|
السَّيْطَرَةُ الهجْريَّة!
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 2913 - 2010 / 2 / 10 - 04:07
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
رزنامة الأسبوع 1-7 فبراير 2010 الاثنين هاشم عباس، موظف سوداني بدائرة البلديَّة والتخطيط في إمارة عجمان، ما زال يكدح، وهو في سني كهولته، ليكسب رزقه، ورزق أهله بالطبع، وليوفر مصروفات الدّراسة الجامعيَّة لولديه حاتم وعباس، طالبي الطبّ وطبّ الأسنان في الخرطوم. مرتب هاشم الشهري لا يتجاوز 5000 درهم. لكنه اكتشف، فجأة، مطلع الشَّهر الجاري، دخول مبلغ 5,196,881 درهماً في حسابه في أحد البنوك، بطريق الخطأ! فهل ارتبك، أو تردَّد، أو فكر مرّتين؟! لا .. وحياتكم، إنما أقدم، من فوره، على إخطار البنك لردّ هذا المبلغ المهول إليه (الإمارات اليوم، 3/2/10). أكثر ما يوجع في قصَّة هاشم هو سلوك البنك معه، فقد أكد للصحيفة، والعَبًرة تكاد تخنقه من شدَّة الغبن، أنه لم يتلق شكراً، ولا حتى اعتذاراً عمّا حدث .. "لا أريد مكافأة على أمانتي، فالمال ليس من حقي، ولكن مبادرتي تستحقُّ، على الأقلّ، اعتذاراً عن تجميد حسابي، بسبب خطأ لم اقترفه"! أرأيتم شيئاً كهذا من قبل؟! فقد عَمَدَ البنك الأنتيكة، دون أن يطرف له جفن خجل، إلى (تجميد) حساب الرّجل، ريثما يستردَّ المبلغ منه، طبعاً (خشية!) أن (يتصرَّف) فيه، مسبّباً له كلَّ ما يمكن تصوُّره من مضايقة وإزعاج! فتأمَّل! هذا بنك جمع اللؤم إلى الإهمال. وقسماً عظماً لو كنت من عملائه، لدعوت كلَّ العملاء الآخرين إلى جمعيَّة عموميَّة نقرّر فيها سحب ودائعنا منه، وتأسيس مصرف خاص نضع هاشم في قمَّة إدارته .. أمَّال إيه؟! رجل يعيد إلى بنك مطشّش كهذا مبلغاً يساوي مرتبه لأكثر من 86 سنة، أفلا يستحق أن يُعيَّن رئيساً لمجلس إدارته على أقلّ تقدير؟! بل لماذا، يا ترى، لم يترشَّح هذا الرَّجل الخرافي لرئاسة الجُّمهوريَّة ذاتها؟!
الثلاثاء أوردت صحيفة (الشرق الأوسط) أن نيابة أمن الدَّولة بالخرطوم قد استدعت، أمس 1/2/2010م، سبعة من رؤساء تحرير الصحف، وحققت معهم حول نشرهم موضوعات عن دخول نفايات إليكترونيَّة إلى البلاد، ثمَّ أفرجت عنهم بالضمان الشَّخصي، وأن النيابة أكدت على أن المعلومة غير صحيحة، وأنها تباشر التحقيق مع مصدرها نزار الرشيد محمد مصطفى، في البلاغ رقم (531) لعام 2009م، تحت المواد/66 (الأخبار الكاذبة)، و69 (الإزعاج العام)، و77 (الإدلاء ببيانات كاذبة)، و123 (التزوير)، وأن المذكور ليس خبيراً في النفايات الإليكترونيَّة، ولا دكتوراً في علم الفيزياء، ولا يحمل أيَّ مؤهّل، ولا حتى شهادة ثانوي، بل هو تاجر هواتف جوَّالة، وقد عجز عن شرح مصطلح (النفايات الإلكترونيَّة)، والأمراض التي ادعى أنها تسببها، وتراجع عن أقواله طواعية واختياراً، وأشار إلى أن أيَّاً من الوزراء الـ 36 الذين اتهمهم غير متورّط في هذا الأمر، وفشل، عموماً، في إثبات أيّ من ادعاءاته. كما أوردت الصحيفة أن نائباً برلمانيَّاً قال للصحفيين إن نفايات إليكترونيَّة دخلت البلاد في الفترة الماضية، ويُحتمل أن تكون مسرطنة، وقد تؤدي إلى الإضرار بصحَّة الإنسان، واصطحب مجموعة منهم إلى ضاحية المويلح، وأراهم ما يعتبره بعض تلك النفايات. كما أوردت الصحيفة أن المتهم نزار، الذي تقول إنه مسئول في منظمة تعمل في مجال الإليكترونيَّات، قد عقد مؤتمراً صحفيَّاً أكد فيه على أن لديه أدلة حول الموضوع. غير أن مجلس الوزراء بحث الأمر، الأسبوع الماضي، حيث نفى كلَّ الأنباء بخصوصه. وقال أحد مسئولي المجلس إن ما نشر غير صحيح، وتوعَّد بمقاضاة من أدلوا به. وكانت نيابة الصَّحافة والمطبوعات قد حظرت، قبلاً، النشر في هذا الموضوع، باعتباره قيد التحقيق (الشرق الأوسط، 2/2/10). لسنا معنيّين بالتعليق على فحوى هذا البلاغ، في هذه المرحلة، وما إن كانت المعلومات صحيحة أم كاذبة. ما يعنينا، تحديداً، هو لفت الانتباه إلى مسألة (حظر النشر)، كسلطة تمارسها النيابة بغير وجه حق، مع كونها من اختصاص القضاء وحده. وكنا كتبنا، في رزنامة 10/7/2007م، عن أن انتقال النيابة من التمترس خلف نصِّ المادة/130 من قانون الاجراءات الجنائيَّة لسنة 1991م، بعد أن انفضح أمرها، ونفض وزير العدل النائب العام نفسه كلتا يديه عنها، إلى التذرُّع بالمادة/115 من القانون الجنائي لسنة 1991م، إنما يكشف، بجلاء، عن التغوُّل الصارخ على سلطة القضاء، وعن النيَّة المبيَّتة لدى الجهاز التنفيذي، والنيابة جزء منه، لتقويض (حريَّة التعبير) و(الحقِّ في تلقي المعلومة ونشرها)، باعتبارها من الحريَّات العامَّة، والحقوق الأساسيَّة، وذلك بأيَّة وسيلة، وتحت أيَّة حُجَّة، حتى إذا لم يمكنها ذلك بالمادة/130 العجيبة، فليكن بالمادة/115 الأعجب منها! ما زلنا عند رأينا من أن الأوامر التي درجت النيابة على إصدارها للصحف بعدم نشر مواد أو أخبار معيَّنة حول مسائل قيد التحرِّي، بدعوى (عدم التأثير على سير العدالة)، إنما هي ذريعة لا يسندها أيُّ قانون! ضف إلى ذلك أن تسريبها بيانات صحفيَّة تحمل وجهة نظر الاتهام وحده، حول سير التحرّي، في أيّ بلاغ، أو حول نتائجه، مع حرمان الدفاع من ذلك، إنما هي، أيضاً، ممارسة ظالمة، كونها تنصُبُ (محاكمة إعلاميَّة) بالغة الجور لمتهم قد يبرئه القضاء غداً، ولا تستند، في ذلك، بطبيعة الحال، إلى أيّ قانون، أو قاعدة عدليَّة، أو وجدان سليم!
الأربعاء في قرارها بشأن الاستئناف المقدم من المدَّعي العام الدَّولي، في 6/7/2009م، ضد قرار الدَّائرة التمهيديَّة الأولى بالمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة، الصادر في 4/3/2009م، بعدم مقبوليَّة تضمين لائحة الاتهام ضد البشير تهمة (الإبادة الجَّماعيَّة) تحت الفقرة/أ من المادَّة/5/1 من نظام روما لسنة 1998م، قضت الدَّائرة الاستئنافيَّة، اليوم الأربعاء 3/2/2010م، لا بمقبوليَّة التهمة، كما فهم البعض خطأ للوهلة الأولى، وإنما بإلغاء ذلك القرار، بسبب ما رأت من خلل في معياريَّة الإثبات التي انبنى عليها في هذه المرحلة من الإجراءات، فأمرت، من ثمَّ، بإرجاع الملف إلى الدَّائرة التمهيديَّة، لتعيد النظر في طلب الادّعاء على ضوء معياريَّة أخرى أصوب وجَّهتها باتباعها. بتفصيل أكثر، رأت الدَّائرة الاستئنافيَّة، منذ البداية، أنها غير معنيَّة بتقرير ما إن كان البشير مسئولاً عن (الإبادة الجَّماعيَّة) أم لا، وإنما حصرت مهمَّتها، فحسب، في تقرير ما إن كان استبعاد الدَّائرة التمهيديَّة لهذه الفقرة من لائحة الاتهام قد تأسَّس على صحيح القواعد التي تحكم مستوى الإثبات في هذه المرحلة، أم لا. وقد أصدرت قرارها من هذه الزاوية القانونيَّة الإجرائيَّة البحتة فقط، حيث نعت على الدَّائرة التمهيديَّة اشتراطها أن يكون وجود (القصد) الخاص، واللازم لاكتمال أركان جريمة (الإبادة الجَّماعيَّة)، هو الاستنتاج الوحيد المعقول الذي يمكن استخلاصه من أدلة الادّعاء القائمة على (الإثبات بالاستدلال proof by inference)، معتبرة أن هذا المعيار يفوق ما هو مطلوب من الادّعاء، في الوقت الراهن، وفق المادة/58 من نظام روما، كونه يحمّله، بالمفارقة للقانون في هذه المرحلة من الإجراءات، عبء إقصاء أيّ شكّ معقول to eliminate any reasonable doubt. الشاهد أن قرار الدَّائرة الاستئنافيَّة لا يعني، بأيّ تأويل، إلزاماً على الدائرة التمهيديَّة الأولى بتغيير قرارها السابق، ولا حتى بعد تطبيق المعيار الذي وجَّهتها الدَّائرة الإستئنافيَّة باتباعه، وذلك لنفس الاعتبارات القانونيَّة الجَّنائيَّة الدوليَّة البحتة، والتي سبق أن سقناها، ضمن رزنامة 1/9/2008م، أي قبل صدور قرار الدَّائرة التمهيديَّة بستة أشهر، وتوقعنا، بناء عليها، أن ترفض هذه الدَّائرة مقبوليَّة توجيه تهمة (الإبادة الجَّماعيَّة) إلى البشير، كون الادّعاء نفسه لم يطلب توجيهها، من قبل، إلى هارون وكشّيب، في قضيَّة دارفور الأولى، ولا الدَّائرة التمهيديَّة أضافتها، من تلقاء نفسها، ما يعني أنها لم ترَ موجباً لذلك في الوقائع التي عُرضت أمامها وأدلتها، أخذاً في الاعتبار بمبدأ (سلسلة القيادة Chain of Command) التي تستتبع مسئوليَّة (الرئيس المتبوع) إلى مسئوليّة (المرءوسين التابعين)، وهو المبدأ الذي أرسته (محاكمات نورمبرج)، في عقابيل الحرب العالميَّة الثانية، واعتمدته الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة في دورة انعقادها الأولى، في سبتمبر 1946م، ضمن سبعة مبادي أساسيَّة للقانون الجنائي الدَّولي. مع ذلك، وبصرف النظر عن قرارات الدوائر المختلفة بالمحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة، وأخذاً في الاعتبار بتقاطعات القانون والسّياسة، وبالطابع العملي العاجل والضاغط لمشكلة دارفور، وبالعذابات الإنسانيَّة العريضة التي يعانيها سكان الإقليم، فإن العين لا بُدَّ تتجه نحو الحلول التي لاحت في معالجات الاتحاد الأفريقي لتحقيق السَّلام في دارفور عبر تحقيق العدالة للضحايا، وفي خطة ومقترحات لجنة حكمائه التي كوَّنها، لهذا الغرض، وشكلها برئاسة الرئيس الجنوب أفريقي السابق ثابومبيكي. نشاط هذه اللجنة كان واضحاً خلال الفترة الأولى من تكوينها وتشكيلها، في بواكير العام الماضي، حيث زارت السودان والإقليم، واستمعت إلى وجهات نظر الأطراف الفاعلين كافة، وأعدت تقريراً ضافياً من 148 صفحة خلصت فيه إلى جملة توصيات لم تستبعد منها أيَّاً من الحلول المقترحة، سواءً من حزب الأمَّة القومي (المحكمة المختلطة)، أو الحزب الشّيوعي (العدالة الانتقاليَّة)، أو غيرهما من القوى السياسيَّة، أو من الحركات المسلحة، أو من المجتمع المدني في دارفور. لقد دعا هذا التقرير الوافي، والذي اعتمد من جانب القمَّة الأفريقيَّة المنعقدة بأبوجا، في نهاية أكتوبر الماضي (بي بي سي، 30/10/2009م)، إلى تبنّي مقاربة شاملة وجديدة لحل النزاع في الإقليم، حيث أوصى بأن يكوّن السودان (محكمة مختلطة) تعمل في إطار نظامه القضائي، جنباً إلى جنب مع آليَّات العدالة التقليديَّة، ويتم تشكيلها من قضاة مؤهَّلين، بعضهم سودانيون يعيّنهم السودان، وبعضهم أجانب، أفارقة وغير أفارقة، يتولى الاتحاد الأفريقي اختيارهم، على أن ينعقد لها الاختصاص بمحاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى في دارفور، وأن يُعدَّل القانون السوداني كي ينسجم، بشكل كامل، مع القانون الدَّولي، وأن تزال منه كلُّ العقبات القانونيَّة التي تحول دون محاكمة مرتكبي جرائم الاغتصاب، على وجه الخصوص، في الإقليم. من جهة أخرى أوصى تقرير لجنة الحكماء بضرورة التعامل مع جذور الصّراع، البعيد منها كالتهميش والإهمال، والقريب كصراع الموارد والعنف الرَّسمي، والبناء على الاتفاقيات الموقعة من قبل، والأخذ في الاعتبار بتلازم العدالة والمصالحة، وبأن تحقيق السَّلام لا يمكن أن يتمَّ إلا في مناخ ديمقراطي يتيح مشاركة كلّ الأطراف في إعادة صياغة (سودان جديد)، تصحَّح فيه ظلامات الماضي على أساس التمييز الإيجابي لصالح الجَّماعات والجّهات التي عانت من الحرمان طويلاً. كما نبَّه التقرير إلى ضرورة مراعاة العوامل الخارجيَّة، بمعالجة التوتر، مثلاً، في علاقات السودان مع دول الجّوار، ومع بعض أطراف المجتمع الدَّولي، ممَّا تسبَّب في حجب دعمها الفاعل لجهود السَّلام والتنمية، وكذلك بتعزيز دور الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في عمليَّة السَّلام، وفي حفظ الأمن، وفي تقديم العون الإنساني. وفي السّياق أوصى التقرير، كذلك، بضرورة تشكيل لجنة للحقيقة والإنصاف والمصالحة في إطار أي اتفاق للسلام في دارفور. ورغم أنه لم يتخذ موقفاً محدَّداً من مذكرة الاعتقال الصادرة بحقّ البشير، مكتفياً بإبراز موقف الاتحاد الأفريقي الدَّاعي إلى إرجائها لمدَّة 12 شهراً، بموجب المادَّة/16 من نظام روما، إلا أن التقرير أوصى بإدراج التحقيق الذي أجرته المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة في جدول محادثات سلام دارفور، والتي شدَّد على ضرورة عدم اقتصارها على الحركات المسلحة، حيث أوصى بإشراك المجتمع المدني الدارفوري فيها، معتبراً أن ثمَّة حاجة ملحَّة للتوصُّل إلى اتفاق، في إطارها، قبل موعد إجراء أوَّل انتخابات متعدّدة الأحزاب. وقد عاد مبيكي، لاحقاً، ليشدّد على هذه النقطة، بالذات، في تقرير من 125 صفحة قدَّمه أمام مجلس الأمن بتاريخ 22/12/2009م، قائلاً: "إن استثناء أهل دارفور من المشاركة في الانتخابات القادمة سيعمل على تأكيد تهميشهم، الأمر الذي شكل سبباً مركزيَّاً لاندلاع الصراع المسلح عام 2003م .. ولهذا السبب نعتقد أن من الضروري التوصل إلى نتيجة في مفاوضات دارفور قبيل الانتخابات السودانيَّة الوشيكة" (بي بي سي، 22/12/09). رحَّبت أغلب الأطراف السودانيَّة المعارضة بالتقرير. واستقبلته حتى بعض الأطراف الدَّوليَّة المصنفة، سلبيَّاً، من جانب الحكومة، بدرجات متفاوتة من الترحيب. فمثلاً، اعتبرت جورجيت جاينون، المسئولة في منظمة هيومان رايتس ووتش، (المحكمة المختلطة) المقترحة ضمن التقرير، بأنها "جزء من حزمة واسعة من ترتيبات تحقيق العدالة في الإقليم". ورغم أن مارتن بلوت، محلل الشئون الأفريقية في (البي بي سي)، وصف التقرير بأنه "كتب بلغة دبلوماسيَّة"، إلا أنه نبَّه، أيضاً، وفي نفس الوقت، إلى ما تضمَّنه من إشارة واضحة إلى أن "المحاولات السابقة لتحقيق العدالة في دارفور لم تحرز أي تقدم". أمَّا حركة العدل والمساواة، فعلى الرغم من أنها وصفت اقتراح (المحكمة المختلطة)، في تقرير اللجنة، بأنه "غير عملي"، إلا أنها، أيضاً، لم تعلن رفضها له (بي بي سي، 30/10/09). بل ولقد ثمَّن أوكامبو نفسه هذه (المحكمة المختلطة) بأنها "ستتمّم عمل المحكمة الجنائيَّة، وستساعد على إنهاء حالة الإفلات من العقاب impunity في الإقليم" (رويترز، 31/10/09). مع ذلك جاء ردُّ فعل الحكومة على هذه الخطوة الأفريقيَّة الواسعة فاتراً، حيث أعلن علي عثمان طه، نائب رئيس الجُّمهوريَّة، أن مقترح (المحكمة المختلطة) الوارد ضمن التقرير "يجب أن يُدرس بدقة، بهدف التأكد من عدم تعارضه مع الدُّستور السوداني" (بي بي سي، 30/10/09)؛ وفي ما عدا ذلك لم تبد الحكومة حماساً، أو إرادة سياسيَّة، أو تحرّك ساكناً، بأيّ قدر، في اتجاه وضع توصيات التقرير موضع التنفيذ، منذ صدوره وحتى الآن، ممّا يُتوقع أن يخصم، مع تطاول الزمن، من رصيدها السّياسي في المستوى الأفريقي، على الأقل! أمَّا المشاورات التي بدأت بالدَّوحة، في الثامن عشر من يناير المنصرم، والتي كان من المقرّر أن تعقبها مفاوضات مباشرة، في الرَّابع والعشرين منه، بين الوفد الحكومي، وبين ممثلي الحركات المسلحة والمجتمع المدني في دارفور، فما تزال عالقة تراوح في محطة تقديم (الاستفسارات) إلى الأطراف من جانب الوساطة التي يقودها جبريل باسولي، الوسيط الأفريقي الدَّولي المشترك (الأحداث، 7/2/10)؛ رغم أن بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، كان قد شدَّد، بهذه المناسبة، في وقت سابق، على أهميَّة أن يلعب الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدَّولي "دوراً أساسيَّاً" في بعث رسائل قويَّة لكل الأطراف بضرورة الانخراط في هذه المفاوضات، وبضرورة استمرار جهودهما "لتشجيع الحكومة والحركات المتمرّدة، بصورة خاصَّة، على تقديم تنازلات" (بي بي سي، 22/12/09). لكن الأهمَّ من ذلك كله أن الاتحاد الأفريقي نفسه، صاحب المبادرة الأشمل، والتقرير الاستثنائي، وما حققته توصيات لجنة حكمائه من اختراق نوعي، دخلت، في ما يبدو، في سُبات عميق، إزاء هذا الشَّأن، ولم يعُد يُسمع لها، في الوقت الرَّاهن، حسٌّ فيه، اللهمَّ إلا بضع تصريحات متباعدة، لا أرضاً تقطع ولا ظهراً تبقي، من بعض قادة مفوَّضيَّته، أو من ثابومبيكي شخصيَّاً، الأمر الذي لا يبشّر بأيّ خير!
الخميس أفهَمُ، تماماً، أن يتوزَّع حُبُّ جمهور كرة القدم بين الأندية المختلفة داخل أيّ قطر عربي، مثلما أفهم أن ينحاز المشجعون من كلّ البلدان العربيَّة إلى أيّ فريق عربي ينازل فريقاً غير عربي في أيَّة منافسة على بطولة دوليَّة أو إقليميّة. فهذه كلها من طبائع الأشياء. لكن ما لا أفهمه، البتة، هو أن يكون مطلوباً من الجمهور العربيّ (أجمعه) الانحياز إلى فريق قطر عربي كمصر، بالغاً ما بلغ خُبُّ العرب لها، حال منازلته فريق قطر عربي آخر كالجزائر، و .. لن أقول "بالغاً ما بلغت كراهيَّة العرب لها"؟! إذ هل العرب، حقاً، من غزَّة إلى اليمن، يكرهون الجزائر، ويتمنون لفريقها الانسحاق والهوان، والخسران المبين، وكأنها إسرائيل؟! وإلا فما معنى أن يدعوا جميعهم الله، قبل المباراة، أن ينصر مصر عليها، وأن ينزلوا إلى الشوارع والسَّاحات، أجمعين، بعد المباراة، يسيّرون المسيرات، ويوزّعون الشَّربات، ويصلون صلاة الشُّكر، ويحمدون الله على هزيمتها السَّاحقة الماحقة، لدرجة أن كاتباً صحفيَّاً، ونائباً سابقاً في مجلس الأمَّة الكويتي، اسمه أحمد الشَّحوم، يتهيَّأ، الآن، للسفر إلى القاهرة لذبح عجلين لوجه الله تعالى، كي يبرَّ بقسَم سابق أقسمه، بعد أن ذبح قطيع خراف من عشرين رأس، وفاء بنذر نذره "شكراً لله، إن فازت مصر على الجزائر!" (الأخبار، 4/2/10). ما الذي، تراها، فعلت الجزائر للكويت أو للشَّحوم شخصيَّاً؟! أم أن الأمر، برمته، لا يعدو كون أساطين الإعلام المصري الرَّسمي (الشوفينيين) لا يرضون بأقلّ من (مصرنة!) العرب، من المحيط إلى الخليج، فما ينفكون يغسلون أدمغتهم، لا يلوون على شئ، كي يبيعوهم الترام، تماماً مثلما غسل أحمد سعيد وإذاعة صوت العرب، من قبل، أدمغة أجيال بأكملها منهم، بل ومن الشعب المصري نفسه، فباعوهم الترام سنين عددا؟! أنا، مثلاً، أحبُّ مصر، لكن ليس إلى حدّ أن أكره الجزائر! وأمتع إجازاتي تلك التي أقضيها في القاهرة، ولي فيها، من بين أهل الفكر والثقافة، كما ومن بين ناسها العاديين الطيّبين، أحباب وأصحاب بلا حصر، لكنني أسأل الله أن يقيّض لي فرصة زيارة أخرى للجزائر التي سبق أن زرتها لأيَّام قلائل عام 1987م، فأسرتني بطبيعتها السَّاحرة، وشعبها الودود، بلهجته اللطيفة، وكرمه الغامر. أعتقد أن أمر (زفة) مهرّجي (الإعلام الرّياضي!) المصري، من لدن إبراهيم حجازي ورهطه، قد بلغ حدَّاً لا يجوز السُّكوت عليه من جانب المثقفين الوطنيين الديموقراطيين المصريين بالأخصّ، والذين أعلم، تماماً، أن الحال (المايل) لا يعجبهم! فحتام يبقى صوتهم خافتاً، وسط كلّ (مولد الإعلام) الزائط هذا، والذي يظنُّ (شيوخ منصره) أنهم يحسنون صنعاً، في الوقت الرَّاهن، للكرة المصريَّة الحلوة، بينما هم، في الحقيقة، يسيئون إليها، في المديين القريب والمتوسط، دَعْ المدى البعيد، بل ويعمدون لتشويه صورة مصر الحبيبة، بأسرها، في الذهنيَّة العربيَّة العامَّة؛ فهل ثمّة شكٌّ في أن هذا ليس حالاً (مايلاً) كليَّاً، وبدرجة تستلزم رفع (الكروت الحمراء) في وجوه هؤلاء، ودقَّ نواقيس الخطر من الاسكندريَّة إلى أسوان؟!
الجمعة لصديقي التشكيلي الناقد د. حسن موسى أسلوب فريد في صياغة أفكاره، وطريقة لطيفة في دلقها، بسلاسة، عبر مراسلاته الإخوانيَّة. ومن سنخ ذلك الرّسالة الإلكترونيَّة التي بعث بها إليَّ، مساء اليوم، من مهجره في بلدة دوميسارق الفرنسيَّة، على النحو الآتي: (كمال يا أخانا الذي في بلاد الغبار و"الشَّمار"، و .. بالله شوف "الشَّمار" دي [الليلة أول مرة أكتبها] ـ وغيرها كثير ـ من منتجات لغة ناس الخرطوم التي كنا نقرأها على شاشات الأسافير، مكتوبة، قبل أن نسمعها، فلا ندري على أيّ شكل تضبط، ولا في أيّ مستوى صوتي تنطق، حتى ينتهي بك الأمر لحالة غربة غميسة، كون القوم صاغوا كلامهم في غيابك، ونفوك خارج الخاطر اللغوي الجَّمعي! وغربة الخاطر اللغوي سريعة المفعول "الكمدة بالرَّمدة"! تصور تاني يوم من وصولي الخرطوم مشيت لإدارة الجَّوازات والهجرة لتسجيل نفسي، فأحالتني شرطيَّة متنكرة في زيّ رسمي مضحك لمكتب اسمه "فرع القوائم والسَّيطرة الهجريَّة"! منه وجَّهوني لإدارة اسمها، فيما أذكر، "إدارة الخدمات البينيَّة" .. إلخ. لكن الغربة الأكثر غماسة هي تلك التي تستشعرها في معيَّة أصدقاء تركتهم لعقود، ثمَّ عدت لتجدهم وحولهم حلقات من المعارف والأهل والعيال، ممَّن لم يسمعوا بك أو هُم ـ في أحسن الأحوال ـ قرأوا لك بعض ما تكتب، فاختزلوك شخصاً من ورق [على وزن "نمر من ورق"] وحنَّطوك في دائرة المستشرقين "من أصل سوداني" [يا لها من عبارة رهيبة]! لم نكن نعرف أن السودان يمكن أن يُعرَّف كأصل للبني آدميين حتى أدركتنا الدياسبورا بنت الغول والعنقاء! كلُّ المرَّات التي مررت فيها أمام ضباط الجوازات في القاهرة وفي بيروت خاطبني الضابط من وراء زجاج الكاونتر، وأنفه في جوازي الفرنسي: إنت من أصل سوداني؟! أيوا يا عديم الأصل، أنا شايقي وجعلي وفرنسي من النهود! ياخي لا تتصور حسرتي كوني لم أتمكن من حضور عرس أروى فأراها وزوجها وأخيها أبَي، وأراكما أنت وفائزة في مقام الأبوَّة/الأمومة العامر بالمشاعر، لكن الحي بلاقي. سلام). إنتهت رسالة حسن، بعد أن أيقظت فيَّ ثلاث خواطر، سأبعث بهنَّ إليه، إن شاء الله، عقب فراغي من هذه الرُّزنامة: الخاطرة الأولى ذكرى حكاية قديمة وقعت في خواتيم العقد الماضي. كنت وقتها أشرف، بتكليف من صديقي كمال بخيت، على (عدد الثلاثاء المتميّز) بجريدة الصَّحافة أوان تجديد إصدارها، عام 1999م، عندما اشترى بعضهم اسمها من مؤسّسها المرحوم عبد الرحمن مختار، وأوكلوا لكمال رئاسة تحريرها. كانت تعاونني في إعداد ذلك العدد الأسبوعي كوكبة من الكتاب والفنانين والصَّحفيين، منهم: د. أمين محمد احمد، ود. مبارك بشير، وعلاء الدّين الجزولي، ولمياء شمَّت، ومحمد الأسباط، وفيصل الباقر، ومنى عبد الفتاح، وعباس مصطفى صادق، ولبنى احمد حسين، وياسر سليم. أها .. الحكاية التي أعنيها وقعت مع صديقي ياسر هذا؛ والذي هو، إلى كونه موسيقيَّاً نابهاً، شاب مثقف ذو مهارات عالية، واهتمامات مختلفة. وقد حدث أن اقترحت عليه، مرَّة، إعداد قاموس للغة (الرَّاندوك) التي كان اصطنعها، في الأصل، أولاد الشَّوارع (الشَّمَّاشة)، قبل أن تنتقل إلى الجَّامعات والمدارس، لتسري، سريان النار في الهشيم، بين طلابها، وتسيطر، سيطرة تامَّة، على لسان التخاطب اليومي بين الشَّباب عموماً. وبعد أن ناقشنا جوانب الموضوع كافة، وحدَّدنا أهمَّ ما ينبغي أن نركز عليه منها، شدَّدت له على أن هذا القاموس لن يكون وثيقاً ما لم يتمَّ جمعه من ألسنة الشَّمَّاشة مباشرة. فتحمَّس كعادته، وحشر، على عجل، في حقيبته التي لا تفارقه، رزمة أوراق وأقلام وجهاز تسجيل صغير، وكاميرا، وانطلق، حيث اختفى لأيَّام. لكنه ظهر، فجأة، ذات صباح، على باب مكتبي، بمظهر كادت تنكره عيناي من فزع! كان يظلع، متوكئاً على عكازة غليظة، وجسده الناحل المعروق مغطى بالضَّمَّادات والشَّاش الطبّي من قمَّة رأسه إلى أخمص قدميه! هببت إليه أساعده على الجلوس، وأسأله في إشفاق: ـ "خبر إيه يابو سليم .. هل سقط عليك سقف البيت"؟! طلب كوب ماء اجترعه في لهوجة، وقال، وهو يحاول الابتسام، لاهثاً، بينما كلُّ ذرَّة في جسمه ترتجف، وتكاد تصرخ من شدَّة الألم: ـ "أبداً .. دا الرَّاندوك بتاعك يا سيدي"! هززت رأسي أستوضحه محتاراً، فروى لي كيف أنه التقى، ذات ظهيرة، في سوق أم درمان، بشمَّاشي أبدى استعداده لمساعدته في مهمَّته بترتيب لقاء له مع بعض رفاقه، وطلب منه أن يحضر، لأجل ذلك، في المساء، حيث يكون رهطه قد عادوا من طوافاتهم النهاريَّة. لكنه حين ذهب في الموعد المحدَّد، محتقباً (عدَّة الشغل) وغرارة مثقف من سطح المدينة، استدرجه الشَّمَّاشي إلى زقاق ضيّق، مظلم، ومعزول في منطقة السّينمات، فإذا الأرض تنشقُّ، بغتة، ليخرج منها رتل من الشَّمَّاشة، فتية وفتيات، انهالوا عليه ضرباً، بكلّ ما لا يخطر على البال من فنون الكاراتيه التي تعلموها من الأفلام الهنديَّة! كان يجد نفسه، تارة، مقذوفاً تطيّره سواعد قويَّة في فضاء الزقاق، وتارة أخرى مخفوضاً تدحرجه أقدام خشنة على أرضه، وتارة ثالثة مقفعاً تحصره، في ركن زنخ الرائحة، كتلة أجساد لا يكاد يتبيَّنها! وكانوا، أثناء ذلك، يتصايحون بكلام غير مفهوم بالمرَّة! ولم تنقذه، في نهاية الأمر، من الموت المحقق، في ذلك الزقاق، سوى صفارات الشرطة التي استنجد بها عمَّال المطاعم والمقاهي في الجّوار، وهدير شاحنتها التي جاءت على عجل حين سادت الفوضى، وثار الغبار، وعلا الضجيج والعجيج! ختم ياسر حكايته قائلاً إنه لا يعرف مصير جهاز التسجيل ولا الكاميرا، وإنه لا يجد تفسيراً لكلّ ما جرى، بغتة، خلال دقائق معدودات، سوى أن سوء تفاهم قد وقع، ولا بُدَّ، من دون أن يلحظ ذلك، خلال تفاوضه مع كبيرهم، أثناء النهار، في السُّوق. غير أنه أضاف، ضاحكاً: عارف .. العبارة الوحيدة السمعتها بوضوح من واحد منهم، لمَّا بدوا يجروا في النهاية من البوليس، قال: "أشان تاني تجي تأنكب وللا تأشكب هنا .. راندوك بتاء هنانك"؟! الخاطرة الثانية من نفس تلك الأجواء، فقد مكنتنا وسائط الاتصال الحديثة، وقتها، من أن ننشر لكوكبة من الكتاب السودانيين، في شتى المهاجر والمغتربات، أذكر منهم طيّبي الذكر: الطيّب صالح، وعبد الهادي صديق، ومحمد الحسن احمد، وعلي عبد القيوم، والنور عثمان أبَّكر، ومن الأحياء، أطال الله أعمارهم: حسن موسى، ومحمد المكي إبراهيم، والياس فتح الرحمن، وعبد الله علي إبراهيم، وعبد الله بولا، وحيدر إبراهيم علي، وعالم عباس، وفضيلي جمَّاع، وآخرين كثر. وكان أغلب القرَّاء، أوان ذاك، قد طال بهم أمد شوقهم لمعانقة حروفهم! جعلتني تلك الفترة، بالتحديد، أكثر التمعُّن، ولسنوات طوال بعد ذلك، في أحوال كثير من المبدعين السودانيين، أو ذوي الأصول السودانيَّة، في مهاجرهم، أو (أوطانهم الأخرى). ولعلَّ من مترتبات ذلك التمعُّن ما كتبت، مثلاً، في رزنامتَي السابع من أبريل والتاسع والعشرين من ديسمبر عام 2008م، عمَّا درجَت عليه صحافتنا الثقافيَّة والفنيَّة من إطلاق صفة (العائد إلى أرض الوطن بعد غياب طويل) على (كلِّ) مبدع ألجأته أوضاع تاريخيَّة محدَّدة، سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو ثقافيَّة أو غيرها، لأن يطيل الغياب في مشارق الدياسبورا أو مغاربها، لسنوات طوال، ثم ما لبث، حال انفراج الأمور نسبيَّاً، أن صار يزور الوطن (الأصلي) مِن وقت لآخر. على أن نفراً من هؤلاء تصادف أن اكتسبوا (مواطنيَّة) أوطان جديدة، فاندغموا فيها بحكم الكدح في طلب العلم، أو الرزق، أو المأوى، أو تعليم العيال، أو مجرَّد الأمان الشخصي، وإلى ذلك صاروا يشاركون، بالضرورة، في سداد ضرائب تلك الأوطان، وشواغل سياستها، وهموم ثقافتها. ثمَّ إن بعض هؤلاء، لمَّا حانت لحظة (الاختيار)، لم يلتمسوا في أنفسهم رغبة (صميمة) في إنهاء (هجرتهم) المديدة، بل لم يعدُّوا أنفسهم (مهاجرين)، أصلاً، فواصلوا تمسُّكهم بحالة (مواطنيَّتهم) الأخرى، ومَا ترتبه لهم من حقوق مستحقة، وعليهم من واجبات لا فكاك منها. و(المواطنيَّة)، حال اكتسابها بمثل هذه المشاعر، لا تعود محض (رخصة) للإقامة (الآمنة) في (مهجر) ما، أو (سبيلاً) لكسب العيش (اللين) في بلد راق مضياف، أو مجرَّد (جواز سفر) يتيح لحامله حريَّة التجوال هنا وهناك، إنما هي إحساس بالانتماء نبيل، فينبغي أن يُفسح له في الدواخل كي ينمو ويترعرع ويزهر. وإذن، لو وقع وصف (العائد بعد غياب طويل) في مقام المتابعة الصحفيَّة (البريئة) لنشاطات هذا المبدع أو ذاك، لأمكن هضمه شيئاً. سوى أنه ما ينفكُّ يشِفُّ، للأسف، من خلف غلالة (براءته) المزعومة تلك، عن (تواطؤ) صامت باتجاهين: فهو، من ناحية، إغواء مجَّاني لهذا المبدع بكون مجرَّد (غيابه الطويل)، في حدِّ ذاته، (قيمة مضافة) يجدر استقبال إبداعه بها في (الوطن الأصلي)، وهذا، لعمري، تنميط فجٌّ، بل ضلال نقدي مبين؛ ثمَّ هو، من ناحية أخرى، إلحاحٌ نابحٌ على تقرير (انتماء) هذا المبدع إلى (الوطن الأصلي) وحده، فلا يجوز أن يراوده أوهى إحساس بـ (الانتماء) لـ (غيره)، وذاك، أجارك الله، تشويش عاطفي وأخلاقي بالغ القسوة على سلاسة اختياره الاندغام المطلوب في (وطن آخر)، خاصَّة إذا كان جُلُّ بُنات ثقافة هذا (الوطن الآخر) هم (مهاجرون) مثله! أما الخاطرة الثالثة فشخصيَّة جداً. ذلك أنني ارتقيت، في ما بات يبدو لي، وفي ما أصبحت ألتمس، منذ حين، في نفسي، من محض الإحساس البسيط بـ (الأبوَّة)، إلى إحساس آخر، أعلى شيئاً! وقد قلت، مؤخَّراً، هذا الكلام، أو شبيهه، لصديقي مصطفى عبد العزيز البطل، ردَّاً على رسالة تهنئة مماثلة منه إليَّ بعُرس أروى وأحمد. فقد صرت ألاحظ، خلال السنوات القلائل الماضيات، أنني أميَلُ ما أكون لملاعبة الأطفال حديثي الولادة، وحتى سن 3 ـ 4، لدرجة أنني، أغلب الأحيان، حين أكون زاحفاً بسيارتي في شارع مزدحم، بطئ الحركة، وتكون أمامي سيارة بها زوجان شابان، وأطفال لهما، في مثل هذه السن، يحدّقون عبر الزجاج الخلفي كالأرانب البريَّة، ما ألبث أن أضبط نفسي وأنا أشاغلهم كأعور ما تكون المشاغلة، ولا يندر أن ألاحظ، بعد فوات الأوان، أن ثمة من يراقبني، متلصّصاً بابتسامة خبيثة، في السيارات المجاورة! لكنني غالباً ما أعوج فمي، معزّياً النفس بالهمس لها: فليكن .. من، تراه، يهتم؟! لقد علقت لي، على هذه الحالة، مؤخَّراً، صديقة اختصاصيَّة في علم النفس، بقولها: إستعد يا رجل .. أنت على أعتاب (الجدوديَّة)! فهل يكرمني الله بأن أحيا حتى أجتاز هذه (الأعتاب) إلى هذا العالم الجميل؟!
السبت لو كان د. أمين حسن عمر مجرَّد قائد بارز في حزب المؤتمر الوطني، لما جاز لأحد أن يستنكر حقه في أن يطلق، كيف شاء له الهوى (الحزبي)، دعايته الانتخابيَّة لصالح المشير البشير، مرشَّح الحزب الحاكم في انتخابات رئاسة الجمهوريَّة القادمة، وذلك بقوله، بالحرف الواحد: "استمرار البشير في قيادة الدَّولة يمثل ضمانة على صلابة حائط السودان ضدَّ المؤامرات المعادية للبلاد" (الأخبار، الصفحة الثالثة، 6/2/10). لكن، أن يقول قوله هذا، وهو لمَّا يزل، بعد، وزير الدولة بوزارة الإعلام، فهذا ما يستوجب الاعتراض المستقيم، كونه يتجاوز، في هذه الحالة، كلَّ الخطوط الحمراء المفترضة في التعليق السّياسي يصدر من وزير، ليشكل، في الوقت الرّاهن، خرقاً للأسس والقواعد التي تحكم العمليَّة الانتخابيَّة، من زاوية الأخلاق السّياسيَّة، على الأقل، إن لم يكن من الزَّاوية القانونيَّة التي طمست جلَّ نصاعتها المفترضة ركاكة قانون الانتخابات لسنة 2008م! مع ذلك ليس من العبث، أو بلا أيّ معنى على الإطلاق، أن قيَّدت المادة/64/1 من هذا القانون بدء الأحزاب حملة الدعاية الانتخابيَّة لمرشَّحيها، كالتي ما انفكَّ يمارسها حزب المؤتمر الوطني الحاكم، منذ حين، ويمارسها د. أمين عمر، بالذات، في هذا النموذج الماثل، فقط بالموعد الذي تحدّده مفوضيَّة الانتخابات، وقد حدَّدته، فعليَّاً، باليوم الثاني عشر من الشهر الجاري، وكذلك بالمدى الزَّمني الذي يفرضه القانون، على ألا يزيد عن سبعين يوماً، ولا يقل عن ثلاثين يوماً، بحسب الحال، وأن ينتهي قبل تاريخ بداية الاقتراع بيوم واحد. فهل يظن السَّيد أمين أن هذا النصَّ وارد هنا من قبيل التزيُّد بلا طائل، أو أن المعنيَّة به هي الأحزاب الأخرى، فلا هو ولا حزبه معنيَّان به؟! كذلك ليس من العبث، أو بلا أيّ معنى على الإطلاق، أن نصَّت المادَّة/69 من هذا القانون على أنه "لا يجوز لأيّ مرشَّح أو حزب سياسي استعمال أىّ من إمكانات الدولة، أو موارد القطاع العام، الماديَّة أو البشريَّة، فيما عدا أجهزة الإعلام، مجَّاناً .."؛ وإذن، أفلا يعتبر د. أمين (منصبه) من (إمكانات الدَّولة)، أو نفسه من (مواردها البشريَّة)؟! وإذا كان ذلك كذلك، فما هو المقابل الذي تلقته هذه (الدَّولة) من (استثماره) في الدّعاية لمرشَّح (حزبه)؟! أم تراه يعتقد أن (وزير الدَّولة بالإعلام) هو، لا سمح الله، من (أجهزة الإعلام) التي يسمح القانون بـ (استعمالها) من جانب (حزب المؤتمر الوطني) .. مجَّاناً؟!
الأحد مرَّ الحجَّاج بن يوسف، ذات ليلة، متخفياً، برجل يتمشَّي في أحد طرقات بغداد، فأخذ يؤانسه حتى اطمأنَّ الرَّجل إليه، فسأله: ـ "ماذا تقول، يا أخي، في الحجَّاج"؟! فقال الرَّجل: ـ "إنه ظالم ظلوم"! وأخذ يعدّد قبيح صفاته ونعوته. فلمَّا انتهى سأله الحجَّاج: ـ "ألا تعرف من أنا"؟! فأجاب الرَّجل: ـ "لا والله"! فقال: ـ "أنا الحجَّاج"! فارتعب الرَّجل، برهة، لكنه سرعان ما تمالك نفسه، وأسعفه ذكاؤه، فسأل الحجَّاج بدوره: ـ "أفما تعرف من أنا"؟! فأجاب الحجَّاج: ـ "لا والله"! فقال الرَّجل: ـ "كيف؟! أنا مجنون بنى فلان، تأتينى نوبات الصَّرع مرَّتين كلَّ شهر، وكانت هذه أشدَّها"!
***
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رَدُّ التَحيَّة بأَحْسَن منْهَا!
-
لَيْلَةُ البَلاَلاَيْكَا!
-
الهُبُوطُوميتَر!
-
عَودَةُ العَامل والفَلاَّحَة!
-
آخرُ مَولُود لشُرطيّ سَابق!
-
طَبْعَةُ وَاشنْطُنْ!
-
إشكَاليَّةُ القَاوُرْمَة!
-
مَنْ يُغطّي النَّارَ بالعَويش؟!
-
أيَّامٌ تُديرُ الرَّأس!
-
مَحْمُودٌ .. الكَذَّاب!
-
يَا وَاحدَاً في كُلّ حَالْ! (2)
-
يَا وَاحدَاً في كُلّ حَالْ!
-
عَتُودُ الدَّوْلَة (الأخيرة)
-
عَتُودُ الدَّوْلَة (13) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ
...
-
عَتُودُ الدَّوْلَة (12) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ
...
-
عتود الدولة (11) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَ
...
-
عَتُودُ الدَّوْلَة (10) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ
...
-
عَتُودُ الدَّوْلَة (9) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ا
...
-
عَتُودُ الدَّوْلَة (8) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ا
...
-
عَتُودُ الدَّوْلَة (7) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ا
...
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|