لكنّي ما أزال نائماً، فضحكَ وقال لي هل أنتَ نائم الآن ، هززت رأسي قائلاً أيوه، نصف نائم! ثم نظر إلى ساعته وقال لي أنتَ متأخّر بحدود نصف ساعة لكن لم يخرج أي طالب من القاعة لهذا بإمكانكَ أن تتقدّم للإمتحان، والطريف بالأمر أن مادّتنا كانت قصة قصيرة، حيث كنا نقرأ قصص قصيرة ونمتحن بها إنكليزياً، وأنا كنتُ اتحايل أحياناً على الدكتور المشرف وما كنتُ أداوم أصلاً بالجامعة فكنتُ عندما يطلب منّا أن نلخص قصة ما ونحللها والخ كنتُ أكتب قصة من خيالي وأحللها كما يحلو لي، كنتُ أفكر بالعربية وأترجم أفكاري القصصية وتعقيباتي وتحليلاتي إلى الإنكليزيّة وأجمل ما في هذا اليوم هو أنني بعد أن أصبحت في برّ الأمان وسُمِحَ لي بالدخول إلى قاعة الإمتحان وأعطتني المراقبة اسئلة الإمتحان وأوراق المسودة والمبيضة نظرت إلى الأسئلة كي أقرأها فوجدت نفسي نائماً ولم أستطع أن أقرأ سطراً من الأسئلة لأن الإرهاق والنعاس غلبني وجسمي كان منهوكاً من باصات "الهوب الهوب" التي تنقلت بها من سماء ديريك إلى القامشلي فالحسكة ثم بقدرة قادر حصلت على بطاقة كرنك من الحسكة إلى حلب، نظرت إلى المراقبة وطلبت منها طلباً غريباً، فضحكت ثم توارت بعيداً ثم رفعت يدي ثانية فجاءت وقلت لها يا شيخة أطلب منكِ المساعدة لمعالجة امري فتقهقهين من الضحك وكأنّكِ في مسرحية كوميديّة، فقالت : ومَن قال لكَ أن عروضكَ لا تضاهي مسرحيّة كوميديّة فعلاً؟ فقلت عروضي أنا، أية عروض، يا آنسة؟ قلتُ بنوع من الجدّية غير الناجحة لأنني كنتُ خائر القوى! فقالت تطلب منّي أن تنامَ وتأخذ غفوة لمدة نصف ساعة من النوم كي أوقظكَ بعدها لتكتب إجاباتكَ وقد جئت متأخرّاً بحدود نصف ساعة، كيف ستجيب عن الأسئلة لو تنام نصف ساعة وأنت متأخر أصلاً، فحاول أن تكتب وتستغل الوقت، فقلت لها لكني مرهق وأحتاج إلى غفوة خفيفة كي أكسر نعاسي، فضحكَت بنعومة هذه المرة وقالت نصف ساعة فقط أوكي! فقلت لها بالضبط نصف ساعة وقلت لها بلّغي المراقبين أن لا يوقظوني من النوم رجاءً! فضحكت ثم توجّهت نحو المراقبين وبلّغتهم!.. كنتُ أسمعُ قهقهاتهم من بعيد ثم إستسلمت لنوم عميق على طاولة الإمتحان واضعاً رأسي فوق يدي وفيما كنتُ في أعماق الغفوة، جاءت المراقبة وأيقظتني فجفلت وقلت يا إلهي تأخّرت عن الإمتحان، ثم هدّأتني وقالت لا لا تقلق أنت في قاعة الإمتحان، فقلت حلو .. طلبت من المراقبة كأس ماء، وفعلاً بعد لحظات جاءتني بكاس ماء بارد، شربت نصفه ودلقت الباقي على وجهي أغسل وجهي كي أصحى من نومي وشرشرت الماء على الأرض وكأنني بين سهول القمح أبلّل وجهي من ضجر الأيام، ثم قلت للمراقبة بعدئذ سأنظّف الأرض من الماء فقالت ولا يهمّك ، أنتَ فقط اكتب، وبدأت أقرأ الأسئلة، قرأتها بهدوء نظرت إلى ساعتي ، بقي من الزمن بحدود ساعة وربع وكان قد مضى بحدود ساعة وربع، ثم طويت أوراق المسودة لأنها ما كانت تلزمني وبدأت أجيب عن الأسئلة وأنا في عوالم النوم والصحو، فجاءت اجوبتي مطابقة لعوالم قصصي التي أحللها وأكتبها وأصيغ موجزاً عنها لكن الذي كان يغيظني هو أن بعض المفردات التي كنتُ أحتاجها بالإنكليزية كانت تقف حجر عثرة أمامي مما كانت تجعلني أنرفز وأبحث عن بديل عنها وأحياناً كنتُ اضطر تغيير الجملة كاملة كي أبدل الكلمة التي أنوي كتابتها وكم من المرات كنتُ أتذكر الكلمة الضائعة بعد أن أكون قد إستبدلتها بكلمة أخرى ، في تلك اللحظات كنتُ اشعر بأهمية الزمن والوقت وأهميّة الهدوء وأهمية الحياة وأهمية الدوام وأهمية الغنى والفقر، لكن يا صديقي صبري رسول، هذا قدرنا، نعم قدرنا أن نكون من فقراء هذا العالم، وان نكتب على وجنة القمر وعلى حافات أحلامنا وهفهفات غفواتنا، انتهيت من كتابة الأجوبة ولست متأكّداً فيما إذا كنتُ نائماً تماماً أم نصف نائم عندما أجبت عن الأسئلة، لكنّي كنتُ متأكدّاً أنني ملأت الصفحات الأربعة كاملة، كان إنتقالي إلى السنة الثانية متوقّف على هذه الماّدة ، صدرت النتائج، ومررت في طريقي على الكليّة صيفاً فيما كنتُ في طريقي إلى محردة، وسألت شؤون الطلاب عن نتيجة المادة وبعد لحظات جاء الموظّف قائلاً، هل أنتَ متأكّك أنّكَ تقدّمت للمادّة؟ فقلت له بالتأكيد ، وبالعلامة نمت نصف ساعة في قاعة الإمتحان ولدي شهود عيان على ما أقول! فضحكَ الموظف قائلاً رجاءاً لا تنكت علينا يا أستاذ، فقلت له مَن قال لكَ أنني انكّت ، ثم أخذ إسمي ورقمي وغاب في ممرات الجامعة وجاءني وهو يضحكُ ملء شدقيه ، وقال إبشر، فقلت شو: حنطة أم شعير فقال حنطة! فرحت كثيراً جدّاً، لم أفرح في حياتي بنجاحاتي الإمتحاناتيّة مثلما فرحت بنجاح تلكَ المادّة لأنها جاءت بقالب أبهى من القصص التي أكتبها كلها جاءت قصة مفروشة على جدار الروح وكلما أحاول أن اكتبها أشعر بضرورة أن أتركها معلّقة بين جنبيات خمائل الذاكرة متلألئة، يبدو أن شهقة عشقية تجذبني أن أكتبها عبر هذا لعام كي أخفف من وهج الشوق إلى أيامي الخاليات! هل كنتَ أنتَ مَن رافقني تلكَ الليلة أم أنّكَ سلطتَ علينا صديقكَ وحصل معنا ما حصل؟ ويبقى الشوق إلى تلال الذاكرة الخفية البعيدة منقوشاً على وجنة الروح! لكَ منّي عميق بهجتي وإشتياقي أيها الصديق العزيز العزيز، وهذه وردتي الندية أقدمها لكَ رغم أنف الصقيع ورغم نومنا العميق في ديار الغربة، غربة الإنسان عن أخيه الإنسان هي أخطر غربة تشرخ خدود القمر!
صبري يوسف ـ ستوكهولم
إليكم قصّة: حالات إنفلاقيّة قُبيل الإمتحان، لِمَنْ فاته قراءتها
استقبلتني الكتب المبعثرة على الرفوف المغبرّة. الغرفة الحزينة تلتمس الشمس ولكن النافذة البائسة تأبى عبور الدفء إليها. تراكمَت اللوحات الفنيّة في إحدى الزوايا وتناثرَ بعضها على الجدران، وأوّل ما يخطر على بال الزائرين أنَّ أحد الفنّانين يعيش بينَ أحضان هذه الغرفة. وضعتُ حقيبتي العاجّة بالكتب والأقلام بجانب ركام اللوحات التشكيليّة، ثمَّ أنزلتُ الحقيبة التي أرهقَتْ كتفي وتنفّستُ بعمق. فتحتُ الباب والنافذة اليتيمة على مصراعيهما كي يتجدَّد هواء الغرفة ولملمتُ الأشياء المتناثرة على الأسرّة وبدأتُ أنظِّفُ الغرفة من أعقاب السجائر والزجاجات الفارغة، ووضعتُ القاذورات في كيسٍ وربطته ثمَّ رميته في زاوية المطبخ. قدماي متورّمتان، حليتُ سيور حذائي وخلعتُ جواربي ورميتها عند عتبة الباب، ثمَّ استرخيتُ على كرسي خشبي ذي مساند ورحتُ أحدِّقُ بشرودٍ في سقفِ الغرفةِ .. رأسي كان يدور وخُيِّلَ إليَّ أنَّ المسافات التي أمتطيها لا تنتهي.
الحشرات الصغيرة تحتَ الأسرّة المتهرّئة كانت تدبُّ بأمان، وفي الزوايا العليا كانت تتشابكُ خيوطَ العناكب وتنام فراخها بمنأى عن ضجيجِ العالم!
تناولت صحيفة من بينَ ثنايا الكتب، قرأتُ عناوينها، ابتسمتُ بسخرية ثمَّ رميتها جانباً. نهضتُ متوجِّهاً نحوَ حقيبة الكتب، هززْتُ رأسي وزمَمْتُ شفتي. أمسكتُ قلماً ودوّنتُ بضع جمل على قصاصة صغيرة وهمستُ لنفسي: الإنسان يضيعُ بينَ متطلّبات الحياة المتعدِّدة، خاصّة في أوقات الامتحانات، وكلّما ازدادت المطالب، تعاظمَ النسيان. لهذا وجدتُ حلاً لهذه الحالات النسيانيّة من خلالِ القصاصات الّتي أدوِّنُ عليها ملاحظاتي.
وفيما كنتُ غارقاً في تأمُّلاتي، بدأتْ (عصافير بطني) تغرِّدُ أنشودة حزينة، فمررتُ يدي على محاذاة معدتي وقلتُ:
آهٍ .. لو كان بامكان الإنسان أن يتناول حبّة تغنيه عن الطعام لمدّةِ أسبوع كامل! .. تمنَّيتُ ذلكَ من كلّ قلبي، ولو توفَّرت هكذا أقراص ما كنتُ سأتوانى دقيقة واحدة عن شراء أربعة منها كي أتخلَّص من هموم اعداد الطعام وتناوله ضمن هذه الظروف المأساوية القاحطة .. ولكي أتفرّغَ بعدئذٍ لواجبات التحضير لهذه المقرّرات السميكة الّتي تنتظرني بفارغِ الصبر منذ شهور.
كان مواء القطط الآتي من المطبخ يرنُّ بأذني بشكلٍ متواصل، شعرتُ وكأنَّ القطط تتكلّم مع بعضها أثناء صراعاتها على النفايات. أمسكتُ مكنسةً وتوجَّهتُ نحوها فهربَتْ بعيداً تاركةً خلفها قشور الجبسِ والبطيخِ والنفايات مبعثرةً في المطبخِ الصغير. لملمتُ النفايات ووضعتها في كيسٍ وربطته باحكام. الفراشي كانت متناثرة على رفوف المطبخ وبقايا أدوات الرسم مرميّة هنا وهناك .. زوايا المطبخ مكتظّة باللوحات المرسومة على الكارتون، كانت الفئران تقضمُ ما يقع تحتَ أسناها الحادّة، وعندما كانت الألوان تذوبُ في أفواهها الصغيرة، كانت (تشعرُ بنكهة غريبة ولذيذة!).
فتحتُ (الحنفيّة) لأغسل يدي فخرج من فُوَّهتها هواء مغيظ، بصقتُ بغضبٍ مشحون بانفعالات الرفض لواقعي المرير. أرهفتُ سمعي إلى خشخشةِ الفئران، تألَّمْتُ عندما سمعتها تقضم اللوحات الملوّنة الّتي رسمها فنّان تشكيلي في الليالي الحنونة.
وضعتُ يدي في جيوبي، أبحثُ عن منديل، العرق تصبَّبَ على جبيني، قلبتُ الغرفة رأساً على عقب ولم أعثر على منديل .. العرق ازداد انصباباً .. شعرتُ (بضآلة حجمي) وضخامة غيظي وامتعاضي .. تناولتُ (منشفةً) متَّسِخةً، مقرمطة ومسحتُ عرقي ثمَّ دخلتُ الحمّام.. (بابور الكاز) كان ينتظرني منذ شهور، تفقدّتُ الأواني البلاستيكيّة، كانت مكوَّمة على بعضها .. وجدتُ في أحد السطول ماءً ملوَّثاً، تراكمَت على سطحه فقاعات الصابون والأوساخ .. أمسكتُ السطل وأفرغتُ ماءهُ في البالوعة. اغتظتُ جدّاً عندما وجدتُ تصريف المياه مسدوداً. جلبتُ عوداً ووضعتُه في المكان المسدود، وحرّكتُ النفايات والحثالات المتراكمة في الأسفل، لأفتح الانسداد وأجرف القاذورات المتراكمة ، ولكنّ الانسداد كان عنيداً وسرعانَ ما شعرتُ بدوار في رأسي وامتلأ صدري برائحة نتنة، انتشرتْ سريعاً في أرجاء المكان من جرّاء تحريكِ الأوساخ المتفاقمة في القاع. قطعتُ نفَسَي وسددْتُ أنفي ثمَّ قادتني ساقاي بعيداً عن الروائح العفنة. استقبلتني مرّةُ أخرى الكتب المبعثرة على الرفوف وانتشرَتِ الروائح الكريهة تلاحقني وتتعقّبُ خطاي، فأسرعتُ أغلقُ الباب والنافذة الكئيبة، ورحتُ أكفر بهذه العفونات التي (تطوِّقني) وأنا غائصٌ في الهموم حتّى أذني، ثمَّ بدأتُ أقلِّبُ كتبي ودفاتري، أبحثُ عن جدول مواعيد الامتحان .. أهزُّ رأسي متمتماً: (آهٍ .. يا أيُّها الزمن الملوَّث بروثِ البقر!) .. المادّة المقرّرة أن أقدّمها بعدَ ثلاثة أيام هي: "بحوث اجتماعيّة" .. يا حبيبي! جحظَتْ عيناي وأنا أردِّدُ: بحوث اجتماعيّة، عشنا و(شفنا) بحوث اجتماعيّة .. ناجيتُ أعماق أعماقي قائلاً:
لا بدَّ من إيجادِ حلّ لهذه الروائح العطنة الّتي تطوِّقنُا، ولا بدَّ من فتح هذه الانسدادات الّتي تقف في (طريقنا)، ولا بدَّ أن نجرفَ خزعبلات آخر زمان بعيداً عنّا كي نتنفّس هواءً نقيّاً ونفرش حولنا الزهور الفوّاحة .. ماذا قلتُ؟ .. الزهور الفوّاحة! .. زمان .. كنّا صغاراً، كنّا نمرحُ بينَ سهول القمح وكان النرجس البرّي يملأ صدورنا شذى .. وعندما شبَبْنا عن الطّوق وأحببنا أن نعبرَ بوّابة الحياة من بابها العريض، ارتطم رأسنا بهذه العفونات الّتي أدمَتْ خاصرة الشباب في وضحِ النهار.
وفيما كانت الهموم والاحلام تتقاذفني، نهَضتُ وأمسَكتُ كيساً مِنَ (النايلون) ودسسْتُ يدي فيه ممسكاً بنهاياته ثمَّ فتحتُ الباب ووضعتُ يدي اليسرى على انفي سادّاً إيّاه .. وقَطَعتُ نَفَسي ثمَّ توجَّهتُ بسرعة خاطفة نحوَ الانسداد البغيض وأدخلتُ يدي اليمنى إلى القاع وبدأتُ أنظِّفُ المجاري التي كوَّمتها النفوس (البليدة) .. ثمَّ عدتُ بأقصى ما أستطيعُ من سرعة وأغلقتُ الباب وزفرتُ شهيقي المحبوس . وبعد لحظات أعدتُ الكرّة من جديد، وتتالت عدد الكرّات وبعد محاولات عنيدة ومدروسة، استطعتُ أن أجرفَ الحشرات والعفونات المتراكمة عبر المجاري .. بعدها أرخيتُ جسدي ورحتُ أصفنُ شارداً، مستسلماً لأحلامي المتلاطمة كالأمواج .. وفجأةً قطعَ شرودي زعيق طفل، كان يشاكس أخته الصغيرة، حاولتُ أن ألتقطَ خيوط الحلم وأسبح في فلكه ولكنَّ زعيق الطفل المتواصل شتَّتَ الحلم وأصبحَ من الصعبَ عليَّ التخلُّص من ضجيجِ الواقع.
مررتُ يدي على جبيني، خلعتُ قميصي .. فاحت رائحة العرق من ابطيّ .. كم كنتُ بحاجة إلى حمّام ساخن، يزيل عن جسدي غبار الأيام. تنفَّستُ (بطريقةٍ انفلاقيّة) وقلتُ: الماءُ مقطوع أغلب الأحيان في حيِّنا والأحياء الوضيعة الأخرى، شعرتُ في قرارة نفسي أنَّ مشكلة الاستحمام لا تقلُّ صعوبة عن خوضِ الامتحان!
توجّهتُ نحوَ الحمّام، السطولُ كانت خاوية. أمسكتُ سطلاً ثمَّ خرجتُ أستجدي ماءً من الجيران!
مرحباً خالة.
أهلاً عين خالة.
ممكن تتكرّمي علينا بسطل ماء؟
يا ريت يا ابني، (بَسْ والله) الحنفيّة مقطوعة من أوّل البارحة.
طيّب كيف تعيشون بلا ماء؟
خلّيها على الله يا ابني، (ليش هايه عيشه هيّه!) ..
(ويستمرُّ الحوار حول مسائل الانفلاق) .. ثمَّ أعودُ خائباً، وأطرقُ أبواب الجيران تباعاً، وبعدَ جهدٍ جهيد يتكرَّم عليَّ أحد الجيران الّذين يخزّنون الماء ضمن براميل كبيرة.
دخلتُ الحوش وأنا حريص على سطل الماء من الاندلاق. عَبَرْتُ الحمّام ثمَّ بدأتُ أحقنُ (البابور) .. هزَزْتُ رأسي بشكل سريع ونفختُ نفخات متقطِّعة بشيءٍ من الاغتياظ ثمَّ جمعتُ لعابي في فمي وبصقتُ بغضبٍ وأنا اردِّدُ عبارات معيّنة، اعتدتُ أن أردِّدها عندما أكونُ مستاءً وغاضباً جدّاً.
كانَ بابور الكاز حلقه جافّاً، كم كانَ بحاجة إلى لترٍ من الكاز كي يبلِّلَ ريقه الجاف .. حتّى البوابير عطشى!
وكان مقرّر المادّة على الطاولة ينتظرني، كي أمرَّ عليه مرور الكرام على الأقل .. والبابور أيضاً كان ينتظرني. انتابتني حالة غليانيّة فريدة من نوعها، وبدأ جسدي المعرَّق يلعنُ هذه الأبجديات العفنة التي كانت تحيق بي من كلِّ جانب. أمسكتُ (بيدونة) الكاز الفارغة ثمَّ خرجتُ أبحثُ عن لترٍ من الكاز. كان (الكفر) يتطاير من فمي كالشرارة الملتهبة. شعرتُ أنّي لا أختلف عن (أيّةِ حشرة تدبُّ) على الأرضِ. تذكَّرْتُ طلابي وطالباتي وهمستُ في سرّي ساخراً من طموحاتي وقبضتي مشدودة على (بيدونة) الكاز!
وهناك عند مفرق حيِّنا انتظرتُ الباص طويلاً، ولمّا لم أحْظَ بباص، اضطررتُ أن أركب (سيرفيساً)، موجّهاً أنظاري إلى إحدى الكازيات القريبة من حيّنا.
يا لطيف .. يا لطيف! .. لم أجدْ نفسي إلا وأنا محشور خلفَ طابور طويل.
ما أصعبَ الانتظار عندما يتطلّب من الإنسان القيام بعدّة أمور في وقتٍ واحد! .. الأفواجُ البشريّة تنتظرُ أدوارها للحصول على قليلٍ من الكاز، ولكن الأدوار كانت تتداخل وذوو البطون الممطوطة والرقاب الغليظة كانوا يخرقون الأدوار ويركلون (البيدونات) الفارغة التي يصادفونها في طريقهم!
نظرتُ إلى ساعتي، الزمن ينهشني دونما رحمة، طابور البشر ازداد طولاً، والأمل في الحصول على لترٍ من الكاز أصبحَ وشيكاً ولكن! .. وآهٍ .. مِن لكن!
تمنَّيتُ لو كان كتابي معي، كنتُ سأستغلُّ الزمن وأتصفَّح بعض الفقرات الهامّة خلال هذه الفترة الانتظاريّة المرّة. كنتُ أغلي في داخلي كالبركان، ولعنتُ آلاف الأشياء .. وكنت أسأل قلبي الحزين: لماذا كلّ هذه الاعوجاجات؟! .. كنتُ حريصاً جدّاً على أيةِ كلمة ألفظها ضمن هذا الطابور الطويل. همستُ لنفسي أكثر من مرّة: (للحيطان آذان) .. وعندما جاء دوري، بعد فترة انتظاريّة مُرّة، توقّف عامل الكازية عن البيع وقال: انتهى الدوام اليوم.
وبانفعال قلت للعامل: أيُّ دوامٍ تتكلّم عنه يا ابن الحلال؟ .. ثمَّ استدركتُ انفعالي وبدأتُ أشرح للعامل ظروفي بهدوء، لعلّه يتحنَّن عليّ، لكنّه لم يكترث لظروفي وقال لي: يا عزيزي، ما ذنبي أنا؟ .. وتابع حديثه مردِّدَاً: أنا لستُ قاضياً كي أعالجَ مشاكل الناس، وأشار بسبابته نحو الطابور قائلاً:
إنَّ ظروف أغلب هؤلاء الناس لا تختلف عن ظروفكَ عن قريب أو بعيد، اعذرني فأنا لا أستطيع أن أعطيكَ كوباً واحداً من الكاز، لأنّني لو أعطيكَ سأضطرُّ أن أعطي لمَن هم حلفك، والطابور كما ترى له أوّل وليس له آخر .. من جهتي أنا أقدِّر ظروفكَ، ولكن كما ترى (ليس باليدِّ حيلة) و ..
أتدخَّل وأعقِّب بلطف على حديثه، موضّحاً له أنني اليوم آتٍ من أقصى الشمال الشرقي، وأنا بحاجة ماسّة كي أستحمّ و ..
قاطعني العامل قائلاً: ليس مهمّاً أن تستحمَّ اليوم، بإمكانكَ أن تستحمَّ غداً .. تعال باكراً في صباح الغد، سوف أعطيكَ لتراً من الكاز .. وإذا تريد، بإمكاني أن أعطيكَ لترين كاملين، وأستطيع أن أملأ لكَ بيدونتكَ الفارغة كلّها .. أيوه، أستطيع أن أساعدكَ غداً، نعم غداً في الصباح الباكر ...
كنت أهزُّ رأسي، وعندما قطعتُ الأمل، بدأتُ أشرد، وراح العامل يسرد لي همومه هو الآخر، وعندما وجدني أهزُّ رأسي يمنةً ويسرةً، محدِّقاً في الفراغ، تركني في حالي وغابَ بينَ الأزقّة، تاركاً خلفه بيدونتي الكاز فارغة.
عدتُ أدراجي وقلبي مقمَّط بأحزان الدنيا .. عندما عبرتُ الحوش، استقبلني مواء القطط، وقفتُ ذاهلاً .. فجأةً تراءَتْ أمامي مدرَّجات الجامعة، وتذكَّرْتُ أنَّ لديّ موعداً مع صديقتي قبل هبوط الليل، شعرتُ أن قلبي يشتعل بالأنين وتساءلتُ نفسي:
كيف سألتقي مع صديقتي وأنا بهذا الجسد المعرّق بالغبار؟ .. وأيُّ قميص سأرتدي؟ .. مقرَّر المادّة ينتظرني، وصديقتي! .. هل ستنتظرني طويلاً؟
كانَ رأسي يعجُّ بالأسئلة، تركتُ الأسئلة جانباً وبدأتُ أراقبُ حركات القطط وصراعاتها دون أن تراني .. وفجأةً تذكَّرْتُ بعض الغجر الّذين صادفتهم في حياتي، وتذكَّرتُ في تلك اللحظة الكثير من معاناتهم .. ثمَّ تراقصَتْ أمامي معادلة تتعلَّقُ بأبديات الغجر، وهزَزْتُ رأسي قائلاً:
يبدو أنَّ هؤلاء الغجر كانوا على حقّ عندما كانوا ـ مراراً وتكراراً ـ يقولون لي أنَّ الحياة القاسية علَّمتهم أنَّ التسوُّلَ مهنة من المهن!
الآن! .. تيقّنتُ أنَّ التسوُّلَ فعلاً مهنة من المهمن، تولدُ هذه المهنة بطريقةٍ أو بأخرى داخل الأوطان المكتظّة بالبيدونات الفارغة!!
ستوكهولم: 28 . 6 . 1992 صبري يوسف كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم [email protected]
#صبري_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النمل .................. قصّة قصيرة
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 399 ـ 400
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 397 ـ 398
-
من سماء ستوكهولم إلى الصديق سهيل إيلو ـ هولندة
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 395 ـ 396
-
التواصل الفكري والإنساني معيار حضارة العصر
-
يذكّرني -يوسف- ابن كابي القسّ بالخبز المقمّر
-
حوار مخلخل الأجنحة
-
لماذا لا يبني الإنسان علاقة نديّة مع العشب البرّي؟
-
الكتابة هي صديقة حلمي المفتوح على وجنة الحياة
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 393 ـ 394
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 391 ـ 392
-
تعقيب ملون بغربة لا تخطر على بال
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 389 ـ 390
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 387 ـ 388
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 385 ـ 386
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 383 ـ 384
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 381 ـ 382
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 379 ـ 380
-
أنشودة الحياة ـ 4 ـ ص 377 ـ 378
المزيد.....
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|