أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نصيف الناصري - كتاب { معرفة أساسية . الحرب . الشعر . الحب . الموت }















المزيد.....



كتاب { معرفة أساسية . الحرب . الشعر . الحب . الموت }


نصيف الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 2909 - 2010 / 2 / 6 - 16:56
المحور: الادب والفن
    







{ شهادة }


الفصل الأول

محني الظهر تحت أوامركم

أريد أن أقول انني لا أتذكر شيئاً من صحيفتي العسكرية إلاّ أيام الغياب
والهروبات والعقوبات .
هنا يتمشى رجلان تحت مظلة متهرئة ، أيديهما فارغة وهما يستعطفان .
الرجلان اللذان نراهما الى جانب تمثال الرصافي عام 1987 كانون الأول
عام 1987 في ذروة البرد ، كانا مسلحين ويحلمان بالقاء القبض عليّ .
على أيّ وجه سنقذف بالبصاق ؟ على أيّ قبر سنكتب أسماء القتلى ؟
انها لنا هذه الأشجار العالية اليابسة من أجل التوابيت واحراق الأكاذيب .
والآن ، انتهت الحروب وها أنا {عاري الرأس ، أنزع عن قدمي مشبك
دراجتي ، باحترام وحرج } *، عندما أدخن سيكارة . أضع عقبها في المنفضة
أنا رجل متمدن ، رقيق ودمث الأخلاق ، في اجازتي الدورية أذهب لزيارة
أصدقائي ولا أحقد على أحد ، لكنني عندما أفرط في السكر ، أضع جميع
المقدسات في المرحاض ، وشأن كافة المواطنين الصالحين ، أسدل الستائر
حال سماع صفارة الانذار . لم أفعل شيئاً يستحق اقامة نصب لي بحيث يخسر
بعض المسؤولين يوم عمل من أجل تدشينه . هربت من الخدمة العسكرية
عدة مرات ، واختبأت في أمكنة سرية كئيبة . حوكمت وسجنت وتبهذلت
واعتبرت جرائمي في { قادسية صدام } مخلة بالشرف .
والآن أنا عاطل عن العمل ، لا أملك غرفة ولا غيمة ولا حذاء ولا ثمن وجبة
طعام . حياتي هامشية . علّمتني صحيفة { القادسية } أن أحب الوطن وأموت
من أجل ترابه ، مع انني لا أملك ذرة تراب واحدة ، وحفظت الحديث الشريف
{ أرواح الشهداء تعلق في حواصل طيور خضر من طيور الجنة }
ولكي تكتسب ثقافة عالية وتنجح في الحياة ، عليك أن تقرأ كل شهر مجلة
وزارة الدفاع { حراس الوطن } باستثناء بعض الأكاذيب الصغيرة .
حتى الآن ، أنا لا أعرف وزن بندقيتي . في الليل أجلس على الكرسي في
شرفة الفندق وحيداً . القمر الجميل يلمع في مقدمة حذائي . أجلد عضوي الجنسي
وعلى وجهي ، أكتب حمار . ليست لي عشيقة ولا أملك نقوداً لكي أذهب الى
المبغى وشكله الشبيه بثكنة . أحياناً أقف ساعات في الطابور . لو أصبت بالأكزيما
بالبثور ، بأيّ مرض جلدي ، فهناك أنواع المراهم . لقد عشت حياتي كما أنا .
الجميع يمكنهم سحب كلماتهم . لا أقبل شروط أحد . يتحتم أن أعبر الحشود
المكتظة ، عبر أسراب الذباب ، عبر كل الذين عرفتهم واحداً ، واحداً .
ها أنا الآن ، غطيت نفسي بنفايات الفشل ، ورغم انني أحيا مستقيماً فالمرارة
ما زالت تحكم حياتي . أن تكنس العالم من هذه النفايات ، فأنت بحاجة الى
كاسحة نفايات . خلف هذا العالم وخزائنه هناك نفسي الجائعة . في أمعائي
اجترار اللاشيء ، وفي رئتي عار الذين لا يملكون شيئاً .
مغطى بالهامش
أسود
محني الظهر تحت أوامركم .

9 / 4 / 1991
بغداد

في دفتر خدمتي وصحيفتي العسكرية مدون انني دخلت الجيش لاداء الخدمة العسكرية الالزامية بتاريخ 5 / 5 / 1979 وتسرحت في 5 / 5 / 1991 ولولا هزيمة نظام أبو المهالك في حرب تحرير الكويت لكان الله وحده يعلم متى يتم تسريحي من هذه الخدمة المشؤومة التي أخذت من شبابي 12 عاماً بالتمام والكمال ، أنا الحالم في السفر والحبّ والشعر والحرية والآمال الانسانية الأخرى . في صحيفة بابل التي كان يملكها عدي صدام حسين ، نشر رئيس اتحاد الأدباء والسكرتير الثاني لرئيس التجمع الثقافي في العراق ، المدعو رعد بندر { شاعر أم المعارك } بمرسوم جمهوري يوم الاثنين المصادف 30 / 12 / 1991 مقالاً تحريضيا ضدي يتهمني فيه انني { لم أكتب لا قصيدة ولا أيّ شيء آخر يديم روح النصر في المعارك الخالدة بقيادة الرئيس العظيم } ويطلب مني أن { لا أستخدم لقب الناصري لا من قريب ولا من بعيد لأن لقب الناصري خاص بعشيرة الرئيس فقط } وأنني { منشغل بالغنائم بعيداً عن خيام الوطن } كان يريد أن يوهم دوائر نظام صدام حسين الأمنية ، أنني أقيم بمحافظة { الناصرية } وبالتالي فانني مشترك في الانتفاضة الكبيرة التي قامت ضد النظام بسبب جرائمه الفاشستية و التي قام بها الشعب العراقي في 14 محافظة عراقية ، يا إلهي ، هل حقا أن كاتب هذا المقال هو رئيس اتحاد الأدباء في العراق ؟ ماذا أفعل وكاتب المقال في صحيفة عدي هو نفسه سكرتيره الثاني في التجمع الثقافي المزعوم ؟ ذهبت الى محافظة ديالى لألتقي صديقي القاص صلاح زنكنة عسى أن يهربني الى منطقة كردستان وتحدثت له عن رعبي الكبير ، لكنني في اللحظة الأخيرة لم أطلعه على رغبتي في الهروب . عدت الى بغداد في اليوم التالي متخفياً والتقيت صديقي الشاعر حسين علي يونس الذي اقترح أن نذهب الى بار غير البار الذي اعتدنا أن نذهب اليه كل يوم وهو بار روافد دجلة في ساحة النصر خشية أن يلقي القبض عليّ رجال الأمن كما حدث لغيري ، وأقترح انني من الممكن أن أكتب رداً على رعد بندر وأدفعه الى صحيفة عدي . بدا لي الا قتراح غير معقول ، ولكن الشكوك الكثيرة كانت تدوّخ رأسي بشدة . هل ستنشر صحيفة عدي ردّي ؟ هل سيتسنى لي أن أدفع هذه الاتهامات اللاانسانية عني ؟ عموماً ، كتبت رداً طويلا بعنوان { جروح عميقة ، تصحيحات حول مقال رعد بندر } و دفعته في البريد . نشر الرد بتاريخ 5 / كانون الثاني / 1992 ودافعت فيه حول اتهامي : { يرفض الكتابة عن الحرب بدعوى الوقت وبدعوى عدم الاستعداد } ودافعت فيه كذلك عن مجمل شعر الشباب و أوضحت أن شعرهم غير معني بمصطلحات التعبئة والحماسة وتمجيد البطولة وقلت أن :{ الشعر الثمانيني يواكب التطورات الحاصلة في الحساسية الشعرية الجديدة ومازال يواصل البحث المضني عن الخارق والمطلق والجوهر الحقيقي اللشعر الذي فرط فيه أصحاب المواهب الضعيفة من أجل تثبيت كيانات اجتماعية لهم على حساب ثورة السياب التي أحرقت مشاعلها ليل الشعر العربي } وكتبت أيضاً { ومما يلفت النظر في تجارب شعراء الثمانيينات هو أن شعرهم كثير التوغل في المسائل الوجودية التي لها صلة في الحياة والموت والطفولة والتحول والصيرورة ، عكس الشعر الآخر الذي هو مجاز جماهيري . أ ن الفعل الشعري عند شعراء الثمانينات والذي بسببه يحاربه البعض ويضيّق عليه الخناق ، ليس في انه قائم على رموز واشارات وايحاءات وترنيمات متداخلة ، ان هذه إلاّ أشكاله وعناصره التكوينية . بل هو في اكتشاف الكوى النفسية التي ترتسم لمصائرنا ومخيلاتنا عبر الشقوق والفجوات التي نراها في العالم الواقعي المحيط بنا ، ومن خلال هذه الكوى نفذ هؤلاء الشعراء الى العالم الأبدي الكامل ومنها تطلعوا الى رحاب فسيحة من الجمال الذي ينشدونه ، ولئن وصل هؤلاء الشعراء الى هذه النتيجة - الجمال - فان فعلهم الابداعي ، هو انهم لجأوا الى جوهر الشعر وحده واتخذوا الشعر اداة تعبير عن أحلامهم المشروعة في التجريب وخرق المألوف } وكتبت أيضاً انني كنت جندياً و : { أمضيت خدمتي العسكرية البالغة 12 عاماً في جبهات القتال واشتركت في المعارك التالية :
1 - المعركة التطبيقية ، حاج عمران / سيده كان 9 / 9 / 1985
2 - معارك الاكتساح العنيف ، سيده كان 23 / 4 / 1986
3 - معارك الغضب الهادر ، حاج عمران 13 / 5 / 1986
4 - معارك حاج عمران / سيده كان 1 / 9 / 1986
5 - معركة جبل كَرد مند الثالثة 3 / 3 / 1987
6 - معركة جبل كَرده كو 23 / 11 / 1987
7 - معركة جبل أحمد رومي 15 / 1 / 1988
8 - معارك جبال كوجار / كردي هلكان 17 / 3 / 1988
وكتبت في خاتمة الرد { هنا أود القول أن رعد بندر قد أمضى سنوات خدمته العسكرية طوال سنوات الحرب حاسر الرأس في صحيفة القادسية وكان ينعم بالراحة والطمأنينة في شقته الفخمة ذات الآثاث الضخم بشارع حيفا ، وينعم بمغانم الايفادات والسفر الى خارج العراق . أخيراً ، آمل أن لا أحسب على جمعية الشحاذين بسبب اعترافاتي الذي اضطررت الى البوح بها مجبراً . حمداً لله ، أنا سعيد الآن وصحتي أكثر من جيدة وعندي وظيفة وغير محتاج الى أيّ شيء } ومعلوم أن رعد بندر حصل من صدام حسين على شقة فخمة وأثثها له ديوان رئاسة الجمهورية ووظيفة مدير عام في وزارة الثقافة والاعلام وسيارة نوع سوبر ورسالة شخصية يشكره فيها سيده على اخلاصه له ، من خلال قصائده العمودية التي كان يمدحه فيها . طبعاً في هذه المعارك الثمانية التي اشتركت فيها بصفة جندي مغاوير لم أطلق من بندقيتي الكلاشنكوف سوى 4 اطلاقات فقط ، كان ذلك ليلة 15 / 1 / فوق جبل أحمد رومي بالسليمانية عام 1988 والسبب دائماً هو أما التسرب من المعارك أو الاختباء حيث لا يعلم أحد أين أنا إلاّ الشيطان . من المعلوم في السياقات العسكرية التي كانت تطبق في الحرب العراقية الايرانية ، أن ألوية المغاوير والقوات الخاصة لا تمسك موضعاً دفاعياً لمدة طويلة ، ويناط ذلك بألوية المشاة فقط ، وحين تتعرض ألوية المشاة لهجوم كاسح من الجانب المقابل ولا تستطيع صده ، يأتي هنا دور المغاوير في شن الهجوم المقابل قبل أن يتمكن الجانب الآخر من بناء السواتر والتحصينات اللازمة ، وكانت فيالق الجيش العراقي البالغة 7 فيالق ، توجد فيها ألوية مغاوير وبعض هذه الفيالق يمتلك لواءين مثل الفيلق الخامس في أربيل والفيلق الأول في السليماني . كنا عندما نصعد الجبال لشنّ الهجومات المقابلة ، يتأخر الكثير من الجنود في الصعود ويبقون في الخلف بالقرب من نقاط الادامة خوفاً من القتل والقصف المدفعي الشديد ، والكثير من هؤلاء الجنود يجهل أنه ما أن يبدأ زخم الهجوم المقابل حتى تبدأ المدفعية الثقيلة ومدفعية الميدان والراجمات والطائرات في القصف الشديد من أجل ايقاف وعرقلة الهجوم ، وبالتالي فأن شدّة القصف تتركز أكثر فأكثر على نقاط الادامة والطرق النيسمية والطرق المعبدة التي تسير فيها الأرتال والعجلات والدبابات ، وهنا يكون هؤلاء الجنود المساكين عرضة للابادة التامة ، وأكثر خسائر الجيش العراقي في الحرب العراقية الايرانية بالجبهة الشمالية كانت أكثرها تقع في المواقع الخلفية وليست الأمامية . هناك سياق عسكري متبع في الجيش العراقي وربما هو نفسه عند الجانب الايراني يقوم هكذا ، عند قيام وحدة عسكرية ما بهجوم فأن المدفعية تقوم في البداية بعملية التربيع ، والتربيع مفاده أن تدك المدفعية بقذائفها الجهنمية الهدف المراد احتلاله دكاً من جميع الجوانب وأن تضرب كل ربع متر من الأرض بقذيفة ثقيلة ، أيّ أربع قذائف للمتر المربع الواحد ، علماً أن القذيفة تتشظى لمسافة 500 متر ، وهنا لا تبقى بعوضة ولا ذبابة في الجو ولا جرذ في باطن الأرض . في المعارك الأولى اكتسبت خبرة من خلال قراءة كتب السياقات العسكرية التي ترسلها وزارة الدفاع الى الوحدات العسكرية ، وهذه الكتب لا يقرأها الجنود ولا الضباط باستثناء ضباط الأركان والقادة ، فتعلمت أن الوحدة العسكرية حين تخوض معركة جبلية ، يتوجب على جنودها أن يتقدموا بسرعة نحو الهدف وأن يستتروا خلف السواتر أو في الخنادق ، وأن لايبقوا في الخلف لأن ذلك يعني هلاكهم الأكيد من خلال القصف الذي سيستمر لعدة ساعات ، وتعلمت أيضاً أن لا أرمي المجرفة التي يحملها جندي المغاوير لأنها تساعده كثيراً في حفر حفرة والاختباء فيها ، وكثيراً ما كنت أثناء القصف الشديد أبتعد عن تجمعات الجنود وأختبىء وحدي خوفاً من الرصد ، وتعلمت كذلك من بعض الجنود القدماء أن أجعل آمر سريتي أو آمر فصيلي أن يراني حتى اذا أردت التسرب وترك الموضع الدفاعي ، لا يكتب ضدي بعد انتهاء المعركة محضر تحقيق ويتهمني فيه بعدم التقدم أثناء الصولة أو انه لم يشاهدني لأن ذلك ربما يعرضني لعقوبة الاعدام . كنت في كل هجوم أتقدم مع الآخرين لكن ما أن تبدأ الصولة الأولى حتى أتسرب من ساحة المعركة شأني شأن أمثالي الذين لا يريدون الموت في الحرب . كانت مساجد وكنائس ومقاهي ناحية ديانا في أربيل تكتظ بنا نحن الذين نتسرب في الهجومات قبل أن تنتبه استخبارات الفيلق الخامس للأمر وتبدأ بمطاردتنا ، وكنا لا نحلق لحانا ولا نغسل وجوهنا ولا نتواجد في المقرات الخلفية لوحداتنا خوفاً من الوشاية بنا لاستخبارات اللواء أو الفوج ، ذلك لأن ألوية المغاوير ما أن تبدأ بهجوم وتحتل الهدف المراد احتلاله حتى تبدأ بتسليمه فوراً الى لواء مشاة وتنسحب الى المقرات الخلفية لاعادة التنظيم ، واعادة التنظيم تعني تعويض الجنود الذين قتلوا أو أسروا أو فقدوا والأسلحة التي تحطمت أو ما شابه ، وكنا عندما يعود اللواء الى المقرات الخلفية نندس بين جنوده خلسة واذا سأل أحدنا ، أين كنت ؟ يجيب :
- { كنت في الفوج الأول ، حاصرنا القصف الشديد ولم أتمكن من التواجد معكم } أو
- { كنت في السرية الثالثة ، اسألوا فلان وفلان } ، طبعاًُ فلان وفلان لن يشوا بنا حتى لا يعتبرنا الضباط جبناء ، وهكذا اشتركت في 8 معارك وأطلقت 4 اطلاقات فقط ، وجرحت مرّة في حاجبي الأيمن فوق جبل أحمد رومي بالسليمانية .

المعركة التطبيقية حاج عمران . سيده كان 9 / 9 / 1985

اعدام أسرى وجرحى

هذه أول معركة أشترك فيها وكنت ملتحقاً منذ 4 أيام الى آمرية مغاوير الفرقة23 المتمركزة في منطقة قصري القريبة من قاطع حاج عمران ، قبل أن تصبح لواء مغاوير الفيلق الخامس الأول فيما بعد كنت قبلها في مقر الفيلق الأول بكركوك لمدة 6 شهور . في ليلة 9 / 9 / 1985 شن الجيش الايراني هجوما كاسحاً على مواضع اللواء 98 مشاة في قاطع حاج عمران جبل كوره دي وعلى مواضع اللواء 604 مشاة في قاطع سيده كان جبل زرار . بدأنا هجومنا في الصباح على جبل كوره دي قبل أن تتمكن القوات الايرانية المهاجمة من بناء السواتر البديلة وحفر الخنادق وكنت كلما تمرّ القذائف أثناء تسلقنا الطويل للجبل ، أموت من الرعب وأرمي نفسي منبطحاً كالمجنون والجنود الذين معي يسخرون مني ويقهقهون . أخيراً هدأوا من روعي وراحوا يشرحون لي باشفاق ، أن هذه القذائف من الجانب العراقي وهذه القذائف من الجانب الايراني وعجبت كيف يعرفون ذلك ؟ والله وحده يعلم كم أخاف حتى هذه اللحظة من صوت أية قذيفة حتى لو كانت قنبرة هاون 60 ملم أو انفجار اطار سيارة . كانت مهمة وحدتي يساندها لواء مشاة آخر زائداً فوج جيش شعبي وبقية مراتب وضباط اللواء 98 الهجوم على جبل كوره دي وطرد القوات الايرانية التي اكتسحت الخطوط الدفاعية للواء 98 . بعد أن دكّت مدفعية الفرقة 23 ومدفعية الفرق الأخرى مواضع القوات الايرانية . بدأنا شن الهجوم من عدة محاور وبما أن القوة الايرانية المهاجمة لم تكن بمستوى فرقة فقد تم طردها بسرعة ، ومعلوم في السياقات العسكرية أن اللواء المكون من 3 أفواج يقوم بالهجوم على فوج واحد ، والفرقة المكونة من 3 ألوية تقوم بالهجوم على لواء واحد ، أيّ أن كل 3 جنود يقومون بالهجوم على جندي واحد . بعد طرد القوات المهاجمة اكتشفنا أن بعض الجنود والضباط القتلى في اللواء 98 متفحمين تماماً من شدّة القصف المدفعي الكثيف والبعض الآخر ممزقة بطونهم ، ولأول مرة أشاهد مصارين الانسان الطويلة الخضر والصفر والحمر وبقية أعضاء الجسم البشري فشكرت الآلهة أن لنا جلوداً تخفي هذه الأشياء . كان بعض جنود اللواء 98 الجدد الذين اشتركوا في الهجوم معنا والذين لم تكن لهم خبرة كافية في الحرب ، عندما شاهدوا هؤلاء الجنود الممزقين وهم أصدقاءهم ورفاقهم ، أصيبوا بالهستيريا واعتقدوا ربما بفعل الحملات الاعلامية الضخمة لنظام صدام حسين التي كانت تصور الجندي الايراني على انه وحش و{ مجوسي كافر } وما شابه ، أن القوات الايرانية قد مزقت بطون رفاقهم بالحراب وأحرقت الآخرين بالنار ولم يعلموا ان تمزيق بطون هؤلاء الجنود والضباط كان بفعل شظايا قذائف المدفعية التي عادة ما تكون شبيهة بأمواس الحلاقة واحتراقهم كان بفعل شدّة النيران التي سبقت الهجوم على مواضعهم وملاجئهم ، فقاموا باطلاق النار على مجموعة من الأسرى وأردوهم قتلى ومن ثم راحوا يطلقون النار على الجرحى الذين يئنون ألماً ، ولقد شاهدت أحدهم يطلق 60 اطلاقة { مخزنين } من بندقيته الكلاشنكوف على جندي جريح في أحد الخنادق ، طبعاً تم دفن الجنود الايرانيين خارج الخنادق وكأن شيئاً لم يحدث . بعد نهاية المعركة بدأت عمليات اخلاء الجرحى والقتلى من منتسبي وحدتي . كانت الأوامر العسكرية الصارمة تنص على عدم الاخلاء أثناء الصولة . قتل من سريتي أكثر من عشرين جندياً وجرح العشرات أما أنا فقد اختبأت في شكفتة { كهف } بعيداً عن المواقع المتقدمة وكانت القذائف التي تسقط بالقرب مني تجعلني أرتعش كالقصبة في الريح من شدّة الرعب وكانت أسناني تصطك وكنت بالكاد أستطيع التنفس . في الغروب جاءت الأوامر الينا من قيادة الفرقة 23 مشاة بضرورة الانسحاب فوراً الى المقرات المتقدمة . سلمنا المواضع التي استعدناها من القوات الايرانية الى لواء المشاة 98 وغادرنا الى حيث اعادة التنظيم والتدريب العنيف الذي سيستمر ليلاً ونهاراً عدة شهور . في الساعة الثامنة مساء أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية بياناً صاخباً عبر وسائل الاعلام أدعت فيه اننا قتلنا وأسرنا آلاف الجنود والضباط واستعدنا المواضع التي احتلها الجيش الايراني وتمت تسمية هذه المعركة ب { المعركة التطبيقية } بسبب التنسيق بين قيادات فرق الفيلق الخامس كلها ، و تزامن الهجوم في قاطعي حاج عمران وسيده كان في نفس الوقت . بعد اسبوع من انتهاء الهجوم بعثت القيادة العامة للقوات المسلحة برقية فورية الى قيادة الفيلق الخامس تطلب فيها أن يرفع كل لواء أسماء 30 من الجنود والضباط ممن أبلوا بلاء حسناً وأثبتوا شجاعة عالية لنيل أنواط الشجاعة ، وأسماء 30 من مختلف المراتب لنيل رتبة أعلى . طبعاً سرّ الكثير من الجنود والضباط الشجعان لهذا التكريم . حين وصلت البرقية الى مقر وحدتنا جمع الآمر المقدم عبد المحسن { قتل فيما بعد أثناء هجوم بالسليمانية } الضباط في البهو من أجل التشاور حول اقتسام الغنيمة وطلب من كل آمر سرية أن يرشح مجموعة من الأسماء لنيل نوط الشجاعة ومثلها لنيل الرتبة الأعلى . بعد التحقق والاستفسار وشهادة الشهود وقسم الايمان الغليظة حول من أثبت شجاعة عالية ويستحق التكريم . رفع الضباط الأسماء وأرسلت الى مقر الفرقة لترفعها بدورها الى مقر الفيلق ، والفيلق يرفعها الى القيادة العامة للقوات المسلحة . في اليوم التالي بدأ اللغط يدور حول مجموعة من الأسماء التي رشحت لنوط الشجاعة والتي لم تشترك في المعركة بل كانت مهمتها الدائمة تكمن في البقاء في المقر الخلفي للوحدة في ناحية ديانا بالقرب من مصنع الاسمنت بحجة العمل في { الاعاشة } أو في مشاجب السلاح أو لحراسة المقرات أو في التوجيه السياسي أو في مكتب الأمن وماشاكل ، وهؤلاء الجنود الذين يتم تنسيبهم للعمل في المقرات الخلفية في كل وحدات الجيش العراقي ، معروف عنهم أنهم من العوائل الموسرة والذين يستطيعون أن يلبوا أيّ شيء يطلبه الضباط منهم مثل تقديم المال والهدايا ، خمور فاخرة ، عطور ، أجهزة كهربائية ، قطع احتياطية للسيارات وغيرها من الأشياء ، ويحصلون مقابل ذلك على أنهم لا يشتركون في أية معركة ويتمتعون بالاجازات الطويلة ونادراً ما كنا نشاهدهم في وحدتنا ، لا في المقر الخلفي ولا في المقر المتقدم . أخيراً وصل المرسوم الجمهوري الصادر من بغداد بعد اسبوعين وتم ابلاغ الجنود والضباط الذين رفعت أسمائهم في الاستعداد للذهاب الى بغداد ليعلق القائد العام المزعوم للقوات المسلحة الأنواط على صدورهم ، أما أصحاب الرتبة الأعلى فأمروهم أن يذهبوا الى حوانيت وحداتهم ويشتروا رتباً جديدة ، أيّ أن نائب العريف يشتري رتبة عريف والعريف يشتري رتبة رأس عرفاء الخ ما أن ظهرت الأسماء هذه المرة علانية حتى بدأ اللغط يزداد أكثر فأكثر وشعر أولئك الذين كانوا شجعاناً أكثر من غيرهم ولم يتم ترشيحهم بالغبن والخديعة . كنت أسمع اللغط ولم أستطع أن أعرف كيف توزع هذه الغنيمة :
- { سوف أذهب الى مقر قيادة الفرقة وأقدم شكوى ضد آمر السرية محمود . هل يعقل أن يرشح مهدي النائم في المقر الخلفي منذ سنة ونصف لنوط الشجاعة ولا يرشحني أنا ؟ بشرفي كلكم تدرون انني حصدت أكثر من 100 جندي ايراني في الرباعية { رشاشة ثقيلة لها 4 فوهات } لقد أطلقت أكثر من 2000 اطلاقة من الرباعية . ماذا ؟ هل كنت أطلق الاطلاقات في الهواء ؟ هل تراجعت ؟ هل توقفت عن الرمي عندما بدأت الطائرات السمتية الايرانية تقصفنا بالصواريخ ؟ بس هذا أخ القحبة مهدي المنيوك ، وين يروح مني ؟ }

- { بابا هاي غير معقولة . اير بالتاريخ . شنو هذا المنيوك فيصل يرشحه نقيب عماد ، هو هذا مال نوط شجاعة ؟ بشرفي نقيب عماد ينيك زوجته } .

- { هسه شلون يقدر الواحد أن يقابل قائد الفيلق أو قائد الفرقة ويقول لهما أن الرفيق سلمان ظل في التوجيه السياسي ولم يشترك في الهجوم ؟ أبو الأيور الآمر ، أعطاه نوط شجاعة لأنه ابن خالته . ألف اير بكس أمه القحبة ، القوادة ، الكلب ابن الكلب } .

جاء مهدي وفيصل من المقر الخلفي الى المقر المتقدم بملابسهما النظيفة والشبيهة بملابس الضباط تفوح منهما العطور الغالية . اشتروا لنا عصائر وبسكويت وحلويات بمناسبة حصولهما على أنواط الشجاعة تكريماً لبسالتهما العالية في دفع الرشوة للضباط . طبعاً ، أغلب جنود الوحدة لم يمدوا أيديهم الى أيّ شيء باستثناء بعض جنود المقر و{ الخدم } . في الساعة الثالثة فجراً ، كانت هناك عجلة إيفا متوقفة فوق تل يبعد عن سرية المقر مسافة لا بأس بها ، وفجأة تحركت من مكانها وتقدمت بسرعة صوب خيام الجنود وهم يغطون في نوم عميق . بدأ صياح الحراس والجنود الذين سارت فوقهم عالياً . البعض منا اعتقد انه تسلل ايراني أحاط بمقر وحدتنا ، والبعض الآخر لا يدري ماهو سبب الصياح والعويل ، والكارثة كانت مقتل شخصين ، أحدهما مهدي الذي كانت اصابته في رأسه حيث تهشمت جمجمته تماماً والآخر عريف الاعاشة في سرية المقر غازي كاظم ، ونجا البعض بعد أن تكسرت عظامهم . تم وضع سائق العجلة سالم دعدوش في سجن الوحدة بانتظار نتيجة التحقيق ، وأرسل الجرحى الى مستشفى أربيل العسكري . أثبتت نتيجة التحقيق التي قام بها مكتب الاستخبارات في وحدتنا بعد يومين . أن العجلة قد أفرغت من الهواء لا عن قصد . اطلق سراح السائق ولم توجه له أية تهمة ، لكن الذين سمعوا صاحب الرباعية وهو يهدد ويتوعد لم يستطيعوا أن يزيلوا شكوكهم ووساوسهم حول قيامه بتنفيذ تهديده عن عزم وتصميم بتدبير مقتل مهدي والشخص الآخر . بعد شهر عندما عدت الى وحدتي من الاجازة الدورية جلبت معي الأعمال المسرحية الكاملة لشكسبير { مشروع الجامعة العربية } والذي يبدو ان هذا أجمل مشروع استطاعت هذه الجامعة العتيدة أن تقدمه لنا طوال تاريخها الخرائي . كنت طوال الوقت صديقاً لشكسبير . كانت الأيام والليالي المملة والرتيبة ، حيث التدريبات العسكرية العنيفة بمنطقة قصري تجعل الانسان يشعر بالغثيان ويموت في كل لحظة ، ومما يزيد النفس انقباضاً انها عرصة صغيرة مهدمة وتحيطها الجبال الشاهقة من جميع الجهات ، فأنت أينما تولي وجهك ثمة جبال مثل { سكران } على اليسار ارتفاعه 3000 متر و{ مام روتا } على اليمين وارتفاعه أيضاً 3000 متر وفي الأمام { كوره دي } وارتفاعه أكثر من 35000 متر وبعيداً في الخلف ثمة جبل لم أستطع معرفة أسمه يبلغ ارتفاعه 4000 متر. كانت أوقات التدريب مستمرة ليلاً ونهاراً حتى في أيام العطل والأعياد ، لكن مع هذا كنت نهماً في القراءة . يبدأ بوق النهوض الصباحي في الساعة الخامسة صباحاً ، وأحياناً في الساعة الرابعة ، وبالكاد نستطيع حلاقة وجوهنا وتلميع جزماتنا التي يجب أن تكون براقة في ساحة العرض الصباحي ، وهذا سياق انجليزي متبع دائماً منذ أن تأسس الجيش العراقي عام 1921 من قبل الفيالق الانجليزية التي احتلت العراق بجنودها من الهنود في الحرب العالمية الأولى ، أما الفطور فلا أعتقد أن أحداً يفطر بشهية ، ذلك لأنه يقتصر في جميع وحدات الجيش العراقي منذ التأسيس وحتى الآن على حساء العدس فقط المطبوخ بطريقة تخلو من أيّ ذوق ، والشاي الذي عادة يشبه الماء الساخن وهو اما أن يكون حلواً جداً أو مراً جداً ، ذلك لأنه يطبخ في قدور الطعام الكبيرة ويوضع فيه السكر منذ البداية . بعد انتهاء العرض الصباحي الذي يبدأ من الساعة السادسة ويستمر مع التدريب العنيف الى الساعة العاشرة ، يعلن بوق التفرق وننسحب الى المقرات لاستلام الأرزاق الصباحية ، وحصة كل جندي هي { صمونتين } من الذرة وحبة قثاء ونصف علبة لبن رائب صغيرة وأحياناً تفاحة أو برتقالة أو حفنة من التمر زهيد الثمن من ذلك النوع الذي يصلح للحيوانات . بعد ساعة من تسلم الأرزاق الصباحية يبدأ وقت التدريب الثاني الذي يستمر الى الساعة الواحدة ظهراً ، بعدها يعلن بوق الغداء ونذهب الى مطابخ السرايا حيث الطعام المعتاد الذي لا يتغير أبداً في جميع الفيالق العسكرية العراقية منذ عام 1921 ، وعلى الرغم من جميع الانقلابات الدموية العديدة التي نفذتها المؤسسات العسكرية في تاريخ العراق منذ انشائه وحتى الآن يبقى غداء الجندي هو الرز والمرق فقط ، أحياناً مع اللحم وأحياناً من دون اللحم ، وكان اللحم الذي يقدم لنا يتم استيراده من نيوزلندا وبسبب عدم طبخه بصورة جيدة من قبل المراتب الذين يتم تنسيبهم بالواسطة والرشوة في المطابخ ، يمتنع أغلب الجنود عن أكله ويطلقون عليه اسم { لحم الكنغر } أما في أيام الأعياد فيطبخون لنا { حلوى الجيش } وهي تتكون من دقيق القمح مع اللوز والسكر . بعد الغداء وأخذ قسط ضئيل من الراحة يبدأ وقت التدريب الثالث الذي يستمر من الساعة الثالثة ظهراً الى الساعة السادسة مساء وأغلب سياقات تدريباتنا تتركز على الهرولة السريعة المتكررة ، ومن يتأخر توجه له الاهانة والشتائم القاسية المعتادة في قاموس بذاءة الضباط مثل { قشمر} التي لا أفهم معناها حتى الآن ولعلها كلمة ايرانية أو تركية ووقعها عادة ما يكون ثقيلاً جداً على الجندي ، أو { مطي} أو { سأسحق رأسك في الحذاء } ومن ثم يتوجب على الجندي الذي يتأخر في الهرولة اعادة الكرّة وبسرعة . بعد الهرولة يأتي الركض الى مسافات طويلة جداً وعادة نكون بكامل تجهيزاتنا العسكرية مثل السلاح الشخصي وجعب العتاد { اطلاقات الرصاص } للبنادق الرشاشة وتشمل الكلاشنكوف وال RBK و ال BKC و قنابر لمدفع الهاون 60 ملم وصواريخ لقاذفات ال RB7 وقناع الوقاية وزمزمية الماء والمجرفة والحقيبة السفرية والبطانية ، ونقالات اخلاء القتلى والجرحى ، وتكون مهمة الأعداد على الشكل التالي : عدد القاذفة RB7 بالاضافة الى بندقيته وتجهيزاته ، يجب أن يرافق صاحب القاذفة ويحمل معه جعبة صواريخ اضافية ، لأن صاحب الفاذفة لا يستطيع أن يحمل جعبتين ، وينطبق هذا الشيء على عدد الهاون وعدد ال BKC بعد الركض الطويل يسمح لنا بأخذ استراحة قصيرة لالتقاط الأنفاس وتدخين سيكارة واحدة ومن تم نعاود الركض من جديد صوب ساحة العرض ، لنبدأ الرمي على الشواخص والطعن بالحراب والمصارعة وتفكيك وتركيب السلاح وأحياناً نذهب بعيداً عن ساحة العرض باتجاه الجبال للتدريب على التسلق وحفر الخنادق أو نقوم بعمليات تسلل والتفاف وهمية خلف خطوط مواصلات ومواضع القوات الايرانية ، نعود الى المقرات بعد سماع بوق التفرق في الساعة السادسة مساء . لا أحد منا يود الذهاب الى المطبخ لجلب طعام العشاء ، لأنه في كل وحدات الجيش العراقي على طول جبهات القتال ، يكون العشاء المعتاد هو المرق فقط الذي تم طبخه ظهراً . نذهب الى حانوت الفوج ونشتري الخبز و البيض والباذنجان والطماطم . بعد العشاء أكون منهكا ومتعباً . أستلقي على فراشي وأدفن رأسي في كتاب بانتظار فترة التدريب الرابعة التي تبدأ أحياناً من الساعة الثامنة مساء وتستمر حتى الساعة العاشرة . لا شيء لدي يعادل متعة القراءة وسط هذه الجبال الموحشة وهذه الحياة البائسة التي أحياها هنا والتي لا أدري متى تنتهي وبأية طريقة تنتهي . هل أموت من جراء اطلاق قذيفة مدفع طائشة ؟ هل أموت بصلية رشاشة ؟ هل أموت بفعل انفجار لغم يمزق أشلائي ؟ والمصيبة انني لا أعرف أية مهنة ولا أملك شهادة دراسية سوى شهادة { محو الأمية } التي حصلت عليها عام 1976 تخولني أن أكون في صنف غير صنف المشاة مثل مأمور مشجب أو حلاق أو طباخ أو سائق عجلة أو براد أسلحة . ماذا أفعل ؟ هل أكتب قصائد حرب تعبوية تمجد دموية صدام حسين وشجاعته المزعومة وأدفعها الى دائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة و الاعلام لتصدر ضمن سلسلة { ديوان المعركة} أو في سلسلة { في الثقافة والحرب }؟ وأطلب بعد ذلك نقلي من وحدتي الى دائرة التوجيه السياسي في وزارة الدفاع ببغداد ، شأني شأن أولئك الذين ينعقون ويهللون لأمجاد القائد الملهم ؟ لكن منظر أولئك الأدباء الذين يعملون في دائرة التوجيه السياسي والذين يرتدون ملابس شبيهة بملابس الضباط ورجال الأمن والاستخبارات . يجعلني أشعر بالاشمئزاز والقرف . وجوه كالحة ومصفرة تزيت الماكينة الاعلامية لنظام صدام ليلاً ونهاراً من دون خجل أو حياء . جثث متهرئة تنهي عملها الذي يصب في خدمة السلطة الديكتاتورية في الساعة الثانية بعد الظهر . سعيدة بخنوعها وراضية بتدمير البلاد والعباد وتقضي أوقاتها في المقاهي والبارات . كل ما تملكه من إرث ثقافي لا يتجاوز الثرثرات والترهات التي لا تنتهي ، ولكي تضفي على نفسها طابعاً أدبياً ما ، باعتبارها أصدرت الكثير من الروايات والمجموعات القصصية والشعرية { وهذه الوجوه هي التي أعنيها تحديداً }التي تمجد صدام وقادسيته المشؤومة . تحمل حقائب يدوية مليئة بكتب تتمزق أغلفتها دائماً من دون أن تقرأ . ماذا أفعل أنا الشاعر الشاب الباحث عن المطلق والحب والحرية والمهموم في الموت و التحول والصيرورة والبحث عن أشكال جديدة للقصيدة التي أحلم بكتابتها في المستقبل ؟ ألم أنطلق في البداية من الشعر الجاهلي وأفهم صراع الشاعر الحقيقي مع الموت والزمن والاغتراب والحب والحنين والأشواق ؟ ألم أتعلم من سعدي يوسف و السياب والبياتي وبلند الحيدري وأدونيس وأنسي الحاج وتوفيق صايغ . أن الشعر مشروع شخصي ويجب الاخلاص له وتكريس حياة كاملة له ؟ صحيح انني أكتب قصيدة النثر وأعرف انها لا تنشر في العراق لكنني أستطيع أن أنشرها في الخارج اذا ما تمكنت يوماً ما من ذلك . وكم أشعر بالاشمئزاز الآن عندما أتذكر الشاعر .......... سكرتير تحرير مجلة الطليعة الأدبية الذي أنهى خدمته العسكرية في دائرة التوجيه السياسي و الذي أصدر مجموعة حملت عنوان {100 قصيدة في حب الرئيس القائد صدام حسين } وأستحق من أجلها شقة فاخرة قدمها له محبوبه صدام هدية تقديراً لمحبته اياه . لقد رفض هذا الفطحل أن ينشر لي مجموعة قصائد قدمتها الى مجلة الطليعة الأدبية في الشهر الرابع من عام 1986 بحجة انها قصائد نثر سوريالية والبلد يخوض حرباً مع ايران وبالتالي فانه لا يستطيع أن ينشرها وطلب مني أن أقدم قصائد حرب تعبوية طالما انني جندي في جبهات القتال وقال : { هات قصائد تعبوية وسأنشرها في العدد القادم ، حتى لو كانت غير موزونة } طبعاً لم أقدم قصائد تعبوية لأن ذلك بصراحة يعنني انني لا أستطيع مهما حاولت أن { أقشمر } نفسي أن أكتب ما يخدم الحرب والنظام التي أشعلها . انني أكتب قصائد عن الحرب حسب قناعاتي وفهمي للحرب التي هي حرب النظام الفاشستي وأسياده من الامبرياليين الذين دفعوه لاشعالها . كتبت عن مصير الانسان وأشواقه وتوقه الى الحرية وأحلامه المشروعة في عالم تسوده العدالة الانسانية والطمأنينة . كتبت عن الجنود العشاق ، عن أنين الجرحى ، عن أولئك الشباب الذين يساقون الى ساحات الاعدام بسبب رفضهم للخدمة العسكرية ، عن أخوتنا الأكراد الذين يحرق بيوتهم وقراهم الجيش العراقي ويقتلهم في كل آن ، وكنت أعلم أن هذه القصائد التي أكتبها لا تصلح للنشر ومن الممكن أن { توديني بداهية } ولكني لم أكترث ، ذلك لأنني أكتب ما يمليه علي ضميري ، ولكي أثأر من هذا الشويعر عاشق صدام وأمثاله الذين يتسكعون في شوارع بغداد ويثرثرون في المقاهي والحانات بعيداً عن جحيم الحرب والاهانات الدائمة والقمل والبرغوث . وطنت النفس على المثابرة المضنية في القراءة من أجل فهم أكثر للعالم والزمن والتاريخ ومن أجل احترام الذات وتطوير المشروع الشعري الذي كنت وما زلت أعتقد أنه لا يتم بالسهولة التي يتصورها البعض ، بل في الصبر والبحث المضني والتجريب والمغامرة المستمرة . أليس الوعي هو زهرة التاريخ حين يتدفق ويتعرج الحاضر في أنهار الماضي والمستقبل ؟ وهكذا رحت أستعيد عافيتي القديمة في القراءة العميقة من أجل فجر المستقبل الذي كنت ألمحه عبر الدخان والشظايا التي تقتل الابتسامة في وجوه الناس وتلطخ وجوه الزهور في التراب والسخام ، وأتذكر الآن قصيدتي { ظلال محيي الدين بن عربي } التي نشرتها مجلة الكرمل عام 88 19 العدد 23 حيث كتبت في مقدمة مقطعها الخامس :

- { هذه الكلمة الحادة ، لا تفرط فيها
لا تدنسها ولا تقايضها بخزائن يوسف
اعضدينا أيتها الكلمة / الوديعة / يا روح الله
لمعانك بلسماً لجروحنا العميقة :
بالكلمة سترفع الذهب من مناجم عميقة وساكنة
وتشبع فقراء ومشردين في شوارع ليل العالم .
هذه الكلمة الحادة ، لا تفرط فيها
لا تدنسها ولا تقايضها بخزائن يوسف

ستبني من خلالها بيوتاً للعشاق والمنفيين
وستدحر فيها غزوات يقوم بها مغامرون متعطشون للدماء
منشدة واياك عذابات البشر الحزانى في الأرض .
هذه الكلمة الحادة ، لا تفرط فيها .

بعد مغادرتي العراق الى الأردن في 14 /12 / 1994 بمساعدة كريمة من الصديقة الشاعرة أمل الجبوري وكنت قد بعت مكتبتي كلها وأخفيت مجموعاتي المخطوطة . أرسلت رسالة الى صديقي الشاعر حسين علي يونس أطلب فيها أن يذهب الى بيت أهلي ويأخذ مجموعاتي ويحتفظ بها عنده ، ذلك لأن رئيس اتحاد الأدباء في العراق رعد بندر جاء الى العاصمة الأردنية عمان موفداً من قبل سيده عدي ، يطلب معلومات عن عدد من الأدباء العراقيين ويطلب من الأدباء الآخرين المتواجدين بعمان العودة الى العراق { بأمر الاستاذ } مقابل طبع كتبهم وتوظيفهم في دوائر فيلق الاعلام التهريجي وراح يهددنا ويتوعدنا أيضاً بسبب معلومات وصلت الى دوائر النظام الأمنية حول نيتنا انشاء { تجمع ديمقراطي للثقافة العراقية } في الخارج وفعلاً ذهب الصديق حسين الى بيت أهلي وأخذ المجموعات التي ظلت بحوزته لحين سقوط نظام القتلة ، وكان قبل ذلك قد أرسل لي عدة قصائد منها . بعد شهور من سقوط النظام ، ذهب الصديق الشاعر باسم المرعبي الى العراق لزيارة أهله والتقى ببغداد الصديق حسين علي يونس الذي سلمه مخطوطاتي . عاد باسم الى السويد وأرسل لي المخطوطات في البريد . سعدت جداً وشكرته ذلك أن القصائد التي كتبتها أثناء الحرب مع ايران ولم أستطع نشرها . بقيت وسقط النظام وسقطت معه كل ثقافة الدمار والموت والخراب التي ظلت مهيمنة على المشهد العراقي طوال سنوات حكمه الفاشستي . من هذه المخطوطات هناك مجموعة تتكون من 37 قصيدة كتبتها عن جان دمو وقرأتها لمجموعة من الأصدقاء في مقهى حسن عجمي عام 1987 عنوانها { ولاء الى جان دمو } كانت أختي الكبيرة تقول لي باشفاق عندما أهرب من الخدمة العسكرية وأعيش متخفياً : { اكتب مجموعة ولاء عن الريس حتى يتم نقلك الى بغداد } نشرت هذه المجموعة في موقع كيكا وموقع الحوار المتمدن وبعد شهر نشرت في نفس الموقع 16 قصيدة . 15 منها ممن جلبها الصديق باسم المرعبي . منها 5 قصائد كتبتها عن المعارك التي كانت تدور في قاطعي سيده كان و حاج عمران وواحدة عن جرائم نظام صدام ضد الأكراد في عمليات الأنفال حملت عنوان { الأنفالات 1988 بعض الهوامش } وبقية القصائد عن مناخ الحرب في بغداد وعذابات الناس . عام 1986 قدمت الى مدير دائرة التأليف والنشر في دائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والاعلام مجموعة شعرية عنوانها { جهشات } من أجل النشر . رحب بي الرجل ووعدني خيراً وبعد أيام ذهبت الى زيارة الكاتب المرحوم موسى كريدي الذي كان يرأس آنذاك تحرير الموسوعة الصغيرة والمرحوم موسى شخصية جادة وساخرة في آن معاً ، ومن سخريته أنه كان يكتب قصائد عمودية عصماء وينشرها في صحيفة الجمهورية وقد قرأنا له مرة قصيدة طويلة ساخرة يمدح فيها الصحفي هاتف الثلج اسمها { يا هاتف الثلج } وحين سألناه لماذا يمدح هذا الشخص في هذه القصيدة ؟ أجاب بسخريته المعهودة بصوت خفيض : { حتى يعرف عبد الرزاق عبد الواحد وأمثاله ، انني أكتب قصائد أفضل منهم ولكنني لا أمدح فيها صدام حسين كما يفعلون } وتشاء الصدفة أن يكون هذا الصحفي المتواضع ممدوح موسى بعد هزيمة النظام في أم المهالك السكرتير الصحفي لصدام حسين . في ذلك اليوم لم أجد موسى في مكتبه فعرجت على مدير النشر خضير اللامي لأستفسر هل أحال مجموعتي الى رقيب ممن تعينهم دائرة الشؤون الثقافية ؟ فلم أجده أيضاً . علمت فيما بعد انهما في اجتماع عمل . بعد أسابيع أخبرني بعض الأصدقاء الأدباء ممن يعملون في هذه الدائرة ، أن مجموعتي قد ألقيت في برميل نفاية . قلت لنفسي حسناً ، سأنشر قصائدي بطريقتي الخاصة . أعددت 4 مجموعات شعرية وكتبتها بخط اليد بعد أن اشتريت { حبر صيني أسود } وذهبت الى مكتب تصوير بالدفلوب يقع في منطقة الوزيرية . دفعت راتبي الشهري كله واستلمت 50 نسخة من مجموعاتي التي ضمها مجلد حمل عنوان { جهشات / 4 مجموعات شعرية } وزعتها مجاناً على أصدقائي الشعراء والكتاب والنقاد داخل العراق وخارجه . أثمرت النتيجة هنا وكان أول الغيث أن نشر لي الشاعر والكاتب سليم بركات 7 قصائد في مجلة الكرمل}عدد 18 1986 وكان هذا أول ظهور أدبي لي وبعدها قصيدة طويلة في العدد 23 عام 1988 و شملني الناقد حاتم الصكر بجهده النقدي فكتب دراسة طويلة و نشرها في صحيفة الجمهورية عام 1989 بعنوان { جهشات الغجري الملعون } وفتح لي الباب فيما بعد لأنشر قصائدي في مجلتي الأقلام والطليعة الأدبية اللتين رأس تحريرهما في بداية سنوات التسعينات ، وفي العدد الخاص الذي كرسته مجلة { كلمات } التي تصدها أسرة الأدباء بالبحرين للشعر العربي المعاصر عام 1989 ظهر اسمي في هذا العدد الى جانب عدد من الشعراء العراقيين والعرب . والآن ، بعد كل هذه السنوات يحلو لي أن أسأل هذا السؤال : هل كنت أنا الجندي الهارب من الخدمة العسكرية والذي من الممكن أن يعرضني هروبي الى عقوبة الاعدام . أتاجر في الخسارة بعملي هذا ، أم كنت أصون وأحافظ على ميثاق الشرف الذي عقدته مع جوهر ووظيفة الشعر كما فهمتها منذ البداية ؟ وهنا أود أن أذكر حادثة أخرى تتعلق بالشعر حدثت معي بعمان في منتصف التسعينات . كنت أسكن في غرفة مستأجرة مع صديقين لديهما عمل وراتب ثابت وكان موعد دفع الايجار قد حان ولم أكن آنذاك أملك درهماً واحداً ، وهما يلحان حول ضرورة تدبير المبلغ . ذهبت الى الصديق الشاعر علي عبد الأمير من أجل أن يسلفني مبلغاً من المال كما هي عادتي معه عندما أفلس تماما . قال لي علي : { الآن لا أملك مالاً ، ولكن أستطيع أن أعطيك عباءة رجالية تبيعها وتحل شظية من المشكلة } . بعت العباءة بخمسة دنانير الى رجل أردني أمام الجامع الحسيني وتوجب علي بعدها أن أدبر الجزء المتبقي . ذهبت الى بيت الأستاذ سعدي يوسف الذي استضافني ضيافة كريمة كما هو معهود عنه وأعطاني بقية المبلغ . في الطريق وكان مهرجان جرش منعقداً ، التقيت صدفة الناقد حاتم الصكر ومعه شخص آخر لا أعرفه . قال لي حاتم : { لدي مفاجأة لك } وأشار الى الرجل الآخر . استغربت مثلما استغرب الرجل وبسرعة قال حاتم : { هذا عباس بيضون } ولم أكن قد رأيت صورة لعباس بيضون من قبل ، وهنا رحت أصرخ من السرور وأرحب به لأنني أحب شعره مثلما أحب شعر السياب وأدونيس وسعدي يوسف وسركون بولص وغيرهم من الشعراء , وهو مندهش من هذه الحفاوة البالغة حتى قال له حاتم : { هذا الشاعر نصيف الناصري } رحب بي الرجل وعلمت منه أنه قد كتب مقالاً عن العدد الخاص الذي أصدرته مجلة أسفار وكرسته ل 39 شاعراً من شعراء الثمانينات عام 1989 ، وقال انه أشار في مقاله الى 4 شعراء فقط أنا أحدهم ، وطلبت منه أن يعيرني مجموعاته اذا أمكن من أجل استنساخها لأرسلها الى العراق لأن دائرة الرقابة في العراق كانت تمنعها من المكتبات باستثناء مجموعته الأولى { صور } لأن عباس بيضون كان لا يلبي الدعوات التي توجه له لحضور مهرجان المربد التهريجي الذي كان يقام في العراق . ذهبت معهما الى الفندق وأخذت مجموعات عباس الى أقرب محل للتصوير والاستنساخ . استنسخت المجموعات كلها . دفعت مبلغ ايجار البيت ثمناً للاستنساخ . أرسلت من كل مجموعة نسخة واحدة الى الأصدقاء الشعراء في العراق ، واحتفظت لنفسي بنسخة واحدة أيضاً من كل مجموعة . طردت من البيت . حاولت مع الصديقين ريثما ألتقي المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي في المساء حين يأتي الى مقهى الفينيق لكن من دون جدوى . علمت فيما بعد أن عباس بيضون كان قد كتب في مجلة الصياد حين عاد الى بيروت مقالاً عن شاعر يستنسخ الشعر بمبلغ ايجار البيت . لقد كتبت قي مناسبة سابقة حين كنت بالعراق { ينبغي الاهتمام بأصوات الشعراء الجدد من أجل فرز المواهب الطارئة واشعال النار الشعرية في وسطنا الأدبي والثقافي ، اذ ليس من المعقول أن يبقى هؤلاء الشعراء يكتبون ابداعاتهم ويبقون مهمشين وتفرض عليهم التوجيهات وأساليب الوصاية الفجة دائما . أن التهميش الذي مورس ضدنا من قبل الصحف والمجلات ودائرة الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة والاعلام واتحاد الأدباء والكتاب ، ليس هو الذي رسخ أسماءنا في العراق والوطن العربي وفي مجلات أدبية تصدر بقبرص والمانيا ولندن وباريس واليونان ، والاحتفاء في الشاعرين الثمانينين باسم المرعبي وخالد جابر يوسف لم تقم به أية جهة رسمية هنا ، وانما جاء من دار رياض الريس للنشر بلندن حيث فازا بالجائزة الأولى ، في المسابقة الشعرية التي أقامتها تلك الدار واشترك فيها شعراء كثيرون من الوطن العربي , وكذلك الاحتفاء بالشاعرين الثمانينين أيضاً طالب عبد العزيز وعلاوي كاظم كشيش ، لم تقم به أية جهة هنا ، وانما جاء من مجلة اللوتس ، وهي ليست الأديب المعاصر مجلة الاتحاد العام للأدباء والكتاب بالعراق ، وانما مجلة اتحاد أدباء آسيا وافريقيا } .




معارك الاكتساح العنيف قاطع سيده كان 23 / 4 / 1986

موت الطيور والفراشات واليراعات

كان الجيش الايراني في بداية الشهر الرابع من عام 1986 قد سحب الجزء الأعظم من قطعاته المتمركزة في القاطع الشمالي للجبهة وخصوصا قاطع سيده كان ونقلها الى القاطعين الأوسط والجنوبي بغية شن هجمات كبيرة على مواضع وحدات الفيلق الثاني في محافظة ديالى ووحدات الفيلق السابع في محافظة البصرة . بدت هذه المناورة مكشوفة منذ البداية للقيادات العسكرية العراقية ، ومنذ أن بدأت القوات الايرانية في الحركة والتنقل تم وضع جميع القوات العراقية في القاطع الشمالي في حالة انذار قصوى ومنعت الاجازات وتم أيضا تحريك اللواء 64 قوات خاصة بقيادة العقيد علي العربيد ، فجاء مسرعاً من ديالى الى قاطع سيده كان وكانت مهمته هي استعادة عارضة { كوشينه } العالية جداً ، وكانت القوات الايرانية قد احتلتها في العام 1983 أثناء هجومها الكبيرعلى على كل قاطع حاج عمران . كانت الخطط التي أقرت في القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية هي أن تقوم جميع فرق الفيلق الخامس وبقية القطعات المتجحفلة معها مثل ألوية الجيش الشعبي ولواء 64 قوات خاصة بمدفعيته الميدانية في الهجوم العنيف على مواضع القوات الايرانية في كل قاطع سيده كان . في الليلة التي سبقت الهجوم تم نقل وحدتي ليلاً من منطقة قصري في قاطع حاج عمران الى منطقة أخرى في قاطع سيده كان وكنت حالي حال بقية الجنود في الوحدات الأخرى ، لا أستطيع أن آكل أو أن أتكلم . التدخين بشراهة فقط هو ما يمارسه الجندي حين يتم وضعه في الانذار في ليلة الهجوم ، لكن ما أن تبدأ الصولة في الدقيقة الأولى من الهجوم حتى يتلاشى الخوف والحزن والانقباض وتبدأ الأشياء السوريالية الأخرى مثل .
{ سيدي ، سيدي ، فلان استشهد . كان مختبأ مع البغال }
{ لك دير بالك يا بغل ، فلان انقطعت رقبته بشظية كبيرة }
{ هذا بلاّع الاير يصوب على القمة ، هسه تقصفنا المدفعي } . ناهيك عن الضحك والشتائم والنكات والصيحات الصاخبة الخ . كان الهدف الذي كلفت وحدتي في الهجوم عليه هو مواضع أحد الأفواج الايرانية في الحافات الغربية لجبل حصاروست . حددت لنا وللقوات المهاجمة الأخرى ساعة الصفر في الساعة الثالثة فجراً ، قبلها كانت وحدات المدفعية في جميع قواطع الفيلق الخامس والراجمات قد بدأت تصب حممها على مواضع وتحصينات القوات الايرانية منذ الساعة الثانية عشرة ليلاً . بدا الجو أشبه بيوم الدينونة ويعرف الذين أمضوا خدمتهم في القاطع الشمالي ماذا تفعل قذيفة مدفع حين تسقط على الصخور أو بالوديان أو على السفوح . كان رجال الهندسة أثناء القصف قد بدأوا عملهم في ازالة وتدمير حقول الالغام بعد أن استطلعوا الأماكن برفقة فصائل الاستخبارات في الليلة التي سبقت الهجوم . بدأنا تقدمنا وتسلقنا الحافات الغربية لجبل حصاروست تحت أمطار من القصف الشديد . كنا في غاية التعب من جراء التسلق الطويل . البعض منا تخلص من البطانيات والبعض الآخر رمى المجارف وأقنعة الوقاية من الغازات الكيمياوية وحتى الخوذ التي تحمي الرؤوس , أما أعداد الهاون 60 ملم ورشاشات ال BKC وقاذفات ال RB7 فقد تخلص الكثير منهم من أعتدتهم الاحتياطية ، وحين اقتربنا من الهدف المراد مهاجمته ، خف القصف شيئاً فشيئاً لنباشر القيام في الصولة . علت الأصوات واختلط الحابل بالنابل . صالت الأرتال ، وبدأ النشيج يسمع من أولئك الجرحى الذين سقطوا في أول صلية وصلت الينا من المواضع الايرانية المهدمة . يا إلهي ، لقد بدأت الأرض تحترق ، الدغل ، الأشجار ، الصخور ، الملاجىء ، السواتر ، لم يعد ثمة ما يشي في النجاة من هذا الهول العظيم . بالنسبة لي ، لا خيار لي سوى التقدم صوب الجحيم . أطلقت ساقي للريح وهرولت راكضا عبر دروب نيسمية مع ثلة من جنود خائفين مثلي صوب أماكن اعتقدناها أكثر أماناً . أمطرت فوقنا السماء في الطريق شظايا مثل رؤوس الشياطين . هذه المرة احترق الجو أكثر من الأرض . تحطمت آلاف النجوم وسقطت متهاوية فوق القمم ، وعلى السفوح ، وفي الكهوف ، أيضاً سقطت الآلاف من الطيور والفراشات واليراعات ميتة في الطرقات الجبلية الوعرة . بعد ساعة ونصف من بدأ هجومنا على الهدف استطعنا احتلاله وتطهيره من الوحدة الايرانية . لم تكن خسائر سريتنا كبيرة . كان هناك قتلى وجرحى لكن لا يمكن مقارنة عددهم بخسائر المعركة الأولى ، وكم شعرنا بالأسى لمقتل جندي من سريتنا اسمه حردان كان بدوياً ووحيد عائلته ، قتل أثناء القصف على نقطة الادامة . بدأنا بحفر ملاجىء وسواتر جديدة برفقة سلاح الهندسة تمهيداً لتسليم الهدف الى لواء مشاة ، وكانت قيادة الفرقة 23 قد أرسلت على الفور وحدات هندسية مختلفة ، جاءت بلدوزرات لشق طرق جديدة وأصلاح الطرق التي تهدمت . جلبوا الأسلاك الشائكة وراحت وحدات هندسية أخرى تحاول زرع حقول ألغام جديدة في السفوح الممتدة بيننا وبين القوات الايرانية المتمركزة خلف الأرض الحرام . كانت القوة التي تمكنا من طردها من الهدف هي فوج مشاة ، وكانت تبدل منذ عام 1983 مواضعها مرة في الصيف ، ومرة في الشتاء ذلك لأن جبل حصاروست وهو أعلى جبل في العراق يبلغ ارتفاعه 5000 متر لا تستطيع الوحدات العسكرية البقاء فوق قمته الصاعدة صوب السماء في فصل الشتاء بسبب قلة الهواء و تراكم طبقات الثلوج الكبيرة فوقه على مدار العام ، وتدمير الطرق من جراء هطول الأمطار الغزيرة والتي لا تكاد تنقطع أبداً ، لذلك كانت هذه القوة تنزل في فصل الشتاء الى الحافات الغربية لجبل حصاروست وفي فصل الربيع حين تبدأ الثلوج بالذوبان تصعد مرة أخرى الى مواضعها التي تركتها سابقاً فوق القمة . كانت الخطط العسكرية التي أعدها قادة الفرق وضباط الأركان في الفيلق الخامس تقضي بوضع لواء مشاة في القمة من جهة قاطع سيده كان ويباشر الصعود والتحصن في المواضع الجديدة بعد العمليات التي سيقوم بها سلاح الهندسة تمهيداً لاعداد الطرق وبناء السواتر والملاجىء وتحصين مقرات الضباط وخطوط التموين ونقاط الادامة ووحدات الميدان الطبية ، قبل أن نسلم الهدف الى لواء مشاة . علمنا أن لواء القوات الخاصة 64 استطاع احتلال عارضة كوشينه العالية جداً عبر عمليات التفاف وانزال بالطائرات وانقض على اللواء الايراني المتحصن في الهدف منذ 3 سنوات خلال ساعات قليلة ، ومعروف أن هذا اللواء كان يعتبر من أفضل ألوية الجيش العراقي خلال الحرب العراقية الايرانية وقد أحرز المرتبة الأولى في اللياقة والتدريبات القتالية عام 1988على جميع وحدات الجيش العراقي في كل الفيالق أثناء تقييم نتائج التدريب السنوي التي أعدتها وزارة الدفاع ، وهو مكون من 4 أفواج عكس الألوية الأخرى التي عادة ما تتتكون من 3 أفواج ، ويملك بطرية مدفعية ميدان متوسطة لا تملكها الألوية الأخرى . لأغراض دعائية سميت هذه المعارك التي دارت في قاطع سيده كان ليلة 23 / 4 / 1986 بمعارك { الاكتساح العنيف } وقد أشار البيان العسكري الصادر في صباح اليوم التالي لأول مرة خلال سنوات الحرب الى أسماء قادة الفرق وآمري الألوية وصنوف وأرقام الوحدات العسكرية التي قامت بتنفيذها ، وكانت وحدات جرارة أخرى من المشاة قد قامت باستعادة جبال ومناطق كانت القوات الايرانية قد احتلتها في العام 1983في سيده كان وقد تم طرد آخر جندي ايراني من جبل زرار وسواه من الجبال الأخرى في هذه الليلة . بعد أن فرّت القوة الايرانية وتركت الهدف بما فيه من معدات وأسلحة وتجهيزات . صدرت آوامر المقدم عبد المحسن آمر وحدتنا بضرورة الاسراع فوراً بدفن جثث الجنود والضباط الايرانيين القتلى خارج السواتر والملاجىء . باشرنا على الفور بحفر القبور ودفنا الجثث ، وقد أثار فزعي مشهد ضابط ايراني برتبة ملازم أول قتل في أحد الخنادق بفعل سقوط قذيفة مدفع ، لقد وجدناه يقف على رجليه وظهره محنياً ورأسه الى الأسفل . كانت الشظايا قد حفرت رأسه وصدره ، ولم يسمح للموت أن يجعله يسقط أرضاً ، ويبدو لي أنه كان شجاعاً جداً . كان من ضمن القتلى الكثير من الجنود الكبار في السن ، وأظنهم من المتطوعين وليس من الجيش النظامي . في مساء اليوم التالي صدرت الأوامر الى وحدتي بتسليم الهدف الى لواء المشاة 23 والتحرك الى المقر المتقدم في قصري لاعادة التنظيم واحصاء الخسائر والمباشرة بالتدريبات العنيفة استعداداً لمعارك أخرى ، لا ندري في أيّ قاطع آخر ستفتح فيها جهنم هاويتها . في المقر المتقدم بعد أن سلمنا الهدف الى لواء المشاة 23 و سمع الجنود والضباط بيان القيادة العامة يثني على شجاعتهم وينوه بذكر أسماء قادتهم ، راح الجندي هادي مكَوطر يدعي أنه استطاع قتل أكثر من 10 جنود ايرانيين كانوا يتحصنون ويطلقون النار من أحد المواضع بقذائف هاونه عيار 60 ملم ، ويحدد الهدف الذي يدعي قصفه ، ونائب العريف حاتم يقول أنه أسر جندي وقام بتسليمه الى استخبارات الفيلق ، وعلي عجاج يقول أنه دمر بصاروخ قاذفة RB7 موضع رباعية مع جميع أعدادها . بعد ثلاثة أيام من انتهاء المعارك تم تعميم برقية من القيادة العامة للقوات المسلحة الى كافة القطعات التي خاضت معارك الاكتساح العنيف في قاطع سيده كان تعلمها أنه تقرر أن يحصل القادة والضباط ونواب الضباط وجميع المراتب في كل الصنوف على رتبة أعلى ، وهكذا أصبح المقدم عبد المحسن آمر وحدتي برتبة عقيد ، وأنا برتبة جندي أول . بعد أيام قليلة وصلت برقية أخرى تقول : { تقرر منح جميع القادة وضباط الأركان وآمري الألوية ثلاثة أنواط شجاعة لكل واحد منهم } وتطلب أيضاً أن يرشح كل فوج أسماء 20 مقاتلاً من مختلف الرتب والصنوف لنيل نوط شجاعة واحد . رفعت الأسماء الى قيادة الفرقة . علي عجاج حين رفع اسمه آمر السرية الملازم محمود { قتل فيما بعد في هجوم على جبل كرده مند } طار فرحاً وراح يتشقلب في الهواء . ساحة العرض الصباحي في اليوم التالي خلت من هادي مكًوطر ونائب العريف حاتم الذي أصبح عريفاً الآن .
{ وين هذوله القشامر ، لماذا لم يأتيا الى التدريب} ؟ سأل آمر السرية الملازم محمود بحدة .
{ سيدي ، لقد هربا} أجاب رأس عرفاء سريتنا التركماني زين العابدين .
{ طز فيهم ، القشامر ، جبناء } .

كانت التدريبات العنيفة والاهانات التي لا يتحملها حتى الحمار التي يوجهها لنا الضباط والشعور بالغثيان وحالات الكآبة والخوف من القتل في هجوم قادم . جعلتني هذه المرة أفكر في الهروب من الخدمة العسكرية وعندما استلمت اجازتي الدورية بعد أيام كنت قد صممت على الهروب من هذا الجحيم الذي لا يطاق ، ورحت أحدد الأماكن التي سأختفي بها . لكن أين سأختفي ؟ فبيت أهلي بمدينة الثورة ويجاور مدرسة الجبل الأخضر الابتدائية التي تضم مقر منظمة حزب البعث ورجال الحزب وأعضاء الجيش الشعبي في كل مكان ، والمصيبة أن لهم مقراً آخر غير المدرسة وهو { مضيف } كبير يقع عند الشارع العام { شارع الجوادر } ويستطيعون توقيف أي شخص وتدقيق هويته ونموذج اجازته الدورية ، ناهيك عن مفارز الشرطة التي يقودها وزير الداخلية المجرم سمير الشيخلي و المنتشرة في كل شبر من مدينة الثورة التي يبلغ تعداد سكانها أكثر من مليوني نسمة وتبلغ كامل مساحتها 64 كلم متربع . بعد أن انتهت اجازتي التي عادة ما أقضيها برفقة أصدقائي الأدباء والشعراء ، لم ألتحق بوحدتي . كنت أمضي معظم وقتي في الصباح بمقاهي صغيرة عند ساحة الميدان بعيداً عن عيون مفارز الانضباط العسكري { الشرطة العسكرية } التي تجوب شوارع بغداد ليلاً ونهاراً ، أقرأ بنهم ، قبل أن أذهب الى مقهى حسن عجمي حيث يتقاطر الأصدقاء بعد الساعة الثانية ظهراً وفي المساء أغادر المقهى باتجاه اتحاد الأدباء سيراً على الأقدام خشية أن تلقي القبض علي وأنا في باص أو تاكسي مفرزة شرطة أو جيش شعبي أو نقطة تفتيش حزبية أو سيطرة استخبارات . في اتحاد الأدباء لا شيء سوى جلسات السكر المعتادة والعراك والثرثرة الفارغة التي تستمر حتى الساعة الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل . أجلس مع صديقي الشاعر محمد النصار وأحتسي نصف قارورة عرق . استضافني في هروبي هذا أولاً الصديق الشاعر ركن الدين يونس الذي كان يستأجر غرفة تقع خلف مقهى حسن عجمي مباشرة ، ذلك لأنني لا أستطيع الذهاب الى بيت أهلي والمبيت فيه بسبب وجود السيطرات الأمنية المنتشرة على طول الطريق والتي توقف جميع السيارات وتفتش ركابها ، بداية من منطقة الباب المعظم مروراً بساحة النهضة فساحة فلسطين فمدخل قناة الجيش فساحة مظفر الى ساحة 55 حيث بيت أهلي في القطاع التاسع . كان ركن الدين جندياً مثلي لكن وحدته العسكرية لم تكن في جبهة الحرب وكان يأتي الى بغداد ربما مرة واحدة في الاسبوع وكانت مكتبته لا بأس بها ، يا للسعادة ، أي شيء أجمل من غرفة بعيدة عن جبهة الحرب ومكتبة صديق مثلي يهتم في الشعر ؟ أخبرت محمد النصار بعد ذلك بهروبي من الخدمة العسكرية ومبيتي في غرفة ركن الدين فاقترح علي أن أنتقل للسكن في القسم الداخلي لطلبة كلية الفنون الجميلة بالباب المعظم حيث يسكن مجموعة من الأصدقاء وقال لي أن القسم الداخلي أكثر أماناً ولا يتعرض للتفتيش من قبل عناصر حزب البعث في المنطقة ، وهكذا سكنت هناك لمدة قصيرة التحقت بعدها بوحدتي العسكرية بموجب العفو السري عن الهاربين من الخدمة العسكرية ، ومفهوم العفو السري لم أكن أفهمه في البداية وكان يبّلغ من قبل المنظمات الحزبية وينص على أن يعفى الجندي الهارب من الخدمة العسكرية من العقوبة القاسية المترتبة على هروبه ولا يحال الى محكمة عسكرية وكان يصدر عادة عندما يخطط جنرالات القيادة العامة للقوات المسلحة لهجومات واسعة في بعض جبهات الحرب ضد القوات الايرانية ، والذي لا يلتحق تطبق ضده عقوبة الاعدام في حال القاء القبض عليه من قبل المفارز الأمنية المختلفة . حين التحقت بوحدتي أيقنت أن الاستعدادات الحربية الكبيرة التي تقوم بها وحدات الهندسة في الفيلق الخامس وحركة الأرتال وتحريك الألوية من قاطع الى قاطع وعمليات الرصد والاستمكان التي تهدف الى تدمير مواقع المدفعية الايرانية ودوريات الاستخبارات في العمق والكمائن الليلية المستمرة في الأرض الحرام . كل هذه الأشياء علامات أكيدة تدل على قرب هجوم كبير سيحدث بعد ذلك . ضمن المناخ الحربي السائد في سماء العراق آنذاك ومشاهد الموت والدمار في كل مكان . بدت هذه الأشياء اعتيادية بالنسبة لي ، لكن أشدّ ما كان يجعلني أشعر بالغثيان والاحباط هي تلك المهرجانات التهريجية التي كانت تكرسها دوائر النظام الاعلامية للشعر الحماسي والتعبوي العمودي والشعبي والرجز والبند والهوسة . وجوه شعراء عجائز تظهر في جهاز التلفاز على مدار اليوم وتنعق بمناسبة ومن دون مناسبة بقصائد محنطة وذليلة تمجد { القائد الضرورة } وتسبّح وتتغنى ببطولته وعدالته وانسانيته المزعومة والأقسى من هذا عندما تعرف أن هذا الناعق ............... يترجم بودلير كاملاً ، ويترجم رامبو كاملاً أيضاً ، ويظهر في التلفاز يقرأ قصيدة عمودية عن { بطولة وخصال القائد الانسانية } ناهيك عن الامتيازات والعطايا والشقق الفخمة والسيارات والألقاب التي تمنح بمراسيم جمهورية على شاكلة : { شاعر القوات المسلحة } وشاعر { الشعب } الخ ماذا يفعل شاعر شاب وجندي مثلي في هذا الزمن الأسود وهذا المناخ المعادي لكل أشياء العالم ؟ هل يتركني جلاوزة السلطة أن أنشغل بتضميد جروحي وخيباتي ؟ الكثير منا يتذكر منتدى الأدباء الشباب و اقامته مهرجان { الميلاد العظيم } للشعراء الشباب في 28 نيسان عام 1992 الذي خصص لتمجيد الطاغية صدام حسين في عيد ميلاده المزعوم ، ولو عدنا الآن الى صحف نظام صدام الصادرة قبل اسبوع من هذا التاريخ ، سنجد أن المنتدى قد وجه الدعوة الى الشعراء المشاركين في هذا العرس التهريجي وراح ينشر الأسماء وهي 25 اسماً بين يوم وآخر ولم يكن اسمي من بين هذه الأسماء ولم توجه لي الدعوة في المشاركة بسبب موقفي الذي يعرفه رئيس المنتدى عدنان الصائغ ، وكنت مطمئن البال لكوني بعيداً عن { عرس الواوية } هذا لكن في الليلة التي سبقت اقامة المهرجان تمت الوشاية بي من قبل جلاوزة النظام الى وزير الثقافة والاعلام حامد يوسف حمادي الذي كان يشغل قبل هذا المنصب ، منصب سكرتير صدام للشؤون الأمنية منذ عام 1979 وكانت له الصلاحية الكاملة في التوقيع على قرارات الاعدام التي تصدرها محكمة الثورة ، انني أرفض المشاركة في { عيد ميلاد القائد } فسألهم الوزير : { هل عند نصيف الناصري موقف ما ضد السيد الرئيس ؟} أبلغوني ما قاله الوزير أولئك الذين وشوا بي ومنهم رعد بندر . ماذا أفعل ؟ لماذا يقيم رئيس المنتدى عدنان الصائغ هذا المهرجان ؟ كتبت قصيدة نثر جنجلوتية في نفس الليلة وأبلغتهم موافقتي على المشاركة في التغني بميلاد قائدهم وحبيبهم صدام حسين . في اليوم التالي جاء الوزير وافتتح المهرجان . قرأ رباح نوري قصيدة عمودية ، وقرأت لهيب عبد الخالق قصيدة تفعيلة ، وقرأت أنا قصيدة نثر كانت مناسبة تندر أكثر مما هي قصيدة مديح للطاغية صدام . غادر الوزير بعد انتهائي من القراءة ورفعت الجلسة الأولى على أن يستأنف المهرجان جلساته الأخرى في المساء ، وفي اليوم التالي . بعد شهر من نهاية هذه الزفة الصاخبة التي حشد لها المنتدى كل وسائل اعلام الطاغية صدام . كرس رئيس المنتدى عدنان الصائغ عدداً خاصاً من مجلة أسفار التي يصدرها المنتدى للقصائد التي ألقيت في مهرجان { الميلاد العظيم } ووضع قصيدتي بعد الكلمة الافتتاحية للعدد ليثأر مني بسبب سنوات خدمته العسكرية في دائرة التوجيه السياسي بوزارة الدفاع مشرفاً ومحرراً في صحيفة { القادسية } ومجلة { حراس الوطن } وأصدر في سلسلة ديوان المعركة مجموعته الثالثة { العصافير لا تحب الرصاص } عام 1986 ومجموعته الرابعة { سماء في خوذة } عام 1988 و في سلسلة { كسر الحصار الثقافي } صدرت مجموعته { غيمة الصمغ } عام 1993 ممهورة بكلمة { طبعت على نفقة الأستاذ الفاضل عدي صدام حسين } وأثناء رئاسته لمنتدى الأدباء الشباب التابع لدائرة المنظمات الشعبية في ديوان رئاسة الجمهورية ، كانت له سكرتيرة وفرّاش وسائق خاص ، وحتى الآن لا أفهم كيف يستطيع شاعر أن يقوم بهذه المهمة التي تتعارض تماماً مع جوهر ووظيفة الشعر التي هي البلسم الشافي لمحنة الانسان في عالمنا الذي تدمره الحروب والقسوة والوحشية ، لكن عدم فهمي هنا سرعان ما يتبدد اذا ما عرفنا أنه استطاع لاحقاً أن يقتع الهيئة المشرفة على جائزة { ضحايا الاضطهاد وحرية الرأي } أنه كان مضطهداً في العراق من قبل نظام صدام حسين ، وبالتالي فقد منحوه هذه الجائزة التي طبّل لها كثيراً ، مع انها منحت بعده الى الشاعر فاضل الخياط والشاعرة دنيا ميخائيل ولم يطبلا لها كما طبّل هو ، والآن أقرأ في صحف تصدر بالعراق لأسماء مستعارة تكتب وتحاول أن تضفي طابع المعارضة لنظام صدام حسين على مجموعته { نشيد اوروك } وتقول هذه الأسماء التي هي لشخص واحد معروف للجميع ، أن هذه المجموعة كتبت باليمن والسودان وبيروت وسوريا وسواها من البلدان وانها حوربت ومنعت من قبل قوى دينية معينة ، لكن الحقيقة انها كتبت بالعراق وقدمها للمسرح المخرج غانم حميد عام 1989 أثناء مشاركته في العرض السنوي لمنتدى المسرح ببغداد تحت عنوان { هذيانات جمجمة زرقاء } وكان منتج العمل منتدى الأدباء الشباب الذي يرأسه عدنان . كانت حالة الانذار { ج } القصوى في وحدتي هي أشد ما يجعل الجندي شعوراً بالرعب العظيم خصوصاً عندما تصدر الأوامر الينا بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً ، أن نصعد عجلات { إيفا } بكامل تجهيزاتنا العسكرية ونبقى في الانتظار لحين صدور الأوامر النهائية الينا في التوجه الى ساحة المعركة وشن هجوم على مواضع القوات الايرانية ، وبما أن هذه الحالة كانت تتكرر كل ليلة فقد كنا نموت كل يوم ألف ميتة وتبقى مصائرنا وأحلامنا معلقة بالهاوية .



الفصل الثاني

معارك الغضب الهادر . حاج عمران 13 / 5 / 1986

رغبات مؤجلة

دامت هذه المعارك التي كانت غايتها طرد القوات الايرانية من قاطع حاج عمران عدة أيام وكانت معارك دامية وشرسة الى أبعد حدود الشراسة وكانت خسائرها البشرية كبيرة جداً ، ومن المعلوم أن قضاء حاج عمران الذي يضم أجمل المصايف العراقية قد احتلته القوات الايرانية بالكامل عام 1983 والحقت بالقوات العراقية خسائر فادحة وظل منذ ذلك الحين تحت سيطرتها ، وقد كتب سعدي يوسف قصيدة في مجموعته { خذ وردة الثلج ، خذ القيروانية } بعنوان { اعلان سياحي عن حاج عمران } عام 1983 تم تصويرها واستنساخها بآلاف النسخ بصورة سرية في العراق ، وبسبب سيطرة القوات الايرانية على القمم العالية لجبال كَرده مند وكَرده كو وأوراس المطلة على الشارع الرئيسي والوحيد هناك فقد كانت حركة القوات العراقية مشلولة تماماً في هذا القاطع وكانت عمليات الرصد والاستطلاع والقنص والاستمكان والدوريات القتالية والكمائن من قبل الجانب الايراني المستمرة ليلاً ونهاراً . توقع الكثير من الخسائر في الأسلحة والمعدات والأرواح بين القوات العراقية ، ولم تنفع جميع المحاولات السابقة في استعادة أي من هذه الجبال من القوات الايرانية . كان مجرد عبور سيطرة كَلي علي بك وسيطرة جنديان والتوجه صوب حاج عمران يجعل أيّ جندي أو ضابط يشعر بالقشعريرة والانقباض بسبب المشهد المألوف للتوابيت الملفوفة في العلم العراقي والتي تتكرر في كل يوم وتمرّ من هاتين السيطرتين ، أما اذا توغلنا في العمق واجتزنا قرية دار السلام ولاح لنا جبل كرده مند بقمته الصخرية الجرداء فان الموت الأسود يظهر معرى من جميع أقنعته . كانت المدفعية الايرانية عيار 106 ملم المحمولة على السيارات الصغيرة فوق الجبال لا تترك المجال لعبور العجلات والأرتال وكانت حركة الأشخاص لاتتم إلاّ ليلاً بسبب القنص و القصف المستمر و المرّكز. أمام وضع كهذا قررت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية بسبب كثرة شكاوى قيادة الفيلق الخامس من الخسائر اليومية الكبيرة و المستمرة منذ عام 1983 . أن تخطط لاستعادة هذا القاطع وطرد القوات الايرانية عبر هجوم كبير تهيء له كل الامكانيات العسكرية اللازمة . في البداية كانت الأوامر تصدر الينا بضرورة الصعود في العجلات مع كامل تجهيزاتنا كل يوم بعد منتصف الليل مباشرة وانتظار ساعة الصفر للتوجه الى جبهات القتال للمباشرة في الهجوم ، لكن قيادة الفيلق غيرت خطتها هذه بعد ذلك وقررت أن يقوم كل فوج على حدة بعمليات استطلاع لمدة أيام ، وهكذا صدرت الينا الأوامر أن نباشر بعمليات الاستطلاع ، ومعنى هذا أن نتوجه في العجلات الى منتصف الطريق ومن ثم نترجل ونسير على الأقدام الى الخطوط الأمامية عبر الطرق النيسمية ونتسلق الجبال الوعرة ونتجنب التماس المباشر مع القوات الايرانية وأن لا ندع مشاعل التنوير تكشفنا ، وكل هذا يجب أن يتم بعد أن تقوم الوحدات الهندسية التابعة للفرقة 23 بعملها المتمثل بازاحة الألغام وفتح ثغرات في الأسلاك الشائكة وأن تقوم مفارز الاستخبارات بأسر وخطف مجموعة من مراتب القوات الايرانية لاستنطاقهم ومحاولة كشف ومعرفة عدد الوحدات العسكرية ونوعيتها ومعرفة صنوف الأسلحة وأماكن عتادها ونوعية التجهيزات الخ . ليلة 8 / 5 قبل الهجوم المباشر الكبير بخمسة أيام وأثناء مهمة استطلاع لفوجنا على أحد سفوح جبل كرده كو بعد الساعة الثالثة فجراً . أصطدمت سريتي بكمين ايراني فالتهب الجو من شدة اطلاق مشاعل التنوير ورمي الاطلاقات من مختلف البنادق صوبنا . كانت الأوامر التي تلقيناها قبل هذا تنص على أن نختفي وننسحب فوراً حال اصطدامنا بكمين أو دورية قتالية وأن لا نجعل العدو يتمكن من معرفة صنف قوتنا وتسليحها وعدد أفرادها ، وبسبب كثافة اطلاق النيران علينا من قبل قوة الكمين الايراني , فاننا لم نرد عليها ولو باطلاقة واحدة بسبب الأوامر الصادرة الينا على الرغم من أن قوتنا كانت سرية مغاوير كاملة ، وقوة الكمين لا تتجاوز قوة مفرزة أو حضيرة . انسحبنا من دون تنظيم وخوفاً من القصف المدفعي الذي ربما سيستهدفنا ونحن فوق السفح المغطى بأعشاب الصيف فقد انفرط العقد ولم يكن انسحابنا على طريقة الرهط أو الرتل ولم تنفع معنا صيحات الضباط بضرورة التزام الهدوء والتحلي بالشجاعة . انسحب كل فصيل وكل حضيرة كيفما اتفق باتجاه نقطة الادامة المحددة لنا عند مدخل فتحة ناونده المقابلة لجبل كرده مند مباشرة . في اليوم التالي أثناء العرض الصباحي في المقر المتقدم بمنطقة قصري كان جميع مراتب سريتي بما فيهم رأس عرفاء السرية الذي يكون مقره عادة عند نقطة الادامة ، هدفا لمدافع شتائم آمر الفوج وآمر السرية وآمري الفصائل الأربعة التي تتكون منها السرية وأنحوا باللائمة علينا واتهمونا بالجبن والتقصير والتخاذل لانسحابنا غير المنظم ، والسبب هو خوفهم من توبيخ آمر اللواء أو استدعائهم الى مقر استخبارات قيادة الفرقة والتحقيق معهم واتهامهم بعدم الكفاءة وهي تهمة قاسية تؤثر على ترقيتهم رتبة أعلى في المستقبل ، مع أنهم مهما عاشوا فسوف يقتلون في معركة ما طالما حروب صدام حسين مستمرة ، وهذا ما حصل بالفعل . في اليوم التالي و اليوم الذي تلاه قمنا باستطلاعنا المعهود ولم تحدث مشكلة ، لا كمائن ولا دوريات قتالية ايرانية في الأرض الحرام . كانت مهمة فوجي الأساسية فوق جبل كرده كو يرافقه فصيل استخبارات من الفيلق هي محاولة كشف قوة العدو وتحديد مواضعه وخنادقه وصنوف أسلحته ، وتبقى المهمة الأساسية والملحة هي الوصول بأقصى سرعة ممكنة مهما كانت الخسائر والتضحيات الى أبعد وأعلى ربيئة فوق الجبل وهي الربيئة المسماة 17 تموز ، ولست أدري لماذا سميت هذه الربيئة باسم انقلاب حزب البعث عام 1968 مع انها فوق جبل يقع باقليم كوردستان ؟ قبل الهجوم الرئيسي بيومين صدرت الينا الأوامر باستطلاع جبل كرده مند الذي يقع على الجهة اليمنى . قمنا بتنفيذ الأوامر لكننا بسبب أوامر جديدة لم نتوغل أكثر في الأرض الحرام بسبب قوة الرصد المعادي وسياقات القصف اليومي المستمر الذي يبدأ عادة بعد صلاة الغروب ويستمر أكثر من ساعتين ، يتوقف بعدها ليعاود السياق السابق من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل الى الساعة الثالثة فجراً ، وهذا السياق المعهود لدى القوات الايرانية معروف لدينا ذلك أنهم كانوا يخشون عمليات الالتفاف والتسلل التي ربما نقوم بها ضدهم . ليلة 13 / 5 صعدنا العجلات بعد منتصف الليل بكامل تجهيزاتنا كما هي العادة المتبعة في الليالي التي سلفت والتي ستوصلنا الى منتصف الطريق ومن ثم نترجل و نسير على الأقدام الى حيث الأهداف والواجبات المحددة لنا ، لكن الأوامر التي صدرت الينا هذه المرة كانت تلزمنا وبالحاح بضرورة فحص أقنعة الوقاية بدقة والتأكد من مستلزماتها وخصوصاً الابرة التي يستخدمها المقاتل حين يتعرض الى هجوم في الأسلحة الكيمياوية ويدخلها في فخذه لحين نجدته من قبل مفارز الميدان الطبية كما أمرونا ان لا ننسى ضماد الميدان ، وهنا تأكد لنا أن لحظة الهجوم الكبير ستبدأ الليلة . قبل هذا الوقت كانت كل المقرات الخلفية لقاطع حاج عمران قد امتلأت بقطعات عسكرية من شتى الصنوف والأسلحة . ألوية وقوات جرارة منتخبة جيء بها من الفيلق الأول والفيلق السابع والفيلق الثالث وباشرت أيضاً عمليات الاستطلاع في جبال أخرى ، وبطريات مدفعية ثقيلة بعيدة المدى اتخذت مواقعها في المقرات الخلفية بناحية ديانا وقضاء جومان وقرية دار السلام و كَلاله ومنطقة أخرى نسيت اسمها تقع ما بين جبل تاتان وجبل كلاو حسن من الجهة الثانية للقاطع ، اضافة الى الدبابات والراجمات ومدافع عيار106 ملم . يا إلهي ، أحقاً ستقوم القيامة الليلة ؟ هل سأقتل فوق جبل ؟ هل ستظل جثتي قرب مواضع العدو ويبلغون أمي من أن جثة ابنها لم تخل لقربها من مواضع العدو كما حصل لأصدقاء أعزاء فقدتهم الى الأبد في جبهات أخرى من الحرب ؟ طبعا هذه الأسئلة لم أجد لها أجوبة في تلك الليلة المشؤومة ، والمصيبة الأعظم التي كنا نعرفها نحن الجنود هي أن الجانب الايراني كان على علم بما يدور في هذا القاطع من خلال استخباراته وطلعات طيرانه الحربي الذي كان يقصف بشدة مواقعنا ومقراتنا الخلفية ، وقد استطاع قبل أيام قصف وتدمير المرصد الفلكي فوق جبل زوزك وعدة ربايا لأفواج من صنف المشاة والجيش الشعبي فوق قضاء راوندوز وبالتأكيد فأن المعارك التي ستدور هنا لن تكون سهلة كما في المعارك السابقة . عندما التحقت بموجب العفو السرّي الى وحدتي كئيباً ويائساً ورأيت الاستعدادات الحربية الكبيرة في جميع وحدات القاطع . انتابتني حمّى الكتابة وهي حالة تتلبسني دائما كلما حاصرني شبح الموت ، فكتبت مجموعة من القصائد لم تعجبني أبداً لكنها كانت البلسم الشافي لتضميد نفسي الجريحة آنذاك ، وما بين أشواقي وآمالي الخائبة أمام شتائم الضباط الكريهة واهاناتهم لي بسبب هروبي من الخدمة العسكرية ، تذكرت قصيدة عدنان الصائغ { صباح الخير أيها المعسكر } التي طبّل لها جلاوزة السلطة النقاد طويلاً في صحف النظام واعتبروها فاتحة الشعر العراقي الجديد وقد كتب الناقد مدني صالح في مجلة { ألف باء } يقول :{ أن عدنان الصائغ أخطر شاعر جاء الى الشعر العربي بعد نزار قباني والبياتي } وعجبت كيف يحيّي الشاعر ويصبّح بالخير على المعسكر . لماذا لا يحيي الهاوية المحدقة بنا أو الحديقة أو حتى الجحيم ؟ وهنا أود أن أثبت مجموعة من تلك القصائد التي كتبتها لا لجودتها بل لأعطي فكرة عن المناخ الذي كتبت فيه :

......................

سنوات شبابي اضمحلت
يدي مشلولة
ورأسي دائخ
وكآبتي أعمق من بئر .
منك جئت أطلب العزاء أيتها القصيدة
ارفعيني من الهاوية
من سديمها الدامي والشراسات
سنوات شبابي اضمحلت
والذين أحبهم ماتوا
والدرب وعر وضيقة مسالكه
لا أهل
لا أحباب
لا أرض رحيمة تأويني .

قبر سردار

الحائك الكردي سردار، ميت منذ عام 1973
تحت صخرة كبيرة ، في سفح أحرقته قذائف المدفعية
يرقد المسكين بعيداً عن أهله وأصوافه .
في الصباحات الشتائية الوحشية تجيء امرأة في الأربعين
حاملة أنوالاً وأطعمة ، تبكي مرتلة رثاء غير مفهوم
وتلطم صارخة : { سردار ، سردار ، عد الى الأنوال عزيزي سردار }
وحين تصبّ دموعها في صحن المقبرة ، تعود الى القرية
مخضرّة العينين .
في الليل يتسلل جنود من ربيئة ويلتهمون طعام الميت
ساخرين من خبل امرأة تؤمن ببعث الأكراد .

رغبات مؤجلة

قلت لأبي : أعطني نقوداً لأسكر
فتح فمه فخرج منه أسد جائع
قلت لحبيبتي : أعطني قبلة
فتحت فمها فخرجت منه لبوءة
قلت لآمر سريتي : أعطني اجازة يا سيدي
فتح فمه فخرجت منه دبابة .
الأسد الجائع
واللبوءة
اصطحبتهما معي في نزهة على الدبابة
ثم عدت الى السجن مصدوع الرأس .

مجيء اللص

تحلم الزوجة بمجيء الزوج
والأم بمجيء الابن
والفتاة بمجيء العاشق
والخزانة بمجيء اللص .
الزوج يكتب رسائل من السجن
الابن تلدغه حنينات في الخندق
العاشق يغني في الأسر
اللص يتسكع مخموراً في الشوارع .
الزوجة ترملت وذهبت الى مدينة بعيدة
الأم تجهش بالبكاء
الفتاة تترقب كحديقة مهجورة
الخزانة امتلأت من جديد وتحلم بمجيء لص آخر .




زمن الفقاعات

هنا زمن فقاعات
زمن قرود وبول قرود
الكل هنا فقاعة
كل الأشياء فقاعات
الماء فقاعة
الهواء فقاعة
اليد
السطوة
الكلام
القبلة .


حشرجة إنسان
حشرجة انسان
أم طنين حشرات في ليل الشجرة ؟
اللوعة التي انحفرت في أرض الروح
لوعة اليأس الذي يعلو في كل آن
هي نحيبنا المتكسر في جحيم المعسكر .



........................

خرجنا من ليل يمد أذرعه ، فيحضنه ليل أشد لوعة
منه للقاء نحيبنا ، ونحن في الظلمة التي تحنوّ علينا
حنو أم ، نتاءب ، نتمطى في بيوت العناكب
موتى من دون موت أو عصف رحيم ، نترقب ضوء
الصاعقة ونحلم في الريح الجديدة .


ماذا تفعل البلاد حين يغادرها الشعراء ؟

الشعراء أطفأوا نيرانهم وغادروا البلاد
أغلقوا أبواب الحدائق والنوافذ وتركوا أحلامهم
وتراب قصائدهم .
البلاد / الجنة
تهدمت وعصفت فوق أنقاضها الرياح
ماذا تفعل البلاد حين يغادرها الشعراء ؟
ماذا يفعل الشعراء حين يغادرون البلاد ؟
- يحفرون أرضا جديدة ويبنون المدن / اللهب
لا تأوي اليها الحروب ولا الصرخات المكممة .
تباركت مدن يبنيها الشعراء
وتباركت جنة هدمها القتلة .


الى الشعراء الخصيان

لا نريد من ينابيعكم الآسنة التي عطّرتها الشمس بعفونات
جثث منتفخة
{ لسنا أولاد كلمات وحيوانات فظة
وآباؤنا ليسوا خيالات تافهة على الطريق } *
الله ينسى قصائدكم كعجائز في مأتم
ويحفظ قصائدنا كفتيات في عرس .
* { بول كلويل }

قبر في الذاكرة


كنت أحفر قبراً ، قبراً مهيباً في مدفن العائلة ، أعمق من جميع
القبور وشواهدها التي علاها الصدأ والنسيان .
كانت جهشاتي تفيض ينابيع تلبط فيها الأسماك والطيور .
كانت عيناي محمرتين كصيدلية
وعندما تعبت من الحفر . توقفت ريثما يطلع الصباح
في اليوم التالي
كنت أشعر بصدع عظيم . إستيقظت فلم أجد القبر
بحثت في جميع الأماكن التي من الممكن أن أدفن فيها الخالة العزيزة .
في المساء شاهدت أفعى رقطاء فوق شجرة صفصاف تتسلل بحذر
وتقتنص عصفورة نائمة .
يا إلهي
لقد كنت أحفر القبر في الذاكرة .


العائلة في النهر


الأب في النهر
النهر شبكة
الأم في النهر
النهر سمكة
الولد في النهر
النهر نورس
البنت في النهر
النهر نورسة
الشرطي في النهر
النهر سمكة قرش .


مجانين الملك

الملك : أيها الوزير ، هات قائمة باسماء جميع المجانين في مملكتي
الوزير : أمرك يا صاحب الجلالة
..................
الوزير : { بعد ثلاثة أيام } هذه قائمة باسماء جميع المجانين في مملكتك
يا صاحب الجلالة
الملك : { مصعوقا } ولكن لماذا وضعت اسمي في أول القائمة ؟
الوزير : لأنك يا صاحب الجلالة أعطيت الأغراب الذين استقبلتهم
نهار الأمس ، ذهباً كثيراً
الملك : { بعصبية } تبا لك أيها الأبله . هؤلاء تجار ماشية وسوف
يجلبون لي أبقاراً كثيرة ، كثيرة
الوزير : حين يعودون بالأبقار ، الأبقار الكثيرة ، سوف أشطب اسم
جلالتك وأضع اسماءهم .


لقاء الملوك

في مدينة مبادة ومخسوفة التقيت ملك سدوم
وملك بابل
وملك غرناطة
وملك مصر
وامبراطور اثيوبيا
والسلطان التركي سليمان القانوني
{ كف عن سن القوانين منذ أمد بعيد طبعا }
وبدلا من أن أحييّهم باجلال وفخامة
شتمتهم واحداً واحداً وتزحلقت فوق عمائمهم الحريرية
الشبيهة بأعشاش لقالق .




موت الرجل الوقور

الرجل الوقور
الرجل المهذب
وقف على شاطىء النهر يلقي الخبز لطيور النورس .
تكاثرت النوارس الجائعة مسرورة
الرجل الوقور مسرور أيضاً
رمى المزيد من الخبز
منحته النوارس صخبها
منحته حنينها وأغنياتها
فكر الرجل المهذب مسروراً لرؤية أسراب النوارس متجمعة أمامه .
- ملكي هذه النوارس ، قال الرجل ، كلها لي
أخيراً، حين نفد الخبز والنوارس شعرت بالنعاس
أخرج حجراً ثقيلاً من جيب معطفه
ورماه بقوة صوب السرب النائم .
سقط الحجر على صورته في الماء
مات الرجل الوقور
مات جريحاً بغطرسته .

ناس 1


اتركوا أوهامكم وثرثراتكم عن الأيام الرومانسية
سنحضنكم عراة ونعلمكم القفز فوق مصطلحات جديدة
أين حماساتكم العالية يا من انكسرتم من فضة الأسلحة ؟
هاهي قناديلكم مطفأة ، ثم هذا اللغو والموت الذي يغلي
في خوذة الفولاذ . هل تريدون انجاب المزيد من الأطفال ؟
سنرسل لكم برقيات تعزية ، نحن الذين نرسم مصائركم
ونحافظ على الشموس . اتركوا بهجاتكم الزائفة
النزوحات ستدلكم على جواهر جديدة
المباني الفخمة والايقاعات المضبوطة ستمنحكم مشاعر
تبرهن على كراهياتكم الوحشية لنا
لا نأسف عليكم بصراحة
ستبقون أكثر حبا للدجرجات والضرب بالجزمات
لا قشعريراتكم
لا ايماءاتكم
ستطرد دخان المدافع
وتذكاراته القديمة .

ناس 2


عبر الشمس المتشظية ، عبر الصخور المقصوفة
والغيوم الجامحة ، حيث الحياة العمياء
سيبدأ الطنين في اخلاد البهائم .
في ليلنا الغائب بسبب القصف المدفعي الكثيف
حيث الحشرات هي الآمنة فقط . نكتب خطابات لن تصل
الى أمهاتنا .
لا شروقات
لا أكمام
حتى الرعاة الذين يغنون فوق السفوح
لم يتركوا أثراً لأقدامهم الموسيقية .
يموت الغنج دائماً
بفعل الخمودات .


موتي البستان


هذه علامة الموت
الجنود يعلقون بنادقهم فوق حائط الأحلام .
في الخنادق المقصوفة كنت أمشي بين أنياب موت وحشي
وألبد وسط أدغال آلامي .
من ذكريات عزيزة ثكلى وطفولة يضمدها السراب
حفرت قبراً وانثنيت . علقت شاهدة على بابي
جاءت آلاف العصافير مكسوة بالدم .
هل أصعد هاوية تحضن مصيري ؟
يا موتي البستان
متى تنضج ثمارك ؟

في الساعة الثانية بعد منتصف ليلة 13 / 5 / 1986 بدأت لحظة الانفجار العظيم وحسب قول الشاعر خليل حاوي في قصيدته { سدوم } :

{ ودوّت جلجلة الرعد
فشقت سحباً حمراء حرى
أمطرت جمراً وكبريتاً وملحاً وسموم
وجرى السيل براكين الجحيم }
فتحت مئات المدافع بعيدة المدى أشداقها وراحت تطلق قذائفها الثقيلة صوب مواضع القوات الايرانية في العمق والخطوط الأمامية ، ودمرّت الراجمات والطائرات السمتية والطيران الحربي السواتر والخنادق والملاجىء المحصنة والربايا وطرق المواصلات ، وبدأ هجومنا على كل قاطع حاج عمران وقامت ألوية المشاة 33 و 98 و4 60 تساندها سرايا مرّتبة وأفواج من الجيش الشعبي ، هجومها على جبل كَرده كو فاكتسحت مواضع القوات الايرانية المتحصنة فيها منذ عام 1983 وقد تكبدت هذه الألوية والوحدات المتجحفلة معها خسائر كبيرة جداً في الأرواح والتجهيزات والمعدات بسبب شراسة ودفاع القوات الايرانية من جهة والقصف المدفعي المعادي الكثيف الذي كاد أن يوقف زحفها من جهة ثانية ، أما وحدتي لواء المغاوير الأول في الفيلق الخامس فقد كلفت بشن هجوم على جبل كَرده مند بمعية لواء المغاوير الثاني في الفيلق الثاني ولواء مشاة آخر من الفيلق السابع . دام هجومنا عدة ساعات واستطعنا في النهاية طرد القوات الايرانية واستعادة الجبل الذي التهم الآلاف من الجنود والضباط منذ لحظة احتلاله في عام 1983 . كانت نقطة انطلاق وحدتي قد بدأت بالتقدم نحو الهدف من أسفل الجبل بمحاذاة الشارع العام القديم . استمر تسلقنا فترة لا بأس بها تحت قصف كثيف من أسلحة مختلفة عراقية وايرانية . أبدت القوات الايرانية بسالة عالية ودافعت عن الهدف دفاعاً مستميتاً ، لكنها ما أن عبرت وحدتنا والوحدات المهاجمة معنا السواتر الأمامية واخترقنا خطوط دفاعاتها حتى تركت الهدف وفرّت هاربة ، مخلفة وراءها مئات القتلى والجرحى والأسرى . كانت الأوامر التي صدرت الينا تلزمنا باحتلال القمة الصخرية للجبل أولاً ومن ثم التوغل نحو العمق باتجاه الحدود الايرانية ثانياً . شاهدنا في القمة شيئاً لن يخطر في بال انسان أبداً ، ولا في الأحلام والهلوسات . مجموعة من الجنود الايرانيين ملتصقة أجسادهم الدامية و المتفحمة على أحد الجدران العالية للقمة الصخرية ، ويبدو أن شدة عصف القذائف الثقيلة قد رفعتهم من الأرض وعلقتهم هناك ، ولا يمكن التعرف عليهم بسبب التشوه الكامل حيث اختلطت الوجوه بالظهور بالأمعاء بالأفخاذ . بعد احتلال الهدف تقدمنا مباشرة الى الأمام واخترقنا الخنادق و الدفاعات الخلفية للقوات الايرانية ، وقبل أن نتمكن من حفر الخنادق البديلة وانشاء التحصينات اللازمة وكان زخم هجوم وحدتنا قد ضعف بسبب الخسائر في الأرواح وحالات ايذاء النفس الكثيرة التي قام بها بعض الجنود وحالات التسرب من المعركة وترك المواضع الدفاعية . قامت قوات المغاوير الايرانية الاحتياطية بشن هجوم كبير مقابل علينا ولم نستطع الصمود ولا دقيقة واحدة . تبعثرنا شذر مذر وهربنا الى الخلف باتجاه السنون الصخرية والملاجىء المحصنة التي تركتها القوات الايرانية بجبل كرده مند حيث أنشأنا تحصيناتنا القوية تحت قصف جهنمي لا ينقطع . في هذا الهجوم الذي شنّته وحدات المغاوير المعادية ضدنا كانت خسائرنا في الأرواح كثيرة جداً ، ولقد ظلت جثة آمر فوجنا ، الفوج الأول الرائد سردار أحمد هادي وجثث الكثير من المراتب قرب مواضع القوات الايرانية ولم نستطع أن نخليهم بسبب شدة القصف وزخم الهجوم الايراني الكبير . بالنسبة لي ، فقد أختبأت مع صديقي الجندي جبار عسل في سن صخري ضيق يشرف على أحد الوديان الواقعة في حاج عمران وعندما كانت القذائف تعبر من فوق رؤوسنا ، كنت أتجمد من الرعب وأموت ألف ميتة . حفر بعض الجنود حفائر صغيرة لهم تحت السن لتقيهم قصف مدافع الهاون 120 ملم المرعبة وتكاثر عددهم في الأيام التي تلت مما جعلهم طعماً سائغاً للقصف . تركنا السن الصخري وزحفنا عبر شقوق مكشوفة صوب الملاجىء . في اليوم الثاني تم تعويض وحدتنا بجنود جدد من مواليد 1967 ، جيء بهم من معسكرات التدريب ولم يعرفوا ما الحرب ولم يسمعوا صوت أية قذيفة ولم يطلقوا اطلاقة واحدة من بندقية . وصلوا منهكين وخائفين وتم توزيعهم على السرايا لسد النقص وطلبوا منهم أن يتحصنوا في الخنادق والملاجىء مع الجنود القدامى لكن البعض منهم كان عندما يشتد القصف المدفعي المعادي ، يترك بسبب الخوف العظيم الملجأ أو الخندق ويذهب للأختباء تحت الدبابات التي ترمي صوب المواضع الايرانية ظناً منهم أن الدبابة ثقيلة وتستطيع حمايتهم من القذائف ، ولم يدروا أن الدبابات هي صيد ثمين و مستهدف من قبل الطائرات السمتية ومدافع 106 ملم وصواريخ الدبابات الايرانية التي تذيب الحديد والحجر . في اليوم الثاني كلفت وحدتي بمسك موضع دفاعي يطل على أحد الوديان خشية من تسلل قد يقوم به الجيش الايراني . شيّدنا الملاجىء وحفرنا الخنادق والشقوق وانشأنا التحصينات بمساعدة وحدة هندسية ، والقصف الايراني الشديد ما يزال مستمراً منذ اللحظة الأولى لهجومنا وحتى الآن . في المساء أثناء السياقات الايرانية في القصف المدفعي على وحدتي . قتلت أحدى قذائف الهاون 82 ملم 4 من جنود سريتي في ملجأ ، أحدهم ابن عمة صديقي الشاعر سلام كاظم ، وفي اليوم نفسه قتلت قذيفة أخرى مجموعة من الجنود في وحدة مجاورة وكان من بينهم ابن الكاتب عبد عون الروضان . ما العمل الآن ؟ يبدو أن وحدتنا سوف لن تسلم الموضع الدفاعي لوحدة مشاة في القريب العاجل . هل سنبقى فوق جبل كّرده مند الى ما لانهاية ؟ لم يتبق إلاّ الهروب من ساحة المعركة وترك الموضع الدفاعي . انسللت في الليل خلسة وسلكت أحد الطرق النيسمية باتجاه فتحة ناونده حيث نقاط المثابة لكن لجان متابعة المتسربين { لجان الاعدامات المكونة من الحزبين وعناصر الاستخبارات في الفيلق الخامس } كانت تقف بالمرصاد على طول الطريق . عدت مرة أخرى وصعدت الجبل الى حيث مواضع وحدتي . اقترح عليّ صديقي جبار عسل أن نتسلل عبر الشارع العام وأخبرني أنه مرصود بالكامل لكن على الرغم من هذا فاننا نستطيع التسلل اذا توقف القنص و سياقات القصف المدفعي بعد الساعة العاشرة ليلاً . انسللت وصديقي جبار وهالنا مشهد مئات الجثث لجنود وضباط من الوحدات العراقية وعشرات العجلات المحترقة والمحطمة ومئات البغال التي قتلها القصف ، ورأينا الكثير من البغال الأخرى محملة بالعتاد والأطعمة تسير صوب القمة من دون أن يقودها أحد ، ويبدو أن الجنود الذين كلفوا بها كانوا يخشون القصف فتركوها تصعد وحدها . أثناء التسلل وجدنا ضابطاً برتبة { ملازم ثاني } جريحاً ويئن من شدّة الألم جراء اصابة لحقته في فخذه الأيمن وأماكن أخرى من جسده ، وسط كومة من الجنود القتلى . طلب مساعدتنا وقال أن المفارز المكلفة باخلاء الجرحى قد اختفت بسبب شدة القصف المدفعي . رفعناه وأوصلناه الى عربة اسعاف . بعد أسابيع من نهاية المعارك هذه وكنت هارباً من الخدمة العسكرية . تعرفت على هذا الضابط في مبنى كلية الفنون الجميلة . كان يعرج وبيده العكاز . سألته عن وضعه الصحي وكيفية اصابته فوق جبل كرده مند ليلة 13 / 5 ودهش ، كيف أعرف أن اصابته حدثت هناك . عرفت حينها انه الفنان عبد الخالق مختار وكان يؤدي خدمته العسكرية الالزامية . واصلنا سيرنا ثم ويا للهول . وجدنا في أحد ممرات الطريق نائب الضابط الحربي { رتبة بين نائب الضابط والملازم الثاني تعطى للحزبيين } نبراس آمر الفصيل الثاني في سريتنا ممزق البطن ومصارينه مرمية على الأرض وفاقداً الوعي . ما الذي جاء به الى هنا ؟ لا ندري ؟ لم نرد اخلاءه في البداية لأنه كان مكروهاً في السرية ويشتمنا دائما بسبب أو من دون سبب وكانت طباعه وحشية ومنحطة . اقترح جبار مساعدته . لففناه ببطانية وانتظرنا عجلة اسعاف . جاءت العجلة فحضنه جبار وكان قد تلطخ بالدم وصعد معه بعد تظاهره بالاصابة المميتة ومن ثم وجد نفسه في مستشفى الميدان بناحية ديانا بعيداً عن عيون لجان عناصر الحزب والاستخبارات في نقطة المثابة ليهرب من الخدمة العسكرية حتى نهاية الحرب مع ايران . بعد ذهاب جبار جاءت مجموعة من الجنود من فوجي ومن أفواج أخرى تحاول الهروب مثلي من هذا الجححيم . سلكنا أحد الطرق النيسمية الطويلة ووصلنا الى المقرات المتقدمة في قصري حيث المقر المتقدم لوحدتي أخبرت الحراس انني ومجموعة من الجنود كلفنا من قبل آمر الفوج بنقل أعتدة وبنادق ايرانية نوع G C إلى مقر قيادة الفرقة { هذه البنادق لا تستخدم في الجيش العراقي ذللك أن الجيش العراقي يستخدم بنادق كلاشنكوف الروسية والجيش الايراني يستخدم هذه البنادق الأمريكية } وأخبرتهم أيضاً انني سأذهب الى الموضع الدفاعي مع عجلة الأرزاق ليلاً . في المساء أشفق عليّ مسؤول حانوت الفوج العريف نعمة وكان يحب الشعرالشعبي ويكتب الأبوذية والدارمي ، وكنت أعيره بعض الكتب . وقال لي : { اذا تأخرت هنا وشاهدك عنصر من عناصر حضيرة الاستخبارات سيسلخون جلدك } قلت له ما العمل ؟ قال : { اذهب الآن وانتظرعجلة الحانوت خارج مقر الفوج . سأذهب الى أربيل للتسوق وآخذك معي } عبرنا سيطرة كَلاله فسيطرة دار السلام فسيطرة جنديان فسيطرة كَلي علي بك فسيطرة خليفان فسيطرة عين كاوه ولما وصلنا أربيل ودعت نعمة وشكرته على مساعدته ، فتمنى لي أن أصل بغداد بسلام وشدّد على أن لا أسلك طريق بغداد – كركوك بل طريق الموصل – التاجي لأن سيطراته أقل تفتيشاً من الطريق الأول ، وهنا تحضرني الآن قصيدة حسن النواب { سيطرات } التي شرح فيها معاناته مع السيطرات أثناء هروباته المتكررة من الخدمة العسكرية . سلمت بندقيتي الى مأمور المشجب بموقع أربيل العسكري وأخبرته انني سأهرب من الخدمة العسكرية . حدثني وهو يقدم لي كوب الشاي بأسى عن عشرات الجنود الذين ألحقوا بأنفسهم الأذى وقال : { أن استخبارات الفيلق ستقوم بعد معالجتهم بايداعهم السجون ومن ثم تحيلهم الى المحاكم العسكرية الخاصة وعرفت منه أن حالات ايذاء النفس في هذه المعارك كانت متشابهة ومكشوفة في مستشفى أربيل العسكري . قلت له كيف ؟ فراح يشرح لي أن الجندي المصاب يتفق مع جندي آخرعلى أن يطلق النار على يده أو على ساقه من مسافة قريبة ومن ثم يخلي نفسه الى طبابة الميدان ويدعي انه أصيب في الموضع الدفاعي من قبل الجانب الايراني ، وبما أن هذه الحالات كانت متشابهة فقد قام آمر مستشفى أربيل العسكري بكتابة تقريرالى قيادة الفيلق أوضح فيه أن الأطباء بعد أن قاموا بفحص الاصابات ، وجدوا آثار بارود في الأعضاء المصابة وهذا يعني أن عملية اطلاق النار كانت من مسافة قريبة جداً } وحين هممت أن أنهض قال لي مأمور المشجب كمن يذيع علي سراً : { المفروض أن تتم عملية اطلاق النار من مسافة قريبة ، بعد أن يلف الجندي يده أو ساقه بكيس من القنب حتى لا تظهر آثار البارود . بس هذوله قشامر ربما سيشنقون } وهنا أود أن أسأل . هل عالجت المجلدات الضخمة المسماة { قصص تحت لهيب النار } والروايات والمجموعات القصصية وودواوين المعركة في{ قادسية صدام } المشؤومة هذه الحالات ؟ كم من الجنود تم شنقهم خلال سنوات الحرب بسبب حالات ايذاء النفس ورفضهم للحرب ؟ لا أحد كتب عن هذه الحالات أبداً . كان أغلب الكتاب والشعراء ممن كتبوا عن الحرب ومجّدوها يصورون الجندي العراقي أقوى من سوبرمان ، لا يشعر بالخوف ولا بالضعف ولا تستطيع مجابهته كل صناديد العالم وكانوا يكتبون و يمجدون الحرب وفق المواصفات المطلوبة التي يحددها مكتب الثقافة والاعلام القومي التابع لحزب البعث وتوجيهات وزير الثقافة والاعلام لطيف نصيف جاسم الذي كان عام 1979 وزيرالزراعة وله كراس بعنوان { مسائل في العمل الزراعي } وكانت مواصفات العرض والطلب تتم على هذا النحو : عند اعلان مسابقة ما وما أكثرالمسابقات خلال سنوات الحرب ، تعطى للذين يفوزون المبالغ المالية الضخمة والسيارات والشقق الفاخرة والمسدسات والمنح الدراسية خارج العراق كما حصل مع ........ الذي فازت قصته { نسر بين الجبال } بجائزة عام 1983 فاستحق من اجلها مبلغ 3000 دينار وسيارة تويوتا يابانية ومنحة دراسية مجانية في احدى الجامعات الباريسية حيث عاد الى العراق يحمل شهادة دكتوراه ، وكان قبل فوزه بهذه الجائزة يكتب الشعر العمودي . واستحق .................. الذي كان يشترك في كل مسابقات القصة أن يسرّح من الجيش حيث كان يؤدي خدمته العسكرية في دائرة التوجيه السياسي ويحصل على منحة دراسية مجانية أيضاً في موسكو . واشترك كثير من الكتاب المعروفين والكتّاب الجدد في مسابقات قادسية صدام المتكررة للقصة القصيرة ، ثم تنوعت المسابقات لتشمل مسابقة قادسية صدام للشعر ومسابقة قادسية صدام للكتابة الحربية السردية التعبوية { مذكرات ، يوميات } وقد فاز فيها شعراء وكتاب مختلفون { يستطيع القارىء الكريم أن يطلع على أسمائهم في كتب قادسية صدام التي طبعت في بغداد أو في كتاب الكاتب سلام عبود المعنون { ثقافة العنف في العراق } . والذي لا يحالفه الحظ بالفوز في هذه المسابقات ، تقوم دائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والاعلام بطبع بضع آلاف نسخة من كتابه وتمنحه المكافأة المالية المقرَّرة . ولم يبتعد عن هذا الارتزاق والاشتراك في حفلات مسابقات بيع الضمير إلاّ أدباء العراق الحقيقيون { بأجيالهم المختلفة } ممن آثروا صعوبة الحياة وشرف الأدب على الجاه والمال . وكنت أنا والكثير من الشعراء والكتاب الشباب لا يسمح لنا بدخول مبنى وبار اتحاد الأدباء والكتاب إلاّ بمعية عضو يمتلك بطاقة الانتساب للاتحاد ، وأن نسجل أسماءنا كل يوم في سجل الضيوف . فلكي نكون أعضاء يتحتم علينا أن ندفع مبلغاً معيناً من المال وأن نقدم مع طلب الانتساب كتاباً مطبوعاً . لكن من أين نأتي بالكتاب المطبوع وكتبنا غير صالحة للنشرعند دائرة الشؤون الثقافية ؟ وحتى لو أردنا أن نطبعها على حسابنا الخاص ، فستقوم دائرة الرقابة في وزارة الثقافة والاعلام باحالتها الى رقباء وخبراء من الذين لا يرحبون بابداعنا . وقد أحالت دائرة الرقابة المجموعة الأولى لصديقي الشاعر والفنان ناصر مؤنس الى جبرا ابراهيم جبرا ، حيث كتب في معرض تقييمه لها انها تشوّه الخط العربي . وكان ناصر قد كتب مجموعته بطريقة تشكيلية عرف فيها فيما بعد ، وامتنع الخبير عن اعطاء رأي بخصوص اجازتها لتطبع . ويتذكر الكثير منا معاناتنا اليومية الشديدة مع موظف استعلامات اتحاد الأدباء المدعو أبو قتيبة ، السائق السابق لرئيس مخابرات صدام ووزير داخليته المجرم سعدون شاكر ، فقد كان يصرّ دائماً على أن نبقى في الانتظار لحين قدوم عضو حتى يسمح لنا بالدخول ضيوفاً عليه . وحتى الآن لست أدري من الذي جاء بهذا الشرطي ليشغل وظيفة موظف استعلامات في اتحاد الأدباء ؟ وعلى ذكر الرقابة ووظيفة الرقيب الذي كان يسمى جزافاً { الخبير } فأود أن أوضح هنا بعض الأمور التي كانت تحكم عمل هذه الدائرة البائسة . عند وصول مطبوع يصدر خارج العراق ، ترسل الدار التي أصدرته نسخة منه الى هذه الدائرة للبت في صلاحية اجازته ، لكن النتيجة غالباً ما تكون في غير صالح الكتاب . مثلاً أحالت دائرة الرقابة { أناشيد مالدورو } للوتريامون عام 1982 الى رزاق ابراهيم حسن الشاعر العمودي ومؤلف أكثر من 7 كتب عن النقابات العمالية في العراق . مُنِعَ الكتاب من النزول الى المكتبات بحجة أن لوتريامون يتغزل بالرياضيات والقملة في نشيدين منه . وعندما أعارتنا الشاعرة دنيا ميخائيل نسخة منه وقمنا بتصويرها عام 1992 ، طلب هذا الخبير بعد 10 سنوات من منع الكتاب نسخة منه ، بعد أن ألغى صدام حسين بقانون سوريالي مفهوم الطبقة العاملة في العراق ، أصبح رزاق ابراهيم حسن ناقداً أدبياً ولم يتخلى عن كتابة الشعر العمودي وادعى بعد ذلك أنه لم يمنع الكتاب قطّ . ولك أن تقيس على هذه الشاكلة كم من مطبوع تم منعه بهذه الحجة أو سواها ، أما اذا أجازت دائرة الرقابة هذه كتاباً للطبع فانها تأمر بصرف كمية من الورق تصل الى بضع آلاف نسخة مجاناً للمؤلف فيتفق مع أحد المطابع الخاصة على أن يطبع 2000 نسخة منه ويبيع كمية الورق المتبقية الى الناشر ليقوم هذا بدوره بطبع كتب الطهي والأبراج وماشابه . هل سمعتم بكتاب صدر بهذه الطريقة في مجلدين في الثمانينيات لشاعر ومدير تلفزيون البصرة وحمل عنوان { قوة البلاغة في أحاديث السيد الرئيس صدام حسين } ؟ ولست أدري هل كان هذا الشاعر { يقشمر } دائرة الرقابة أم { يقشمر } نفسه ؟




الفصل الثالث

معارك حاج عمران . سيده كان 1 / 9 / 1986


بدل حياتي يا غناء . بدل النشيج

بعد هروبي من المعارك الطاحنة في قاطع حاج عمران وتركي الموضع الدفاعي ليلة 14 / 5 / 1986 . سلكت طريق الموصل – التاجي حسب نصيحة العريف نعمة مسؤول حانوت الفوج ، وكل أعضائي ترتعد خشية توقيفي باحدى سيطرات الطريق من قبل عناصر الاستخبارات أو الانضباط العسكري ، وتوقيفي من قبل هؤلاء الضباع والذئاب متسرباً من الموضع الدفاعي أثناء معركة ، يعني ارسالي مخفوراً على الفور الى سجن آمرية انضباط الموصل ، لترسلني هذه بدورها الى سجن استخبارات الفيلق بأربيل . ومن ثم يتم سوقي الى محكمة عسكرية خاصة ، لا أستطيع الدفاع فيها عن نفسي ، ذلك لأن هذه المحكمة ستأمر باعدامي وفق القوانين العسكرية الصارمة المعمول بها والتي كان يصدرها القائد العام للقوات المسلحة صدام حسين . عندما اقتربنا من بغداد ترجلت من السيارة قبل الوصول الى سيطرة التاجي بكيلوين مترواتخذت طريقاً ترابياً يبعد مسافة لا بأس بها عن عيون الضباع والذئاب التي تترصد الطريق بالسيطرة ، وعندما عبرت هذه الوحوش التي لا تعرف الرحمة أبداً . أوقفت سيارة تاكسي وطلبت من سائقها أن يوصلني الى مدينة الثورة حيث بيت أهلي ، وكنت طوال الطريق أنظر الى الأمام بعينين مترقبتين خوفاً من سيطرة أخرى . وجدت أمي تلطم وتصرخ ولم تستطع أن تأكل لقمة طعام واحدة منذ ليلة البارحة ، لأنها سمعت ورأت عبر جهاز التلفاز البيان العسكري اليومي يعلن عن قيام هذه المعارك بالقاطع الشمالي ويظهر البرنامج الدعائي المصور{ صور من المعركة } الذي تعده دائرة التوجيه السياسي بوزارة الدفاع جثث القتلى من القوات الايرانية ويثني على شجاعة وبسالة قواتنا التي { لم تخسر خلال اليومين الماضين إلاّ بضعة جنود} والغريب في الأمر أن البيان شأنه شأن البيانات الأخرى التي كانت تذاع كل يوم طوال سنوات الحرب العراقية - الايرانية يقول بعد البسملة وذكر آيات من القرآن . أن رجال قواتنا المسلحة قد { قاتلوا قتال الصحابة في هذه المعارك التي تشيب لها رؤوس الولدان } ويبدو أن كاتب البيان اللواء عبد الجبار محسن الوكيل الأقدم لوزارة الثقافة والاعلام سابقاً ومدير دائرة التوجيه السياسي الآن ، يعتقد أن الصحابة كانوا لا يقتلون في المعارك التي تشيب لها رؤوس الولدان . أقسمت أمي بعد أن أخبرتها بأنني هارب من هذه المعارك انها سوف لن تدعني التحق مرة ثانية بوحدتي العسكرية مهما كلف الأمر، وقالت انها في حال القاء القبض علي واعدامي بمكان غير جبهة الحرب ، فانها ستكون مستعدة لدفع مبلغ الاطلاقات ال 30 التي ستطلق عليّ الى الحكومة والبالغ 30 ديناراً و { لا تريد أن تبقى جثتي قرب مواضع العدو وتموت من دون أن تدفنني بيدها }. بقيت في البيت رهين مكتبتي ، لا أقف في الباب ولا أصعد السطح إلاّ في الليل خشية من وشاية الجيران بي إن رأوني الى مسؤولي المنظمة الحزبية ، وهذه الحالة كانت طبيعية جداً في سنوات الحرب بسبب المناخ الفاشستي الذي رسخته سلطة حزب البعث و الذي كان مهيمناً على عقول وتصرفات وأخلاق الناس . بعد أيام جاء لزيارة بيت أهلي ابن عمتي الأصغر كريم وهو جندي مشاة مثلي في أحدى وحدات الفيلق الثاني وسألني ان كنت أتمتع باجازة دورية فأجبته بنعم . لم يصدق ، وقال : { كيف يمنحوك اجازة والمعارك مستمرة في قاطعكم منذ أيام ؟ } قلت له : { اذهب الى الجحيم . انني هارب من هذه المعارك } فاقترح عليّ أن يساعدني في ايجاد وسيلة أستطيع من خلالها أن أخرج من البيت والذهاب الى حيث أريد . قلت له : { هل تستطيع أن تدبر لي نماذج اجازات دورية مختومة مقابل مبلغ من المال ؟} وكان الكثير من ضباط الجيش العراقي المرتشين أثناء الحرب يقومون بختم هذه النماذج باختام الوحدات التي يخدمون فيها ويبيعونها سراً للجنود الهاربين من الخدمة العسكرية عن طريق وسطاء ، وعادة مايكون هؤلاء الوسطاء خدمهم{ يخصص لكل آمر وحدة أو آمر سرية أو آمر فصيل في الجيش العراقي خادم يكلف بخدمته ليلاً ونهاراً ويسمى المراسل } ومن المعلوم انه كان يمنع منعاً باتاً في كافة أنحاء العراق صنع أيّ ختم لدائرة أو مصنع أو مدرسة أو وكالة عمومية او ورشة حدادة أو بقالة أو ما شابه إلاّ بموافقة مديرية الأمن العامة مع شرح الغاية من صنعه وتقديم الكفالة الملزمة و الشروط والأدلة والبراهين المطلوبة حتى تتم الموافقة عليه . قال : { لدي ختم وحدة عسكرية واشتريت نماذج اجازات من سوق مريدي وأنا الآن هارب منذ ثلاثة أشهر } . سررت كثيرا وقلت له : { من أين سرقته ؟ هل سرقته من وحدتك أم من وحدة أخرى ؟} . قال :{ لم أسرقه بل صنعته بنفسي } . قلت بدهشة كيف ؟ قال { عملية معقدة . أشتريت من سوق مريدي جزء من ختم مدرسة مكسور يوجد فيه العدد والتاريخ فقط وأحضرت علبة أمواس ماركة ناسيت فارغة وهي بحجم ختم الوحدات العسكرية تماماً , وفي مرة أخرى اشتريت من نفس السوق أيضاً ختم مسروق من مصنع لخزانات الماء مكتوب فيه : رقم الوحدة لخزان الماء كذا وكذا ثم قمت بقص كلمة رقم الوحدة والرقم المرسوم في الختم ، والآن عندما أختم أي نموذج اجازة أقوم أولاً بوضع علبة الأمواس على الحبر ثم العدد والتاريخ ثم كلمة رقم الوحدة وبعدها الرقم فيصبح لدي ختم وحدة عسكرية حقيقي } . قلت له :{ هل أوقفتك مفرزة انضباط أو شرطة أو استخبارات او دورية حزبية وطلبت نموذج اجازتك ؟} . قال بفخر: { عدة مرات . في الثورة والباب الشرقي وعلاوي الحلة والباب المعظم وسلمان باك } . ذهبت معه الى بيت عمتي العليلة وشبه الميتة منذ سنة 1980 بسبب نواحها المستمر ليلاً ونهاراً على ابنها الأوسط كاظم الذي فقد في الشهورالأولى للحرب باحدى جبهات القتال بالقاطع الجنوبي ولم تعرف أيّ خبر عنه على الرغم من ذهابها المستمر لزيارة قبورالأولياء والنذور الكثيرة ولقاءاتها بالسحرة والمطوعات وقارئات الغيب لكن من دون جدوى . ختم لي كريم عدة نماذج من دون مقابل على الرغم من جهده الذي استمر فترة لا بأس بها . وقال : { الآن تستطيع أن تضع التواريخ متى ما شئت ، ولكن يجب أن تحتاط من الجيران والناس الذين يعرفونك في منطقة سكناك . حذار من أن تظهر في فترة شهر أكثر من 7 أو 9 أيام أمامهم ، لا تدع أحدا يشك بأنك هارب من الخدمة العسكرية ولديك نماذج اجازات مزورة لأنهم من الممكن أن يبلغوا عنك مكتب المعلومات الأمني في المنطقة أو المنظمة الحزبية } . عدت الى البيت وتشاجرت مع أمي التي رفضت بقوة أن أخرج بنموذج اجازة مزور لئلا يلقي القبض عليّ الذئاب وأساق الى ساحة الاعدام بتهمة الهروب من ساحة المعركة وترك الموضع الدفاعي وأمام عويلها ولطم خدودها خرجت قاصداً مقهى حسن عجمي حيث اللقاء بالأصدقاء الأدباء والفنانين . أصرّ صديقي الشاعر ناصر مؤنس بعد أن أسمعني عدة قصائد من نتاجاته الأخيرة في المقهى أن ننجز مشروعنا الشعري المتعثر سوية مع المرحوم الشاعر رياض ابراهيم ونترك الكسل ، وهذا المشروع الذي كان من الممكن أن ننجزه في عام 1983 كان أحد أحلامنا الجنونية في الشعر وكان يتمثل في أن نقوم باعداد مجموعة شعرية مشتركة لنا نحن الثلاثة ونكتب في مقدمتها بيان شعري ناري أردنا من خلاله حسب ادعاءاتنا آنذاك أن ننسف كل المفاهيم البالية والسائدة في الشعر العربي ونطبعها خارج العراق على حسابنا الخاص ، وكانت أعمارنا تتراوح ما بين 21 و23 سنة وكنا نغوص في أحلام الحداثة والتغيير والمغامرة والفرادة والابداع واجتراح المعجزات قبل أن نستكمل ذخيرتنا المعرفية والحياتية وكان الدافع الأساسي الذي يدفعنا الى هذه الأحلام هو الركود الثقافي والشعري الضحل الذي هيمن على واقعنا العراقي بسبب مناخ الحرب ومهرجاناتها الدعائية التافهة التي كانت تكرسها السلطة لأبواقها من المتشاعرين والناعقين ، وفعلاً دخلنا في ساعات عمل طويلة من النقاش والاقتراحات والتنظيرات في عدة مقاه ببغداد وكانت معاناتنا التي لا تطاق تكمن في ذلك الانتشار الواسع والمقرف لمهرجانات الشعر العمودي والعامي المكرسة لتمجيد الحرب والتي كانت تقام على مدار الأسابيع والشهور بانتظام في الاذاعة والتلفزيون والجامعات والمسارح والنوادي وفروع اتحاد الطلبة واتحاد العمال واتحاد النساء وظهور سلسلة{ ديوان المعركة } الشهيرة التي راحت تصدر مئات المجاميع الشعرية التي تمجد الموت والخراب في{ القادسية } وتثني على شجاعة { قائدها المنصور } لكل من هبّ ودبّ وبسبب من اغراءات المكافأة المادية والوجاهة الاجتماعية فقد أصبح هؤلاء الأدعياء من أصحاب الحظوة والنفوذ في المجتمع . والأدهى من ذلك ، قام وسط هذا المناخ الملوث برائحة الدجل والكذب والخيانة لكل القيم الموضوعية للثقافة العراقية وتاريخها وانجازاتها ، المدعو لؤي حقي المدير العام في مكتب المنظمات الشعبية التابع لديوان رئاسة الجمهورية ورئيس منتدى الأدباء الشباب عام 1983 بتكليف من جهات عليا باقامة مهرجان الأمة الشعري بسبب فشل مهرجان المربد الشعري عام 1982 الذي كانت تشترى من خلال اقامته ذمم الكثير من الشعراء العرب المعروفين. بداية من نزار قباني الذي كان يصرخ في أحدى دورات المهرجان : { ذهب الفرس وجاء العرس } فالأميرة الكويتية سعاد الصباح التي كانت تصرخ أيضا : { أريد أن أتزوج سيفاً عراقياً } على الرغم من أن المدافع والدبابات كانت تقتلنا في كل آن والطائرات كانت تدك المدن والقرى ولا سيف هناك ولا { هم يحزنون } ومحمود درويش ومحمد الفيتوري وشعراء من مصر، من لبنان ، من المغرب ، من الأردن ، من تونس ، من الجزائر ، من موريتانيا، من كل بلدان الخليج ، من كل بلدان العالم ولقد فشل المربد عام 1982 بسبب هزيمة القوات العراقية في قاطع عربستان والغزو الاسرائيلي لبيروت وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان واختلاط الأوراق وقام هذا الدعي لؤي الذي لم ينشر سوى قصيدتين خلال سنوات الثمانينات في مديح ولي نعمته صدام و حصل على امتيازات كبيرة شملت الدراسة الجامعية والمنزل الفاخر والسيارات غالية الثمن ، باقامة مهرجان تهريجي آخر أطلقت عليه لأغراض دعائية في حينه تسمية { مهرجان الأمة الشعري } وهيأت له دوائر النظام جميع مستلزمات النجاح الضرورية الخاصة بالرشاوى وشراء الذمم ولقد حضره أكثرمن 1500 شاعراً وكاتباً جاءوا من بلدان عربية وأجنبية مختلفة وهنا أود أن أوضح بعض الأمور عن هذا الدعي لؤي حقي الذي كان عدي الابن الكبير للطاغية صدام يكرهه ويسميه دائماً { الواوي } ويا حبذا لو يطلع القارىء على مقال الشاعر محمد مظلوم في صحيفة { الوطن } عنه والذي نشره قبل سنوات بعنوان { قصة شاعر مسلح } لقد تعرفت اليه في صيف عام 1980 بمقهى البرلمان عندما كان يقرزم الشعر العمودي وبعد أيام التقيته في بناية منتدى الأدباء الشباب الواقعة بمنطقة راغبة خاتون أثناء اقامة أمسية شعرية وبما انني وصديقي الشاعر ناصر مؤنس كنا نحب المشي لمسافات طويلة آنذاك ، فقد تمشى معنا بعد نهاية الأمسية في طريق العودة وحين وصلنا الى منطقة الباب المعظم دعوتهما الى العشاء في بيت أهلي . بعد العشاء طلب مني أن أعيره بعض الكتب المعينة وادعى ان هذه الكتب مفقودة في المكتبات وغالية الثمن وهو لا يمتلك النقود لكي يشتريها . أعرته 12 كتاباً منها الكتاب المقدس ومذكرات بابلو نيرودا وديوان السياب وديوان المتنبي بتحقيق عبد الرحمن البرقوقي ومجموعة ادونيس أغاني مهيار الدمشقي وكتب أخرى نسيت عناوينها ثم طلب ثانية أن أسلفه 100 فلس ليتمكن من العودة الى بيت أهله الواقع بمنطقة حي العامل في الباص ، وكانت اجرة الركوب في الباص آنذاك هي 50 فلسا وهكذا صعد لؤي أولاً الباص 63 من الثورة الى الباب المعظم ومن ثم الباص 98 من الباب المعظم الى حي العامل . حين ودعناه قال لي ناصر : { لماذا أعرت كتبك لهذا الأمي ؟ سوف لن يقرأها ولن يعيدها اليك } ولقد صدقت نبؤة ناصر بعد ذلك . في عام 1982 حصل لؤي حقي من صدام حسين على سيارة نوع تويوتا سوبر من دون أن يعرف أحد ماهي المناسبة , حضر بعدها الى بناية منتدى الأدباء الشباب الوكيل الأقدم لوزارة الثقافة والاعلام عبد الجبارمحسن , يطلب من الأدباء الشباب ترشيح لؤي حقي لمنصب الرئيس بدلاً من الشاعر زاهر الجيزاني الذي كان لا يقوم بنشاطات تخدم الحرب في المنتدى . رفض الجميع ترشيح لؤي لمنصب الرئيس , غادر بعدها الوكيل الأقدم بناية المنتدى وتمت بعد أيام عملية نقل منتدى الأدباء من وزارة الشباب الى مكتب المنظمات الشعبية في ديوان رئاسة الجمهورية وصدر مرسوم جمهوري بتعيين لؤي حقي مديراً عاماً ورئيساً لمنتدى الأدباء الشباب ليعج المنتدى بعد ذلك برجال حماية الرئيس ، ويتذكر الكثير منا صداقة لؤي لطيار صدام الخاص وزوج أخته ومرافقه الأقدم أرشد ياسين . عام 1986 قام لؤي بطبع مجموعة الشاعرة سعاد الصباح { فتافيت امرأة } على نفقة المنتدى بمبلغ 8000 دينار عراقي وفي عام 1988 بعد نهاية الحرب مع ايران صدر قرار من قبل صدام بفتح خط هاتفي في جميع المستشفيات بالعراق يتصل بالقصر الجمهوري مباشرة لتلقي شكاوى الاعتداءات التي يتعرض لها الأطباء , وفي سهرة صاخبة بنادي الصيد ببغداد قام لؤي حقي بتهشيم جمجمة أحد الأشخاص بأخمص مسدسه . قام بعدها بنقله الى أحد المستشفيات . في المستشفى رفضوا معالجة الشخص المصاب إلاّ بجلب محضر تحقيق من الشرطة فثارت ثائرة لؤي وتشاجر مع مدير المستشفى الذي كان هوالأخ الأكبر لوزير الداخلية سمير الشيخلي . في النهاية تم استدعاء الشرطة وأخذوا الجاني الى التوقيف . أمر صدام حسين بحبسه من دون محاكمة في سجن أبو غريب 45 يوماً وطرده من منصبه . خرج بعدها وذهب الى منتدى الأدباء الشباب ليشج جبين الشاعر علي الشلاه بأخمص مسدسه أيضاً . في شتاء عام 1992 نشر رسالة مفتوحة في صحيفة { القادسية } الى سيده صدام يذكره فيها بانه كان أحد جنوده الأوفياء في { القادسية المجيدة } . تولى الرد عليها السكرتير الشخصي للرئيس عبد الجبار محسن . رضى صدام عنه ومنحه منصباً جديداً { مدير عام بمكتب المنظمات الشعبية } في ديوان رئاسة الجمهورية , وعندما كان يزور خالد مطلق رئيس المنتدى فيما بعد مع مرافقه الخاص الملازم أول علي وسائقه . كان يرعب جميع الأدباء الشباب حتى وصلت أخباره الى عدي صدام رئيس التجمع الثقافي في العراق عن طريق رعد بندر. والغريب أن عدي على الرغم من نزواته وقسوته الشديدة لم يكن يتحرش به أبداً خوفاً من أبيه الطاغية . بعد عام 2000 عينه صدام حسين رئيساً لمؤسسة السينما والمسرح وقد شاهدناه أثناء الحرب الأخيرة التي أطاحت بنظام صدام عبر التلفاز يقود الفنانين العراقيين بساحة الفردوس للتغني بصمود وبطولة { أبو الحواسم } وحين سقط نظام سيده الى الأبد ذهب بعد أيام ليباشر عمله بموؤسسة السينما والمسرح فتم طرده من قبل أولئك الذين كان يجبرهم على التغني ببطولات القائد المهزوم وظل حبيس بيته بحماية أقاربه خوفاً من الانتقام ، ولقد أجرت معه احدى الصحف الأجنبية مقابلة في هذه الفترة ترجمت صحيفة القدس العربي فقرات منها ، ذكر فيها انه كان يحب صدام ويكره ابنه وقال انه أراد الذهاب مرة الى أمريكا فذهب الى مقابلة صدام الذي أعطاه 30000 دولار لتغطية نفقات سفره . قبل اقامة مهرجان الأمة الشعري بشهور كلّف القسم الثقافي بمجلة اليمامة السعودية صديقنا الكاتب حميد المختار أن يقوم باعداد ملف عن قصيدة النثر بالعراق . يشمل حوارات ومختارات ويصدر في عددين متتالين . وبما أن قصيدة النثر في تلك الفترة لم يكن يكتبها إلاّ ناصر مؤنس ورياض ابراهيم وأنا وبعض الشعراء الآخرين ، فقد قام حميد المختار باجراء حوارات مطولة معنا عن وظيفة الشعر الأساسية في عالمنا الراهن والحداثة والكتب والابداع والاحلام والجمال . نشرت هذه الحوارات الملتهبة والصاخبة في عدد وفي عدد تلاه نشرت مختارات من قصائدنا . وفي مناخ الاحتقان الذي كان سائدا آنذاك في الأوساط الشعرية والثقافية بالعراق استطعنا عبر هذا الملف أن نطلق بعض مافي نفوسنا من هموم سببتها ماكينات التزوير والتهريج التي كانت تعمل ليلاً ونهاراً بالعراق . وبعد نشر هذا الملف الذي لم نره بسبب منع المجلة من دخول العراق . نهض عندنا نحن الثلاثة حلماً جنونياً وبسيطاً أردنا من خلاله أن نصدر مجموعة شعرية مشتركة تعبرعن رؤيتنا للعالم وعن آمالنا الخائبة في زمن كان كل مافيه يعادي القيم الانسانية والمعرفية الحقيقية . كان طوافنا اليومي حول المكتبات لا ينقطع أبداً بحثاً عن الجديد في الشعر والثقافة وسائر فروع المعرفة الأخرى ، وكانت نقاشاتنا الصاخبة لا تنقطع هي أيضاً حول الشعر والسينما والمسرح وبقية الفنون ، ومرة أثناء تجوالنا اليومي بشارع الرشيد وكنا نقصد احدى المكتبات أوقفتنا مفرزة أمنية يرتدي عناصرها الملابس المدنية كانت مستترة في زقاق ضيق وطلبوا بطاقات هوياتنا ، قدم لهم ناصر ورياض بطاقتي هويتيهما وقدمت أنا لهم بطاقة هويتي ونموذج اجازتي المزور وكدت أموت من الرعب وبالكاد أمسكت أعصابي . دققوا النظر في بطاقاتنا وسمحوا لنا بالمرور. في فترة هروبي هذا كنت أقضي معظم الوقت خارج البيت وأنام في الليل عند صديقي الشاعر محمد النصارفي غرفته المستأجرة بأحد فنادق ساحة الميدان وكان محمد يحنو علي دائماً ويمنحني الكتب والمال . أو عند صديقي الشاعر كمال سبتي كما في هروبي الأول . وكان كمال يمنحني أيضاً الكتب والمال . بعد شهور ألقت أحدى مفارزالاستخبارات القبض على ابن عمتي كريم في أحدى مناطق الثورة بسبب شكهم في حقيقة نموذج اجازته واقتادوه الى الشعبة الخامسة فوراً في دائرة الاستخبارات وبعد التحقيق معه ذهبوا الى بيت عمتي وفتشوا البيت وصادروا الختم المزور ، وهنا قامت قيامتي حين جاءت عمتي الى بيت أهلي تولول . ماالعمل الآن ؟ سوف يقوم جلاوزة الشعبة الخامسة المرعبة بتعذيب كريم واستنطاقه حول عدد وعناوين أولئك الجنود الهاربين من الخدمة العسكرية الذين ساعدهم وسهل لهم عملية ختم النماذج المزورة . التحقت الى وحدتي العسكرية نادماً خشية القاء القبض علي واعدامي وهنا تضرعت الى الآلهة أن تجعل عقوبتي عندما يتم تقديمي الى محكمة عسكرية مخففة . في التحاقي الى الوحدة هذه المرة حدث نفس الشيء الذي حدث في التحاقي السابق . عشرات الوحدات العسكرية من صنوف مختلفة كانت تقوم بالتدريبات العنيفة ومهمات الاستطلاع والاستمكان والرصد والطيران الحربي لا يكف عن طلعاته المستمرة ليلاً ونهاراً ضد مواضع وتجمعات القوات الايرانية . قدمني رأس عرفاء سريتي زين العابدين الى آمر سريتي الجديد الملازم أول جاسم الذي تم تنسيبه بدلاً من آمر السرية السابق الملازم أول محمود بعد مقتله في اليوم الرابع من معركة جبل كرده مند التي بدأت في ليلة 13 / 5 . لم يوبخني هذا الضابط ولم يشتمني بسبب هروبي ووعدني انه سيمنحني اجازة لمدة 3 أيام بعد اسبوع لطمأنة أمي . في مكتب قلم السرية أخبروني أنهم سوف لا يرسلون محضر تحقيق حول هروبي الى المحكمة العسكرية الدائمية 23 بالموصل الآن . وقالوا أن ارسال المحاضر التحقيقية الخاصة بحالات الهروب من الخدمة العسكرية الى المحاكم متوقف الآن بموجب برقية من القيادة العامة للقوات المسلحة في هذا القاطع وبعد أيام تم اعفاء الجنود السجناء في كل سجون الوحدات العسكرية بمواقع أربيل والموصل ودهوك من بقية فترات العقوبة المطبقة بحقهم ودارت بسبب اعفاء الجنود السجناء من بقية فترات العقوبة والاستعدادات العسكرية الكبيرة في عموم قاطعي حاج عمران وسيده كان شائعات كثيرة حول هجوم ايراني كبير وشيك على هذين القاطعين . اذن ، ستفتح جهنم أبوابها مرة أخرى لتلتهم الآلاف من الضباط والجنود فوق الجبال الجرداء . كان مراتب سريتي هذه المرة أغلبهم من الجنود الجدد الذين جيء بهم لتعويض النقص الذي حصل بعد الاصابات الكثيرة وحالات الهروب وايذاء النفس وكثرة أعداد القتلى . وعندما كنت أسأل بعض الجنود القدامى في سرايا فوجي الأخرى عن فلان وفلان ، كانوا يخبرونني بأنهم قتلوا من جراء القصف أو القنص أو اعدموا لتسربهم من المواضع الدفاعية . بعد اسبوع منحني آمر سريتي اجازة قصيرة لمدة 3 أيام كما وعدني عندما التحقت نادماً ، وعندما استقبلتني أمي دامعة العينين بالبيت ، لم أخبرها بما كان يدور في قاطع وحدتي . سألتها عن كريم . قالت :{ أن أهله لايعلمون عنه شيئاً ولا يدرون هل تم ارساله الى وحدته العسكرية مخفوراً أم لا ؟} لكن كريم الذي أمضى فترة قصيرة في سجن الشعبة الخامسة بالاستخبارات العسكرية تم حقنه وأرسلوه الى وحدته . ولقد أصيب المسكين بنوبة قلبية حادة في يوم وصوله مخفوراً الى وحدته ومات بعمر التاسعة عشرة لتموت من بعده عمتي حزناً وكمداً عليه وعلى ابنها الآخر المفقود بسبع ميتات .

بدّل حياتي يا غناء . بدل النشيج

{ تحية الى محمد مظلوم – فاطمة }


يدي التي مددتها لأقطف ثمار حروبكم ، يدي الشقراء كالليل خالية الآن إلاّ من
الجروح . حياتي حقل رماد ، ويدي موشومة بشظايا قذائف ثقيلة . جائع ودائخ .
بدل حياتي يا غناء ، بدل النشيج . أنا الغجري . قصائدي عرباتي ، ولعناتهم
ذهب حياتي . لا نجوم مشعة كما في ليل الغجري . ثريات من المديح تشع على
أحزانه الضخمة . هل نستطيع العيش بسلام مع ذكريات طفولتنا ؟
للعزلة
للفقر
للعنات يقدم الغجر ذبائحهم .
آه يا بغداد . يا أمنا الثكلى . هنا قناديل جمالك العظيمة تحيا مثل الديدان .
مذهبة بالقتل والرماد قناديلك الأسيرة . الآن يتنهد الخراب مع تنهداتك التي
يبتلعها الظلام . الشمس فوق رأسك . غابات من المسامير والربيع يحني رأسه
متعبا من صراخ الملائكة . بدل حياتي يا غناء . بدل النشيج .
هل أنا المسيح عندما مسحت دموع الجنود القتلى فوق جبال حاج عمران
تحت القصف المدفعي الكثيف . جريحاً ودائخاً . لا أملك سوى رماد حياتي ؟
- أيها الغجري . تذكر الأمجاد الزائلة وصن قصيدتك .
انخيدوانا . أيتها السلحفاة التي تنام على ضلعها الأيمن . الآن كم أنا بعيد جداً
عن ولائمك الحقيرة . هل يتوجب عليّ أن أن اذهب لأحصد أكاذيبك حين
تفوح الروائح العفنة ؟ حياتي حرة . حرة كطريق العوسج .
أمامي الآن ذئاب جائعة . هذه الذئاب تمجد فرائسها حتى حولت القتل ركاماً
متشظياً من الغدر . الآن في أيام العواء وصحراء من الجوع حيث الفاقة باجنحتها
السود تحجب الشمس . أنظر الى تلك المجازر التي تصنعها الذئاب وظلال الموت
التي تلف دروبي . آهٍ . الجوع في جوفي كما في السماء . الجوع هو عواء الذئاب
والظلام يستقبلني كقبر ضخم . لماذا أحمل معي الاثم مثل الكتب وتطاردني لعناتكم
كقطعان فيلة هائجة ؟ لماذا يبتعد عن سمائي القمر مثل خطيئة ؟
بدل حياتي يا غناء . بدل النشيج . بدل حياتي فهي أقسى من دوي المدفع وألعن من
معصية واحقر من المال وأكثر عواء من عاصفة وأبرد من خسارة .
حياتي تمضي أينما حلت في خريف من الفقر والاستعباد . دعني أسير في طرقات
غجرية لتتكدس الثمار والغيوم فوق رأسي . دع حياتي أيها الصديق التعيس ، فقد
متَ مثلي وقد خيم علينا السديم .
بعد الآن لا أسمي الذهب قمحاً
ولا العواء انشاداً
ولا الحب سماء
ولا الضرع نبعاً
ولا النار طريقاً
ولا{ الناصرية } رحماً
ولا الثور إلهاً
ولا العشب قلادة
ولا انخيدوانا شفيعة
آه يا انخيدوانا . لقد ذبحت حياتي ورأيت دمها يسيل فوق السفوح حيث يتوارى
هناك القمر الجريح خلف الجبال المقصوفة .
بلا رماد لا توجد نوارس
بلا مناديل لا يوجد وداع
بلا حدائق لا توجد أسلحة
تلا أكفان لا يوجد جنود .
العام الماضي ذهبت الى قبر صديق في { راوندوز }
ماذا وجدت فوق سفحه ؟ وجدت الرماد يتشظى ، وجماعات جماعات يسير
الدود متخماً . أواه أيها العزيز . لأجلك أشعلت قمحي وأيقظت الخنازير النائمة
في مستنقعات ليلي . والآن – لا شاطىء لآلامي في انطفاء سطوعك القوي .
أشجار الفضة
ورياضيات الشمس المعلقة فوق السطوح
ومرايا زند الصباح
كلها تنطفئ أمام عيني .
هل كان موتك دولاب حياتي؟
لا رفيق لي سوى عواء متقطع يلتصق بي منذ ليلة 13 / 5 / 1986
ليلة الهجوم الايراني على جبل كرده مند .
ليكن للميت ريش أيام ظالمة . ليكن لقبره عطر من الأمواج والأبواق الشجية .
هذه الأرض الأسيرة والجريحة التي أكلت نهاراتنا . تترقب يأسك ونشيجك
الذي يعرّي ليل العشب . حياتي الثكلى تربي ثآليلها في ليل العدم .
الفتى الذي يبحث عن النساء
الشاب الذي يبحث عن الذهب
الكهل الذي يبحث عن التقوى
كلهم حزانى من أجل قبر في راوندوز .
هذه الدموع التي تنهمر الآن ، هي ذكريات سهادات عشناها معا .
المنفى واللامنفى
شعلتان تستعران
والشاعر بستان مليء بأشجار محملة بالأصفاد . هل يهتك الشاعر الأسرار ؟
هل تروض كلماته الجريمة ؟ رماد على قبعات الورد . عينا غراب ، آلام أكثر
رطوبة من النار . جنود يجرجرون مدافعهم في السماء ، وأنت وحدك تتقدم في
عظمة ترملك صوب نخلة بآلاف الأذرع . الشعر والناصرية . تنام بينهما الأمواج
وطيور الدراج ، وتزحف الأقاليم على الأقاليم . عريان . ربيعك مثمر بالحب وشموس
حواجب ورعد وشموع عليلة . هل الموت يعاش؟ هل يمنحني بريق المجد السلطان
على الألم؟ من أنا ؟ ما اسمي؟ لا اسم لي . لا صورة فوتوغرافية . لا بيت . لا سماء
أصعد اليها ولم أسترح في ظهيرة تحت ظلال جنائن بابل ولم أحلم أن أكون
في يوم ما جنرالاً في جيش الملك سنحاريب ، ولم أصعد حصاناً وأسير فوق
جثث القتلى ولم أرتكب حماقات . أشياء كهذه لا تبهرني { حياتي محطمة ولا
أمل لي بمستقبل أفضل } . طالما فكرت في الماضي . في حروب طويلة وشعوب
منكوبة تعبرالجبال في هجرات كبرى . في قبائل مبادة عظامها مرفوعة في
الصحراء . في ذبح الانسان لأخيه الانسان . { لأن المجد ليس بدائم ولا التاج } .
حاملا نعشي أعود من طروادة مدمى . تطن في اذني جحيمات مدافع وراجمات .
أبحث عن أصدقائي تحت أنقاض بيوت مهدمة . مستشفيات . شوارع مقصوفة .
هذه الأغصان اليابسة أظنها عظامهم أحرقتها قذائف . هذه الحشرجات أظنها
احتضاراتهم . لتذهب جميع النساء الى الجحيم . لا أحلام عندي الليلة . لا سهرات
لا لطافات . ميتة ، ميتة ذات كابوس طويلة منذ عام 1980 ، حيث رائحة البارود
في الشفاه والمال والطعام والمصافحة . الطعنات السرية والميتات السرية والخوف
من الخوف والتنكيلات والاستلابات والتوابيت .
هنا في هذا الرأس . جميع الأفكار لها سواد الزفت . هنا النهيق الذي يخدش الاذن .
هنا كل شيء يعوي في هذا الرأس ودهاليزه المتفحمة . كل كلام لا معنى له حين
تحتجب الشمس . شمس حياتنا . كل كلام لا معنى له حين تبتسم في وجه القاتل
وتحدق في وجه القتيل قائلاً : { أن الحياة جميلة كشمس من الزفت } . كل كلام
لا معنى له حين تتنزه السياط في جسد الشاعر ، وحين نذهب الى حرب ونأكل
بلا شهية . لا أحب اللص الذي يسرق المياه من بيت الشمس . لا أحب الجنرال .
لا أحب الأسلحة الخضر . لا أحب القاتل في الصيف . لا أحب الليل في الوادي .
لا أحب الكاهن في البيت . لا أحب الدبابات في الحديقة . لا أحب الجنرالات في
المدينة . لا أحب أوامرهم . لا أحب خرائطهم . لا أحب مدافعهم . لا أحب معاطفهم .
لا أحب أنوفهم المعمارية . لا أحب أي شيء سوى موتي الذي أحيا فيه وجهشات
النساء الأرامل التي تصدح حولي كجناح نعامة يشق طريقه في الظلام . كل جنرال
مع قتلاه ونياشينه التي تلمع مثل العار . كل منفي مع حنينه ومستقبله . كل مجد يزول
ويأخذ لون الرماد شأن الأكاذيب . لا مكان آخر سوى الصمت والمضي برأس غجري
في الريح يتأرجح كشمعة . تحت أشجارالربيع التي يهزها نسيم البحر والحرية .
يزرع الشاعر الغجري فجراً كوكبياً ، والفضاء يشع عذوبة . المال والنساء والأطفال
الذين يتزحلقون على مرايا كبيرة . يرحبون بي أنا القادم :{ مساء الخير أيها الغجري
الملعون . ستعود الى وطنك على غيمة } . سأهتف متذكراً ميتاتي بين عرائن الجبال وفي
الدروب المليئة بالذئاب :{ اشرقي. اشرقي يا شمس على جنازي . قشعريرات القتل ولت
وولت حقارات حياتي } ما سبب حزن الغجري؟ ما سبب انطفاء الشعلة؟
هذه الزهور والينابيع التي تجف في يدي الآن ، تحجبني عن هواء العالم . هذه الكتب
التي لوثت حياتي سأحرقها كلها . الجنود الذين ماتوا في الهجوم الماضي . الجنود
الذين سيموتون في الهجوم القادم . لم يأكلوا شيئاً ولم يكتبوا رسائل الى أمهاتهم .
لديهم ما يكفيهم . عندهم الندم والحسرات والوصايا التي لم تكتمل ، والمراثي التي
ستكتب باجلال فخم والأضرحة التي شيدت بأبهة والشموع والزهور والاحتفالات
التذكارية . عندهم الأرائك والأنهار والنساء الفردوسيات وأشجار المدفعية التي ذللت
تذليلا . عار يلطخكم لعناتكم لي ، أيها الأوغاد السفلة . هذه الأقنعة . أقنعتكم سوف
تفضح عفوناتكم . ستكون هوامشي وعواءات حياتي . أغنيات في الحدائق المستقبلية .
انخيدوانا
انخيدوانا
سأبقى عائشاً في صعلكاتي حتى أشهد تفسخاتك .
هذه الجروح الساهرة لن تنام .
فوق أشجارك العاطلة
تذرق الغربان .



بعد طرد القوات الايرانية من قاطعي حاج عمران و سيده كان في الشهور الماضية وتكبدنا خسائركبيرة جداً في الأرواح والمعدات . تم اعفاء الفريق الركن طالع الدوري عضو المكتب العسكري لحزب البعث من قيادة الفيلق الخامس بسبب الأخطاء الكثيرة التي قام بها وتكليفه بقيادة الفيلق الثالث ، ومعروف عن هذا الفريق الركن كثرة لا مبالاته بأرواح الجنود والضباط ، طالما انه ينفذ ما يريده القائد العام للقوات المسلحة صدام حسين مهما كانت الخسائر ولقد تم توبيخه وطرده من قيادة الفرقة المدرعة التاسعة عام 1983 بعد أن دمرتها القوات الايرانية بقاطع ديزفول والحقت بها خسائر مهمة بالأرواح والمعدات ، وحين أعيد بناء هذه الفرقة المدرعة بعد ذلك ، اسندت قيادتها الى العقيد الركن عبد الجليل عضو المكتب العسكري أيضاً بعد أن تمت ترقيته الى رتبة لواء ، وبما أن هذا القائد كان لا يمتلك خبرة كافية في قتال القطعات المدرعة بسبب تواجده الدائم في المكتب العسكري واشرافه على احدى اللجان الحزبية المكلفة بمتابعة المعلومات عن كل ضباط الجيش العراقي في هذا المكتب الذي يرأس أمانة سره صدام حسين فقد تم تدميرالفرقة المدرعة التاسعة مرة أخرى في أول معركة خاضتها مع القوات الايرانية في قاطع كيلان غرب وقام صدام حسين بعد ذلك بتوجيه اللوم والاهانات القاسية الى هذا القائد وطرده من عضوية المكتب العسكري واحالته على التقاعد برتبة عقيد ومن ثم أعيد بناءها مرة ثانية وتم تكليف المقدم كامل عضو المكتب العسكري أيضاً بعد ترقيته الى رتبة عميد بقيادتها لكنها تم تدميرها أيضاً في أول معركة خاضتها مع القوات الايرانية بعد بناءها بقاطع { سومار } في الفيلق الثاني بسبب عدم خبرة قائدها في الحرب وتم أيضاً طرد هذا القائد من عضوية المكتب العسكري واحالته على التقاعد برتبة مقدم . كانت خطط القيادات العسكرية في الفيلق الخامس التي يشرف عليها الفريق الركن طالع الدوري ترفع مباشرة الى القيادة العامة للقوات المسلحة ببغداد للموافقة عليها ، وكانت الأوامر العسكرية الدونكيشوتية الصارمة التي تأتي الى هذه القيادات من قبل صدام حسين ، تلح في كل مرة على أن يوضع لواء مشاة أو أكثر وأفواج من الجيش الشعبي وسرايا مرتبة فوق كل جبل بقاطعي حاج عمران وسيده كان حتى لو لم يكن هناك أي هجوم لكي لا تتمكن القوات الايرانية من احتلال أي جبل مرة أخرى وهنا كانت أغلب الوية المشاة العراقية في هذين القاطعين تتكبد الخسائر اليومية الجسيمة فوق الجبال بفعل القصف المدفعي الذي لا ينقطع ، ومن المعلوم أن السياقات والنظريات العسكرية التي كان قائد القوات المسلحة العراقية { المهيب الركن } صدام حسين لا يفهمها أبداً على الرغم من الدجل والتطبيل الذي لا ينقطع عن عبقريته العسكرية الستراتيجية وحنكته المزعومة ، تؤكد دائماً على انه عند حصول معارك جبلية كهذه واحتلال الأهداف يجب أن توضع مدافع عيار 106 ملم بعجلاتها المتحركة فوق الجبال وتباشر قصفها ضد القوات الايرانية بالاضافة الى الأسلحة الأخرى التي تباشر الرمي والقصف من المواقع الخلفية والمتقدمة . دبابات . رباعيات. مدفعية 120 ملم . مدفعية 82 ملم . مدافع ثقيلة عيار150 ملم . لكن بدلاً من تطبيق النظريات والعلوم العسكرية التي كانت تدرس في جامعة البكر العسكرية والكلية العسكرية العراقية فقد كانت أوامر وبرقيات صدام حسين الفورية تصر على أن نكون نحن الجنود طعماً سائغاً لقذائف وصواريخ مدافع ودبابات وطائرات القوات الايرانية التي كانت تحصدنا ليلاً ونهاراً من دون هوادة فوق كل جبال قاطعي حاج عمران و سيده كان وكان المشهد المؤلم في كل مرة يتم على هذا النحو . يتم تكليف لواء المشاة 604 بالصعود الى جبل كرده مند ومسك المواضع الدفاعية . وحين تقوم المدفعية الايرانية بعمليات { التربيع } ضد مواضع هذا اللواء وتباشربقصف كل متر من الأرض ب4 قذائف ثقيلة . تتشظى كل قذيفة لمسافة 500 متر. تكون النتيجة بعد اسبوع على أقل تقدير. هي تدميراللواء 604 بالكامل والحاق الخسائر الكبيرة في الأرواح والمعدات. لتأتي أوامرصدام حسين مرّة أخرى بتبديل اللواء المدمر وتكليف لواء المشاة 97 بالصعود الى الجبل بديلاً عنه . وهذا اللواء يتم تدميره أيضاً بنفس الطريقة السابقة التي دمر فيها اللواء 604 . ومرة ثالثة يكلف لواء المشاة 98 بالصعود ومسك المواضع الدفاعية المهدمة بديلاً عن اللواء 97 ، ليتم بعد ذلك تدميره وقتل مراتبه وضباطه وهلم جرا . ولك أن تقيس على هذه الشاكلة . كم لواء تم تدميره في قاطع حاج عمران وقاطع سيده كان بسبب هذه الأوامر القاصرة والبعيدة عن العلم العسكري وتطبيقاته الأخرى التي كان صدام يلزم فيها جنرالاته المستعدين دائما لتنفيذ أوامره ؟ التحقت الى وحدتي بعد نهاية اجازتي القصيرة خائباً ومحطم الآمال ، لكن كان هناك ثمة ما يشيع الدفء والأمل في نفسي بعد أن دفعت الى الشاعر زاهر الجيزاني المحرر في مجلة الطليعة الأدبية والذي كان يصارع طوال سنوات من أجل مساعدتنا نحن الشعراء الشباب في أن نتمكن بفتح ولو نافذة صغيرة من نوافذ القلعة العالية المسماة { الطليعة الأدبية } 12 قصيدة من أجل النشر . وعدني زاهر بنشر قصائدي هذه المرة وكنت متأكداً من صدق وعده . كانت سياقات التدريب العنيفة في فوجنا . تمنح الجنود شعوراً بانهم مثل الخراف التي يراد تسمينها من أجل الذبح ، فالجندي هنا يجب أن يكون مدرباً تدريباً عالياً ويتمتع بلياقة بدنية وقتالية كبيرة حتى يكون قادراً على خوض المعارك الجبلية الصعبة وبقية الواجبات الأخرى وبما أن الكثير من الجنود الذين تم تنسيبهم الى وحدتي الآن من المواليد التي التحقت بالخدمة العسكرية حديثاً وبحاجة الى تدريبات ومهمات عنيفة ، فقد كانت أيامنا شاقة حد اللعنة وكانت برقيات استخبارات الفيلق المنشغلة بالاستعدادات الضخمة لصد ودحر الهجوم الايراني الوشيك على مواضع وحداتنا والتي كانت ترسل الى الفرق والألوية والأفواج ، تبدل أوامرها باستمرارحسب السياقات التدريبية والأمنية المعهودة عندها ، وهذه السياقات التي كنا نعرفها نحن الجنود القدماء ، بدت غريبة على هؤلاء الذين باشروا الخدمة حديثا ، ومن ضمن هذه السياقات الداخلة في الانذار { ج } هو سياق { اليقظة والحذر الشديد } ويقضي بأن يكون الجندي على أهبة الاستعداد دائماً لأيّ هجوم أو تعرض تقوم به الوحدات الايرانية على مواضع قواتنا فوق الجبال ، ولكي تترسخ مضامين وأوامربرقيات الاستخبارات في أذهان هؤلاء الجنود الجدد فأن الاستخبارات كانت تلجأ وضمن عملياتها النفسية الى أنواع من الحيل التعبوية والتدريبية و التي سرعان ما تنكشف لهؤلاء فيما بعد ومن ضمن هذه البرقيات هي البرقية التي ترسل بين آونة واخرى وتشدد على أن البيشمركة أو الأنصار سيقومون بهجوم على الربيئة الفلانية أو على الموضع الفلاني وبالتالي فيجب أخذ الحيطة والحذر في التصدي لهجومهم وكنا نحن الجنود القدامى نعرف أن البيشمركة أو الأنصار اذا أرادوا الهجوم على موضع ما . فانهم لا يسمحون للاستخبارات بأن تعلم خططهم وتوقيت هجومهم قط . والسياق السوريالي النفسي الثاني الذي يجب أن يترسخ في ذهن الجندي الجديد في الأسابيع الأولى من خدمته في القواطع الجبلية ، لكي يبقى متيقظاً باستمرار لكل نأمة ، هو أخذ الحيطة والحذر من حيوان الدب ، مع أنني لم أشاهد في يوم ما بجبال العراق دباً واحداً ، والمسألة تكون على النحو التالي . عند الانتقال الى مقر جديد أو في الليالي المظلمة تماماً ، يبلغ الجنود أن الدببة ستظهر بعد الساعة الواحدة ليلاً وتقوم بمهاجمة الجنود الذين يهملون واجبات الحراسة والرصد ، وتطلب منهم برقية الاستخبارات أن لا يستسلموا للنوم أو التراخي أو الجلوس في نقاط الحراسة ، لأن ذلك من الممكن أن يجعلهم يتعرضون للقتل من قبل هذه الحيوانات الشرسة ، وكانت اللعبة كثيراً ما تنطلي على بعض الجنود الذين يشعرون بالخوف الشديد فيبقون في نقاط الحراسة على أتم الاستعداد لكل طارئ ، ومرة في سياق تدريبي طلب آمر فوجنا الجديد الرائد علي حسين من رأس عرفاء الوحدة نائب الضابط زينل بعد الساعة الواحدة والنصف ليلاً أن يقوم هو وآمر دورية الحراسة بجولة حول المقر للتأكد من جدّية الحراسات في الوحدة وطلب منهما أن لا يوقظا أيّ جندي اذا وجداه نائماً ، وعادة ما كانت الدورية تأتي بصورة غير مكشوفة الى النقطة المراد تفتيشها للتعرف على مدى يقظة الحارس . عاد زينل وآمر الدورية من جولتهما وأخبرا آمر الفوج بأن الجندي الجديد منشد كان نائماً في نقطة الحراسة فتركاه و لم يوقظاه . اقترح آمر الفوج أن يرتدي جندي الانضباط الخفر غازي { فروتين من فراء القماصل العسكرية } ويجعل من نفسه دباً ويذهب الى نقطة الحراسة التي يتواجد فيها منشد ويرمي عليه من أجل ايقاظه واخافته عدة أحجار مع اطلاق أصوات حيوانية ثم يهرب . ما أن تم اطلاق أول دفعة من الأحجار على منشد وسمع صوت الدب الذي بدأ يقترب منه ، حتى ارتعدت فرائصه و بادر باطلاق صلية من رصاص بندقيته وأردى الدب قتيلاً . أودعوا المسكين منشد السجن وتمت كتابة محضر تحقيق في الحادثة . تولى مكتب استخبارات فوجنا ارساله الى مكتب استخبارات اللواء وقام اللواء بارساله الى استخبارات الفرقة التي أرسلته الى استخبارات الفيلق . بعد أيام وأثناء هجوم القوات الايرانية على قاطع حاج عمران سقطت قذيفة معادية على بناية سجن الفوج الواقعة بمنطقة قصري وقتلت منشد السجين الوحيد هناك ، وبعد شهر من مقتله أرسلت استخبارات الفيلق برقية فورية تؤكد على { اطلاق سراح الجندي السجين منشد فوراً بأمر من قائد الفيلق الفريق ضياء الدين ومنحه 10 أيام اجازة ومبلغ 50 ديناراً تصرف من نثرية مكتب التوجيه السياسي في فوجكم وذلك ليقظته وشجاعته العالية ، ويعتبر الجندي غازي الذي قتله منشد خطأ شهيداً وتصرف له كافة الحقوق التي نص عليها القانون } .


موتى المنفى يحرسون البحر عند الظهيرة



1

عادوا الى البيت مجتازين ممر أشجار طويلة
ترفرف فوق رؤوسهم طيور جائعة .
نباتات الفطر السام المنتصبة في سأمها الموحش
ذابلة وغريبة مثلهم .
كيف السبيل الى ايقاد شعلتهم التي تذوي وهذه الأشجار
تطفىء قناديلها , حانية على الجذور؟
في ممر الأشجار الطويل ، ريش نسور تهزهزه الريح وسط
الأوراق المتساقطة ، ريش حيواتهم التي تنزف بلا انقطاع .
في قفزتهم الكبيرة الى العلو كانوا يترنحون في ليل الهاوية الساكن .

2

ظلال قبورهم التي ترتعش في نيران الفجر, ترفع الفهود من وحشتها
المعششة, من أجل الزرقة المتحصنة في الهاوية
من أجل العليقة المشتعلة في الرغيف .
أين يذهب الموتى في الفجر ؟
أين يتركون أشجارهم المحملة بالطرائد الكبيرة ؟
كم من الأسرار في أحلامهم العميقة ؟
الموتى ينصتون لعري كلماتنا اللاهثة ويغلقون عليهم أبواب العافية .
لا تهمهم أعياد حصادنا
لا مجازرحروبنا
لا الطوفان .

3

ثمة أشياء نجهلها وتعرفنا :
غضب الصقر في عطشه
سهرات زيز الحصاد في الصيف الماضي
ناي الراعي الذي يحدق في الكوكب .
في كل يوم من أيامنا التي نقضيها على هذه الأرض المشؤومة
ثمة ما يبعث على اليقين باننا سنتعرف على غريمنا - النسيان - .
أين نجد الآن باباً لموتنا الذي يستجمع شجاعته { وحيداً وبلا معين *}؟
لن نرفع الرأس عالياً
سنكظم غيضنا ونتقدم بخطى متثاقلة صوب أرض النسيان .

4


قرب ضوء نجمة . في التماعة عشب يخزّن أسراره للصيف
ينهض حلم الانسان- صخرة صلدة- ويتمطى في مروجه ليل البرد البعيد .
الانسان يجلس قرب الهاوية . حياته الفقيرة- سجن – يسند الشمس في نهوضها الهادىء .
لمن هذه الدمعة المحفورة
على رخام القبر ؟

5

{ قفير } نحل في الغابة , يعمل ليل نهار
من اجل الانسان الساهر في اللوعة
من أجل العالم وخلاصه الموعود .
{ قفير } نحل يخفي في أروقته الغريبة ، قناديل الأمل المضيئة كما الأعماق
لكن الرماد ، رماد الانسان الصياد ومكائده في الغابة . أطفأت القناديل ورفعت
{ القفير } الى الهاوية .
ليس للانسان سوى مخالب طويلة تنهش بين فخذي خطيئته .

6

ناموا في منفاهم على شاطىء البحر بانتظار سفينة ما تحملهم الى أرض الوطن
الذي حلموا برؤيته دائما . وحدها البروق المتلظية تعرف سرّ غيابهم وتعرف
أين علقوا جدائلهم ودموعهم المقيدة. موتى المنفى يحرسون البحر عند الظهيرة
كما يحرس الضوء بوابات البكاء .

7

طائر النورس في الماء الذي يغلي. يتبع ظلي وظلك .
أظفاره الحمر صاعقة بين حقول القمح .
هل تحطمت أشرعتنا ؟
لماذا لم يبق من أيامنا سوى صفصافها الذاوي ؟
طائر النورس- الأسود- ألسنة اللهب .

8

هنا الصخور شاخصة. والطبيعة بدلت ثيابها .
الملك يستعرض فيالقه بأبهة وكبرياء . يمد يده الى الشمس فيأسرها بكاملها
في كل صيحة من صيحاته ، غابة من الندوب الغليظة . هذه الأرض . أرض
الملك . حين تنشب حرب جديدة ستضيق عليه حد اللعنة ، وستنقلب عليه أرض
أخرى مزروعة بآلاف الصلبان .

9

مضى زمن طويل وهم يتلذذون في جرائمهم . عيونهم محمرة من كثرة الاعدامات .
ظلالهم الكافرة حجبت عنا الهواء والساقية ، وصرخاتهم الثاقبة اقتحمت علينا
حلبات الليل .
دعهم . دعهم يتقدمون بوحشيتهم . سنجعلهم يرسفون بالأصفاد .
سننزع جلودهم ونحشوها بالقش .
وحوش تزحف صوب قداسة معابدنا
ومنابع أنهارنا العظيمة .

27 / 6 / 1998 مالمو- السويد
* يانيس ريتسوس
نشرت في صحيفة { القدس العربي العدد 2979 الثلاثاء 8 ديسمبر 1998


أرادت القيادات العسكرية الايرانية بعد طرد قواتها من قاطعي حاج عمران وسيده كان في المعارك السابقة أن تستعيد بعض الرواقم العالية في هذين القاطعين للتأثير على سير ومجريات المعارك التي قد تحدث في جبهات أخرى من جبهات الحرب ، فبعد أن تكبدت قواتنا خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات طوال الشهور الماضية بفعل القصف المستمر من مختلف المدافع والراجمات والدبابات والطائرات . اعتقد القادة الايرانيون أن الوقت قد حان لشنّ هجومين كبيرين ومتزامنين على هذين القاطعين . وبعد أن باشروا استعداداتهم الحربية واللوجستية واقترب موعد هجومهم ضد مواضع وحداتنا . منعت قيادة الفيلق الاجازات والمأموريات في جميع الوحدات ووصلت قاطع عمليات فيلقنا ألوية وحدات خاصة ومغاوير وألوية مشاة من ألوية احتياط القيادة العامة للقوات المسلحة وباشرت على الفوربعمليات استطلاع واسعة في وديان وجبال حاج عمران و سيده كان استعداداً للمعارك القادمة كما وصلت أيضاً كتائب دبابات و بطريات مدفعية ثقيلة نمساوية ، وهذه المدافع التي تصوب نحو أهدافها على شكل قو ، كانت غير موجودة عند الجانب الايراني وكانت تكبد القوات الايرانية خسائرقاسية في الأرواح ، وقبل الهجوم الوشيك أغارت على مواقعنا الخلفية والمتقدمة ومواقع أسلحتنا الثقيلة عشرات الطائرات الايرانية الحربية ملحقة بنا وبأسلحتنا ومقراتنا الدمار والخراب وقد استطاعت وحدات مقاومة الطائرات وبطريات صواريخ سام 7 وسام 9 اسقاط العديد من هذه الطائرات فوق العديد من المدن والقصبات والنواحي والجبال والوديان وأسر طياريها ، وفي هذه المرة قررت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية أن تغير خططها الحربية السابقة التي كانت تقوم على دفع ألوية المغاوير بهجوم مقابل حين تحتل القوات الايرانية مواضع ألوية المشاة وتقوم بطردها من الهدف بعد ذلك ، وقررت بدلاً من هذا السياق أن يكون مع كل لواء مشاة ، لواء مغاوير وسرية أو أكثر من السرايا المرتبة وأفواج من قوات الجيش الشعبي حتى تكون هذه القوات قادرة على صد الهجوم وتحطيم زخمه مهما كانت قوته ، وضمن هذا السياق صدرت الينا الأوامر ليلة 29 / 8 بالتوجه الى جبل كرده كو لنكون ظهيراً للواء 39 مشاة . صعدنا الجبل ليلاً واتخذنا مواضعنا بعد أن قمنا بحفر الخنادق والشقوق والسواترتحت القصف المدفعي الذي لا ينقطع من جانبنا ومن جانب القوات الايرانية ، وفي اليوم التالي طلب من كل فوج أن يهيء 4 من الجنود الشجعان ليقوموا بواجب الكمين في الأرض الحرام التي تفصلنا عن القوات الايرانية . اختارني من سريتي الملازم أول جاسم آمر السرية وكدت أموت من الرعب ذلك لأنني لم أكلف من قبل بواجب الكمين ، وقال لي بعد أن رآني أكاد أخرى على نفسي من شدة الفزع :{ أنت أقدم جندي في سريتي واخترتك لشجاعتك وبسالتك ، اذهب نفّذ الواجب وكن بطلاً } يا إلهي ، أيّة بطولة وأيّة داهية تنتظرني ؟ . ماذا سأفعل بالأرض الحرام ؟ وكم من الوقت سأبقى قرب مواضع القوات الايرانية ؟ هل سأدوس على لغم أو أقع في { مصائد المغفلين } ؟ كنت وأنا أسأل نفسي هذه الأسئلة أفكر في قصائدي التي دفعتها الى زاهر الجيزاني ووعدني بنشرها في مجلة الطليعة الأدبية . شرح لي بعض الجنود الذين كلفوا معي بالمهمة ، أن هذه سياقات عادية ومن الممكن أن نطبخ الشاي اذا لم نصطدم بدورية قتالية معادية ، وقالوا أن القوات الايرانية تقوم بنفس الواجب أيضاً ونحن سنكون بعيداً عنهم . انحدرنا من أعلى ربيئة فوق جبل كرده كو واتخذنا طريقاً نيسمياً باتجاه الأرض الحرام . لاشيء سوى الصمت المطبق . لا اهتزاز غصن . لا هفهفة نسمة . وحده رفيقنا عبد الأمير حامل جهاز الارسال البالغ وزنه 13 كيلوغراماً والمسمى جهاز الراكال يتنحنح كلما مال جهازه يميناً أو يساراً فوق ظهره ، وبالنسبة لي فقد كان أشدّ ما يفزعني وأنا أسير مع هؤلاء الجنود الذين لا أعرفهم ولا يعرفونني ، هو دويّ القذائف وصواريخ الراجمات الايرانية والعراقية التي بدت لي وكأنها شهب أو نيازك تسقط على الأرض . مكثنا في الأرض الحرام من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل الى الساعة الرابعة صباحاً ثم انسحبنا باتجاه مواضعنا عبر شفرة من جهاز الراكال جاءت الينا من مقر اللواء . في الليلة التالية وصلتنا برقية فورية من استخبارات الفيلق تشدد على أخذ الحيطة والحذر وتعلمنا أن الهجوم الايراني ضد مواضعنا ربما سيبدأ الليلة بعد الساعة الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل ، وهكذا ظلت جميع قواتنا فوق جبل كَرده كَو هذه الليلة بانتظار لحظة الهجوم المرتقب . أخيراً ، أشرقت الشمس ولم يحدث الهجوم ، لكن سياقات القصف بدأت تتحذ وتيرة متصاعدة بعد الظهر وبدت قمة وسفوح كَرده كَو شبيهة ببركان يفور من شدّة نيران القذائف الحامية ، وهذا الوصف ينطبق على الجبال الأخرى مثل حصاروست وكَرده مند و أوراس وكوردي ووسكران وبقية الجبال الأخرى في قاطع حاج عمران . في المساء قام العميد محمود قائد الفرقة 23 يرافقه ضباط الأركان بجولة استطلاعية سريعة شملت عدة مواضع والتقى الكثير من ضباطنا وأكد على أن الهجوم سيبدأ الليلة ، وطبعا كان تأكيد قائد الفرقة مبني على معطيات ومعلومات استخبارات الفيلق . بعد منتصف الليل اهتزت الأرض التي نقف عليها وقامت القيامة في قاطعي حاج عمران وسيده كان وبدأ الهجوم الذي حشدت له القيادات العسكرية الايرانية أفضل ما لديها من قوات ، وقد استطاع لواء المشاة 39 المتمركزفي المواضع والسواتر الأمامية من ايقاف الصولة الأولى وكسر حدّة زخم الهجوم بسبب وجود لواءنا وأفواج الجيش الشعبي والسرايا المرتبة التي لعبت دوراً أساسياً في منع أيّ التفاف أو تسلل قد تقوم به القوات المهاجمة ، وبعد أكثر من ثلاث ساعات صدرت الينا الأوامر بالتقدم صوب القمة والقتال الى جانب مراتب وضباط اللواء الذي أبدى بسالة عالية على الرغم من كثرة الاصابات والخسائر الكبيرة بين صفوف مراتبه . سلكت أفواجنا الشق الطويل والوحيد الذي يوصل الى القمة ، وهو شق عميق نوعاً ما تم حفره في الشهور الماضية بالمعاول والمجارف من قبل جنود المشاة ويستطيع أن يغطي قامة الانسان ، لكن بسبب طبيعة الأرض الجبلية فقد كانت هناك مساحات صخرية غير عميقة تجعلنا مرصودين من قبل القوات المعادية اذا نحن مشينا فيها ، وأثناء تقدمنا السريع تحت القصف المدفعي باتجاه القمة في واحدة من هذه المساحات وكنا نضع مسافات بيننا ، رأيت بأم عيني الجندي علي صياح ينقسم الى نصفين بفعل صاروخ قاذفة RBG7 . النصف العلوي طار في الهواء خارج الشق ، والنصف السفلي ظل داخل الشق ، وعندما رأيت ما حصل لهذا الجندي التعيس فقد تجمّد الدم في عروقي من شدّة الرعب ولم أستطع أن أتقدم أو أتراجع . انبطحت على الأرض كميت وبالكاد كنت التقط أنفاسي حتى أن بعض الجنود داسوا عليّ وكانوا يظنونني مقتولاً . بعد تقدم جميع الجنود انسللت الى الخلف منهكاً وشبه ميت من الخوف الذي كاد يوقف نبضات قلبي . أخيراً فشل الهجوم المعادي في احتلال أيّ جبل وتكبدت قواتنا والقوات المهاجمة الخسائر الفادحة في الأرواح والمعدات والتجهيزات ، ومثلما فشلت القوات الايرانية في قاطع حاج عمران من تحقيق أي نصر ، فقد فشلت في قاطع سيده كان أيضاً ولم تحقق أية نتيجة تذكر . في المساء خف القصف على مواضع وحداتنا شيئاً فشيئاً وهنا تأكد لقيادة الفيلق وقيادة الفرقة ، أن الهجوم قد فشل تماماً في تحقيق أهدافه التي أعد لها طويلاً . في اليوم الثاني بعد الهجوم صدرت الينا الأوامر باخلاء القتلى والجرحى ليلاً وكانت خسائر قواتنا في الأرواح لا تعد ولا تحصى .


الفصل الرابع

معركة جبل كّرده مند الثالثة 3 / 3 / 1987

موت يحلم بحرارة شمس الصيف

بعد نهاية المعارك الشرسة التي دارت بقاطعي حاج عمران وسيده كان واندحار القوات الايرانية المهاجمة ، صدرت الينا الأوامر بالعودة الى المقرات المتقدمة بمنطقة قصري وقرية دار السلام بعد أن أخلينا القتلى والجرحى والأسلحة والتجهيزات التي تحطمت ، وطلبوا ممن يريدون مأمورية لمدة 3 أيام أن يذهبوا الى مستشفى أربيل العسكري ويأخذوا جثث القتلى من أفواجنا لتسليمها الى أهلهم في مختلف محافظات العراق . تردد الكثير من الجنود شأنهم شأن الآخرين في بقية الوحدات العراقية الأخرى خوفاً من أن يقتلهم أهل القتلى وكان الكثير من الجنود أثناء هذه الحرب عندما يذهبون بمأمورية لتسليم جثة جندي الى أهله يتعرضون للقتل من قبل أهل الجندي القتيل أو تلحق بهم اصابة بالغة ، ذلك أن هؤلاء الناس عندما يطرق أبوابهم المأمورون ويفتحونها ، ينهارون حالاً ويصابون بالهستيريا حين يرون سيارة تاكسي تحمل تابوتاً مغطى بالعلم العراقي ، وعندما يبلغ مأمور ما أحدى العائلات من أن هذه جثة ابنهم الذي قتل في الهجوم الفلاني . تقوم هذه العائلة بعد أن تصاب بالصدمة بالهجوم عليه حالاً بكل ما تملك من آلات حادة وعصي ، فأما أن يهرب بعيداً أو يتعرض الى الأذى البالغ ، لكن هذه المرة جاءت تعليمات جديدة توصي بأن يقوم المأمور بتسليم جثة الجندي القتيل الى المنظمة الحزبية أو مركز الشرطة في منطقة سكنه ليتولى رجال الحزب والشرطة مهمة ابلاغ أهله وتسليمهم الجثة . ذهب الكثير من الجنود الى مكاتب السرايا في فوجنا لاستلام مأمورياتهم وكانت معنوياتهم عالية بعد التعليمات الجديدة التي أبلغوا بها . في الأيام التي تلت انسحابنا من المعركة وذهابنا لاعادة التنظيم بمنطقة قصري وقرية دار السلام . جاءت هدايا من قيادة الفرقة وقيادة الفيلق مخصصة للضباط فقط ، وهذه الهدايا هي مجموعة حية من الخراف ، وهكذا راح ضباط فوجنا وضباط الأفواج الأخرى يحتفلون عبرحفلات شواء صاخبة بانتظار صدور المراسيم الجمهورية الخاصة بمنحهم الترقيات والأوسمة والأنواط . في أربيل التي ذهبت اليها مع مجموعة من الجنود من دون إذن من آمر السرية بسبب منع الاجازات للاستحمام وتناول وجبة طعام حقيقية بعيداً عن مطبخ السرية وباذنجان وبيض وطماطم حانوت الفوج . ذهبت الى المكتبات وكم كان سروري عظيماً عندما وجدت{ زهور الشر } لبودلير صادراً بترجمة خليل خوري عن دار الشؤون الثقافية التي أغرقت المكتبات بترجمات رديئة لمجموعات ومختارات من شعر الحربين العالميتين الأولى والثانية . اشتريت نسخة من{ زهور الشر } وبعد الاستحمام بحمام عمومي . ذهبت مع بقية الجنود الى أحد المطاعم لتناول كباب أربيل الشهير . دخلت المطعم مفرزة من انضباط الفيلق واقتادتنا الى سجن الموقع حيث مكثنا 3 ايام ، تم بعدها تسفيرنا الى وحدتنا ، فأمر آمر سريتنا بعد أن قدمونا اليه من دون بيريات وأنطقة حسب السياقات العسكرية الخاصة بالمعاقبين بسجننا 4 أيام لذهابنا الى أربيل من دون اذن وحلق رؤوسنا نمرة 4 . في اليوم الأول من السجن قلت لنفسي ان قراءة بودلير في السجن بعيداً عن ساعات التدريب العنيفة والاهانات فرصة لا تعوض ، لكن تبين لاحقاً أن عقوبة السجن وحده لا تكفي . أمرونا في اليوم التالي أن نباشر التدريبات المعهودة مع بقية جنود الفوج بالاضافة الى تنظيف مراحيض السرايا 3 مرات في اليوم . نفذنا الأوامروفي الليل جاء آمر السرية وكان الضابط الخفر للفوج في ذلك اليوم لتفقد أحوال الجنود السجناء لكنه بدلاً من تفقد أحوالنا راح يشتمنا ويوجه لنا الاهانات بسبب ذهابنا الى أربيل من دون إذن ، واعتدى بالضرب على الجنود مجيد عبد وباقر وزيد . لم يرد عليه أحد بالطبع لأن ملاسنة الضابط أو عدم تنفيذ أوامره كانت عقوبتها في الجيش العراقي أثناء الحرب هي تشكيل مجلس تحقيقي وارسال الجندي المخالف الى محكمة عسكرية ويكون حكم المحكمة المعتاد هو السجن لمدة 6 شهور . تقبل الجنود الاعتداء عليهم من قبل آمر السرية وقرروا بعدها أن يعاقبوه عقوبة قاسية بطرقهم الشيطانية الخاصة ، وكنت كلما أواسيهم يقولون لي :{ وين يروح منَا ابن القندرة هذا ، راح نعاقبه عقوبة ما شايفها بحياته } في اليوم الذي تلا اعتداء آمر السرية على هؤلاء الجنود كانت ساحة العرض الصباحي خالية منهم وقرروا أن لا ينفذوا أيّ أمر مهما كان . اكتفى آمر السرية بالقول :{ القشامر. آني أعلّمهم . بسيطة } وتركهم نهائياً . بعد اسبوعين عندما فتحت الاجازات الدورية وحصلت على اجازتي . التقيت صدفة آمر سريتي هذا بمنطقة بغداد الجديدة وهو يهم بدخول جامع الكبيسي . حاولت أن أتحاشى اللقاء المباشر به لكنه بعد أن عبرته ناداني قائلا :{ لك قشمر نصيف ، شكو عندك هنا ؟} تجاوزته ولم أرد عليه وتمنيت في تلك اللحظة أن أمزقه أو أحرقه . أثناء اجازتي هذه صدرت عن دار الشؤون الثقافية انطولوجيا{ الموجة الجديدة } التي أعدها وقدم لها زاهر الجيزاني وسلام كاظم وضمت قصائد ل51 شاعراً من شعراء السبعينات والثمانينات وكانت حدثاً مهماً عندنا نحن المهمشين على الرغم من تجاهل النقاد لها نهائيا ً، ويبدو أن المقال الذي كتبه مجموعة من شعراء السبعينات وحمل عنوان { خمسون بيضة فاسدة في سلة النقد } ونشر بمجلة ألف باء في الشهور الماضية . قد كسّر كل أسلحة نقادنا الصدئة ولم يعد بوسعهم أن يواصلوا حربهم مع الشعر غير المعني ب{ قادسيتهم المجيدة } مع استثناء بعض النقاد الحقيقيين هنا . وكانت مناسبة هذا المقال هي أن مجلة { الوطن العربي } التي كانت تصدر من باريس ، قد أجرت حوارات مطولة مع مجموعة من شعراء السبعينات منهم خزعل الماجدي وفاروق يوسف وسلام كاظم وزاهر الجيزاني . تحدثوا فيها عن فهمهم للابداع والكتابة والحساسية الجديدة في الشعر ، وابدوا آراء جريئة في ما يخص راهن الثقافة العراقية والعربية ومشروع قصيدة النثر التي كانت حلماً يداعب مخيلاتهم قبل أن يرسخها الشعراء الذين جاءوا من بعدهم من خلال جهود دؤوبة ومخلصة وصامتة في التجريب الذي استمر من عام 1980 وحتى عام 1990 من دون أن يفلحوا في نشر نتاجاتهم التي بدت غريبة آنذاك بسبب مناخ الحرب التي دمرت كل جوانب الابداع ، حتى تنبه لهم الناقد حاتم الصكر عام 1990 وكتب عنهم سلسلة مقالاته { شعراء الظل } والتي بيَن فيها مدى اخلاصهم لقضية الشعر بعيداً عن التنظير اللامجدي والادعاءات الفارغة بتفجير اللغة وماشابه من مصطلحات . بعد حوارات { الوطن العربي } هذه أخرج الكثير من نقادنا أسلحتهم الصدئة وراحوا يشحذونها بوجوه هؤلاء الشعراء و يكيلون لهم الاتهامات والشكوك في مشروعاتهم الكتابية ، وبلغت المهزلة ذروتها عندما تطوع الناقد يوسف نمر ذياب بكتابة ونشر بيانه الطويل بمجلة{ ألف باء } الذي أسماه { البيان الختامي للشعر السبعيني } جامعاً فيه خلاصة آراء الكثير من النقاد المشوهة ضد شعراء السبعينات بعدما كانوا قد مهدوا الأرض لهم في البداية وفرشوها بالاعشاب والزهور ، وهكذا حاول هذا الناقد الهمام { أصدرمجموعة وحيدة عام 1969 بعنوان أضغاث وسمادير . يقول في آخر قصيدة منها : فانتوم فانتوم ، الظلم لا يدوم } أن يلغي بجرة قلم جيلاً شعرياً بأكمله من الذاكرة الثقافية لعراقنا المبتلى بسمومه وسموم من هم على شاكلته من أدعياء النقد لمجرد أن هؤلاء الشعراء حاولوا الاعلان عن آرائهم بمجلة تصدر خارج العراق ، وبالنسبة لهؤلاء الشعراء فقد قاموا من جانبهم بالرد عليه رداً قاسياً وقد عددوا 50 نقطة وردت في البيان الموجه ضدهم اعتبروها لا تمت الى الموضوعية بصلة ونشروا معا بنفس المجلة دفاعهم الشهير{ خمسون بيضة فاسدة في سلة النقد } لكن العداء ظل قائماً بين النقاد وبين المشروع السبعيني بعدما أحرقت الايدولوجيا وهشمت كل الأحلام التي نادى بها هؤلاء الشعراء حتى جاء عدي صدام حسين عام 1993 ليرأس{ التجمع الثقافي بالعراق } ويطرد الجميع شعراء ونقاداً وينصب بدلاً عنهم مجموعة من الأدباء الجدد ليتربع المدعو رعد بندر وهو شاعر عمودي عادي على كرسي محمد مهدي الجواهري . رئيساً لاتحاد الأدباء بالعراق بعدما حصل على لقب { شاعر أم المعارك } بمرسوم جمهوري نشر في الصحف العراقية من دوم أن تصدر له أية مجموعة شعرية ، وهنا أود أن أوضح بعض الأشياء عن هذا الدعي الذي نصَبه عدي صدام حسين رئيساً لاتحاد الأدباء بالعراق ، لنرى حجم الخراب الذي لحق بالثقافة العراقية في ظل حكم صدام حسين . كان رعد بندر وهو شاعر عمودي عادي جندياًَ بدائرة التوجيه السياسي حين قام نظام أبو المعارك باحتلال الكويت وبعد هزيمة النظام وتحرير الكويت عام 1991 سكت وتوارى أغلب الذين كانوا ينعقون ببطولات صدام المزعومة لخوفهم من ان نظام سيدهم سيسقط وسوف يعاقبهم الشعب العراقي مثلما حصل للشاعر الشعبي فلاح عسكر عندما تم القاء القبض عليه أيام الانتفاضة بمحافظة بابل واعدامه بسبب مدائحه لصدام طوال سنوات الحرب ، وهنا استغل رعد بندر غياب هؤلاء الأدعياء عن اعلام النظام وراح يكتب وينشر القصائد{ العصماء } التي تمجد بطولة الجنرال المهزوم صدام حسين بصحيفة القادسية أولاً ومن ثم بصحيفة الجمهورية فباقي الصحف والقنوات الاعلامية الأخرى ، وبعد شهور تلقى رسالة خطية من صدام حسين يثني فيها على اخلاصه ويوضح بعض الأشياء التي وردت في أحدى قصائده و يقول :{ الابن البار رعد . شكراً للرجال الذين ظلوا أوفياء على العهد والمبادىء العظيمة . بالنسبة لقصيدتك الأخيرة فأقترح أن يكون البيت الفلاني بالصيغة كذا وكذا لأن المرحومة الوالدة كانت تصلي وكانت لا تحب الدنيا الفانية ولا تحب أن تظهر في الاعلام } ورسالة صدام هذه كانت تتكون من نصف صفحة وكان رعد بندر يفتخر بها ويعلقها في مكتبه بوزارة الثقافة والاعلام عندما منحه صدام منصب مدير عام وقد رأيناها ، كما كان يعلقها في صالة شقته التي أهداها اليه سيده مع سيارة فاخرة نوع تويوتا سوبروعطية مالية سخية ، ويتذكر الكثير منا أن رعد بندر في هذه الفترة كان الوحيد الذي يصول ويجول في ساحة المديح لصدام حتى تم تعيينه عام 1992 مستشاراً لوزير الثقافة والاعلام حامد يوسف حمادي الذي كان يشغل من قبل السكرتير الخاص لصدام لشؤون الأمن والمخابرات والاستخبارات ، ولكي تكون له حظوة أكثرنشر عام 1992 بصحيفة الجمهورية قصيدة يمدح فيها { الأسد وشبله } زينتها صورة ملونة للطاغية وابنه عدي فأعطاه الابن 10000 دينارهدية لمدحته هذه ، كذلك قام وبالاشتراك مع عدنان الصائغ رئيس منتدى الأدباء الشباب بتنظيم مهرجان تهريجي في أواخر شهر نيسان عام 1992 عن ميلاد صدام المزعوم وحشّدوا له كل وسائل اعلام الطاغية بعد أن أسموه مهرجان { الميلاد العظيم } وباعتباره مستشاراً لوزير الثقافة والاعلام قام أيضأ باعداد مهرجان تهريجي آخر عام 1993 أطلقت عليه في حينه تسمية { درع الابداع } وحضره شخصياً عدي كجزء من اعداده ليتولى الأشراف الكامل على الثقافة بالعراق ، وكانت مهمة هذا المهرجان الذي عقد بقصر المؤتمرات هي منح بعض الأدباء العراقيين دروعاً وأوسمة تكريماً لعطاءهم الابداعي ، وهكذا كرّموا مجموعة من الأدباء لكن المفاجأة كانت عندما نودي على الكاتب محمد خضير لاعطاءه درعاً وعدي قائماً على المنصة لتسليمه الدرع فتبين لهم أنه لم يحضر مهرجانهم هذا . بعد هذا المهرجان تم تنصيب عدي رئيساً للتجمع الثقافي بالعراق الذي ضم نقابة الصحفيين واتحاد الأدباء ونقابة الفنانين وجمعية المصورين وجمعية الشعراء الشعبيين ووالخ ، وقام بعدها بعمليات تزوير واسعة هو وجلاوزته في انتخابات اتحاد الأدباء ليفوز رعد بندر بمنصب الرئيس . من جانبه قام عدي بنصيحة من بعض جلاوزة ثقافة السلطة بانشاء سلسلة { كسر الحصار الثقافي } وكانت أول اصداراتها هي مجموعة عدنان الصائغ { غيمة الصمغ } الذي تم ايفاده في نفس العام الى الأردن لحضور مهرجان جرش ، لكن عدنان الذي صدرت مجموعته عام 1993 على نفقة عدي وذهب موفداً من قبل وزارة الثقافة والاعلام العراقية . يكتب في الصفحة الأخيرة من مجموعته { تأبط منفى } التي طبعها له صاحب { دار المنفى } عام 2001 بالاضافة الى مجموعة أخرى صدرت عام 1998 وحملت عنوان { صراخ بحجم الوطن } يكتب الصائغ في اللغة السويدية وليس العربية ما يلي:
Född i Irak 1955 : Lämnade Irak 1993 efter att ha blivit dömd till döden
Priset i New York 1996 och Poetry International ;Hellman Hammett Fick
Aword i Rotterdam 1997
Hans dikter handlar om frihet : skönhet : kärlek
وترجمة هذه الكلمات هي انه ولد عام 1955 بالعراق . ترك العراق بعد أن حكم عليه بالاعدام عام 1993 . فاز بجائزة { هلمان } عام 1996 . لم يذكر أن هذه الجائزة تمنح لضحايا الاضطهاد والتمييز العنصري . فاز بجائزة مهرجان نوتردام العالمي للشعر عام 1997 . قصائده تتحدث عن الحرية والجمال والحب ، ولعل البعض يسأل الآن هذا السؤال : لماذا يكتب عدنان الصائغ في اللغة السويدية انه حكم عليه بالاعدام عام 1993 بعد أن قام بتنظيم مهرجان { الميلاد العظيم } وكوفىء من قبل عدي بطبع مجموعة له ؟ والجواب هو الآتي . أثناء الاستعدادات لحرب أم المهالك هجرأغلب سكان بغداد بيوتهم وذهبوا الى المحافظات الأخرى خشية من تعرض المدينة للقصف بالأسلحة النووية بعدما كان نظام صدام يهدد بسلاح الكيمياوي المزدوج ، وعدنان شأنه شأن غالبية سكان بغداد ترك بيته وأخذ عائلته وذهب الى مدينته القديمة الكوفة وظل هناك كل أيام الحرب لكن عندما قامت الانتفاضة بعد نهاية الحرب وثار الناس ضد نظام صدام حسين ورأى عدنان ما حصل لأزلام النظام فقد انتابته حالة شديدة من الخوف بسبب رئاسته لمنتدى الأدباء الشباب التابع لدائرة المنظمات الشعبية بديوان رئاسة الجمهورية وعمله في صحف وزارة الدفاع ، ويستطيع تأكيد هذه المعلومة أو نفيها صديقنا الشاعر الشيخ عبد الله الخاقاني الذي ساهم مساهمة فعالة في الانتفاضة التي قامت بالنجف عام 1991 . في ساحة الميدان وكنت ذاهباً الى مقهى حسن عجمي بعد أن انتهت الانتفاضة بأيام صادفني عدنان الصائغ مسرعاً فألقيت عليه التحية وبدا كأنه لم يرني أو لم يسمعني وبدا لي وضعه غير طبيعي . في المساء ذهبت الى بيته وكان يعيش أزمة نفسية حادة فحدّثني عن الأوضاع بالكوفة والانتفاضة التي قامت هناك ويأسه من الشعر والحياة وبعد شهور صار يتململ من رئاسة المنتدى حتى انه عيّن جواد الحطاب أميناً للسر العام للمنتدى ويتذكر الكثير منا دوام جواد اليومي نيابة عنه . عام 1993 بعد أن بلغت حالته النفسية شدتها . سلم رئاسة المنتدى عبر انتخابات شكلية الى خالد مطلق وبعد نهاية { الانتخابات الديمقراطية } جداً بساعات وكان الاحتفال على أشدّه في نادي اتحاد الأدباء تم ابلاغ الرئيس الجديد للمنتدى بحدوث حريق في مكتب الرئيس . في اليوم التالي رفع تقرير الى وزارة الثقافة والاعلام يشرح الأسباب التي أدت الى حصول الحريق وكان السبب الرئيسي هو { تماس كهربائي } كما يقول التقرير الذي رفع الى مكتب وزير الثقافة . أثناء ذهاب عدنان الى الأردن عام 1993 قرر عدم العودة الى العراق وبعد أن لحقت به عائلته حاول عام 1995 الحصول على اللجوء السياسي الى بلد آخر عن طريق مكتب المفوضية السامية للاجئين بعمان لكنهم رفضوا الطلب الذي تقدم به وكان كل طالب لجوء يسأل هذا السؤال : { هل تستطيع العودة الى بلدك الأصلي ؟} فإن أجاب بلا فيجب أن يوضح الأسباب المقنعة . أخبرهم عدنان انه لا يستطيع العودة الى العراق لأن عدي صدام أمر باعدامه وسحب كتبه من المكتبات ، وطبعاً كان جميع الذين يحققون في مكتب المفوضية السامية للاجئين بعمان من أهل الخبرة والاختصاص ولا تعبر عليهم هذه الترهات بسبب المعلومات التي يجمعونها عن طالب اللجوء . رفض طلب عدنان رفضاً باتاً وحاول مرة أخرى أن يجرب وسيلة أخرى يقنعهم فيها بقبول طلبه وكتب عدة رسائل بفاكس مكتب سعد البزاز الذي كان يعمل فيه يقول فيها : { أعلن اتحاد الأدباء قيد التأسيس في المنفى أن سلطات القمع الصدامية قامت باصدار حكم الاعدام على الشاعر عدنان الصائغ ومصادرة كتبه من المكتبات وذلك لمناهضته السياسات الفاشية لحكم صدام حسين } وذهب الى مكتب المفوضية ليستأنف الطلب من جديد لكنهم رفضوا طلبه هذه المرة أيضاً . أذن ما العمل ، سيجرب وسيلة جديدة أخرى لعلها تقنع هؤلاء بقبوله لاجئاً سياسياً . نشر في صحيفة { البلاد } الأردنية موضوعاً يقول فيه : { أن المخابرات العراقية تحاول اغتياله وخطف أولاده وتشدد الخناق على الأدباء العراقيين بعمان } وهنا قدمت السفارة العراقية شكوى تطلب فيها من المخابرات الأردنية القيام بالتحقيق في هذا الموضوع . أثبتت التحقيقات أن هذا الشيء عار عن الصحة تماماً. وبعد أن يأس من قبوله لاجئاً في مكتب المفوضية بعمان قرر مغادرة الأردن الى سوريا أولآً ومن ثم الى لبنان حيث أفلح في اقناع المشرفين هناك على جائزة { هلمان } الخاصة بضحايا الاضطهاد من انه كان مضطهداً من قبل صدام حسين الذي أشرف وهيء له مهرجان { الميلاد العظيم } ومن قبل عدي الذي طبع له مجموعته { غيمة الصمغ} على نفقته الخاصة . ولعل سائلاً يسأل هنا . كيف استطاع هذا المضطهد أن يقنع هؤلاء بجدية اضطهاده ؟


موت يحلم بحرارة شمس الصيف

1
قذائف ثقيلة / صليات رصاص / خنادق مقصوفة / دخان / غبار ملاجىء
تحترق وتتناثر في الهواء / قمل يعشش في الأجساد / ثلوج / ثلوج / حنينات
متجمدة / موت متيقظ يتربص بنا ويطلق قذائفه باتجاهنا دائماً /
خطوة / خطوة تتعثر حياتك فوق الجبال الكافرة
أيها الصعلوك
الشاعر الغجري
هاهيَ أحلامك تذبل من شدَة الدوي / الأشجار الكثيفة الظلال والصقور
الأنيسة / والطبيعة بثرواتها التي لا تنتهي / والآمال / ربيعها الأبدي
يحطم القشعريرة .
2
بين قبر وآخر / تنوب القملة عن الفراشة
ينوب الغاز عن الهواء
ينوب الميت عن الحي
ينوب الليل عن النهار
ينوب النشيج عن الغناء
تنوب العقرب عن القبلة
ينوب الثعلب عن الأسد
تنوب طقطقة العظام عن الموسيقى
ينوب الخفاش عن العندليب
تنوب الصفعة عن الحلم
ينوب العظم عن الشجرة .
3

وحشة الجبال / والراجمات / والمدافع / والصواريخ / وقصف الطائرات
الذي لا ينقطع / ومدافع الهاون الرجيمة / والميتات التي تموتها عدة مرات
في اليوم / والخوف الذي لا يوصف / وشماتات الشعراء الأبواق الذين
يتوسدون أذرع أبقارهم في أسرتهم الوثيرة تحت أضواء بغداد التي تنسانا
في صراعنا ضد الموت / الموت الذي أعده مغول القرى المنسية / القمل
يأكل جلدة رأسك في الملاجىء التي تقصف دائماً .

4
هنا أصابع بلا خواتم
سيقان من خشب
هنا برد يحفر العظم
والقبور جائعة /
المخاوف والثلوج رابضة على أعناقنا / على احساساتنا والأصابع
والحناجر والعيون / هنا موت يؤجل موته /
موت يحلم بحرارة شمس الصيف وأنين الجذور/
هنا القلب الأكثر رقة هو الأسبق لاستقبال الموت /
هنا نهر الموت الكبير يجرف الضوءَ والحديقة /
يجرف الغصن والإيماءة .

5
يا ثلج / ابن الظلمة
يا دم / ابن الرماد
يا رماد / ابن الحرب
من يعيد لحياتنا عافيتها القديمة ؟
من يعيد للحب ربيعه وللميت حنينه ؟

كم ميتة أخطأتنا ونحن ننتحب حول جثة الشمس ؟
يا ليل / خذ الظلمة .



حين التحقت الى وحدتي بعد أن انتهت اجازتي الدورية وكنت في كل مرة أغيب 2 أو 3 أيام بعد أن تنتهي اجازتي . قدمني رأس عرفاء سريتي زين العابدين مذنباً الى آمر السرية الملازم أول جاسم فأمر بسجني 4 أيام بسبب الغياب وتأجيل اجازتي القادمة اسبوعاً واحداً . مكثت بالسجن مدة العقوبة من دون أن يطلب مني الخروج الى التدريب وتنظيف مراحيض سرايا الفوج كما في المرة السابقة . في اليوم الثاني من سجني زارني أصدقائي الجنود زيد وباقر ومجيد عبد وراحوا يواسوني كما واسيتهم من قبل وأخبروني انهم مازالوا يفكرون بعقوبة مناسبة لآمر السرية الذي راح يتمادى في طغيانه وكانوا في أشدّ حالات العصبية والتذمرمن تصرفات هذا الضابط الشرسة ضد مراتب السرية . اعتقدت في البداية انهم سيقتلونه أثناء هجوم ايراني قادم أو سينصبون له كميناً عندما يذهب في اجازة ويطلقون عليه النار مثلما حصلت حوادث مماثلة في وحدات أخرى لكن اعتقادي هذا كان في غير محله ووجدوا أن أنسب عقوبة يعاقبونه بها من دون أن يلحقهم أي ضرر هي أن يضاجعوا بغلته المخصصة لمهمات الاستطلاع الليلي والتنقل عبر السرايا التي يقوم بها أحياناً ، عندما يذهب في اجازته القادمة وكان الكثير من الجنود يقومون بمضاجعة البغال والحمير في المناطق الجبلية أثناء الحرب مع ايران لكنهم يمتنعون عن مضاجعة بغال الضباط بسبب وجود حرسهم الدائم والسبب الآخر هو أن البغلة عندما تضاجع 4 مرات أو أكثر تصاب بالشبق وتصيبها حالات هيجان جنسي اذا لم تضاجع باستمرار ومن الممكن أن تقتل أيّ شخص يقترب منها في هذه الحالة برفسات قوية جداً اذا لم يضاجعها ، وكان البغل أو البغلة اذا تعرضا للأذى من قبل أحد ما وقتلا شخصين يتم اعدامهما وإذا رفست البغلة ضابط ما تقوم استخبارات الفوج باجراء تحقيق حول الحادثة مع أولئك الجنود المعروفين بالقيام بهذه الأعمال وأحياناً يتم التعرف عليهم من خلال الشهود أو مرض يصابون به في عيونهم . عموماً ، نفّذ هؤلاء الجنود مهمتهم بعد أن ذهب آمر السرية ليقضي اجازته ببغداد وبعد عودته بأيام وكانت بغلته شبقة جداً قامت برفسه بقوة وحطمت فكه الأيمن عندما أراد ركوبها في مهمة ما مما استدعى نقله فوراً الى وحدة الميدان الطبية المتقدمة بناحية ديانا ومن ثم الى مستشفى أربيل العسكري . حامت شكوك كثيرة حول هؤلاء الجنود الذين عاقبوا آمر السرية بسبب تذمرهم وغضبهم الدائم من تصرفاته الوقحة ضدهم وضد بقية الجنود لكن نتيجة تحقيق استخبارات الفوج لم تعثر على دليل واحد لادانتهم وهكذا وضعوا تحت المراقبة مع جعل ملف التحقيق مفتوحاً. في اليوم التالي تم تنسيب الملازم أول غانم آمر سرية مقر الفوج آمراً لسريتنا وكان أول شيء قام به هو السماح لمجموعة كبيرة من الجنود بموافقة من آمر الفوج الذهاب الى أربيل لمدة 6 ساعات للاستحمام ودخول المطاعم بنماذج اجازة وقتية . كان الاستحمام يشكل مشكلة كبيرة لكل المراتب في جميع وحدات الجيش العراقي أثناء الحرب وخصوصاً لنا نحن الذين نخدم بالمناطق الجبلية في فصل الشتاء . يتكون لواءنا من 4 أفواج وكل فوج يضم 750 رجلاً ويخصص لكل سرية التي تضم 150 جندياً حماماً واحداً ولك أن تنظر الى الزحام على الحمام بعد انتهاء أوقات التدريب في الليل عندما نعود الى المقر منهكين وجائعين ، أما في فصل الشتاء فلا أحد يستحم طوال شهر كامل إلاّ أولئك الذين يحصلون على إذن ويذهبون الى أربيل بين آونة وأخرى وسعيد من يحصل على إذن . عندما حان موعد اجازتي الدورية توسلت آمر فصيلي الملازم ثاني عباس أن يتوسط لي عند آمر السرية من أجل أن يزيل العقوبة المفروضة علي ويسمح لي أن أذهب مجازاً حسب موعد اجازتي . وافق الملازم أول غانم بشرط ان لا أغيب وهكذا حصلت على اجازتي بموعدها المحدد وذهبت الى بغداد لأفتش في مكتباتها عن العدد الجديد من مجلة الطليعة الأدبية الذي وجدته صادراً وفيه قصائدي التي دفعتها الى الشاعر زاهر الجيزاني. سررت كثيراً وشكرت الجيزاني عندما التقيته بمقهى حسن عجمي وكان سروري لا يوصف وذلك لأنني استطعت أن أنشر في هذه المجلة المخصصة للأدب الطليعي المزعوم للمرة الثانية طوال 7 أعوام ولولا جهود زاهر الجيزاني لما استطعت النشر فيها . في اليوم الثاني من اجازتي وكان يوم أربعاء ، كانت تقام أمسية شعرية باتحاد الأدباء مخصصة لعبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وسامي مهدي وحميد سعيد وعبد الأمير معلة . في المساء ذهبنا كعادتنا الى الاتحاد ليس من أجل الأمسية وانما من أجل الشراب في نادي الاتحاد وكان السياق المتبع في كل يوم أربعاء هو انهم لا يفتحون النادي إلاّ بعد نهاية الأمسية التي تقام في هذا اليوم . ما أن دخلنا بناية الاتحاد ورأى عبد الأمير معلة وكان يشغل منصب وكيل وزير الثقافة والاعلام ورئيس الاتحاد ، جان دمو معنا حتى وقف شعر رأسه وارتعدت جميع فرائصه . أخيراً تمالك نفسه وانفرد بجان وحيّاه بحفاوة بالغة وأخرج من محفظته 10 دنانير وطلب منه أن يذهب ليكمل سكره بأحد البارات وادعى أن الأمسية ستطول وبار الاتحاد مغلق حتى نهاية الأمسية . واجهه جان بالصراخ:{ يا قاذور يا....} ارتفع المبلغ الى 25 ديناراً وجان يصرخ ويشتم أكثر من المرة الأولى . دفع حميد سعيد مبلغاً مماثلاً وتوسله يوسف الصائغ أن يأخذ المبلغ ويخرج وحين شعر انهم من الممكن أن يأمروا موظف الاستعلامات برميه خارجاً وافق على الخروج والذهاب الى أحد البارات ليكمل سكره . بعد ساعة أقيمت الأمسية وكان أول من قرأ قصائده هو يوسف الصائغ ثم تلاه عبد الأمير معله فحميد سعيد وهنا دخل جان دمو القاعة كأيّ سيد مهذب . اتجهت أنظار الحضور اليه وبسبب الصمت والانصات لحميد سعيد وهو يقرأ قصائده فقد تركوه وشأنه طالما انه دخل مهذباً جداً ولم يشوش على الأمسية . بعد أن انتهى حميد من قراءته اتجهت الأنظارالى جان أكثر من المرة السابقة وحدث همس ولغط خفي لكنه ظل هادئاً وصامتاً مما شجع عريف الحفل على القيام ومناداة عبد الرزاق عبد الواحد الذي ذهب الى منصة القراءة كالطاووس وأخرج أوراقه وبدأ يقرأ :

سلاماً يا فتى الفتيان يا علماً بواديها

وهنا انتابت جان عاصفة من الضحك وراح يغني ويرقص ويتشقلب ويقع على الأرض داخل القاعة الغاصة بالجمهور مما حدا بالهيئة الادارية أن تستدعي حارس بناية الاتحاد وموظف الاستعلامات اللذان حملاه وهو مستمر في نوبته الهستيرية من الضحك وألقوا به خارجاً . بعد طرد جان منحونا استراحة لمدة 5 دقائق ريثما تهدأ الأمور قضيناها بجوٍ سوريالي من التشفي والشماتة ضد عبد الرزاق الذي بدا أشبه بفأر . بعد لحظات هدأ الجو وواصل المتنبي قراءته :


سلاماً يافتى الفتيان يا علماً بواديها *
ويا صدام محنتها ويا صدام عاديها
ويا أزهى فوارسها ويا أمضى مواضيها
لقد جمعت لك الدنيا مهابة كل أهليها
فدم زهواً لحاضرنا ودم ز هواً لآتيها .

وحين انتهى المتنبي من مديح { فتى الفتيان } قرأ عدة قصائد من مجموعتيه القديمتين { خيمة على مشارف الأربعين } و{ الخيمة الثانية } وفي النهاية غادر بناية الاتحاد الى بيته ورفض حضور الوليمة السلطانية التي أعدت للشعراء المدعوين مخذولاً . في اليوم الذي تلا الأمسية علقوا بلوحة الاعلانات قراراً صادراً من المجلس المركزي لاتحاد الأدباء ممهوراً بتوقيع عبد الأمير معلة يقضي بمنع دخول جان دمو الى بناية الاتحاد منعاً باتاً لمدة سنة كاملة ، وكان هذا القرار قد صدرضد جان عدة مرات خلال سنوات الثمانينات . في اجازتي هذه صدرعدد مجلة الثقافة التي أسسها المرحوم صلاح خالص وفيه قصيدتين لي نشرهما صديقي الشاعر جلال زنكبادي الذي تعرفت عليه العام الفائت ، وجلال الذي عرفته مثقفاً وشاعراً ومترجماً مبدعاً حصلت له حكاية مؤسفة في جريمة الأنفالات ومفادها كما أخبرني هي أنه كان قد استلف مبلغ 5000 دينار واشترى داراً بمنطقة ديبه كّه الواقعة بين أربيل ووكركوك وبعد قيام نظام الطاغية صدام حسين بعملياته الاجرامية التي استهدفت أخوتنا أبناء الشعب الكوردي بعد نهاية الحرب مع ايران عام 1988 وقتله آلاف المواطنين وتهجيرهم وتهديم مدنهم وقراهم والتي سأتحدث عنها بالتفصيل في فصل قادم . كانت من ضمن المدن التي هجٌر سكانها مدينة { ديبه كّه } حيث يسكن صديقي جلال بداره التي اشتراها حديثاً ، وحين التقيته في الشهر الخامس من عام 1989 بأربيل وكنت خارجاً من سجن { الموقع } هناك وأعاني من عقابيل داء الجرب الذي أصبت به بالسجن . سألني لماذا لم أجىء الى مقهى حسن عجمي خلال الشهور الماضية ؟ أجبته انني كنت هارباً من الخدمة العسكرية في الفترة الماضية والأوضاع الأمنية خطرة جداً ببغداد والتحقت في الأيام الأولى من الشهر التاسع عام 1988 بعد نهاية الحرب بموجب العفو الذي أصدره وزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح وألغاه بعد ذلك صدام حسين وحكمت عليّ المحكمة الدائمية 23 بالموصل بالحبس الشديد لمدة 6 شهور واعتبار جريمة هروبي مخلة بالشرف . واساني جلال وقال لي :{ هل مازلت تخدم فوق الجبال } أجبته : { لا ، انتقلت وحدتي أثناء مكوثي بالسجن الى منطقة تقع بين أربيل وكركوك اسمها ديبه كّه} فقال لي : { لك هذا بيتي هناك اشتريته بالدين بخمسة آلاف دينار وهجٌروني منه آني وعائلتي بدون تعويض . عير بعراضهم ولا دفعونٌا درهم واحد بشرفي } .

طوال العام 1987 كان الاعلام الايراني يتحدث عن { عام الحسم } وكانت القيادات العسكرية والسياسية الايرانية تصرّ على أن هذا العام سيشهد نهاية الحرب وانتصار القوات الايرانية ، وبسبب هذا الضجيج الاعلامي المستمر أمر صدام حسين بسبب النقص الشديد في التعبئة العسكرية بتحويل منتسبي مديرية الأمن العامة الذين تقدر أعدادهم بالآلاف في جميع محافظات العراق ضباطاً ومراتب من ملاك وزارة الداخلية الى ملاك وزارة الدفاع ، ويستبدل هؤلاء بالمواليد الجديدة التي تلتحق بالخدمة العسكرية ، أما الضباط فيتم تنسيبهم من جهاز الأمن الخاص وكان صدام قد أصدرعام 1982 قراراً مشابهاً يقضي بتحويل الدراسة الجامعية لأبناء بعض المدن والعشائرمن جميع الكليات التي يدرسون فيها الى كلية الأمن القومي والبعض الآخر طلب منهم أن يدرسوا في كلياتهم صباحاً وفي كلية الأمن القومي مساءً لاعدادهم للعمل المخابراتي بالسفارات العراقية في الخارج ، وعندما التحق رجال الأمن هؤلاء بألوية المشاة في جبهات الحرب وتركوا الامتيازات الاستثنائية التي كانور ينعمون بها وكانوا مكروهين كرهاً شديداً بسبب الأعمال الاجرامية التي قاموا بها طوال فترة خدمتهم بدائرة الأمن المرعبة . فقد عانوا صعوبات جمة وحالات نفسية سيئة وأحسوا بأن سيدهم وولي نعمتهم الذي كانوا يتسابقون على اطاعة أوامره الاجرامية طاعة عمياء ضد الشعب العراقي قد تخلى عنهم واستبدلهم بأقاربه وعشيرته وووألخ . وكانت من ضمن امتيازات هؤلاء المجرمين حين يلتحقون بهذه الدائرة التي كان مجرد ذكر اسمها يجعل المواطن العراقي يشعر بالقشعريرة والخوف الشديد ، هو الدوام باللباس المدني ، كل في منطقة سكناه والحصول على قطعة أرض ومبلغ 7000 دينار لتشييدها وسيارة وراتباً ضخماً ومكافآت مالية شهرية تصرف علاوة على الراتب المحدد كرشاوى من أجل المزيد من قمع أبناء الشعب العراقي المبتلين باجرام نظام صدام حسين وحزبه الفاشستي بالاضافة الى { العيديات } التي يحصلون عليها في المناسبات { الوطنية والرسمية } التي كان النظام يبتكرها دائماً وما أكثرهذه المناسبات في سنوات الثمانينات ، ومن ضمن عملياتهم الاجرامية التي كانوا يقومون بها في كل حين هي تعقب الجنود الذين يهربون من الخدمة العسكرية والمعارضين والمتململين من السياسات العنصرية والطائفية لنظام صدام وكانوا يقومون بمداهمة البيوت المراد اقتحامها من 4 جهات وهم بكامل أسلحتهم بعد الثانية من منتصف الليل ، وكنت عندما أهرب من الخدمة العسكرية ويقودني كل ليلة صديق ما ، مخموراً بعد منتصف الليل من مبنى اتحاد الأدباء الواقع بساحة الأندلس الى قسمه الداخلي بمنطقة الباب المعظم ونجتاز مبنى مديرية الأمن العام الرئيسي القريب من منطقة البتاوين من الجهة الخلفية سيراً على الاقدام خوفاً من توقيفنا من قبل أحدى مفارز الأمن المنتشرة على طول الطريق الممتد من ساحة الأندلس فساحة الطيران فمنطقة الكيلاني فساحة النهضة فشارع الشيخ عمر فمنطقة الباب المعظم أشعر برعب لا يوصف من هذه المفارز ومبنى مديريتهم الشبيه بقلعة من قلاع العصور الوسطى ، ويعرف جميع العراقيين أن أولئك المعارضين لنظام صدام والذين ألقي القبض عليهم من قبل رجال الأمن هؤلاء قد اختفوا الى الأبد بعد ان اعدموا ودفنوا بالمقابر الجماعية التي حفرها النظام المقبور، وكم كان سرورنا شديداً نحن الجنود حين التحق هؤلاء بوحداتنا ولقد رأيناهم مجرد قطط مطابخ غلاظ جبناء ورعاديد لا يفهمون بالأمور العسكرية سوى استخدام المسدس الذي كانوا يتبخترون به حين يصعدون الباصات العمومية أو حين يتنزهون في الشوارع العابقة برائحة الموت والرعب والدمار الذي خلّفته أعمالهم الوحشية . ومن الأشياء التي واجهوها في وحدتي هي الاحتقار التام وعدم الاحترام ولقد تركناهم منبوذين طوال الوقت ولم نكلمهم أو نلقي عليهم التحية وكان ضباطنا يشعرون اتجاههم بنفس ما نشعر به غير انهم لا يظهرون ذلك علانية وكان رأس عرفاء سريتنا زين العابدين التركماني يسميهم اذا حصلنا على اذن لمدة يوم أو يومين وذهبنا الى أربيل من أجل الاستحمام وسكرنا في الليل بفندق ، يسميهم { كلاب الصيد } ، وكان هؤلاء عندما التحقوا بملاك وزارة الدفاع ومنهم جنود وضباط صف لا يتمتعون باللياقة البدنية المطلوبة ، وعندما كانت فترات التدريب العنيف تطول وتسلق الجبال ومهمات الاستطلاع تستمر ليلاً ونهاراً بقاطعنا فقد كانوا يهربون من الخدمة العسكرية باستمرار ، وأمام وضع حرج كهذا راح القائد العام للقوات المسلحة صدام حسين يرسل البرقيات الفورية الكاذبة الى الوحدات العسكرية المختلفة بين آونة وأخرى تطمئن هؤلاء الرعاديد بأنهم سوف يعودون الى الخدمة بمديرية الأمن العامة مرة بعد 3 أشهر ومرة أخرى بعد 5 أشهر لكن من دون جدوى حتى انتهت الحرب وظلوا على ملاك وزارة الدفاع .


غجري


تحت ظلال أشجار البنايات القديمة المثمرة طوال العام
عيناك تدمعان في وهج الظهيرة ، وحبيبتك تغني بغرفة المحررين
هي في الأحجار المبعثرة من حولك ، وهي في الظلام
وهي في السواد الذي يلفك .
أنت الغجري الذي لا تعرف شيئاً عن شجرة نسبك ولا الألقاب الفخمة .
ستهجر الأرض الخادعة والمرأة الخادعة
ستحفر تراباً بلون الذهب وتشم عطوراً بلون الشعلة .
تعرفك الجبال والثكنات والأرصفة ، ويعرفك الجياع العزٌل الذين يحييون
بلا مستقبل ، لأن المتسلقين كانوا يحتشدون تحت السلالم .
كنت تحلم أن تكون حراً وطليقاً لتنام في بيت أو على مصطبة بساحة { النصر }
مع جان دمو ، كانوا يودون لو تقتل فوق جبل كَرده مند بينما هم يأخذون
رغيفك الحار أو يتفيأون تحت ظلال موتك الباردة
لأنك لم تبحث يوماً عن مجد في الرمال ، ولا عن الطحالب في المستنقعات
ولا عن العطايا القذرة التي يحصل عليها المتسلقون ، بينما العفن يأكل أرواحهم .
ها أنت في { قصروك } تنام بمخفر وتحلم بتجوالات طويلة مع انخيدوانا
وها أنت في أربيل تسكر بفندق { نركز }
وها أنت في { بعشيقة } تقود فصيل استطلاع عبر غابة الزيتون
وها أنت في { ديكَه له } جالساً تحت ليل مقبرة . تكتب رسالة الى صديق :
- { ما الذي تفعله بنا النساء يا صديقي ؟ لسنا أولاد خنازير ولا لصوصاً
ولا تجاراً ولا ضباطاً وسقف بيتنا ليس من خشب الدولة } .
وها أنت في بغداد مع شاعرة تراها جميلة وهي قبيحة
وتتسكع مع كاظم النصار في{ الوزيرية } و{ الباب الشرقي } . الجيوب فارغة
إلاّ من قصائد لا تنشر والعيون تدمع من شدة الجوع . تفكران في السرقة وتحلمان
بالخبز والنبيذ والسفر .
{ عبثاً تحاول الاستراحة . عندما تملك الوقت ، تملك الحرية }
ها أنت في { الرفاعي } لدى قاضي التحقيق وكمجرم يضعونك رهن التوقيف
تفكر في امرأة تغني بغرفة المحررين :{ يا أم الرحمة هل هذه نهاية شفاعاتك ؟
هل يتوجب عليٌ أن أموت وأنا في ذروة المأساة ؟ لستِ جميلة يا شفيعتي ، لستِ
جميلة والعاشق الأكثر روعة هو الشفيع } هكذا كنت تقول لنفسك وأنت تتمزق
أنت الذي تلاحقك الأحقاد . أحقاد الطحالب ويحاولون تهميشك ويطردونك من
جنتهم العفنة ، لأنك كنت عاشقاً وأخفيت عنهم .
سلام على ليالي السجون العادلة
على التقززات
والتنكيلات
سلام على النهارات السود والسفوح .
أنت الآن في شارع { الرشيد } تضمٌد جروحك التي تلتئم ولا تلتئم تحت ظلال
أشجار البنايات المثمرة طوال العام ، وتتأمل بذعر رجال الشرطة في المنعطفات
واذا كنت في بار { شريف وحداد } فانك تكون سعيداً ، وعلى الطاولة زجاجات
بيرة وليمونة جافة .
أنت مذعور . ترى نفسك مشنوقاً على أي شيء ، وتسير عقارب ساعة { القشلة }
سيراً عكسياً وأنت تعد أعوامك التي تذبل بسرعة .
{ لقد قمت برحلات ومررت بتجارب
مفرحة ومؤلمة
قبل أن تلاحظ الخداع والتقدم في السن .
غداً تصبح المرؤات صخراً
والزمن نسمة نائمة تهب على الغصون }
لهذا لم تقرف من الشاعر الذي كتب اسم حبيبته على زنده وارتدى أسمالاً بالية في
الهجوم على سيده كان ليلة 9 / 9 / 1985 . في تلك الليلة كانت الأرض حمقاء والسماء
سافلة . شاهدت أحشاء الزهور ولا تريد نسيان طبعات غدرها . هي الشفيعة والجريمة
المنقسمة كشجرة صبٌار. حين تفتح فمها وتتحدث . تسمع الأكاذيب في العشب .
وجهها السخام
وجهها حشرة
كانت شفاعتها فحماً راسخاً كشعلة خديعة . كنت تتمزق في عزلتك وهي تتعهر مع
أشباه رجال . كنت كنار تطاردها الأنهار ولم تقرف من الذي يجرعون ماء البغاء
والعجائز ذوي النظرة الخضراء الذين يعشقون الغلمان ويحرقون شفاههم في الصمت
بل سخطت عليهم وقلت : { نعم يا مخنثي الشفيعة . ذوي اللحم الورم والعقول القذرة
مجاري الوحل
أيها الأعداء الساهرون } .
تحت ظلال أشجار البنايات القديمة المثمرة طوال العام
عيناك تدمعان في وهج الظهيرة وحبيبتك تغني بغرفة المحررين
تألمتَ في الحب في العشرين والثلاثين من عمرك ولقد عشت كمجنون
وأضعت أيامك . انك تنظر وعيناك تسكبان الدمع الى هؤلاء الأكراد المهجرين
انهم يعشقون فضاءاتهم وتراب حقولهم والنساء يرضعن أطفالاً .
انهم يملأون بعطورهم ومواشيهم سماء ديبه كَه ويأملون أن يجمعوا مالاً
في { دشت حرير } .
انك تجلس مفلساً في بار قذر بحي { آزادي } تحتسي العرق مع العمال { العرق
يزيل الرائحة . رائحة الفقر ، والنقود لا رائحة لها } وفي الليل عندما تذهب الى
الثكنة وتسرق النقود من حقائب العرفاء وتكون في مطعم كبير. تفكر في شاعرة
تراها جميلة وهي قبيحة . { أرغب أن أموت وأنت مازلت تحبني . وأنت تراني
جميلة } كانت تقول لك ذلك قبل أن تهجرك .
أن يديها اللتين لم أرهما . قاسيتان ومشققتان
أشعر الآن بالعطف الذي لا حد له لشحوب وجهها .
تلك كانت أيام سعادتك
أيام حزنها
وأيام ترملها .
انك عريان والبرد قادم
وأنت تفترش هذه الأرصفة المهدمة
كما تفترش حياتك .


كانت الهجومات والتعرضات في فصل الشتاء تتوقف تماماً بالقاطع الشمالي لجبهة الحرب لكن الكمائن والدوريات القتالية وسياقات القصف المدفعي تبقى مستمرة كالعادة ، وكان فوجي يكلف أحياناً في هذا الفصل بمسك موضع دفاعي سواءً بقاطع سيده كان أو قاطع حاج عمران وفي الشهر الحادي عشر من عام 1986 كلفنا بمسك أحد المواضع الدفاعية فوق جبل زرار بقاطع سيده كان وكانت فرصة مناسبة للقراءة على الرغم من وحشة المكان والثلوج والقمل والحراسات الليلية والقصف المستمر . وكان بعض الجنود ممن يمضون فترة طويلة فوق الجبال في الفيلق الأول والفيلق الخامس يتعرضون في الشتاء الى نوع من الغنغرينا بسبب الوقوف المستمرعلى الثلوج التي تتراكم باستمرار، وحين كثرت حالات بتر الأرجل للجنود المصابين في مستشفيات أربيل و السليمانية العسكرية وصلتنا في الشهر الثاني من عام 1987 برقية فورية من القائد العام للقوات المسلحة صدام حسين تقول : { تقرر اعدام المراتب الذين يقومون بنزع أربطة الأحذية من أجل الحاق الأذى بأنفسهم } وكان قائد قواتنا المزعوم بعد أن اطلٌع على تقارير مديرية الاستخبارات العسكرية الخاصة بهذه الحالات التي يتعرض لها المراتب قد اعتقد أن هؤلاء الجنود المصابين يقومون بنزع أربطة الأحذية كنوع من ايذاء النفس حتى يتم تسريحهم من الخدمة ، لكن عندما بدأت تكثر هذه الحالات بين صفوف الضباط أمر الاستخبارات باجراء تحقيق شامل حول الموضوع . بعد فترة رفعت الاستخبارات تقريرها الى صدام حسين وأوضحت فيه أن الوقوف على الثلوج طويلاً يسبب الغنغرينا خصوصاً وأن جميع الضباط والجنود يرتدون جزمات غير مبطنة وخلال 5 أيام وصلتنا في الطائرات من رومانيا جزمات مبطنة بالفرو وكانت من النوع المتين والمريح على العكس من تلك البساطيل العراقية الشبيهة بالسلاحف والتي تتمزق خلال فترة وجيزة . في هذه تم الفترة تم نقل آمر لواءنا العقيد عبد المحسن الذي حصل على نوطي شجاعة بعد المعركة السابقة الى لواء المشاة 98 وجاءنا آمر لواء جديد هو العقيد قوات خاصة وعضو شعبة في حزب البعث علي عبد محمد الحمادي وهذا الآمر الجديد كان فظاً ووقحاً ولا يكترث لأيّ شيء وكان صدام حسين ساخطاً عليه منذ عام 1982 حين كان برتبة نقيب وآمر فوج قوات خاصة . وسبب سخط صدام عليه هو أن القوات العراقية عندما اندحرت عقب الهجوم الكبير الذي شنته القوات الايرانية عام 1982 وحررت فيه مدينة المحمّرة ، اتهم صدام الكثير من الضباط بالخيانة وقام باعدامهم وظل ساخطاً على كثيرين غيرهم ومن ضمن هؤلاء آمر لواءنا الجديد ، فهو على الرغم من انه عضو شعبة حزبية وسياقات الحزب تجعله متفرغاً للشؤون الحزبية في الجيش إلاّ انه كان لا يمارس أي دور حزبي بسبب العقوبة المفروضة عليه با ستثناء الاجتماعات الاسبوعية ، وبالنسبة لأولئك الضباط الذين أعدمهم صدام بتهمة الخيانة فقد أصدر لاحقاً مراسيم جمهورية اعتبرهم فيها شهداء . كانت الخدمة فوق جبل زرار خلال ذلك الشتاء كئيبة وموحشة في الخنادق والملاجىء التي لا تدخلها الشمس وكانت معاناتنا مع القمل والبرغوث وعدم توفر فرصة للاستحمام لا تطاق ، أما سياقات القصف اليومي للمدفعية فقد تآلفنا معها منذ الاسبوع الأول لوجودنا هناك . بعد أن حصلت على رتبة أعلى شأني شأن جميع مراتب اللواء عقب معركة 1 / 9 / التي دارت فوق جبل كَرده كَو وأصبحت نائب عريف . كلفني آمر سريتي أن أكون عريف الفصيل الثالث في السرية وكنت قبلها أشغل منصب آمر حضيرة التي تتكون من 7 الى 10 جنود في هذا الفصيل . وكانت مهمة صعبة ذلك لأنني كنت أخرق الأوامر العسكرية باستمرار مثل الغياب المستمر على الاجازة الدورية أو الذهاب الى أربيل من دون اذن والمبيت بفندق ما وعدم حلاقة ذقني كل صباح كما هو متبع منذ أن تأسس الجيش العراقي عام 1921 علاوة على عدم اصطفافي في أوقات التعداد اليومي والتي تبلغ أحياناً 5 مرات في اليوم وعدم حمل الرتبة العسكرية . كانت مهمة عريف الفصيل في كل سرية هي المسؤولية التامة عن ضبط جنود الفصيل الذي يتكون من 33 الى 40 جندياً في سرايا وحدات المغاوير ويكون حلقة الوصل الأساسية بين الفصيل وآمره الذي يكون عادة برتبة ملازم ثاني . وتتمثل هذه المسؤولية بضبط سلوك الجنود في الفصيل ومتابعة شؤونهم ومواعيد اجازاتهم وتعدادهم عدة مرات في اليوم وقيادتهم الى ساحات التدريب والاشراف على تجهيزاتهم وأسلحتهم وذخائرهم وطعامهم . أمام وضع كهذا لم تبق لي حيلة في الذهاب الى اربيل بين آونة وأخرى من أجل الاستحمام والدفء والشراب ليلاً بفندق ما لكن آمر سريتي وعدني انه سيسمح لي بالنزول الى هناك كل ليلة جمعة اذا لم يحصل شيء في الموضع الدفاعي . في ليلة 3 / 3 / 1987 وكان لواء المشاة 604 يمسك المواضع الدفاعية فوق جبل كَرده مند وبسبب هدوء الوضع على صعيد العمليات العسكرية ونوم أكثر مراتب وضباط اللواء في تلك الليلة وكانت باردة جداً والثلج ينهمر طوال الليل . قامت دورية قتالية ايرانية تتكون من فصيل واحد بعد أن تسللت الى الخلف بعد الساعة الثانية من منتصف الليل بالابلاغ عن نوم جنود وضباط اللواء 604 وهنا دفعت الفرقة الايرانية في هذا القاطع بلواء مغاوير واستطاع هذا اللواء خلال ساعتين قتل وأسر ثلاثة أرباع مراتب وضباط اللواء 604 . أثناء المعركة الدائرة هناك وصلتنا برقية فورية بتسليم المواضع الدفاعية فوق جبل زرار الى فوج مشاة من لواء 98 والتحرك فوراً الى قاطع حاج عمران وشنّ هجوم مقابل على جبل كَرده مند مع أفواج لواءنا الأخرى التي كانت تتمركز في منطقة قصري وقرية دار السلام وناحية ديانا. وصلنا نقطة المثابة القريبة من فتحة ناونده التي ننطلق منها بغية شنّ الهجوم المقابل في الساعة الرابعة صباحاً وكانت الثلوج تنهمر بقوة وتكاد الرؤية أن تكون معدومة . ما أن بدأنا بتسلق الجبل البالغ ارتفاعه أكثر من 2500 متراً سيراً على الأقدام حتى كانت المدفعية والراجمات الايرانية تحصدنا من جميع الجهات وألحقت بنا خسائر جسيمة بالأرواح والمعدات ، وبسبب بطء الحركة من جراء تراكم الثلوج وعدم الرؤية وتأخرنا في شن الصولة الأولى فقد تمكنت القوات الايرانية من حفر السواتر والملاجىء والخنادق البديلة وجاءت بقوات اضافية لتعزيز الهدف الذي احتلته ، وهكذا فشلنا في الصعود الى قمة الجبل وشنّ الهجوم المقابل وبقينا في العراء تحت الثلوج والخوف والجوع والقصف المستمر الى منتصف ليلة اليوم التالي حيث جاءتنا أوامرمن قيادة الفرقة 23 بالانسحاب الى قرية دار السلام وترك المدفعية والطائرات والراجمات تقوم بمهمات القصف الشديد ضد القوات الايرانية المتحصنة في ملاجئها وخنادقها البديلة . أثناء الانسحاب غير المنظم وبسبب القصف المدفعي الكثيف وتدافعنا عبر الطرق النيسمية الضيقة ونحن نحمل جثث قتلانا وجرحانا . تزحلقتُ على الثلج وسقطت على صخرة حيث كسرت ساقي اليمنى . أرسلت مع بقية الجنود المصابين بعجلة اسعاف الى وحدة الميدان الطبية المتقدمة بناحية ديانا وبعد المعالجة اللازمة منحوني 3 أيام استراحة أقضيها بوحدتي .


* عدتُ هنا من أجل تثبيت هذه الأبيات وهي من قصيدة طويلة قرأها عبد الرزاق عبد الواحد في تلك الليلة الى مجموعته { البشير } الصادرة عام 1986


الفصل الخامس

معركة جبل كَرده كَو ليلة 23 / 11 / 1987


خفة الشعر التي لا تحتمل

كان عام 1987 أكثر أعوام الحرب دموية وشراسة على صعيد الهجومات والتعرضات في جميع جبهات الحرب بسبب اصرار القيادات الايرانية على الحسم النهائي للحرب لصالحها وقامت القوات الايرانية المسلحة بالاشتراك مع عشرات الألوية من الحرس الثوري الايراني بأكبر هجومين في هذا العام على نهر جاسم و بحيرة الأسماك في القاطع الجنوبي مستهدفة تدمير قوات الفيلق السابع واحتلال محافظة البصرة كخطوة أولى في عملية حسم الحرب وكانت المعارك الشرسة التي دارت هناك في الشهور الأولى من عام 1987 قد ألحقت بقوات الطرفين خسائر وحشية وقاسية بالأرواح والمعدات والتجهيزات ، ويبدو أن القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية كانت لا تأخذ الحملات الاعلامية الضخمة التي كان يطلقها الجانب الايراني بخصوص الحسم على محمل الجد إلاّ حين شنٌت القوات الايرانية هجوماتها في وقت واحد على قاطع بنجوين في الفيلق الأول وقاطع كَيلان غرب { سومار } في الفيلق الثاني و نهر جاسم و بحيرة الأسماك في الفيلق السابع وجبل كَرده مند في الفيلق الخامس . أمام وضع كهذا قررت أن تغير خططها الحربية واللوجستية من أجل احتواء الهجومات والتعرضات الكبيرة التي قامت بها القوات الايرانية وراحت تصدر الأوامر والبرقيات الفورية بنقل الفرق والألوية من فيلق الى فيلق ومن قاطع الى قاطع وبسبب شدٌة المعارك في نهر جاسم فقد تم تدمير الكثير من الألوية العراقية هناك وماتزال ندوب وجروح أولئك الضباط والجنود الذين اشتركوا فيها حيّة وطرية حتى هذه اللحظة من جراء شراستها ودمويتها ، وكانت المشكلة الرئيسية التي واجهت القوات العراقية حينذاك هي النقص الشديد في التعبئة العسكرية والتفوق العددي لقوات المشاة الايرانية ، وأمام مشكلة كهذه فقد أصدر صدام حسين أمراً بسوق طلبة الكليات المختلفة الى معسكرات التدريب ليكونوا وقوداً لقادسيته التي ظنها نزهة تنتهي خلال أيام قليلة ويعود بعدها الى نوم هادىء لكن الكثير من الطلبة رفضوا هذا الأمر فتم فصلهم من كلياتهم ليتحقوا بالخدمة العسكرية عنوة ومن ثم قامت القيادة العامة للقوات المسلحة بدعوة مواليد لا تصلح للخدمة العسكرية أصلاً بسبب كبر السن بعد أن أحرقت سنوات الحرب الكثير من المواليد الجديدة ، لكن الكثير من هذه المواليد لم تلتحق بالخدمة العسكرية لشدٌة المعارك وضراوتها والمشهد اليومي الرهيب لآلاف التوابيت الملفوفة بالعلم العراقي في جميع مدن وقرى العراق ، ولكي تفلح خطط صدام في استدراج كبار السن هؤلاء للموت المحقق والأكيد . منح وزير داخليته المجرم سمير عبد الوهاب في ذلك العام صلاحيات استثنائية واسعة وطلب منه أن يقوم عبر أجهزة وزارته المختلفة بحملات دهم وتفتيش من دون هوادة في كل أرض العراق عن الهاربين والمتخلفين لارغامهم على الالتحاق بالخدمة العسكرية ومن المدن التي منحه صلاحية اعدام الفارين من الخدمة فيها بمحافظة بغداد هي مدن الثورة والشعلة والكاظمية والرحمانية و بغداد الجديدة و قنبر علي و الفضل ولقد شاهد الناس عملية اعدام جندي هارب من الخدمة العسكرية في الثورة تصدى لمفرزة شرطة حاولت القاء القبض عليه ، حيث ظلت جثته مرمية تحت حراسة مشدٌدة من قبل رجال الشرطة على الأرض في ساحة 55 لمدة 3 أيام وكتبوا عندها: { تسبب هذا الجبان في استشهاد عدد من رجال الشرطة الأشاوس وهم يؤدون واجبهم المقدس } وبعد أن زرع هؤلاء الأشاوس الرعب في جميع مدن العراق ضمن خطة ارهابية محكمة استمرت عدة أسابيع . أصدر القائد المزعوم للقوات المسلحة العراقية عفواً عاماً وشاملاً عن جميع الهاربين والمتخلفين عن الخدمة العسكرية ومن لم يلتحق خلال 3 أيام تطبق بحقه عقوبة الاعدام فوراً أينما وجد . التحق الكثير من هؤلاء الى وحداتهم وتم سوقهم الى نهر جاسم الذي كان مثل جهنم التي تصرخ { هل من مزيد } وظل البعض يحيا متخفياً هنا وهناك من دون أمل الى نهاية نهاية هذه الحرب العدوانية الظالمة . من جانب آخر أمر صدام أن تكلف أفواج { الجحوش } بمسك مواضع بعض الوحدات العسكرية التي تذهب للاشتراك في المعارك الطاحنة في القاطع الجنوبي وتترك مهمات مراباة الطرق والربايا الى قوات الجيش الشعبي غير المدربة تدريباً جيداً . على الرغم من هذه الأوامر والقرارات الترقيعية التي قام بها صدام لسد النقص الشديد في التعبئة العسكرية ، فقد ظلت هذه المعارك تلتهم المزيد من الضباط والجنود بسبب تكرار التعرضات والهجومات التي استمرت أسابيع عديدة وحتى عندما أفلح في الحصول أخيراً على نجدة عربية وجاء لوائين أو ثلاثة من اليمن والأردن فان هذه النجدة لم تكن كافية في التصدي للفرق والألوية الايرانية الجرّارة التي كانت تعاود هجماتها على عدة محاور في هذا القاطع أو ذاك . كانت وحدتي التي دخلت التدريب الاجمالي السنوي من ضمن الوحدات المرشحة والتي تنتظر دورها في التحرك الى القاطع الجنوبي للاشتراك في معارك نهر جاسم لكن خشية قيادة الفيلق الخامس من تعرض كبير قد تقوم به القوات الايرانية ضد مواضعنا في قاطع حاج عمران أو قاطع سيده كان أجٌل هذا التحرك وظلت التدريبات الاجمالية العنيفة مستمرة في قصري وديانا وقرية نسيت اسمها تقع تحت جبل كلاو حسن من جهة سيده كان . ومن المآسي التي حدثت في هذه الفترة التي أتحدث عنها في وحدتي هي أن أحد الجنود الذين كانوا هاربين من الخدمة العسكرية طوال 3 أعوام والتحق في العفو ويدعى شمعون من { تلكيف } كان قد بلغ به القرف من الشعارات والأناشيد المركزية التي كنٌا نرددها أثناء التدريب حداً لا يطاق ، وهذه الشعارات والأناشيد البائسة التي كانت تأتي الى جميع الوحدات العراقية عن طريق دائرة التوجيه السياسي كانت تدور حول { حيٌاك يا بو حلا } و{ طالع لك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع } و{ يا خميني وينك وينك بالحربة أقلع عينك } و{ صدام عز العرب } و{ راية الاسلام العالية } وسواها الكثير . لكي يتخلص شمعون من عذاب الخدمة العسكرية وانتظار التحرك الى نهر جاسم وكان الكثير من الجنود في الوحدات الأخرى يقومون بنفس الشيء . قرر أن يشتم صدام حسين أثناء التدريب ليمضي 7 سنوات سجن في سجن أبو غريب . كانت عقوبة شتم صدام العلني عام 1987 للجندي هي تشكيل مجلس تحقيقي في استخبارات الفوج أولاً ومن ثم في استخبارات اللواء ويرفع بعد ذلك الى استخبارات الفرقة التي ترفعه الى محكمة عسكرية خاصة ، وتقوم المحكمة بعد ذلك باصدار حكمها المقرر وهو السجن 7 سنوات حسب الفقرة كذا وكذا من قانون العقوبات العسكري الذي كان يتبدل بين الحين والحين حسب المزاج الدموي للقائد العام للقوات المسلحة صدام حسين . وفي صباح يوم ما من ذلك العام أثناء التوجه الى ساحة العرض الصباحي وكنٌا نردد الشعارات أثناء المسير . صاح شمعون بأعلى صوته منفرداً وهو يسير مع رهطه :{ حيٌاك يا بو خرا حيٌاك يا بو خرا }

فانهال عليه الضباط ركلاً وضرباً وأدموه ومن ثم طلبوا من جنود انضباط الفوج وضعه في السجن ليتم تسفيره الى سجن استخبارات الفرقة لتتولى أمره بعد تشكيل المجلس التحقيقي واحالته الى محكمة عسكرية . قال الملازم أول فليح ضابط استخبارات فوجنا : { راح يأكلها القشمر . 7 سنوات سجن . لكن وين ؟ ببو غريب . قشمر } . ومن المعلوم أن شتم صدام في ذلك الحين جرأة ما بعدها جرأة . بعد نهاية التدريب في ذلك اليوم دار همس كثير بين الجنود من أن شمعون سيمضي فترة سجنه بعيداً عن الحرب وربما يطلق سراحه من السجن عندما تنتهي الحرب ويعود الى أهله سالماً غانماً ، ويبدو أن هذا الفعل الذي قام به هذا الجندي للتخلص من الخدمة العسكرية قد تكرر كثيراً ذلك العام وعلى نطاق واسع في ألوية وأفواج كثيرة في كل جبهات الحرب ، ولأننا لا نقرأ { الوقائع العراقية } الصحيفة الحكومية التي تنتشر القوانين والكثير من المراسيم التي كان يصدرها نظام صدام فقد تم اعدام الجندي راهي بعد أسبوعين في مقر اللواء عندما أراد التخلص من الخدمة العسكرية وقام بمثل ماقام به شمعون . أثناء التدريب أيضاً شتم هذا الجندي صدام حسين من أجل أن يقضي فترة العقوبة البالغة 7 سنوات في أبو غريب بعيداً عن الحرب . ضربه الضباط وأدموه ووضعوه في سجن الفوج بانتظار تشكيل المجلس التحقيقي بغية ارساله الى استخبارات اللواء ، وبعد أيام تم تجميع أفواج اللواء الأربعة في دار السلام وقامت عناصر استخبارات اللواء باطلاق النار واعدمت راهي أمام عيوننا حسب القانون الجديد الذي نشر في { الوقائع العراقية } ليكون { عبرة للذين يقومون بهذا العمل } . بالنسبة لشمعون فقد صدر بحقه حكماً بالسجن 7 أعوام من محكمة عسكرية في الموصل لأن الفعل الذي قام به كان قد سبق صدور المرسوم الجديد وذهب مخفوراً الى سجن أبو غريب . بعد اعدام راهي بثلاثة أيام شنٌت قوة ايرانية هجوماً ليلياً على مواضع لواء المشاة 33 فوق قمة جبل كَرده كَو واحتلت القمة ، لكن الغريب أننا لم نكلف بالهجوم المقابل واستعادة الهدف الذي احتلته هذه القوة . أمرونا بالتحرك الى قاطع سيده سيدكان ومواصلة التدريب السنوي الاجمالي وبعد فترة التحقت بنا قوة عسكرية يقدر عدده أفرادها بأكثر من 2000 رجل وامرأة من جيش التحرير الايراني الذي تشرف عليه منظمة مجاهدي خلق المعارضة لنظام الحكم في ايران وواصلوا تدريباتهم بنفس القاطع بعيداً عنٌا . بعد نهاية التدريب الإجمالي الذي استمر 3 أشهر صدرت الأوامر الى لوائنا و قوة جيش التحرير في ليلة 20 / 11 / 1987 بالتحرك الى قاطع حاج عمران وذلك لأن الاستعدادات العسكرية الايرانية التي رصدتها دوريات الاستطلاع العميق ومفارز استخبارات الفيلق الخامس قد اكتملت بغية شن هجوم كبير على جبل كَرده كو . بعد ثلاثة أيام عند منتصف ليلة 23 / 11 / 1987 شنٌت القوات الايرانية تساندها المدفعية والراجمات هجوماً كبيراً على مواضع لواء المشاة 33 في ذلك الجبل وألحقت خسائر كبيرة بالأرواح والمعدات واستطاعت أن تحطم اللواء بالكامل بعد أن أسرت وقتلت الكثير من ضباطه ومراتبه واحتلال مواضعه خلال ساعات . قام لوائنا بالهجوم المقابل يسانده لواء المشاة 97 وقوة جيش التحرير الايراني في الساعة الرابعة فجراً بغية استعادة الهدف المحتل ودارت معركة شرسة أبدت فيها القوات الايرانية شجاعة وصموداً عاليين لكنها فرٌت بعد 3 ساعات تاركة مئات القتلى والجرحى في المواضع والخنادق والشقوق من دون أن تتمكن من اخلاء خسائرها . بعد فرار القوات الايرانية المهاجمة قامت قوة جيش التحرير لأغراض دعائية يريدها نظام صدام حسين وتريدها منظمة مجاهدي خلق بتصوير قتلى وجرحى الجانب الايراني من خلال كاميرات الفيديو وظهر في مساء اليوم الذي تم فيه طرد القوات الايرانية المهاجمة شريط فيديو طويل في التلفاز العراقي. يظهر حسب بيان القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية رجال ونساء جيش التحرير الايراني وهم يلٌوحون بعلامات النصر ويصدون هجوماً ايرانياً كبيراً تعرضوا له على جبل كَرده كو . أما خسائر لوائنا في هذا الهجوم فحٌدث ولا حرج . بعد اخلاء القتلى والجرحى سلٌمنا الهدف الذي تم تحريره الى لواء المشاة 97 بعد أن قام سلاح الهندسة التابع للفيلق الخامس بعمليات زرع الألغام وتحصين الخنادق والملاجىء التي تهدمت وتحركنا صوب المقر المتقدم في قرية دار السلام من أجل اعادة التنظيم وتعويض النقص في الخسائر التي كانت كبيرة بالأرواح والمعدات والأسلحة والتجهيزات . قتل من سريتي بالاضافة الى آمرها الملازم أول غانم 41 جندياً وضابط صف وجرح العشرات بفعل القصف المدفعي الكثيف . بعد اسبوع من نهاية الهجوم التحقت الى لوائنا كراديس من المواليد الجديدة التي جيء بها من معسكرات التدريب لتعويض النقص الذي حصل في ملاكات الأفواج ، وكالعادة كان أغلب هؤلاء الجنود تعوزهم الخبرة القتالية واللياقة البدنية المطلوبة للخدمة في القواطع الشمالية لجبهة الحرب . قبل الهجوم بشهوركان صدام حسين قد أصدر أمراً الى كافة الوحدات العسكرية في الجيش العراقي يقضي بمنع شراء المؤلفات المنسوبة لخاله خير الله طلفاح من قبل مكاتب التوجيه السياسي في تلك الوحدات وذلك بعد أن أغرق { جهاز اتجاهات الرأي العام } التابع لدائرة المخابرات هذه المكاتب والمكتبات بالعراق بكتب تافهة القيمة الفكرية لمؤلفين وهميين يتبعون ذلك الجهاز وهم ضباط مخابرات كانت مهمتهم الأساسية هي تأليف الكتب التي تريدها السلطة وتكون معبرة عن وجهات نظرها في شتى القضايا و ترجمة الكتب الممنوعة وتلخيصها لأعضاء القيادتين القطرية والقومية وبقية القيادات الحزبية في حزب السلطة ، ومن الكتب التي ترجموها ووزعت على تلك القيادات على نطاق محدود هي رواية سلمان رشدي آيات شيطانية ، وكان أول كتاب أصدروه هو { الحجاج رجل الدولة المفترى عليه } أعقبته بعد ذلك كتب عن فكر ابن تيمية وابن قيم الجوزية ودراسات عن فتاويهما وحياتيهما بالاضافة الى اصدار مؤلفاتهم بكثرة وبأسعار شبه مجانية ومؤلفات أخرى تدخل في خانة الدجل الشعوذة على شاكلة { جذور العدالة التاريخية في فكر السيد الرئيس القائد صدام حسين } و{ السوق والستراتيجية العسكرية في فكر السيد الرئيس صدام حسين } و{ أسس المنطلقات الديمقراطية وتطبيقاتها في فكر السيد السيد الرئيس صدام حسين } وهذا الجهاز التي كانت مهمته الرئيسية هي رصد آراء الناس في الشارع العراقي وطرق تفكيرهم واعتقاداتهم ومن ثم محاولة تغييرها فيما بعد . كان هو المسؤول عن اطلاق الاشاعات عن بعض الناس الذين لا ترضى عنهم السلطة ومن ضمن هؤلاء المطرب سعدي الحلي الذي بدأوا باطلاق الاشاعات عنه منذ عام 1982 وذلك بعد الهجوم الكبير الذي تم فيه طرد القوات العراقية من مدينة المحمرة الايرانية ، والمسألة تمت على هذا النحو : بما أن أفق الحرب مظلم وبهيم ولا علامة تلوح في هذا الأفق تنبىء بنهاية الحرب فقد اعتقد ضباط هذا الجهاز أن الناس كما في حروب سابقة في المنطقة والعالم . سيقومون بتأليف النكات والطرائف الحربية عن صدام حسين أو عزة الدوري أو وزير الدفاع عدنان خير الله وفعلاً شاعت طرائف من هذا النوع في بداية الحرب ومنها نكتة الفيل الذي يطير في أحدى جبهات الحرب وأنكر عزة الدوري طيرانه لكنه عندما أبلغوه أن صدام يقول أن الفيل يطير في الهجوم ضد القوات الايرانية تراجع وقال : { نعم هو يطير ويحط . يطير ويحط } ولكي لا تستفحل هذه النكات وتتناسل في العراق قاموا بتأليف واطلاق عدة نكات جنسية بذيئة في جميع المحافظات العراقية وخصوصاً في جبهات الحرب عن سعدي الحلي ، وكانوا كلما يمر الوقت يقومون بتأليف واطلاق نكات جديدة يكون وقعها النفسي أكبر من السابق وكانوا يعتقدون من وجهة نظر مخابراتية أن النكات الجنسية تدوم فترة أطول وتتناسل بكثرة بعد ذلك ولقد ظل المسكين أبو خالد يعتقد أن من قاموا باطلاق هذه النكات هم أولئك الفنانين الذين استطاع أن يغطي عليهم بسبب تميزه وفرادته في الغناء الريفي- المديني الذي أعقب مرحلة حضيري أبو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم . كان هذا في داخل العراق أما في الخارج فقد أشاعوا عام 1992 أن صديقنا الشاعر هاشم معتوق الذي هرب الى خارج العراق عام 1987 والمقيم في فنلندة منذ عام 1988 قد أصيب بمرض الايدز وكانوا يهدفون من وراء ذلك الى ألحاق الأذى النفسي بعائلته مثلما أشاعوا عني عبر السفارة العراقية باسبانيا عام 1999 بسبب عملي حين كنت بعمٌان في حركة الوفاق المعارضة لنظام صدام من أنني قد فزت بجائزة أدبية تمنحها اليونسكو ومقدارها 10000 دولار وأبلغوا أمي المريضة والعريانة والجائعة أنني قد انغمست في تدخين الحشيش وتناول المخدرات من دون أن أفكر فيها أو أبعث لها 100 دولار من مبلغ الجائزة الكبير ومازالت علاقتي بعائلتي بسبب هذه الفرية مقطوعة تماماً ، ولقد حدثني صديقي الشاعر هادي الحسيني عندما ذهب الى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عن غضب أخي حميد الذي التقاه ببغداد لتصديقه هذه الاشاعة لكن هادي شرح له أن هذا الشيء غير حقيقي فلم يقتنع لا هو وأمي. وبالنسبة الى خال صدام الحاج خير الله طلفاح الذي كان يملك الجمعية الاستهلاكية للموظفين ببغداد وهي واحدة من الشركات العديدة التي كان يملكها في العراق والتي كانت تجبر المواطن الذي يريد أن يشتري طبق بيض بسعر 600 فلس أن يشتري أحد أجزاء موسوعته المسماة { كنتم خير أمة } والبالغة 43 جزءاً بمبلغ ثلاثة دنانير ونصف وهذه الموسوعة العجيبة والغريبة كانت عبارة عن كشكول كبير قام بتأليفها وجمع محتوياتها عدة أشخاص محسوبين على خال الطاغية ، وكانت تتحدث في كل جزء منها عن الفلسفة والذرة والهندسة والميكانيك والجغرافيا والشعر والتاريخ والقومية العربية والقضاء والقدر والجن والشياطين وبقية { المخاريق السوريالية } التي يؤمن بها خير الله طلفاح ومن هذه الأجزاء جزء يعاتب فيه الله من منطلق عنصري عجيب 3 أشياء كان على الله أن لا يخلقها وهي { الذباب واليهود والفُرس } ولما امتنع الناس من التسوق في جمعيته هذه وكسدت بضائعه . خطرت له فكرة بيع موسوعته ومؤلفاته الأخرى على مكاتب التوجيه السياسي في وحدات الجيش . ومن مؤلفاته تلك التي وصلت الى وحدتي كان كتابه
{ نضالي } الذي حاول فيه أن يجاري هتلر عبر كتابه المعروف كفاحي } .
{ اني أنصح السيد فرانسوا ميتران رئيس الجمهورية الفرنسية بأن يقرأ قراءة متأنية – ولا بأس بأن يساعده ريجيس دوبريه – المؤلفات الكاملة للحاج خير الله طلفاح ، المنظر الرسمي المعتمد في بغداد }
سعدي يوسف من قصيدة { اعلان سياحي عن حاج عمران .


كانت مكاتب التوجيه السياسي تتسلم الكتب والكراريس من دائرتي التوجيه السياسي والاعلام العسكري ومدرسة الإعداد الحزبي بالقيادة القومية منذ بداية الحرب ضمن خطة مركزية موحدة . وكانت أغلب هذه الكتب والكراريس تتحدث عن الفكر الفاشي لحزب البعث بالعراق ونضاله المحموم في تدبير الانقلابات العسكرية وقتل أبناء الشعب العراقي وتدمير مؤوسساته الثقافية والجامعية والسياسية والاجتماعية ، بالاضافة الى خطب وترّهات صدام حسين المملة والمكررة ويتم التثقيف الحزبي العقائدي للضباط والمراتب بهذه الأشياء التي ينسونها حال نهاية الاجتماع الحزبي الاسبوعي بسرعة عجيبة اللهٌم إلاّ أولئك { الرفاق } الذين سدٌت الثقافة الحزبية البعثية جميع مسامات جلودهم وجعلتهم يصدقون دائماً عبقرية البعث ومؤسسه ميشيل عفلق وأمينه المساعد العام صدام حسين . كان السبب الرئيسي لمنع شراء كتب خير الله طلفاح حسب الأمر الذي أصدره صدام هوأنها تتعارض وفكر الحزب بسبب غيبياتها وشعوذتها وطبعاً كان صدام لا يريد أن ينافسه أحد في مضمار الثقافة والتأليف في وحدات الجيش . وكانت تصل الى جميع الوحدات العسكرية في الجيش آنذاك مجلة { الثورة العربية } التي تصٌدرها شهرياً مدرسة الاعداد الحزبي ويرأس تحريرها موسى العبيدي من دون أن يظهر اسمه عليها وموسى هذا الذي توفي بعد ذلك كان حين ينطح كل ليلة قارورة عرق كاملة بنادي اتحاد الأدباء يحدثنا عن { رسالة الأمة العربية } التي لم أفهم ما المقصود منها حتى هذه اللحظة شيئاً . ومن حسن حظي وحظ الكثيرين من الجنود أن القيادة القطرية لحزب لبعث التي يرأس أمانة سرها صدام . اتخذت في الشهر التاسع من عام 1987 قراراً حزبياً يقضي بطرد جميع المراتب الذين هربوا من الخدمة العسكرية مرتين أو أكثر من الحزب وهكذا طردت من الحزب بدرجة نصير بعد أن أجبرت على الانضمام اليه عام 1979 حين دخلت الجيش لإداء الخدمة العسكرية الالزامية بدرجة { مؤيد } وهكذا تخلصت والى الأبد من تلك الاجتماعات الاسبوعية المملة التي كان يفرض فيها علينا التثقيف الحزبي بترهات ميشيل عفلق وصدام حسين وموضوعات { الثورة العربية } الفاشستية التي كان يكتبها دائماً اللبناني الياس فرح والفلسطيني ناصيف عواد والسوداني بدر الدين مدثر واليمني قاسم سلاٌم والسوري شبلي العيسمي عن النهوض العربي والحضارة العربية والوجود العربي والدم العربي والدور العربي والكفاح العربي والاستقلال العربي والتحرر العربي والحلم العربي والطموح العربي بينما يقوم حزبهم في كل حين بقتل المواطن العراقي العربي والكردي والتركماني والأرمني والآشوري والكلداني بطرق وأساليب لم تعرفها حتى الأنظمة الفاشية التي ظهرت في بلدان أخرى من العالم . وما زلت أرثي لأولئك { الرفاق } الذين كانوا يرأسون الاتحادات والمنتديات الثقافية والأدبية لنظام صدام . الذين ظلوا مخلصين جداً لأفكار حزب البعث حتى وهم يغادرون العراق ، كما أرثي لهم وهم يذهبون كل اسبوع الى الاجتماع بطارق عزيز في مكتب الثقافة والاعلام بالقيادة القومية للحزب ليعطيهم التعليمات والأوامر التي كانوا يديرون بموجبها الفعاليات الثقافية في عراق الطاغية صدام .

كيمياء الألم

نامي . نامي يا نموري الصغيرة . أيتها المتوحشة يا أحزاني .
الليل برموشه الطويلة التي تنسدل على آلامي . ليل حياتي التعيسة
ينزلق برفق الى الأعماق القديمة ، والسماء الغاصة بأسراب الحشرات
والمطموسة بالعويل . أجراسها الصدئة تترنح مهدمة فوق رأسي .
فوق الأعمدة وفي الميادين
فوق الأشجار المتوحشة العارية وعلى الأبراج
ترفرف مدفوعة صوب الماضي رغباتي المنكمشة .

*** *** ***

ما الذي سأفعله بمستقبل ميتٍ ، أنا الذي عشتُ حياتي كلها في مستنقع من الجحيمات ؟
تعلقت الظلمة في جبيني . تعلقت الصحراء . تعلقت العناكب والطحالب . العالم هاوية
وعيناي معصوبتان برماد حاضر ميتٍ . على أية سنبلة أتكىء ؟ أية شمسٍِِ تعينني على
النهوض ؟ حاضري رماد وماضيٌ عدم . لي من الذكرى ثمة جروح محفورة حتى
العظم . لو أردت النوم يكبلني قصف مدافع وتقودني هلوسات الحروب الى جوٌُ من
الجحيمات . أسمع حشرجات موتي وتفيض أمواج العذابات ارتفاعاً يناسب اغراقي .
لماذا يداي متخشبتان كحاضري ؟ لماذا أبصق القصائد وأعاين مشهد خرابي ؟
أصوات الموت المزمجرة لا تزال تصبغ عشب النهار. لا قناديل لي ولا ثلج . لا فضة
ولا ربيع . لي هذه الساعات المهشمة والعاطلة التي لا تضيؤها الشمس طوال العام .

*** *** ***

عندما أمٌر ببغداد قادماً من الجنوب ، في طريقي الى الشمال أعجز عن رؤية نصب
الحرية وتمثال { السعدون } .
*** *** ***

العزلة العزلة العزلة
آهٍ أيتها العزلة العزلة العزلة العزلة مسودٌة أنتِ مثل شجرة مسيٌجة . أرضكِ شجية وشفيفة
وجرائمكِ المشمسة تشع على لياليٌ . مرةً ترفعني من الهاوية ومرة أخرى تأخذني الى أرض
قبور غريبة ، ومرة أخرى تغرقني في مياه ساعات ميتة ، ومرة أخرى تدلني على سجون وكهوف مليئة بالتثاؤب ، ومرة أخرى تلفنٌي كجثة محطمة . جرائمكِ الثقيلة الحمولة والمرفوعة
فوق عشب حياتي . تلمع في ليل العظم .
في صدأ الأسلحة المتروكة
في مرايا الأمل الذي يقوسه طيران البوم
في الحب المرفوع فوق الانهدامات
في جوع الطيور والشجار المضمدة المجنونة .

*** *** ***

هذه السماء الخشنة التي أرقبها الآن . تحتضر وتتعثر في أنفاسي . تتعثر الغيوم والأدراج .
الموت الذي غفل عني عندما غشي عينيه النعاس . ما يزال مخيفاً وملقى باهمال فوق صدري
كأرنب جريح . آهٍ يا موتاً يرافقني ويلتصق بي مثل زئير يعري فراغ الظلام . لا صيف عندي
لأفتح أبوابه من أجل الأبدية . بحاضر شرس يتهاوى الى الوراء . أرقب انهداماتكم وأرى الخرائب التي لن ترونها . هنا على شواطىء دجلة . في المدينة التي بناها المنصور . أرقب صعود
الصحراء صوب الجنائن العالية وأتساءل : ماذا يعني أن تتعرى الأشجار من لغاتها ؟
أهو الزمن يغوص في أذرع العناكب ؟ الآن – تطير أمامي الغربان الجائعة في سماء المدينة
وتطير معها أحلامي . أحلام فقيرة سود . أحلام صفر. أحلام خضر . أحلام زرق . أحلام بنفسجية . مرة رأيت في الحلم طفولتي المهدمة تنهض من أنقاضها وتصافح الفراشات التي آوتها يوماً .

*** *** ***

طلبتُ عشبة
فوجدت ُ مسماراً
طلبتُ شمساً
فوجدتُ ثلجاً
طلبتُ نجمة
فوجدتُ مقبرةً
طلبتُ ثدياً
فوجدتُ شوكاً
طلبتُ يداً
فوجدتُ مديةً .

*** *** ***

أصدقائي الذين ماتوا عام 1987 . بينهم شعراء وعشاق ومجانين . ماتوا في الهجوم الايراني
على { بحيرة الأسماك } من أجل مياهٍ لا مرئية . زهور وشموس تلفحُ وجوههم اللطيفة .
جدائلهم الخضر ابتلعها ليل الهاوية . أصدقائي الموتى يأتون في أحلامي ويعرضون عليٌ
جروحهم العميقة قائلين : { انها عميقة } وكأني لا أملك في حياتي جروحاً عميقة . أصدقائي
أصدقائي الموتى الموتى الموتى الموتى أصدقائي الموتى الموتى أنا وهمُ باب في المياه يمرُ
من خلاله ليل الأبدية .

*** *** ***

هنا يلعبُ الملائكة الأيتام مع الكلاب البيض في منعطفات الشوارع .
هنا الدبٌابات المزمجرات يتحدثنَ عن أحزانهنَ ، وفي آخر الطريق يقف الشاعر شاحباً
وقدمه على رقبة مستقبلٍ ميتٍ . مرآة الشمس مثلومة والهواء عويل . هنا كل شيء ميت
ما عدا القمر الذي يتشظى مثل صحن صيني .

*** *** ***

أريدُ الآن أن أخوض في عراكٍ وحشيٍِ لأصعد من هذا الرماد الذي تزينه بقع الدم .
آهٍ الدم الدم الدم الدم الدم العفن . لا أريد أن أعيش وسط هؤلاء الذين يعيشون ببلادةٍ
ويتألمون بلا جروح . لماذا يعانون من عبودية بلا ظلام ؟ لماذا يعيشون في قلعة بلا
جدرانٍ ؟ لا شمس لهم ولا يخجلون من دناءاتهم . يضحكون على أنفسهم ويكذبون على
أطفالهم . تاركين تلك الآثار الباقية في أجساد الفقراء { الذين تنازلوا عن جلودهم لمدافع
الهاون وعظامهم للسديم } . ما الذي أخشاه وأنا جزء من الهاوية ؟ ماضيٌ الذي يدمع في
طرقاتي الآن لن أرفع له راية .

*** *** ***

ذهبية حقول الطفولة . أراها والشمس . شمسها يدي . مرئية طفولتي . كواكبها ساطعة
ترٌفُ . حديقتان إلهيتان تركضان في صدرها . آه يا طفولتي . من أجل أعيادكِ وقرابينك
التي ترتفعُ مسلوبة من سلطتكِ الشيطانية على خرابي المظلم . عل تأويني سماؤك الهشة ؟
مبتهج بخرابي إذا فجركِ أضاء جبيني . أنا ابن ماضٍ لا مبارك . تعثرتُ بشدٌة فوق الجبال
حتى تخلصتُ من عناد موتي . كنتِ نرجساً . نرجساً أبيض ونسمة حمراء في زند النهار.
كنتِ نبعاً يحضنكِ عطش الأرض . ارجوحة كوكبية . نورساً . مدينة . كنتِ الحلي السلطانية
المرتعشة بين أصابعي . كنٌا نستطيع أن نحلٌق ، لكن لم يبقَ وشم أو ظل قيلولة . لماذا انطفأت
رغوة الصيف مثل وشيعة فقيرة ؟ كأن لم تكن هناك يد حانية . كأنما ضروع { الغرٌاف }
كانت مجرد سراب .

*** *** ***

ارفعيني اليكِ أيتها النيران العالية . ضمٌيني اليكِ أيتها الحرارات الأشدٌ حناناً من الذهب العميق .
اظفري آلامي أيتها النيران الخصيبة . بين الليل وبين الليلك حدقي صوبي يا غيوم الحروب .
أيتها اللافحة والمختفية كرماد حياتي . ارفعيني من العزلة العزلة العزلة العزلة العزلة العزلة .

*** *** ***

إيه ، الشتاءات التي تفسختُ في زمهريرها بعيداً عن البيت ماتزال تهبُ على أحلامي .
شمسي قتيلة
ومعصيتي مطفأة .
زادي الشظايا
وخمرتي دموع أصدقائي الموتى .




في هذا العام الذي اشتدٌت فيه المعارك على كل جبهات الحرب . بلغت الحساسية الشعرية في العراق ذروتها في الأفران الشعرية لمقهى حسن عجمي وملاجىء الجنود وغرف الفنادق الرخيصة والأقسام الداخلية للطلبة القادمين من المحافظات وتكاملت أغلب تجارب شعراء الثمانينات والسبعينات عبر جهود دؤوبة ومخلصة بدأت منذعام 1980 بعيداً عن المنابر الاعلامية الرسمية للسلطة المنشغلة بادامة وتكريس الشعرالعمودي الذي بدا واضحاً منذ نهاية السبعينات انه المعبٌر الوحيد عن نهجها المتخلف في التعامل مع الثقافة في العراق عبر المهرجانات والاحتفالات الصاخبة التي كانت تقام باستمرار . وكانت الصرخة المدٌوية التي أعلنت القطيعة مع الإرث السابق هي تلك الكلمات القليلة التي أطلقها شاعر سبعيني وجعلها الصحفي اللبناني شربل داغر { مانشيت } للحوار الذي أجراه معه ومع الشعراء فاروق يوسف وزاهر الجيزاني وهاشم شفيق ونشر في مجلة اليوم السابع . أعلن هؤلاء الشعراء القطيعة عبر هذه الكلمات { ليذهب الشعر الى الجحيم . أهلاً بالكتابة } وحدث الشرخ الكبير بعد ذلك مع مفهوم ووظيفة الشعر التي كرّستها الأجيال السابقة ولم يعد الشعر يعبر عن القضايا الاجتماعية والسياسية والالتزام بقضايا الجماهير التي تمت خديعتها من قبل السلطات الحاكمة والأحزاب السياسية والشعراء المحسوبين على هذه الأحزاب . وستكون قمة التتويج لهذه التجارب المخلصة والصامتة هي فوز الشاعرين باسم المرعبي وخالد جابر يوسف في المسابقة الأولى لجائزة يوسف الخال التي أعلنتها مجلة الناقد عام 1988 والتي اشترك فيها عشرات الشعراء من العالم العربي ، ليأتي في الوقت نفسه صدور مجموعة زاهر الجيزاني { الأب في مسائه الشخصي } التي بدت للوهلة الأولى أشبه بنبتة شيطانية وسط أرض الشعرالعراقي الميت منذ الاندفاعات التجديدية التي قدمها شعراء الستينات وقتلتها السلطات والأحزاب العقائدية بسبب فهمها القاصر للأبداع ، وكان لها نفس دويٌ مجموعة خزعل الماجدي { خزائيل } التي صدرت عام 1986 . على الرغم من أن هذه التجارب التي نمت وتطورت في الظل وبعيداً عن صحافة ومجلات ومنابر السلطة الأخرى ، فان الهم الشعري المخلص بدا واضحاً وشديداً فيها عبر فهم معرفي وحياتي لا يقبل المساومة مع الواقع المتردي والمنشغل بتخلفه وتقديسه للتراث ، ذلك التقديس الذي كان ينطلق من رؤية آيديولوجية شوفينية للتراث الذي مرٌت عليه قرون طوال وهو يغط في سباته العميق من دون أن يستطيع أحد التعامل معه عبرالرؤية الانسانية الشاملة التي تنتشله من الصدأ والأشنان التي علقت به . لذلك لا نستغرب عندما نجد قصائد صديقنا الشاعر أحمد عبد الحسين العالية والمكتوبة في الثمانينات قد نشرت في مجموعته { عقائد موجعة } متأخرة في النصف الثاني من التسعينات وهذا الشيء ينطبق على تجارب الشعراء باسم المرعبي ومحمد النصار وصلاح حسن وناصر مؤنس ومحمد مظلوم وفضل خلف جبر وعبد الحميد الصائح وطالب عبد العزيز ودنيا ميخائيل والمرحوم رياض ابراهيم وحسن النواب وحكمت الحاج .
في عام 1980 أراد زاهر الجيزاني وسلام كاظم اصدار عدد خاص عن قصيدة النثر عبر مجلة الطليعة الأدبية التي يعملان فيها محررين وحين انتهيا من جمع المواد التي اشتملت على نصوص وتنظيرات ومقابلات . رفض هذا المشروع من قبل المدير العام لدائرة الشؤون الثقافية ، وعلى الرغم من أن قصيدة النثر أصبحت واقعاً ملموساً في الشعر العراقي فانها من جهة أخرى ظلت معتماً عليها حتى هذه الفترة بسبب استمرار حروب النظام العدوانية ومطالباته الملٌحة لأبواقه الناعقة ليلاً ونهاراً بادامة { النخوة والتعبئة والنصر النهائي وشدٌ الأحزمة وبطولة القائد وعبقريته الحربية } . أمام وضع حرج كهذا قام الناقد حاتم الصكر الذي رأس تحرير مجلة الأقلام في العام 1992 من أجل أن يضفي شرعية ما على قصيدة النثر بانشاء مسابقة للشعراء الشباب في مجلة الأقلام وتقوم المجلة بنشر النصوص الخمس الفائزة في أحد اعدادها وهكذا نشرت للمرة الأولى في الأقلام نصوص صلاح حسن وفضل خلف جبر ومحمد النصاروسهام جبار ونصيف الناصري ، أعقبتها في العام التالي مسابقة أخرى وفاز بها بعض الشعراء أيضاً . ولكي تقوم السلطة بعملها التدميري للثقافة في العراق فانها كانت تمنع طوال عقود الكتب التي تصدر خارج العراق إلاّ ما ندر وكانت المكتبات العراقية شبه خالية إلاّ من اصدارات دار الطليعة التي انشغلت في السبعينات والثمانينات بنقد { فكر التسوية } و{ مشروع روجرز } واصدارات { المؤوسسة العربية للدراسات والنشر } البعيدة آنذاك عن نبض الشارع العراقي والمهتمة أكثر بمؤلفات رواد عصر النهضة العربية المزعوم وبعض دور النشر الرسمية في مصر ، أما أعمال سعيد عقل وادونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وتوفيق صايغ فانها كانت ممنوعة منعاً باتٌاً بالاضافة الى أعمال الشعراء العراقيين الذين يعارضون النهج الفاشستي لنظام صدام حسين . وحدها أعمال محمود درويش ومحمد الفيتوري وعبد المعطي حجازي وعبد الله البردوني وعبد العزيز المقالح وسعاد الصباح ومحمد بنيس ونزار قباني كانت تصل الى العراق بالآلاف ويبدو أن هذه أحدى العطايا التي كان يمنحها النظام الصدامي لهم جراء مشاركتهم ومباركتهم لحربه مع ايران ويتذكر الكثير من الشعراء العرب والعراقيين تسمية محمود درويش لوزير الثقافة والاعلام لطيف نصيف جاسم في أحدى دورات مهرجان المربد في الثمانينات ب وزير الشعراء . في مناخ مكفهر وأجواء ملبدة بغيوم الحرب والقتلى والجرحى والاعدامات اليومية والتنفس بصعوبة . ما عادت قصيدة النثر التقليدية قادرة على احتواء المحنة الكبيرة التي يمر بها الشاعر والمجتمع . وللخروج من هذه المحنة التي بدت أشبه بمتاهة كبيرة ، تخلى الكثير من الشعراء في العراق ممن كانت القطيعة بينهم وبين الشعر الذي يمجد الحرب ويقدسها ويبررها . قطيعة تامة وكاملة وأصبح مفهوم قصيدة النثر تقليدياً وغير كافٍ للتعبير عن حجم المحنة التي يمر بها الشاعر . وهكذا راحت النصوص الطويلة والمعقدة بحمولتها المعرفية . تعنى بالزمن والموت والتحول والصيرورة والطفولة والحب وكان مكانها الصحي والنظيف دائماً هو مقهى حسن عجمي حيث عشرات القراء والمستمعين البعيدين عن اتحادات ومنتديات القطيع . ولكي تشتد المحنة أكثر قام ............... بمنع كمال سبتي من الكتابة عن { الشعرية والحساسية الجديدة والغاء مفهوم الشعر القديم } وحجب عموده الاسبوعي في صحيفة القادسية بحجة أن { طروحاته الشعرية هدٌامة وتسيء الى التراث ولا تكترث للحرب المقدسة المفروضة على العراق العظيم } مما اضطر كمال في آخر عمود يكتبه الى مخاطبة القراء من أن نائب رئيس تحرير الصحيفة منعه من الكتابة وأمر بحجب عموده اعتباراً من الاسبوع القادم ليفرٌ بعد ذلك الى خارج العراق .

الفصل السادس

مقدمات ابادة الأكراد وتهجيرهم وتهديم مدنهم وقراهم ..

معركة جبل أحمد رومي 15 / 1 / 1988


في بداية العام 1988 استمرت هجومات القوات الايرانية وتعرضاتها على مواضع القوات العراقية في عدة جبهات وبشراسة أكبر من الهجومات والتعرضات السابقة ، ومن ضمن هذه الجبهات ، بنجوين وسيد صادق في قاطع الفيلق الأول و سومار و كَيلان غرب في قاطع الفيلق الثاني و هور الحويزة في قاطع الفيلق الرابع و بحيرة الأسماك ونهر جاسم في قاطع الفيلق السابع ، وكانت القيادات العسكرية والسياسية الايرانية تأمل أن يكون هذا العام هو عام الحسم النهائي للحرب مثلما كانت تأمل في العام السابق . بعد نهاية معركة جبل كَرده كو التي خسرتها القوات الايرانية في 23 / 11 / 1987 والتي اشتركت فيها وحدتي الى جانب لواء المشاة 97 وقوة من جيش التحرير الايراني . رصدت مفارز الاستطلاع العميق ودوريات الاستخبارات العسكرية التابعة للفيلق الخامس تحركات غير اعتيادية تقوم بها القوات الايرانية في قاطعي حاج عمران وسيده كان حيث كان يجري سحب قوات وتبديل قوات أخرى هنا وهناك ، وبعد أيام تأكد لقيادة الفيلق أن القوات الايرانية قد نقلت الكثير من قطعاتها الى قاطع الفيلق الأول في محافظة السليمانية لفتح جبهة حرب جديدة هناك. وصلت الى لوائنا برقية فورية من قيادة الفرقة 23 المسؤولة عن قاطع حاج عمران وضعتنا في الانذار { ج } ومنعت الاجازات والمأموريات على الرغم من أن لا شيء غير عادي في قاطع الفيلق الخامس ، لكن يبدو أن القوات الايرانية التي كانت ترصد تحركاتها دائرة الاستخبارات العسكرية من خلال مفارز الاستطلاع العميق والطائرات الحربية وعملاء نظام صدام الذين كانوا يعملون في داخل العمق الايراني . قررت فتح جبهة حرب جديدة في قاطع عمليات الفيلق الأول بعدما كانت هجوماتها وتعرضاتها السابقة التي كانت تشنها طوال سنوات الحرب السابقة تتركز في قاطعي بنجوين وسيد صادق و جوار ته ، لكنها اختارت هذه المرة الهجوم على جبل أحمد رومي شديد الارتفاع والذي تتواجد فيه قوة عسكرية لا ترقى الى ملاك لواء ولا توجد فيه تحصينات ولا ملاجىء ولا خنادق ولا شقوق ولا مزاغل ، وقامت بنقل قوات خاصة وقوات مغاوير وألوية مشاة وأفواج من المتطوعين المدنيين الى مناطق وجبال جديدة لم تكن من قبل جبهات حرب مثل جبل كوجار وجبل كوردي هلكان . ومعلوم أن القوات الايرانية بدأت بعد احتلالها لقضاء الفاو الواقع في محافظة البصرة عام 1986 والذي خسرت فيه القوات العراقية أكثر من 55000 قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى ، بشن هجومات كبيرة تستمر عدة أسابيع ضد مواقع ألوية وفرق الفيلق السابع بين الحين والآخر من أجل تدمير القوات العراقية هناك واحتلال البصرة ، وكان القادة الايرانيون يعتقدون أن احتلال البصرة سيغير موازين الحرب ويقلبها لصالحهم لكن هجوماتهم وتعرضاتهم التي استمرت فترة لا بأس بها على بحيرة الأسماك ونهر جاسم في الشهورالأولى من عام 1987 لم تأتِ بنتيجة حتمية تنهي الحرب لصالحهم على الرغم من آلاف الضحايا في صفوف الطرفين ، وكانت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية تحسب لتحركاتهم هناك مليون حساب حتى لا تتكرر مذبحة الفاو الذي ستتم استعادته في النصف الأول من عام 1988 بمئات الطائرات الحربية وعشر ملايين قذيفة مدفع ثقيلة جعلت أرض الفاو الرملية شبيهة ببركان يفور . كان لوائي الذي أنهى التدريب الاجمالي السنوي خلال الشهور الأخيرة من العام الماضي ، قد أحرز مرتبة متقدمة في التدريبات القتالية واللياقة البدنية ولم نكن نعرف نحن الجنود في ذلك الحين أن قيادة الفيلق تحاول من خلال التدريب الاجمالي العنيف أن تعدنا للاشتراك في معركة الفاو القادمة مع القوات الأخرى التي أشرفت على تدريبها بقية قيادات الفيالق والفرق في قواطع أخرى من جبهات الحرب . بعد أن أكملت القوات الايرانية استعداداتها الحربية في قاطع الفيلق الأول الذي كان لواء مغاويره وقوته الضاربة في شن الهجومات المقابلة داخلاً التدريب الاجمالي السنوي . وصلتنا برقية فورية ليلة 8 / 1 / 1988 تأمرنا بالتحرك الى قاطع الفيلق الأول . في ساعات الصباح الأولى وصلنا الى قضاء { قله جوالان } الذي تم تهديمه وتهجير سكانه من قبل قوات الأمن والاستخباررات العسكرية في سنوات سابقة . ما أن ترجلنا من العجلات وبدأنا بنصب خيامنا على الأرض الطينية حتى بدأت المدفعية الايرانية الثقيلة والطائرات الحربية تقصفنا بشدّة ، ويبدو أن طائرات الاستطلاع الايرانية كانت تقوم في ذلك الحين بنشاط محموم على صعيد الرصد والاستمكان . ألحق القصف بنا خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات والتجهيزات . أمرنا بعد ذلك بالتوجه الى منطقة تقع بالعمق وقريبة من جبل أحمد رومي وباشرنا فوراً بتوزيع الحراسات ونصب الخيام وعمليات حفرالملاجىء والخنادق والسواتر بمساعدة صنف الهندسة الذي جيء به على عجل تحت الأمطار والثلوج الكثيفة والقصف المستمر. في اليوم التالي وصلتنا برقية فورية من القائد العام للقوات المسلحة يبدو مضمونها للوهلة الأولى أشبه بالنكتة لكنها كانت تؤكد على شيء سوريالي كان يحدث في الهجومات التي تشنها القوات الايرانية . تقول هذه البرقية : - { تقرر اعدام المراتب الذين يطلقون كلمة إجونا خلال الصولة بأمرمن القائد العام للقوات المسلحة المهيب الركن صدام حسين حفظه الله ورعاه } ومناسبة هذه البرقية التي وصلت الى جميع قطعات الجيش العراقي آنذاك هي أن الكثير من المراتب الذين يتم سوقهم الى جبهات الحرب من دون تدريب كثيف ، يصابون بالذعر والخوف الشديد عندما يشاهدون القوات الايرانية أثناء الهجومات التي يقومون بها ضدها ويقوم البعض منهم باطلاق كلمة { إجونا } حال التقدم وتبدأ الصولة الأولى في كل هجوم ، وهنا تفشل الصولة ويهرب الكثير من الجنود المهاجمين الى نقاط { المثابة } و{ الادامة } في الخلف تاركين معداتهم وتجهيزاتهم ، مما يسمح للقوات الايرانية بإدامة زخم هجومها وتقدمها ضد مواقع القوات العراقية ، وقد تكررت مثل هذه الحالات كثيراً في عدة جبهات وأثرت تأثيراً سلبياً على معنويات المقاتلين العراقيين ، ويعرف الكثير ممن اشتركوا في الحرب العراقية – الايرانية انه اذا هرب 10 جنود أثناء هجوم ما من الموضع الدفاعي بسبب اطلاق كلمة { اجونا } فسوف تتم بالضرورة عملية هروب أكثر من 100 جندي أخر وتكون هذه المشكلة أحياناً سببٌ في هروب فوج كامل من ساحة المعركة . بعد أن أكمل ضابط استخبارات الفوج الملازم أول فليح قراءة برقية صدام على جميع المراتب وضباط الصف في فوجنا . أقسم بالطلاق والعتاق أنه سوف لا يرحم أولئك الجنود الذين يتخاذلون ويهربون في حال قيام القوات الايرانية بهجوم ما ضد مواضعنا التي سنكلف بالدفاع عنها . في هذه الأثناء قامت الوحدات الهندسية التابعة للفيلق الأول بشق الطرق وحفر الملاجىء وبناء السواتر لوحدات المشاة التي اتخذت مواضعها فوق جبل أحمد رومي تحسباً للهجوم القادم الذي ستشنه القوات الايرانية قريباً ومن هذه الوحدات هو لواء المشاة 98 الذي جيء به من قاطع الفيلق الخامس للتو وآمره العقيد عبد المحسن الذي كان آمر لوائنا السابق . بالنسبة الى لوائي المكون من 4 أفواج فقد تم توزيعه على 4 محاورفي جبل أحمد رومي ليكون جاهزاً في شن الهجوم المقابل إذا لم تتمكن وحدات المشاة من صد الهجوم الذي ستقوم به القوات الايرانية لاحتلال الجبل . ليلة 12 / 1 باشرنا عمليات الاستطلاع للجبل تحت الثلوج وقصف المدفعية والراجمات الذي كان يستهدف مراكز التموين وأكداس العتاد في مقراتنا الخلفية وكانت معنويات الكثير من الجنود وضباط الصف في فوجي سيئة جداً بسبب طبيعة الجبل الوعرة والمعركة الرهيبة التي تنتظرنا بالاضافة الى برقية صدام وتهديدات ضابط استخبارات الفوج حتى اننا بالكاد كنا نستطيع أن نتذوق الطعام . كان التدخين المستمر والتفكير في الموت المحقق والأكيد الذي ينتظرنا فوق جبل أحمد رومي هو زادنا الوحيد . أثناء قيامنا بواجبات الاستطلاع استطاع بعض الجنود التسلل من المواقع المتقدمة وهربوا باتجاه المقرات الخلفية ، لكنهم تم القاء القبض عليهم من قبل مفارز استخبارات الفيلق التي أودعتهم السجن بانتظار تقديمهم للمحاكمة وهؤلاء الجنود المساكين ربما ستكون عقوبتهم الاعدام لقيامهم بالتسرب وتركهم المواضع الدفاعية . بعد أن استطلعنا الجبل من الجهة اليسرى المشرفة على وادٍ عميق لمدة 3 أيام صدرت الينا الأوامر بضرورة حمل الأسلحة والأعتدة والأقتعة المضادة للأسلحة الكيمياوية والمجارف والمعاول والبطانيات ونقالات اخلاء القتلى والجرحى وبقية التجهيزات والصعود في العجلات ليلاً بعد الساعة الثانية عشرة تحسباً لهجوم سريع وخاطف قد تقوم به القوات المعادية ضد وحدات المشاة العراقية ، وهكذا صعدنا ليلة 14 / 1 العجلات بكامل أسلحتنا وتجهيزاتنا بانتظارلحظة الهجوم الحاسمة ، ولك أن تقيس هنا مدى حزن وانقباض نفوسنا ونحن ننتظرالمجزرة . هل كان أولئك الشعراء الذين يمجدون هذه الحرب وتصدرمجموعاتهم الحقيرة في سلسلة { ديوان المعركة } ويطبلون لعبقرية صدام ليلاً ونهاراً ، يفكرون بمصائر شباب العراق الذين ألقي بهم في هاوية { قادسيته المجيدة }؟ لكن ما يعزيني الآن وأنا أشهد على تلك الأيام السود هو المقال الذي كتبه صديقي الكاتب حميد المختار قبل أيام ونشره في صحيفة { الصباح } بعنوان { الشعر العراقي والصعلكة } حيث يكتب عن أولئك المداحين المتنطعين قائلاً : { شعراء مثلوا حال الفقاعة في الأدب العراقي ولدوا وماتوا ابداعياً وتركوا لنا أكواماً من الكتب تحولت الى أكياس للبطاطا والخضروات ، أما جان دمو ونصيف الناصري وبعض من انتمى اليهم فقد لعبوا ردحاً من الزمن في ساحة الشعر الخالية إلاّ من الطواطم والديناصورات كما يحلو لهم أن يسموا تلك النماذج التي احتلت المقاعد الوظيفية واسترخت وبردت جمرة الشعر لديهم – هذا إذا كانت لديهم جمرة أصلاً- بينما ظلت تئز وتفور فوراناً في نفوس من اكتوت روحه بنار الشعر الأزلية الغامضة فصار جان دمو يهاجم كل الأسماء الشعرية المضغوطة المنتفخة ويتحداهم بأسماله البالية وديوان شعره الوحيد ، أما حسين علي يونس فقد أخذ من الفلسفة الافراغية ومفاهيم الفضلات والقمامة وجعلها شكلاً متقدماً على بعض الشعراء التقليديين ، حتى انه كاد يقع في ورطة قضائية مع أحد الوجوه الرسمية للنظام لولا تدخل بعض العقلاء وأصحاب القلوب الرحيمة ، بينما حول نصيف الناصري جل شعره الى طرف وعمليات نصب واحتيال شعري . ذات يوم جاء بقصيدة وقرأها على شعراء مقهى { حسن عجمي } وبعد الانتهاء منها استهجن أغلب الحاضرين قصيدته تلك وقالوا :
- { الى متى ستبقى تكتب شعراً على بحرالخرط ؟ } .
فأجابهم ببرود : -{ أنا متأثر بأدونيس }
فهبوا عليه هبة رجل واحد خصوصاً وأن أغلبهم يدعون حبهم ومتابعتهم لشعر ادونيس :
- { وأين أنت من ادونيس أيها الصعلوك البائس؟ }
- فأجابهم وهو يضحك بصوت عالٍ ، حتى لفت أنظار كل زبائن المقهى من شحاذين ومقامرين ومخمورين وهو يقول :
- { القصيدة التي استمعتم اليها أيها الأغبياء الحمقى هي من قصائد ادونيس }
فضجت المقهى بالضحك والصخب وتوالت مقالب نصيف الناصري وصولاً الى الزمن الذي انفرط فيه عقد هؤلاء الشعراء كما تنفرط حبات المسحبة وتوزعوا في أنحاء العالم باحثين عن يوتوبياتهم وفراديسهم ووطنهم المذبوح بينما بقي الشعر في العراق حاضراً لأن رحمه ولود لا يعرف العقم }
وكنت ذات مرة أريد أن أثأر من أولئك الطبالين والناعقين ممن يرتدون الألبسة الرسمية العسكرية والمدنية ويعملون في دوائر ومؤوسسات النظام الاعلامية ويقضون جل وقتهم في مقهى حسن عجمي في الثرثرة والترّهات حول شعر الحرب الذي يكتبونه وينشرونه في الصحف اليومية للنظام . استنسختُ بيدي قصيدة لادونيس وأخبرتهم أنني كتبت قصيدة جديدة فاقترحوا أن أقرأها عليهم ، وحين قرأتها كاملة قالوا ما ذكره الصديق حميد المختار ، وأحد هؤلاء يعيش الآن في لندن بعد أن عاش سنوات في السويد بصفة لاجىء سياسي بعد أن أصدر الكثير من المجموعات الشعرية في سلسلة { ديوان المعركة } التي مجدت حروب صدام ، وعندما زج نظام صدام حسين صديقنا المختار في السجن قبل 4 سنوات لمعارضته النظام قام هذا الشويعر الدعي بنشر عدة قصائد في صحيفة الزمان وكتب الى جانب اسمه : { اهداء الى الشهيد حميد المختار } ليوهمنا بمعارضته وادانته للنظام الذي أعدم صديقنا المختار ىكما أشيع في حينها . استمر مكوثنا في العجلات ونحن نلتف بالبطانيات تحت البرد والثلج الى الساعة السادسة صباحاً من دون أن يحدث هجوم القوات الايرانية . أمرونا بعد ذلك بالنزول وتناول الفطور من الأطعمة المعلبة ومن ثم التوجه الى ساحة العرض الصباحي التي تم اعدادها في اليومين الفائتين . بعد العرض وقراءة التعداد تبين أن الكثير من المراتب قد تسربوا في الليلة الماضية وذهبوا الى حيث لا أحد يدري . استمرت تدريباتنا العنيفة بعد ذلك حتى الساعة الثانية عشر ظهراً ومن ثم عدنا الى الخيام والملاجىء حيث كان بانتظارنا غداءً ساخناً بعد أن ظننا أن مطابخ السرايا سوف لن تطبخ الغداء بسبب حالة الانذار القصوى في جميع وحدات القاطع وغموض الموقف الحربي فوق جبل أحمد رومي . أثناء الغداء أمرني آمر فصيلي الملازم ثاني عباس أن أجهز الفصيل ليذهب الى الموقع الخلفي في السليمانية مع 3 عجلات إيفا من أجل أن نجلب أعتدة وتجهيزات اضافية ، وكانت الأوامر قد صدرت حول ضرورة أن تقوم سرية المقزائداً فصيل بجلب هذه الأعتدة والتجهيزات . في السليمانية التي رأيتها لأول في حياتي ، لفت نظري مشهد مفارز الأمن والاستخبارات والانضباط العسكري الكثيف في كل دروب ومناطق المدينة . بعد تحميل العجلات في أحد الأكداس التابعة للفيلق رفض آمر الفصيل أن نشرب الشاي في مقهى أو نتسكع قليلاً وأحتج بأن رجال الأمن أو الانضباط العسكري سيلقون القبض علينا لعدم حصولنا على نماذج نزول مؤقتة وبالتالي فسيتحمل هو المسؤولية . في هذه الأثناء ونحن نهم بعبور أحد الشوارع مشياً التقيت صدفة الفنان المسرحي كاميران رؤوف بالزي الكوردي وكنت قد افتقدته منذ شهور ببغداد فأخبرني انه أنهى دراسته في اكاديمية الفنون الجميلة والآن هو يؤدي الخدمة العسكرية الالزامية هنا . دعاني الى بيته فأخبرته انني لا أستطيع بسبب حالة الأنذار فتمنى لي أن أخرج سالماً من الجحيم القادم . ليلة 15 / 1 / 1987 / قامت القوات الايرانية تساندها المدفعية الثقيلة والراجمات والطائرات السمتية والقذائف الانبوبية بشن هجوم كبير على 3 محاور واحتلت في المرحلة الأولى جبل أحمد رومي وألحقت خسائر كبيرة بوحدات المشاة العراقية المدافعة لكنها أخفقت في احتلال جبلي كوجار وكوردي هلكان ، وأثناء المعركة المستمرة والتي بدأت في الثانية بعد منتصف الليل تماماً وكنا كما في اليومين السابقين ننتظر لحظة الهجوم ونحن نتكدس في العجلات . صدرت الينا الأوامر بالتوجه نحو القمة والسفوح الغربية لجبل أحمد رومي التي استطلعناها في الأيام السابقة . كانت القوات المهاجمة عندما اخترقت الخطوط الدفاعية والسواتر وألحقت خسائر قاسية بالأرواح والمعدات لقوات المشاة العراقية ، قد عززت المواضع التي احتلتها بسرعة قبل هجومنا المقابل بقوات مشاة كثيفة وأسلحة متوسطة ورشاشات رباعية ومدافع محمولة عيار106 ملم . ولقد واجهتنا مشكلة رهيبة لم تكن بالحسبان أثناء قيامنا بالهجوم المقابل لاستعادة المواضع التي تم احتلالها وذلك أن القوات المهاجمة قد دفعت بقوات مغاويراضافية قامت بعمليات التفاف واسعة من عدة جوانب ، وهكذا فشلنا في الصولة الأولى وتراجعنا الى الخلف تحت قصف مدفعي كثيف وصليات حامية لا تنقطع من مختلف الأسلحة الرشاشة ، وما بين حصارنا ومخاوفنا الكبيرة خشية القتل الأكيد . كانت صيحات الضباط المذعورة بضرورة التقدم الى الأمام واستعادة المواضع المحتلة تضيف الى معاناتنا مع القصف والرمي المعادي معاناة لا توصف . كنتُ مثل باقي الجنود الآخرين أحاول أثناء التقدم أن أستتر خلف صخرة ، لكن كل صخرة نذهب اليها نكتشف انها كومة عشب يابس يغطيه الثلج وما أن ترصدنا القوات المعادية ونحن نزحف على البطون تحت الثلج ، حتى تبدأ بحصدنا بمختلف الأسلحة ولقد قتل الكثير منا جراء الاستتار خلف هذه الأكوام التي ظنناها صخوراً . ومن شدة رعبي وتعبي وأنا أتعثر في الثلج تراجعت ومجموعة من الجنود الى الخلف وكان الانفلاق الجوي لقذائف المدفعية الثقيلة ينزل على الأرض كالمطر. وجدت موضع رشاشة BKC مهدماً وبجانبه جثة جندي قتيل فألقيت نفسي على الأرض لأهدىء فرائصي التي ترتعد لكنني ما أن تمددتُ حتى عبرت من فوق رأسي 3 اطلاقات معادية وشعرت انها كادت أن تلامس خوذتي ولكي أستتر { هذه الحادثة التي أرويها يعرفها الكثير من أصدقائي منذ عام 1988 } أكثر قمتُ بوضع كيس رملي فوق جثة الجندي القتيل ليقيني الرصاص الذي ينطلق نحوي من جهات لا أعلمها . بعد لحظات قصيرة جداً استثمرت القوات الايرانية الوقت وشنّت علينا هجوماً بدا أشبه بالقيامة من خلال القصف والرمي الشديد والصيحات المرعبة للمهاجمين التي ترافق الصولة ، وهنا سمعنا اطلاق كلمة { إجونا . إجونا . إجونا } وكان أول من هرب بسبب { إجونا } هو الجندي القتيل الذي وضعتُ فوق جثته كيس الرمل . هربت مع الكثير من الجنود باتجاه السفوح الغربية للجبل في محاولة للوصول الى الموقع المتقدم وترك ساحة المعركة فصدتنا قوات ايرانية تسللت هناك وقتلت وأسرت الكثيرين منا . عدنا أدراجنا وسلكنا الطرق النيسمية المغمورة بالثلج التي توصل الى المقرات المتقدمة ، لكن هطول الثلج والانفلاق الجوي المستمر جعل مهمتنا عسيرة جداً . أثناء التعثر والتعكزعلى بندقيتي أضعتُ سدادتها ورحتُ أفكر وأنا وسط الجحيم بأن آمر سريتي سيشكل فيما بعد محضر تحقيق حول كيفية ضياع السدادة وربما أسجن . ناسياً انني من الممكن أن أقتل جراء اطلاقة قناص في الرأس أو شظية قذيفة حادة وحارة كالموس . أخيراً وجدنا طريقاً قادنا الى الخلف وأثناء الركض والتعثر أصبتُ بشظية صاروخ RBG7 مضاداً للأشخاص صغيرة في حاجبي الأيمن فحمدتُ الآلهة على انني سأذهب الى طبابة الميدان وأتخلص من جحيم المعركة . عندما صعدتُ عجلة الاسعاف وأنا أنزف دمي الذي لم يستطع إيقافه ضماد الميدان وجدتُ الكثير من الجنود والضباط وضباط الصف المصابين فاقدي الوعي ويئنون بشدة والبعض الآخر منهم كان ممزق الأمعاء . في مستشفى الميدان العسكري بالسليمانية أخرجوا الشظية وتم تضميد الجرح وكدتُ آمل أن يمنحوني اجازة طويلة ، لكنهم منحوني 3 أيام استراحة أقضيها في وحدتي مثلما منحوني من قبل استراحة مشابهة عندما كسرت ساقي اليمنى في هجوم سابق . ماذا أفعل ؟ وأين أجد وحدتي التي تمزقت شذر مذر ؟ ذهبتُ الى بغداد من دون نموذج اجازة وكنت كلما توقفنا سيطرة استخبارات أو انضباط عسكري أموتُ من الرعب ، ذلك انني سأعتبر في حال القاء القبض علي من دون نموذج اجازة متسرباً من المعركة على الرغم من اصابتي الواضحة . في سيطرة{ جمجال } لم يطلب مني رجال الاستخبارات نموذج اجازة عندما رأوا حاجبي مضمداً وكانت أخبار المعركة قد وصلت اليهم وتكرر هذا الشيء في سيطرة كركوك وسيطرة بغداد. هل كنتُ متأكدا من أن لا أحد سيوقفني من هؤلاء الأوباش ؟ لستُ أدري . بعد أن أمضيتُ في بغداد 3 أيام عدتُ الى وحدتي التي بالكاد عثرتُ على مقرها وسط عشرات الوحدات التي جيء بها من قواطع كثيرة مختلفة . لم يعلم أحد انني قد منحتُ 3 أيام استراحة أقضيها في وحدتي وليس اجازة طبية ، لكن عندما سألني رأس عرفاء سريتي زين العابدين أخبرته حقيقة الأمر فامتعض وبدا غاضباً وهو يخبرني بأن آمر لوائنا العقيد علي عبد محمد الحمادي قد تم سوقه مخفوراً الى دائرة الاستخبارات العسكرية ببغداد للتحقيق معه بتهمة التخاذل وعدم الكفاءة بسبب عدم استعادة لوائنا الهدف الذي احتلته القوات الايرانية من جهة ، وهروب اللواء كله من ساحة المعركة أثناء صولة القوات الايرانية من جهة ثانية . في اليوم التالي تمت تسوية المشكلة مع آمر الفصيل عباس الذي أعتبر غيابي عن الوحدة اجازة طبية بسبب الاصابة مع كتمان الأمر عن آمر السرية الجديد الملازم أول عبد الزهرة الذي تم تنسيبه بعد مقتل آمر السرية السابق في معركة جبل كَرده كو الملازم أول محمود وبقية مراتب السرية حتى لا يعتبر غيابي تسرباً من المعركة . بعد انسحاب لوائنا من المواقع المتقدمة لغرض اعادة التنظيم وكان آمر اللواء قد تم الافراج عنه من دائرة الاستخبارات العسكرية عندما اكتشفوا انه لم يكن متخاذلاً أو غير كفوء ، بل كان السبب في هزيمة اللواء وتدميره والحاق الخسائر الفادحة به هو أن القوات المعادية التي قامت بالهجوم كانت تتكون من فرقة مشاة كاملة زائداً لواء مغاوير وهذا يعني في السياقات العسكرية أن القوة المعادية كانت تتفوق على لوائنا بالعدد والأسلحة كثيراً جداً . أثناء استراحة بعد تدريب يوم شاق وكنا نجلس أمام تلفزيون حانوت الفوج ونتحدث عن المعركةالتي هزمنا فيها . قال الجندي كريم شيّال المنسوب الى السرية الأولى :- { بعد أن اشتد القصف والقنص بالصولة والضباط يصرخون تقدم . تقدم . تقدمتُ وكنتُ ميتاً من الخوف . وكان الجندي العدد الذي يتبعني قد هرب بعتادي الاحتياط . وجدتُ موضعاً مهدماً فنمتُ فيه وسويت نفسي ميتاً ورميت رشاشتي الى جانبي حتى لا أتقدم . جاء واحد حمار ميت من الخوف مثلي . انبطح الى جانبي وكان يظنني ميتاً . بس هذا خطية الغبي . أول ما انبطح . شافوه الايرانيين فضربوه ب3 طلقات فوق راسه . زرب على روحه وبعدين جاب كيس رمل خلاه فوقي . آني من الخوف . ما أقدر أقوم خاف يضربوني الايرانيين . بقيت نايم . بعدين من سمعت هذوله يقولون اجونا . اجونا . قمت شردت وخليت ذاك الحمار الغبي ميت من الخوف . بس أخ القحبة هذا يمكن شرد بعدين } . طبعاً لم استطع أن أخبر كريم أو الجنود الآخرين بأنني كنتُ نفسي ذلك {الحمار الغبي } .

بداية جرائم علي حسن المجيد ضد الأكراد

في 14 و15 / آذار عام 1987 ترأس صدام حسين اجتماعاً للقيادة العامة للقوات المسلحة ، دام أكثر من 5 ساعات وبحضور علي حسن المجيد ، وفي 18 من نفس الشهر أيضاً قرر مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث تعيين المجيد أميناً عاماً لمكتب تنظيم الشمال وفي 29 / آذار أيضاً أصدر مجلس قيادة الثورة مرسوماً برقم 160 منح المجيد بموجبه { تمثيل القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة في تنفيذ سياسات الحكومة في كل المنطقة الشمالية . من ضمنها منطقة كردستان للحكم الذاتي لغرض حماية الأمن والنظام وحفظ الاستقرار وتطبيق قانون الحكم الذاتي } وأضاف المرسوم { أن قرارات الرفيق المجيد ستكون الزامية لجميع أجهزة الدولة سواءً كانت عسكرية أم مدنية أم أمنية } وأضاف المرسوم أيضاً أن أوامر المجيد يجب أن تنفذ { على الأخص فيما يتعلق بمسائل مجلس الأمن القومي ولجنة شؤون الشمال } . ثم أصدر صدام حسين في 20 / 4 / 1987 مرسوماً ثانياً خول بموجبه المجيد سلطات اضافية { لوضع ميزانية للجنة شؤون الشمال } وكان الأمر هنا يستلزم اطاعة قرارات وتوجيهات المجيد من قبل جميع الأجهزة الامنية من دون أي نقاش- من ضمنها الاستخبارات العسكرية- وكذلك من قبل قوات الأمن المحلية وقيادة الجيش الشعبي وجميع القيادات العسكرية في المنطقة الشمالية ، وكان صدور المرسوم 160 وفقراته الاضافية يعني بوضوح تام أن علي حسن المجيد قد اصبح القائد الأعلى والحاكم المطلق لكل منطقة كوردستان التي سيقود ويشرف فيها على عمليات الأنفال سيئة الصيت . كان من المفترض حسب العمليات التي خطط لها صدام حسين أن تمرّ حوالي السنة قبل أن تبدأ تلك العمليات ، ومع ذلك فقد كان منطق { الأنفال } واضحاً بكل ما في الكلمة من معنى وذلك خلال أسابيع من تعين المجيد بمنصبه الجديد ومنحه الصلاحيات التي نص عليها المرسوم المذكور ، حيث تم وضع اطارها القانوني من وجهة نظر السلطة موضع العمل وصدرت قرارات جديدة وثابتة لقوات الأمن والاستخبارات في المنطقة ، واطلق العنان لموجة من العمليات العسكرية مدتها شهران وذلك للقيام بتهديم القرى والتهجير القسري للسكان . كان ذلك مخططاً تمهيدياً للعمليات الأكبر حجماً وأشدّ وحشية التي قام بها المجيد لاحقاً . مع الأيام الأولى الدافئة لفصل الربيع وذوبان الثلوج في الجبال ، باشر المجيد عملياته الوحشية ذات الثلاث مراحل من { تجميع القرى } وبكلمات أكثر وضوحاً ، التدمير الكلي لمئات القرى الزراعية الكردية واعادة اسكان أهاليها داخل المجمعات القسرية . يظهر الجدول الزمني للمراحل الثلاث لعمليات المجيد بصورة لا لبس فيها وبشكل بارز في رسالة من الأركان العامة { للجحوش } الى قيادة الفيلق الخامس في 13 / 4 / 1987 ، ويبدو أن هذه الرسالة التي حصلت عليها بالاضافة الى آلاف الوثائق الأحزاب الكردية المعارضة للنظام في أعقاب انتفاضة العام 1991 . كانت جواباً على أمرٍ شفهي من قائد الفيلق الخامس الفريق ضياء الدين يتعلق { بالالتزامات النهائية بتشديد الاجراءات لانهاء التخريب في المنطقة الشمالية } وكذلك { الأساليب والأولويات لتنفيذ عمليات اخلاء وهدم القرى المحظورة أمنياً }. بدت المرحلة الأولى من العمليات في 21 / 4 وانتهت في 20 / 5 أما الثانية فقد بدأت مباشرة في 21 / 4 واستمرت حتى 21 / 6 . أشرت الخرائط العسكرية والأمنية بالخط الأحمر مع حدود واضحة لتحديد المناطق المحظورة لأسباب أمنية وشكلت دائرة الاستخبارات { لجنة خاصة بالقرى المحرمة } للاشراف على المناطق الممنوعة ، ضمن المناطق التي حددت في المرحلتين 1 و 2 . كان الأمر جلياً وواضحاً . { ستدمر كافة القرى المحظورة } . وفي شهادة لأحد ضباط الاستخبارات التحق بعد انتفاضة عام 1991 بالمعارضة الموجودة في الشمال. أخبر منظمة مراقبة حقوق الانسان عن اجتماع عقد في كركوك في ربيع عام 1987 حضره محافظو أربيل وكركوك ودهوك والسليمانية وكذلك قادة الفيلقين الأول والخامس وقادة الفرق ومسؤولي حزب البعث الكبار ، أصدر المجيد أوامره متحدثاً بنبرة غاضبة وعلى نحو مميز : { كان يجب عدم ترك أي دار واقفة في القرى الكردية الواقعة بسهل أربيل } . وفي اجتماع لاحق في أربيل سمع الشاهد المجيد يكرر هذه الأوامر ويعيدها مقرونة بتهديدات شخصية قائلاً : { سوف أجيء وأراقب واذا وجدت أي منزل سليماً ، فسوف أحمل آمر ذلك المكان المسؤولية } . وبعد استلام تلك الأوامر قال ضابط الاستخبارات السابق :{ أخذت شاحنات عسكرية من مستودع في أربيل مليئة بالمتفجرات ، وصادرت 100 جرافة من المدنيين بالقوة من دون أن أدفع لهم شيئاً . بدأنا بتدمير القرى المبنية من الطين بالجرافات وكذلك بنسف الاساسات الاسمنتية . ثم استخدمنا صنف الهندسة حيث دخلت القوات عند الفجر فطمرت الآبار وانتزعت الأسلاك الكهربائية وتركت الأعمدة واقفة فقط ، وبعد أن أكملت وحدات الهندسة عملها ، بدأت الاستخبارات العسكرية بتفتيش القرى المهدمة بواسطة طائرات الهليكوبتر }. وبدأ بعد ذلك أول استخدام للأسلحة الكيمياوية ضد المدنيين عندما قصفت الطائرات قريتي باليسان و شيخ وسان . تبعد هاتان القريتان حوالي الميل ونصف الميل عن بعضهما . في وادٍ ذي جوانب شديدة الانحدارجنوب قضاء راوندوز . كانت باليسان قرية كبيرة الحجم وكانت تعيش فيها حتى نيسان 1987 حوالي 250 عائلة { ما يقارب 1750 شخص } من عشيرة خوشناو وكانت توجد فيها 4 مساجد ومدرسة ابتدائية ومدرسة متوسطة ، وفي خط مستقيم تقع باليسان على بعد 12 ميلاً شرقي بلدة شقلاوة ، أما شيخ وسان القرية الأصغر حجماً وتقطنها حوالي 150 عائلة فقد كانت تقع على مسافة قليلة الى الشمال الشرقي من شقلاوة. كان وادي باليسان منطقة محظورة منذ عام 1983 وكانت تحيطه نقاط تفتيش استخباراتية تمنع وصول المواد الغذائية ومواد البناء ، وفي وقت لاحق جرى سحب المدرسين من المدارس ، وعندما كان الطيران يقوم بطلعاته الروتينية هناك كان رد فعل القرويين هو الاختباء والتواري بعيداً داخل الكهوف العميقة المظلمة في الجبال المجاورة . في مساء يوم ممطر في 16 نيسان كان القرويون قد عادوا تواً الى بيوتهم من حقولهم وانهمكوا في تحضير العشاء حينما سمعوا أزيز الطائرات الحربية . لبث البعض منهم داخل منازلهم أما الآخرون فقد انطلقوا مسرعين نحو ملاجئهم قبل أن تصل الطائرات . وشاهد الناس سرب من الطائرات تندفع على نحو منخفض فوق القريتين لافراغ قنابلها . حتى هذه اللحظة لم تستعمل أيّة حكومة في العالم أسلحة كيمياوية ضد أبناء شعبها المدنيين . في صباح اليوم التالي دخلت وحدات من صنف المشاة وأفواج من الجحوش قرية باليسان ونهبوا بيوت القرويين الفارين ودمروها وسووها بالأرض ، وفي نفس اليوم أو اليوم التالي – المفترض انهم انتظروا وقتاً كافياً لكي يتبدد الغاز السام – قام صنف الهندسة التابع للفيلق الخامس بنسف قرية شيخ وسان وأزالوها بالجرافات . كان السكان الناجون قد فروا في ذلك الحين أثناء غارة الطيران . أخذ البعض طريقهم نحو مدينة السليمانية وذهب عدد قليل منهم الى بلدة شقلاوة . لكن أكثرهم توجه نحو الشمال الشرقي الى بلدة رانية حيث كان هناك مستشفى ، وقد ساعدهم في طريقهم أناس من القرى المجاورة الذين عانى البعض منهم أيضاً . من ضمنها قرى بارو كاوا . بيرو . كاني برد . توتمه ، من تأثيرات الغازات التي حملتها الرياح . أرسل سكان قرية بيرو التراكتورات الى شيخ وسان وغادرت هذه التراكتورات التي كانت كل واحدة منها تقل عدداً كبيراً من الناس الى بلدة رانية وفي مجمع سرجاوه القسري الذي كان يقع خارج البلدة مباشرة . توقفت التراكتورات لدفن جثث 50 شخصاً من السكان الذين كانوا قد ماتوا في ذلك الحين . أما اللاجئون الذين وصلوا الى رانية فقد أمضوا ليلة واحدة هناك . نظف الأطباء المحليون جروحهم وأعطوهم قطرات العين لكن هذه القطرات لم تفعل شيئاً لتخفيف تأثيرات الغازات السامة عليهم ، وأمضوا ليلة مؤرقة في مستشفى رانية ، ملأتها أصوات النحيب والبكاء . من وجهة النظر القانونية ليست هناك علاقة بوجود البيشمركة داخل القرية ، لأن الأسلحة الكيمياوية من حيث طبيعتها لا تميز بين الأهداف المدنية والعسكرية وأن استخدامها تحت أيّة ظروف أمر غير قانوني . في اليوم التالي جاءت عناصر من الأمن الى المستشفى – يقول بعض الشهود الذين التقت بهم منظمة مراقبة حقوق الانسان بأن عناصر من الاستخبارات العسكرية كانت معهم أيضاً – وأمروا كل شخص مصاب بالنزول من سريره والصعود الى العجلات المنتظرة والواقفة خارج المستشفى . وأخبر المصابون بأن هذه العجلات سوف تنقلهم الى مدينة أربيل للعلاج الطبي ، غير انهم تم تحذيرهم فيما بعد ، في نفس ذلك اليوم بانهم سيعالجون فقط في حالة اذا ما أخبروا الأطباء بان اصاباتهم كانت نتيجة قصف الطائرات الحربية الايرانية . على أساس المقابلات التي أجريت مع 4 ناجين ، وكذلك مع الهيئة الطبية ومستخدمي مستودع الجثث في مستشفى أربيل بعد سيطرة الأحزاب الكوردية على المنطقة وانسحاب نظام صدام عام 1991 ، يمكن اعطاء تقدير تقريبي لأعداد الذين ماتوا نتيجة القصف الكيمياوي ل باليسان وشيخ وسان والقرى المجاورة .
24 قتيل في باليسان كنتيجة مباشرة للتعرض للأسلحة الكيمياوية . دفن هؤلاء القتلى في قبر جماعي داخل القرية .
103 قتلى في شيخ وسان من ضمنهم حوالي 50 شخصاً دفنوا في قبر جماعي في مجمع سرو جاوه . وكان من ضمن القتلى 33 طفلاً دون السابعة و28 آخرين تتراوح أعمارهم بين ال 5 الى 14 سنة و9 مسنين تتراوح أعمارهم بين 60 الى 85 سنة ؟
9 قتلى في مستشفى رانية.
4 قتلى عند الوصول الى مستشفى الطوارىء في أربيل.
بين 64 و 142 قتيل في دائرة الأمن المركزي بأربيل وذلك نتيجة عدم معالجتهم من الجروح التي أصيبوا بها وتفاقم حالاتهم بسبب الجوع والاهمال .
حمولة حافلتين من الرجال البالغين والفتيان المراهقين اختفوا في معتقل دائرة الأمن المركزي ، وتفترض منظمة مراقبة حقوق الانسان بأنهم قد اعدموا فيما بعد . يقدر الشهود العدد بين 70 و76 شخصاً : 22 رجلاً من باليسان و50 من شيخ وسان و4 من القرى المجاورة.
* أطفال كثيرون القي بهم في السهل القاحل قرب باليسان .
وتقدر المنظمة الدولية لمراقبة حقوق الانسان بأن 225 وربما 400 من وادي باليسان قد قتلوا كنتيجة مباشرة للهجمات الكيمياوية التي شنها الطيران الحربي على قراهم في 16 / 4 / 1987 . تعتبر الهجمات على هاتين القريتين ذات مغزى لبضعة أسباب : أولها أنها أكبر تقرير موثق كامل للهجمات الكيمياوية من قبل نظام صدام حسين ، ثانياً انها تقدم دليلاً ملموساً على تصميم قوات الأمن والاستخبارات بأوامر من سلطات عليا ، في تهجير وقتل المدنيين غير المقاتلين ، ومن جهة أخرى فإن معاملة الذين نجوا من قصف الطائرات الحربية وخاصة تفريقهم بحسب العمر والجنس وحبسهم غير القانوني من دون مأكل أو رعاية طبية وكذلك ترك النساء والأطفال في المناطق القاحلة بعيداً عن بيوتهم ، كل ذلك كان انذاراً بالكثير من التقنيات التي ستسخدم على نطاق واسع خلال عمليات عام 1988 . أن حادثة وادي باليسان توضح كذلك الدور الذي كانت تلعبه دائرة الاستخبارات العسكرية في عملية الابادة ، وعلاوة على ذلك فأن وقائع مستشفى أربيل تشكل أخطر انتهاك ممكن للحياد الطبي . غير أن نظام البعث كان أبعد من أن يكون قد أكمل مشواره مع سكان هذه القرى المنكوبة . بين آلاف الصفحات من تقارير الاستخبارات السرية عن الغارات الجوية واحراق القرى عثر محققو منظمة مراقبة حقوق الانسان على تقرير مختصر يحوي تفاصيل مثيرة جداً ، وصادر من مديرية أمن أربيل بتاريخ 1 حزيران 1987 ، حول ضربة جوية على 5 قرى في وادي ملكان على بعد أميال قليلة الى الشرق من باليسان وشيخ وسان وقد أوضح التقرير أنه خلال الهجوم { فقد 30 شخصاً بصرهم } . من أكبر مرسوم حتى أتفه مسألة ، كانت جميع أعمال قوات الأمن والاستخبارات العسكرية تسجل في رسائل وبرقيات مؤرخة ومرقمة ومن ثم تختم بختم لقاء وصل بالاستلام ، حتى عندما يتعلق الأمر بعملية استخباراتية ذات أهمية ، فان أعداداً وفيرة من النسخ المكتوبة باليد والمطبوعة كانت تهيأ فيما بعد كي تسلم نزولاً الى سلسلة القيادة وتحفظ في الأضابير وكتابها واثقون بأن ليست هناك قط عيون سترى هذه الأسرار . في أواسط الثمانينات ابتكرت الأجهزة الأمنية والاستخبارية لنظام البعث أساليب لتكنولوجيا الفيديو كطرائق جديدة وقيمة لحفظ السجلات . كان الأمر يستلزم روتينياً تسجيل فعاليات قوات الأمن والاستخبارات على أشرطة فيديو : تطهير قرى . اعدام واعتقال البيشمركَة ، وحتى الهجمات بالاسلحة الكيمياوية على المدنيين ، ولقد شاهدنا كيف قام علي الكيمياوي ومحمد حمزة الزبيدي في انتفاضة عام 1991 باعتقال واعدام المنتفضين بالجنوب من خلال شريط الفيديو ، وشاهدنا أيضاً ضباط مخابرات يقومون بنسف شابين بالديناميت في منطقة مهجورة ، هذا بالأضافة الى ذلك الشريط الذي تظهر فيه عناصر من جهاز الأمن الخاص وهو يقومون بضرب المعتقلين العراة في أحد المعتقلات السرية بالسياط . بعد 5 أيام من الهجوم الكيمياوي على وادي باليسان تقدمت قوات المشاة التابعة للفيلق الخامس والفيلق الأول والبلدوزرات للعمل على هدم مئات القرى في محافظتي أربيل والسليمانية واستناداً الى شهادة موثقة حصلت عليها منظمة مراقبة حقوق الانسان فقد دمّر الجيش من الخارطة 703 قرية كردية على الأقل خلال عمليات عام 1987 . كانت بين هذه القرى 219 قرية في محافظة أربيل و122 في السهول الكثيرة التلال المعروفة ب كرميان في جنوب شرقي كركوك وكذلك 320 في مناطق مختلفة من محافظة السليمانية . خلال الشهور الأولى من تعيين علي المجيد الكيمياوي بمنصبه الجديد ، قام بتضييق الخناق على سكان ريف كوردستان بسلسلة من القرارات الشاملة والأوامر الادارية المختلفة .
* في 6 نيسان فقد جميع البيشمركة حقوق ممتلكاتهم ، ويكتب المجيد بنفسه : { استناداً الى الصلاحيات المناطة بقرار مجلس قيادة الثورة المرقم160 والصادر في 29 آذار 1987 . قررنا تخويل رؤساء اللجان الأمنية في المحافظات الشمالية مصادرة الأملاك والأموال الشخصية للمخربين ، شريطة أن تجري تصفية أملاكهم خلال شهر واحد من تاريخ أمر المصادرة .
* في 10 نيسان علق المجيد الحقوق القانونية لسكان القرى المحظورة لأسباب أمنية : { أعطى سيادته الأوامر بعدم سماع القضايا التي تأتي من سكان القرى المحظورة } هذا ما كتبه راضي حسن سلمان نائب سكرتير قيادة فرع الشمال لحزب البعث ويضيف : { وبنفس الشيء تلك القضايا التي تخص المخربين أياً كانوا بالاضافة الى تجميد جميع دعاواهم التي تقدموا بها سابقاً } .
* وفي 10 نيسان أيضاً بدأ المجيد باصدار الأوامر باعدام أقارب الدرجة الأولى للبيشمركَة . كانت سياسة نظام صدام تقوم ومنذ وقت طويل باعتقال وانزال العقوبة بعوائل البيشمركَة ، وغالباً ما كانت تقوم بتدمير ممتلكاتهم ، لكن المجيد أمر الآن بتصفيتهم جسدياً ، وقد بقيت هذه الأوامر نافذة المفعول بوضوح طوال عمليات الأنفال ولفترة من الوقت فيما بعد ، فمثلاً هناك مذكرة مكتوبة بخط اليد ، مؤرخة في 20 تشرين الثاني 1989 وموقعة من قبل { مدير الأمن . ضابط التحقيق } ومصدرها مديرية أمن محافظة السليمانية تعطي تفاصيل قضية التمس فيها مواطن كوردي من السلطات الحكومية الاستفسار عن أبويه وأخيه المفقودين . تبلغ رسالة مدير الأمن المتلقي غير المذكور اسمه بأن الأبوين المفقودين طورون أحمد وزوجته نعيمة عبد الرحمن قد { تمت تصفيتهما في بغداد بتاريخ 19 مايس 1987 وأن ابنهم هوشيار طورون أحمد وهو من رجال البيشمركَة قد أعدم شنقاً في 12 تموز عام 1987 بموجب حكم صدر من محكمة الثورة . الذي يهم هنا ، هو سبب اعدام أبوي الرجل ، توضح المذكرة بأن ذلك الأمر أقر { بناءً على أمر الرفيق المناضل علي حسن المجيد عضو القيادة القطرية للحزب والذي أحيل الينا بالرسالة المرقمة 106309 من مديرية أمن منطقة الحكم الذاتي ومؤشرة عليها ب سري وتفتح شخصياً ، ومؤرخة في 1 مايس 1987 ، فيما يتعلق بتصفية أقارب الدرجة الأولى للمجرمين } . رسالة أخرى مكتوب على القسم العلوي منها أمن السليمانية بعدد س – ت : 21308 بتاريخ 16 أيلول 1989 ومصنفة ب سري للغاية تصف الاعدام العلني من قبل فرق الاعدامات لخمسة من البيشمركة . جرى تنفيذ حكم الاعدام بثلاث عوائل من عوائل { المخربين } بشكل سري وقد تم تفويض اعدامهم بالرسالة المرقمة 6806 والمؤرخو في 12 كانون الأول 1987 من قيادة مكتب تنظيم الشمال للحزب . في هذا الوقت كان يجري اعدام المدنيين الجرحى أيضاً وذلك استناداً الى رسالة مكتوبة باليد عددها 3324 ومؤرخة في 14 مايس صادرة من مديرية أمن حلبجة ومرسلة الى أمن محافظة السليمانية تقدم هذه الرسالة تفاصيل كاملة عن عملية تمت ضد أحد أحياء المدينة وهو حي كاني آشقان وتشير الى البرقية رقم 945 المؤرخة في اليوم السابق والصادرة من قيادة الفيلق الخامس : { تقرر بأمر من قائد الفيلق الأول وبتوجيه من الرفيق علي حسن المجيد اعدام المدنيين الجرحى ، بعد التأكد من عدائهم للدولة ومنظمات الحزب ومراكز الاستخبارات كما تقرر استعمال البلدوزرات والجرافات لتدمير حي كاني آشقان وتسويته بالأرض . غير أن أهداف نظام صدام حسين تكشف بوحشية واضحة من خلال توجيهين أصدرهما مكتب المجيد في حزيران عام 1987 وكلتا الوثيقتين تضعان بتفصيلات جلية حظراً على جميع أنواع الحياة الشرية في مناطق معينة من الريف الكوردستاني ، مغطياً بذلك أكثر من 1000 قرية ومطبقاً من خلال أمر { ارم لتقتل } الذي لا يتطلب أي تفويض لاحق من جهات عليا . كل الأساليب الاجرامية لسلطة البعث الفاشية . التوجيه الأول هو توجيه شخصي بعدد 28 / 3650 موقع من قبل علي حسن المجيد نفسه ومؤرخ في 3 حزيران 1987 . تم توجيه هذا الأمر الى الأجهزة الأمنية ودائرة الاستخبارات والمخابرات وقادة الفيلق الأول والفيلق الخامس وينص على ما يلي :
* يمنع منعاً باتاً وصول المواد الغذائية أو الأشخاص أو الأجهزة والآلات الى القرى المحظورة لأسباب أمنية .
* يمنع وجود الناس الذين جرى تهجيرهم في المرحلة الأولى من الذهاب الى تلك المناطق لأسباب أمنية ، وكذلك في المناطق التي شملتها المرحلة الثانية .
* فيما يتعلق بالحصاد : يجب أن ينقضي فصل الشتاء قبل 15 تموز ولن يسمح بالزراعة في هذه المناطق خلال فصل الشتاء القادم والصيف ابتداءً من هذه السنة .
* يمنع تواجد قطعان الماشية من أجل الرعي في هذه المناطق .
* ضمن نطاق سلطاتهم ، يجب على منتسبي القوات المسلحة قتل كل كائن بشري أو وجود حيواني في هذه المناطق . { انهم محظورون تماماً } أضيف التأكيد هنا من قبل المجيد .
* سوف يبلغ بهذا القرار الأشخاص الذين شملتهم عمليات الترحيل الى المجمعات وسيتحملون كامل المسؤولية ان هم خرقوه . غير أن أكثر الوثائق أهمية التي اطلعت عليها منظمة مراقبة حقوق الانسان هي تلك الوثيقة الصادرة في 20 حزيران 1987 من مكتب تنظيم الشمال لحزب البعث وعليها توقيع علي حسن المجيد ومختومة بختم لجنة شؤون الشمال ومرقمة برقم ي ف / 4008 وهذه الوثيقة التي تحرض على السلب والنهب ، تعتبر انتهاكاً واضحاً لقوانين الحرب وقد بقيت نافدة المفعول كأوامر ثابتة للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والاستخباراتية خلال عمليات الأنفال وما بعدها ، فمثلاً هناك رسالة صادرة من مديرية أمن السليمانية مؤرخة في 29 تشرين الأول عام 1988 تشير الى الأوامر المذكورة في هذه الوثيقة كأساس ل أعدام 19 شخصاً متهماً ، تم اعدامهم من قبل مديرية أمن السليمانية لوجودهم في القرى المحظورة أمنياً . وأثبت هنا النص الكامل لهذه الوثيقة التي اطلعت عليها منظمة مراقبة حقوق الانسان بعد أن حصلت عليها من الأحزاب المعارضة لنظام صدام حسين في شمال العراق في أعقاب انتفاضة عام 1991 .
النص الكامل للقرار ي ف / 4008 المؤرخ في 20 / حزيران / 1987 :
قيادة مكتب تنظيم الشمال

السكرتارية
التاريخ 20 / 6 / 1987
رقم المنشأ : 28 / 4008
{ مكتوب باليد } ش : 3810
من قيادة مكتب تنظيم الشمال
الى : قيادة الفيلق الأول / قيادة الفيلق الثاني / قيادة الفيلق الخامس
ختم : 3
23 / 6 / 1987
الموضوع : التعامل مع القرى المحظورة لأسباب أمنية .
بالنظر الى حقيقة أن الموعد النهائي المعلن رسمياً لتجميع هذه القرى سينتهي بتاريخ 21 حزيران 1987 قررنا وجوب اتخاذ الخطوات التالية بصورة فاعلة في 22 حزيران 1987 :
1 – أن جميع القرى التي لا تزال يتواجد فيها المخربون {عملاء ايران} سليلو الخيانة ستعتبر محظورة لأسباب أمنية .
2 – يمنع التواجد البشري والحيوانات بصورة تامة في هذه المناطق ، وتعتبر هذه المناطق مناطق عمليات عسكرية وباستطاعة وحدات الجيش اطلاق النار عند الرغبة من دون أية قيود ، اذا لم يكونوا مزودين بتعليمات أخرى من قبلنا .
3 – السفر من والى هذه المناطق يمنع منعاً باتاً ، جميع النشاطات الزراعية والعناية بالحيوانات والدواجن وكذلك النشاطات الصناعية ، ستكون محظورة وتراقب بدقة من قبل جميع الأجهزة المختصة .
4 – تقوم قيادات الفيالق بتنفيذ القصف العشوائي ، مستعملة المدفعية والطائرات السمتية والطائرات الحربية في جميع أوقات الليل والنهار ، وذلك لقتل أكبر عدد من الأشخاص الموجودين في تلك المناطق ويجب اعلامنا بالنتائج .
5 – سيحقق مع الذين يستسلمون الى الحكومة أو السلطات الحزبية من قبل الأجهزة المختصة لفترة أقصاها ثلاثة أيام ، والتي يمكن أن تمدد الى عشرة أيام اذا كان ذلك ضرورياً ، وعلى شرط أن نبلغ بمثل هذه الحالات ، وإذا تطلب التحقيق فترة أطول من الوقت . يجب استحصال موافقتنا بالهاتف أو في البرقيات أو من خلال الرفيق طاهر العاني .
6 – تعتبر جميع الأشياء التي تستولي عليها أفواج الدفاع الوطني { يعني الجحوش ، الميليشيات الكردية الموالية لنظام صدام } لهم ويمكن الاحتفاظ بها ما عدا الأسلحة الثقيلة والمثبتة والمتوسطة . يمكن الاحتفاظ بالأسلحة الخفيفة واعلامنا فقط عن اعدادها .
نسخة منه الى : رئيس المجلس التشريعي . رئيس المجلس التنفيذي . جهاز المخابرات { الخارجي } . رئيس أركان الجيش . محافظو{ رؤساء اللجان الأمنية } نينوى والتأميم وديالى وصلاح الدين والسليمانية وأربيل ودهوك . أمناء فروع حزب البعث للمحافظات المذكورة أعلاه . المديرية العامة للاستخبارات العسكرية / القاطع الشمالي / مديرية الأمن العامة / مديرية أمن منطقة الحكم الذاتي / منظومة الاستخبارات العسكرية / القاطع الشرقي / منظومة الاستخبارات العسكرية / القاطع الشمالي / مديرو الأمن لمحافظات نينوى والتأميم وديالى وصلاح الدين والسليمانية وأربيل ودهوك . لمعلوماتكم والعمل ضمن حدود سلطاتكم الخاصة ، اعلمونا
التوقيع

الرفيق علي حسن المجيد
عضو القيادة القطرية ، الأمين العام لمكتب تنظيم الشمال .


1988 . الأنفالات . بعض الهوامش

اترك الساعات
اترك الحديقة
اترك حبيبتك
اترك العطور
اترك الخزانة
اترك الأطفال في المحطات
تعال انظر الى جثث الأكراد ، الى أنهار دماء الأكراد
تعال انظر الى الجثث المجهولة في القرى والوديان وفوق الجبال
في جيشه كَه
وجمباره وك
ورايات
وديره لوك
وميركَه سور
وماوه ليان
وطقطق
وكوي سنجق
تعال انظر الى أجساد الأطفال والنساء والشيوخ الموشومة بالشظايا ومنظر فأر
يجرجر نفسه بعيداً عن جثة جندي قاتل وقتل فوق جبل كرده مند ، والفأر مكظوم مهضوم
حتى انه لا يستطيع أن يرفع كرشه المنبعج عن الأرض ،
الآن – يوجد هذا الرمادُ ، هذه الصرخات التي تصعد الى السماء ونجوم من الألم العميق
تسطع فوق أغنيتي المتورمة . متعباً ، جائعاً ، جريحاً ، أًََجبرتُ على صعود جبال كافرة ،
نزفتُ دمي وأيام شبابي ، ماذا جنيتُ سوى هذا الشقاء الرهيب وهذه الجروح التي لا تلتئم ؟
في إجازتي الدورية السابقة بعتُ معطفي العسكري في سوق { الهرج } بسبعة دنانير ، كنت
مفلساً وجائعاً ، كنتُ غائباً على الاجازة ثلاثة أيام وأخشى الاعدامَ ، لم آكل شيئاً ولم أدخن
سيكاره . صديقي الشاعر الذي يعمل في مجلة { حراس الوطن } ببغداد ، وينشرُ كل يوم
قصائدَ تمجد الحرب قال لي : - { اشتريتُ هذا اليومَ زبدة دانماركية وزجاجات ويسكي فاخرة }
وقال : - { عشيقتي اتصلت هاتفياً ، أخبرتني انها ستجلب لي ربطة عنق وبدلةً جديدة } قلتُ له
: - { أدخنُ روث الحمير وأغنياتي نهاقية ، أدخنُ روث البغال وحبيبتي سحاقية ،*
أنا لا أقول شيئاً عن سجوني ولا عن ملايين الفقراء
أجلس أياماً على حافة السماء وأحدقُ بلا انقطاع في دورة المياه
وعندما أذهبُ الى الجنة ، أسكرُ ولا أهدأ قط ، يظن الله انني على ما يرام
أما آمر الفوج فيظنُ انني مصاب بالحساسية ، والحقيقة انها عقابيل داء الجرب
الذي أصبتُ به عندما كنتُ نزيلَ سجن الموقع في أربيل }
انني متعبٌ الآن وأحاولُ اراحة ضميري لكنني لا أستطيعُ التخلي عن هاجسي
أحلمُ بالحصول على خيمة
أو عربة قطار قديمة
أو زجاجة عرق أحتسي نصفها في المساء
أحلمُ بالحصول على نصف متر من أرض الوطن
أقف فوقه كاللقلق في نومه .
مكتب المعلومات في مركز الشرطة يقول : { حدد مكان اقامتك , حدد مكان اقامتك }
أحلمُ بماذا ؟
سركوت عبد الله أعدمه رجال الاستخبارات في مقر الفيلق
دلشاد كاميران اختطفته دورية الأمن العام في دهوك وما زال غائباً
الشاعرة انخيدوانا هجرتني وتزوجت عقيداً متقاعداً من دائرة الأمن
{ جان دمو في حانة ولا أريده أن يصحو } .
صعدتُ جبالاً تحترق ، وصعدت السفوح . جفَ الدم وجفَ الخوف وما جفت الجروح .
في كَه لاله قبل العرض الصباحي للفوج كنتُ أمسح عيني وأمشط شعري بالمطر
وألمع جزمتي بزيتِ محركات السيارات وأتبولُ في برميل النفاية الموضوع في الملجأ
لأنني أخشى الظلامَ في الخارج ، وفي البيت لا أنامُ تحت المروحة لئلا تسقط فوق رأسي
ولا أتعرى في شلالات ديكَه له . خسارات العالم وأحزانها كلها في جيبي .
أصرخُ أو أنهقُ وسط مقبرةٍ مهجورة في قصره وك غيرَ مكترثٍ لاحتجاجات
الموتى . مطروداً من الحياة على يدي الحياة . أرسمُ في صراخي صورةً لحياتي
أو وجهَ امرأة أحببتها بعد خروجي من السجن الذي دخلته بسبب الهروبات المتكررة
من الخدمة العسكرية . كانت جميلة وتتغنج في الشعر. تركتني بسبب حبها للمال والبحث
عن الشهرة . كانت تقول لي : - {أنت شاعر مفلس مغمور . غجري متسكع . حمارٌ أحمر
ومحمور} كنتُ أقول لها : - { أنا أبحثُ عن ذهب الأزمنة } .
لا مقدسات
لا غفران
يقول الجنرالات : - { الموتى حيوانات انقرضت وتعفنت تحت التراب }
أنت مدنسٌ : { يقول الجنرالات } .
عظام محطمة تحترق في أحلامي
لمعان موت يخطف البصر ، وليل جرائم الطاغية . أنفاق لا أبواب لها .
أعمى تقودني العفونات من هاوية الى هاوية
لا نبع لي
لا سراج
أحملُ جثتي منذ عشرةِ أعوام في بدلة عسكرية . أحمل الخراب ويدي تقطر دماً
أحمل الترهات . طموحي أن أكون رأس عرفاء سرية ، على الرغم من انني شاعر.
انني متعبٌ الآن وأحاول اراحة ضميري .
عام 1988 في الأنفالات المشؤومة كان الطاغية يطارد الأكراد ومواشيهم بالطائرات
والمدافع الروسية وكان الجنود يدخنون تبغ راوندوز ملفوفاً بمنشورات الحزب
الشيوعي المحظورة.
هل تغفر له القبور التي هدمها في وادي شه لغة ؟
هل تغفر له الأكواخ التي أحرقها في قصره وك ؟
هل تغفر له الأشجار التي أجتثها في كاني ماسي ؟
جرائم دبقة تسطعُ فوق شمس البلاد الجريحة
جرائم عفنة
نيرانها تميتُ النهر والحديقة .

25 / 12 / 1990
13 / 1 / 1991 أربيل ديكَه له






الفصل السابع

معارك كوجار . كوردي هلكان . حلبجه

17 / 3 / 1988


عمليات الأنفال

الأنفال الأولى

حصاروادي جافاتي
23 شباط – 19 / آذار 1988




كانت سركَه لو الواقعة في وادي جافاتي الطويل والضيق والذي كانت تسكنه عشيرة { الجاف } الكبيرة . بلدة صغيرة تقطنها حوالي 500 عائلة { 3500} نسمة ، تبعد عن ناحية سوره داش المجاورة بنصف ساعة على طريق مفروش بالحصى . على الرغم من أن المنازل كانت مبنية من الطين والحجارة ، إلاّ أن الأهالي كانوا يتباهون بأن أرضيتها من الاسمنت وأن كل منزل تقريباً كان مزوداً بالمياه المأخوذة من الينابيع القريبة ، وعلى بعد ساعة سيرأ على الأقدام كانت هناك قرية هله دن التي تقطنها حوالي 350 عائلة . محاطة بالبساتين وفيها قوات من البيشمركَة التابعة الى الاتحاد الوطني الاشتراكي . في حوالي الساعة الواحدة والنصف أو الثانية من فجر يوم 23 شباط 1988 . استيقظ سكان قرية يا خسمر وبلدتي سركَه لو وبركَه لو على قصف الراجمات وهي تطلق قذائفها على بيوتهم ومن ثم شنّت قوات المشاة التابعة الى الفيلق الأول وقوات منتخبة من الحرس الجمهوري هجوماً كبيراً على جميع القرى الواقعة في وادي جافاتي من جميع الجهات ، وكان خط الجبهة يمتد أربعين ميلاً تقريباً من منطقة دربند على الجانب الشرقي من سد دوكان ومن هناك الى محافظة السليمانية وبلدتي ماوت وجوارته . وقد استطاعت قوات الاتحاد الوطني الكردستاني الصمود لأكثر من ثلاثة أسابيع على الرغم من الهجوم والحصار الذي قامت به القوات الحكومية وغارات الطيران الحربي وصولات قوات الحرس الجمهوري ، ولم يكن الهدف الأساسي للقوات التي زجّها علي الكيمياوي في هذا الهجوم هو مقرات قيادة البيشمركة فقط ، وانما جميع القرى الموجودة في وادي جافاتي والتي كان عددها يتراوح ما بين 25 الى 30 قرية ، واستناداً الى مصادر موثوقة حصلت عليها منظمة مراقبة حقوق الانسان عقب انتفاضة عام 1991 من تقاريرالأجهزة الأمنية التي خلفها نظام صدام في المنطقة ، فأن ما بين 200 الى 250 شخصاً قد قتلوا خلال هجوم قوات الحرس الجمهوري وحصارها للمنطقة ، معظمهم كانوا بيشمركه فعليين بعد أن أبدوا صموداً بطولياً رائعاً . في أوائل شهر آذار بدأت القرى تتساقط بفعل القصف العنيف للمدفعية الثقيلة والراجمات والطائرات السمتية والطيران الحربي والدبابات والمدرعات ، وعندما استطاعت القوات الحكومية تدمير خطوط دفاعات البيشمركه واقتحام القرى المنكوبة ، هرب أغلب الناس المدنيين باتجاه الحدود الايرانية . قامت بعدها الصنوف الهندسية التابعة الى الفيلق الأول بتدمير ونسف قراهم بالبلدوزرات والديناميت . على الرغم من نجاة معظم القرويين من هجوم الحرس الجمهوري وهروب البعض منهم الى السليمانية ، فأن أغلبهم فرّوا باتجاه الحدود الايرانية عبرالأرض الحرام المزروعة بالألغام ، وعلى الرغم من أسابيع الحصارالذي فرضته القوات الحكومية على وادي جافاتي فانه لم تحدث اختفاءات جماعية ،إلاّ أن الكثير من القرويين اختفوا في أواخر شهر نيسان وذلك بعد بضعة أسابيع من سقوط سركَه لو وبركَه لو . أخبر أحد القرويين من قرية هل دن منظمة مراقبة حقوق الانسان بأنه بعد ثلاثة أيام من هروب السكان من الهجوم . وجدت عائلته مأوى لها على الحدود داخل خيمة قدمها أكراد ايرانيون وتذكر قائلاً : { لقد بقيت عائلتي هناك لمدة شهر ، ثم قامت القوات الحكومية بعمليات انزال بالطائرات قرب الحدود في 20 نيسان وقاموا باعتقال جميع الناس الموجودين هناك ، ومن ضمنهم كل أفراد عائلتي . كانت هناك ثلوج كثيرة وكان جميع الناس منهكين } . فقد هذا الرجل 9 أشخاص من عائلته في ذلك اليوم ، من ضمنهم أمه ، اخواته الثلاثة . آخرون من الذين هربوا من الهجوم اختفوا أيضاً . ثلاثة أخوة من سركَه لو عادوا الى العراق بعد أن هربوا الى ايران لمدة اسبوعين وذلك على اثر سماعهم شائعات مضللة عن عفو عام للذين يعودون الى العراق ، وقد استسلموا الى أحد { المستشارين } في مجمع سنكَه سر ، لكن هذا المستشار قام بتسليمهم الى القوات الحكومية وبالتالي فأنهم لم يشاهدوا مرة أخرى ، وهناك مجموعة من خمسة عشر شخصاً من الهاربين من الخدمة العسكرية كانوا قد اختفوا في الجبال لبضعة أسابيع وقاموا بتسليم أنفسهم أيضاً الى{ المستشار } في قرية جه ره كَا وكان هذا المستشار قد أعطى العوائل التي هربت من الحصار والقصف كلمة شرف بأنهم سوف لا يتعرضون الى أي أذى اذا قامو بتسليم أنفسهم ، وقد تم سوق هؤلاء الخمسة عشر بعد تسليمهم أنفسهم الى معتقل مديرية أمن السليمانية حيث اختفوا الى الأبد .


قره داغ
22 آذار – 1 / نيسان 1988


على الرغم من أن حصار وادي جافاتي قد استنفد موارد هائلة من قبل القوات الحكومية التي يشرف عليها علي الكيمياوي ، إلا أن القيادادت العسكرية التي كانت تحت امرته لم تكن تستخف أبداً بصمود قوات البيشمركَه ، وكانت هذه القيادات تحاول دائماً أن تقطع الطريق عن أيّة محاولة من قبل قوات البيشمركَه لفك الحصار المفروض عليها في مناطق عدة من محافظة السليمانية وقد استمرت بشن هجوماتها ضد قيادات ومقرات أخرى مثل المقرالمتمر كزفوق جبل فوتي قره داغ والذي كان يتولى مسؤولية كامل العمليات في السليمانية وقد استمرت وتيرة هذه الهجومات والتعرضات في كل مرحلة من مراحل { الأنفال } عندما كان زخم الهجوم الرئيسي يقوم بتغيير مركزه الجغرافي . من المعلوم أن سلسلة قره داغ تتمتع بسحر طاغ ٍ ، وقممها الناتئة المسننة تمتد نحو 70 ميل على شكل خط مستقيم كحافة الشفرة ، لكن ميزات سحرها وفتنتها تجعلها غيرحصينة ضد هجومات القوات الحكومية ، وقد احتاجت قوات علي الكيمياوي من أجل سحق المقاومة في وادي جافاتي الذي تحيطه الجبال الشاهقة الى ثلاثة أسابيع للكثير من الفرق والألوية وأفواج الجحوش ، لكن سلسلة قره داغ كانت على العكس من ذلك . خط رفيع من الجبال تحيطه تقريباً الأراضي المنخفضة والتي يصعب الدفاع عنها ، ويقع الى الغرب منه سهل ته ره ميان أما { المنطقة الدافئة } الكثيرة التلال فتقع الى الشرق . حتى العام 1988 كانت هناك عشرات القرى الزراعية داخل الأودية الخضر ذات الخصوبة المذهلة ، وقد ازدهرت الحقول الشتوية للحنطة والشعير والتبغ والرز ، الى جانب المساحات الشاسعة الغنية بالباميا والبازلاء والفاصوليا الخضراء والطماطم والبطيخ والعنب . وهناك في الطرف الجنوبي البعيد يقع جبل زرده الذي يرتفع نحو 6000 قدم وقد كان حصناً منيعاً لقوات البيشمركه ، والى الشرق يقع ممر ضيق يوصل الى الطريق العام حيث محافظة السليمانية ماراً ببلدة دربنديخان والبحيرة التي هي بنفس الاسم . في الأيام الأولى للحرب مع ايران أرخى نظام صدام سيطرته على مناطق قره داغ الريفية ، لكنه قام في عام 1987 بتهجير السكان وترحيلهم الى مجمعي النصر وزراين واستولى بعد ذلك الجيش وأفواج الجحوش على المناطق المهجورة ، لكن قوات البيشمركَه استطاعت أن تطردها من المناطق التي تمركزت فيها مما جعل نظام صدام يقوم بشنّ غارات جوية انتقامية كثيفة وتدمير ما بقي من الحياة هناك . على الرغم من أن قوات البيشمركَه ظلت محتفظة ومسيطرة على هذه المناطق ، فقد ظل سكان القرى يتكيفون مع القصف المدفعي المستمر الذي كانت تقوم به مدفعية الميدان والمدفعية الثقيلة للفيلق الأول . في وقت ما من شهر شباط نفذت 8 طائرات حربية هجوماً كيمياوياً على قريتي ته كَيه وبله كَه جار وأسقطت الكثير من القنابل ، لا يعرف كم كان عددها وكان لها دوي هائل وقليل من الدخان شبيه بالملح المنثورعلى الأرض ، وقد ظهرت تقرحات على جلود القرويين الذين لمسوه وقد مات الكثير من الحيوانات التي أكلت الأعشاب الملوثة في الحال ، لكن لم تكن هناك ضحايا بشرية بسبب فرار السكان عند سمعوا أزيز الطائرات الى الملاجىء والكهوف ، وكان الحال كذلك في قرية بله كَه جار لكن الكثير منهم فقد بصره لمدة ثلاثة أيام . يبدو أن الهجمات الكيمياوية المستمرة خلال عملية الانفال الاولى ، والآن على قره داغ كان لها نفس التأثير الذي أراده علي الكيمياوي ، فقد أشار تقرير صادر من مديرية الاستخبارات ومؤرخ في 16 آذار وهو نفس اليوم الذي تم فيه قصف حلبجه أن { 12 مجموعة من قوات البيشمركه قد فرّوا من قواعدهم في مناطق من جنوبي كوردستان خلال الأيام القليلة الماضية وذلك خوفاً من هجمات كيمياوية اضافية } . في اليوم التالي أبلغت برقية سرية : { جاءتنا من مصادر سرية موثوقة بأنه قبل أيام قليلة تسلمت بيشمركَة الحزب الاشتراكي الكوردستاني ما يقدر ب 1500قناع من أقنعة الوقاية من الغازات السامة من العدو الايراني الصهيوني } لكن هذه التدابير الوقائية كانت ذات فائدة غير كافية ، فعندما وصلت عمليات الأنفال الى قرية سيوه سينان قامت قوات الجيش بواحدة من أكبر الهجمات الكيمياوية ضد الشعب الكوردي وذلك بعد يوم واحد من عيد النوروز . كان سكان هذه القرية يحتفلون بإيقاد النيران واطلاق العيارات النارية من بنادقهم في الهواء عندما سمعوا أزيز الصواريخ المنطلقة من الراجمات تتجه نحو بيوتهم في ساعة الغداء يوم 22 / 3 وقد قتل منهم ما بين 78 و 87 شخصاً . :{ حينما وصلتنا أنباء الغارة من الناس الفارين . ذهب الكثير من رجال قريتنا الىسيوه سينان لمد يد المساعدة } . هذا ما ذكره لمنظمة مراقبة حقوق الانسان المزارع عمر من قرية تكه يه وأضاف : { لقد شاهدنا جثث الذين قتلوا داخل القرية ، وساعدت في دفن 67 جثة بيدي هاتين في قرية كَوشك وذلك بعد نقلهم الى هناك بالتراكتورات . دفناهم جميعهم بملابسهم في قبر كبير في مقبرة حاجي ره كَه كما تم دفن 14 جثة أخرى في قرية استيلي سرو وكان هؤلاء قد ماتوا في الحال من جراء قصف الراجمات . كانت الدماء تنزل من انوفهم وكانت أدمغتهم كأنها قد تفجرت }. في اليوم التالي 23 / 3 قصفت الراجمات قرية دوكان ذات السبعين منزلاً وفي 24 / 3 تم قصف قرية جافران أيضاً بالأسلحة الكيمياوية من خلال الراجمات . كانت هذه الهجمات التي أفزعت القرويين جعلتهم لا يعودون الى بيوتهم إلاّ نادراً ، حتى أن الكثير منهم كان ينام في ملاجىء مؤقتة في الحقول . كانت منحدرات التلال في هذا الوقت تكتظ بالناس الفارين من هجمات القوات المسلحة التي يشرف عليها ويوجهها علي الكيمياوي . في 23 / 3 قامت ألوية المشاة التابعة للفرقة 43 تساندها أفواج من الجحوش وأفواج من قوات الطوارىء بشن هجوم كبير من 4 محاورعلى منطقتي قره داغ ودربنديخان . كانت الهجرة الجماعية للسكان العزل قد اتجهت نحو محافظة السليمانية حيث كانوا يأملون إيجاد أمكنة آمنة من هجوم الجيش أو في المجمعات الموجودة بمحاذاة الطريق العام الرئيسي ، لكن قوات الأمن وقوات الطوارئ قامت باعتقال الآلاف منهم وحشرتهم بعجلات إيفا حيث تم سوقهم الى مقرقوات الطوارئ في قريةجوار باخ بالسليمانية ، وكان هذا المقر يضم الآلاف أيضاً من القرويين المعتقلين الذين جيء بهم من قرى عدة في قره داغ . بقي الأسرى هناك نحو 3 أو 4 أسابيع وقد تم تعصيب عيون بعض المجموعات من الرجال الشبان وجرى فصلهم عن المجموعات الأخرى ، في حين أبعدت مجموعات أخرى الى أمكنة غامضة لكنهم أعيدوا الى جوار باخ مرة أخرى ، لم يقدم للمعتقلين الذين كانوا جياعاً وخائفين أي طعام ولم يسمح لهم بالتحدث مع بعضهم البعض ، وبعد أن أنهت عناصرقوات الطوارىء التحقيق الشكلي معهم وصادروا بطاقات هوياتهم وأشيائهم الثمينة . قامت بنقلهم بالشاحنات الى المراكز الأمنية في محافظة كركوك حيث اختفت أخبارهم الى الأبد . من بين نماذخ الاختفاءات الجماعية للسكان ، توجد هناك اختلافات لافتة للنظر ، فبعد أن اختفى الرجال البالغون والشبان المراهقين بعد القبض عليهم من قوات الجيش في الأنفال الأولى ، فان اعداداً ضخمة من النساء والأطفال الذين تم اعتقالهم في جنوب كرميان قد اختفوا أيضاً ولم يعثر عليهم أحد .




الفصل الثامن

باب الوجود . باب العدم


{ لماذا خلقنا أناساً
مادام موتنا سيكون موت حيوان ؟

نيكانور بارا شاعر من شيلي

{ هل للفتى من بنات الدهر من واق
أم هل له من حمام الموت من راق ؟

الممزق العبدي

{ ما يبقى يؤسسه الشعراء . . .

هولدرليين

1

أود هنا أن أتحدث عن الجزء المهم في تجربتي الشعرية ، وهو موضوع الموت الذي يشغل حيزاً مهماً عندي منذ سنوات . الموت بمعناه المخيف والخطر والبشع ، ثم الصديق ووجود للحقيقة الانسانية حسب تعبير هايدجر . يحدثنا اوكتافيو باث في كتابه{ متاهة الوحدة }عن البداية التي تبدأ فيها المرثية الثامنة من مراثي دوينو لريلكه ، ويقول: { أن المخلوق- الكائن في فطرته الحيوانية ، يتأمل المطلق ، على عكسنا نحن ، فنحن لا ننظر بالمرة الى أمام نحو المطلق . أن الخوف يجعلنا ننظر الى الخلف ونعطي ظهرنا للموت ، وبرفضنا تأمل الموت ننغلق حتما على الحياة التي تشكل كلا يحمل الموت في ذاته ، فالمطلق هو العالم الذي يتآلف فيه الضدان وينصهر فيه الضوء والظلام } . أن هذا المنظور يميل الى اعادة المعنى الأصلي للموت والذي قام عصرنا بتحطيمه وهو ، أن الحياة والموت ضدان متكاملان ، فهما نصفا محيط دائرة لا نستطيع نحن الخاضعين لزمان ومكان إلاّ أن نلمحه ، ففي عالم ما قبل الميلاد يمتزج الموت والحياة ، أما في عالمنا فيتعارضان وفي الأمد البعيد يعودان الى الاجتماع . الأمد والخلود ، ونحن نعلم بشكل مبهم أن الحياة والموت ليسا إلاّ مرحلتين متعارضتين ، ولكنهما مكتملتين لحقيقة واحدة . أن الخلق والفناء ينصهران في المواقعة وخلال جزء من الثانية يلمح الانسان حالة أكثر كمالاً ، أن حياتنا تدور بين الحياة والموت ، فبعد أن طردنا من رحم الأم نبدأ قفزة قاتلة ومغمومة بحق لا تنتهي إلاّ بسقوطنا في الموت ، فهل بالموت نعود إلى هناك ، الى حياة ما قبل الحياة ؟ هل الموت يعني أن نحيا من جديد حياة ما قبل الميلاد التي يتوقف فيها السكون والحركة والليل والنهار والأمد والخلود عن التعارض ؟ هل الموت هو التوقف المؤقت عن الوجود والبدء بصورة نهائية في الوجود المستمر ؟ أن كياننا يطمح الى الهروب من هذه التناقضات التي تمزقنا ، فاذا كان كل شيء { الوعي بالذات والزمن والعقل والتقاليد والعادات } يتجه الى أن يجعل منا المطرودين من الحياة ، فان كل شيء يدفعنا إلى العودة والهبوط الى الحضن الخلاق الذي اقتلعنا منه ، ونطلب من الحب الذي هو رغبة وتعطش للمشاركة وللسقوط وللموت مثلما هو للبعث ، نطلب منه أن يمنحنا كسرة حياة حقيقية وموتاً حقيقياً ، لا نطلب منه السعادة والسكينة ، بل لحظة ، لحظة فقط من الحياة المطلقة التي ينصهر فيها الضدان ، ويمتزج فيها الموت والحياة . أن الاستحالة المطلقة للوجود الانساني ، تكشف لنا عن عمق القلق الذي يغلف حياتنا ، ذلك لأنه بمجرد أن يوجد الوجود الانساني فانه يكون قد ألقي به بالفعل وسط هذا الامكان ، ويكشف ارتماء الوجود الانساني نحو الموت عن نفسه لهذا الوجود في ظاهرة القلق ، غير انه اذا كان الوجود نحو الموت ينتمي أساساً وأصلاً الى الوجود الانساني ، فمن المحتم اذن أنه يوجد كذلك في الحياة اليومية ، ذلك أن الذات في غمار الحياة اليومية هي { الانسان} فكيف يفسر الانسان وجوده نحو الموت ؟ انه يعرف الموت باعتباره كذلك ، أي بحسبانه موتاً ، وكواقعة يومية ويعرف أن المرء ميت يوماً ما ، لكنه لا يشعر بالانشغال أو بالتهديد ، والواقع أن القول بأن المرء يموت انما يعني { أن يموت الجميع ما عداي } وهكذا فان حدث الموت يتم التدني به الى مستوى حدث لا يؤثر { فيّ أنا } وعملية تمويه الموت تلك ، هذه المراوغة لفكرة الموت تسود في عناد الحياة اليومية العادية وهي تمضي الى حد دمغ التفكير في الموت باعتباره { خوفاً وهروباً معتماً من العالم } غير أن هذه اللامبالاة المترفعة في النظر الى الموت تجعل الوجود الانساني يغترب عن امكانية وجوده الأصلية ، وهذه التهدئة التي يتسم بها هذا الاغتراب ، وهذا الفرار الدائب من الموت ليس أمرا ممكنا إلاّ لأن التيقن من الموت يمضي جنبا الى جنب مع الافتقار الى اليقين فيما يتعلق بموعد حلوله ، لكن الوجود الانساني يتم تسليمه بالفعل دائما للموت ، فهو يموت من دون توقف ، وبينما يوجد الموت بالنسبة للوجود الزائف غير الأصيل في أعلى درجة من الترجيح ولكن من دون يقين حقيقي ، بل واذا شئنا الدقة لقلنا أن له يقينا تجريبياً فحسب وهو ما يقل عن اليقين القاطع الذي يمكن الوصول اليه في بعض قطاعات المعرفة النظرية ، نجد أن الموت يفهم بعناد في الوجود الأصلي نحو الموت باعتباره { امكانية استحالة الوجود } والموت بحسبانه مثل هذه الامكانية الأكثر تخصيصاً وتطرفاً والتي في غمارها { يعد الوجود الانساني سابقا ذاته } وبحسب هايدجر فأن الوجود الانساني ينفتح في الفكر وهو يعدو قدام نفسه نحو موت مؤكد- على تهديد هذه الامكانية المطلقة ، وينكشف هذا التهديد المستمر من خلال القلق ، فالوجود نحو الموت هو أساسا { قلق ، وفي غماره يجد الوجود الانساني نفسه أمام عدم الاستحالة المحتملة لوجوده } فهو يجعل الوجود الانساني أمام امكانية أن يكون ذاته ، وهنا نجد ما يمكن ان نعتبره رد هايدجر على الموت ، فالمخلوق المفعم قلقاً يصمم على أن يأخذ الموت على عاتقه ويصل الى [حرية الموت المثقلة بالقلق] ، يبدو رد هايدجر على الموت في المقام الأول باعتباره المرحلة الأخيرة من الاتجاه المألوف لنا بالفعل للنظر الى الموت ، لا باعتباره انقطاعاً مفاجئاً وانما بوصفه كامناً في الحياة ولصيقاً بها ، أما عند الشاعر الاغريقي تيوجنز البيجاري في قصيدته { تسبيحة ميجارا } القرن السادس قبل الميلاد ، يجري التأكيد على أن الموت هو فناء شامل ، وهو من المتشائمين العظام الذين يظهر في أعمالهم القول المأثور الذي يتكرر كثيرا والقائل { خير ألا يولد المرء على الاطلاق ويلي ذلك في الخير أن يموت المرء بأسرع ما يمكن } ويضيف في هذا الصدد قوله { للمرء أن يرتاح والتراب يحيط به عن كثب } غير أن القول المأثور ذاته حول ألاّ يولد المرء ، يتعين فهمه لدى يوربيدس لا كاشادة بالعدم وانما في الاطار المرجعي الأورفي ، أي كتحقيق للأفضلية الأصلية للروح والمتمثلة في عدم التقيد بالجسد والالتزام الالهي ، وسيكون مما يثير الاهتمام البحث في جذور هذا التشاؤم الذي أبداه الاغريق الأوائل والذي جعلهم يقولون بأن من الأفضل للمرء أن يموت على أن يبقى على قيد الحياة { هوميروس ، الالياذة ، الكتاب السابع عشر ، هيرودوت ، لقاء سولون بكروسيوس } وذلك لا يرجع فحسب الى استحالة تحقيق السعادة وانما بسبب قصر الحياة على ما في ذلك من مفارقة .

2

والآن- ما هو الموت الذي تصالحت معه ولم يعد يخيفني أو يشعرني بالأسى والتعاسة ؟
قبل الاجابة من منظور فكري ، سأتحدث عن تجارب شخصية مررت بها مع الموت كشيء خطر ومخيف ، قبل أن أكتشف حقيقته الأليفة ، الانسانية ، اللامرعبة ، فيما بعد .
في أربيل ، فوق جبل كرده مند ليلة 13 / 5 / 1986 أثناء هجوم للجيش الايراني على وحدتي العسكرية التي كنت أخدم فيها مجنداً ، كان الموت قد تراءى لي لأول مرة معرى من جميع أقنعته ، وكنت قد عرفته فيما مضى من خلال موت الأقارب والأصدقاء وبتعبير أدق لم يكن موتي أنا بالذات . كيف اكتشفت موتي الخاص ؟ اكتشفته في اللحظة التي بدأ فيها ذلك الانفلاق الجوي لقذائف المدفعية الثقيلة الشبيه بالمطر الغزير ، يسقط فوق رؤوسنا ونحن نحتمي في ملاجىء وحفر مليئة بالمياه ، وأتذكر أن صديقي الجندي الملتصق بي في تلك اللحظة اللعينة ، كانت أسنانه تصطك وجسده يرتعش من شدة الخوف ، خوف الموت ، لكنه كان قد قتل فعلاً بسبب أمطار الشظايا الحامية التي راحت تحفر في رأسه وأجزاء من جسده المحموم . في تلك اللحظة عرفت معنى أن يموت الانسان وحيداً ، غريباً ، خائفاً ، كان موت صديقي عبثياً بلا شك ومن دون رحمة . توجب علي لحظتها أنا المرتعد والخائف اكثر منه ، أن أدافع عن حياتي ضد هذا الموت الذي أراه لأول مرة ، كنت وأنا أتلمس جثة صديقي المحفرة والمهدمة . أبصر صورة حياتي التي يحدق فيها الموت ، ماداً مخالبه القاسية من دون شفقة ، وما بين خوفي وضعفي الانساني من أن أموت مثل صديقي هذا ، وما بين الهروب من ساحة المعركة وترك الموضع الدفاعي . تلبستني حالة شبيهة بالهستيريا إن لم تكن هستيريا حقيقية . كانت الأوامر العسكرية الصارمة للقائد العام للقوات المسلحة { صدام حسين } تنص على عدم اخلاء الجرحى والقتلى من ساحة المعركة ، لحين انجلاء الموقف . لكن متى ينجلي الموقف وزخم الهجوم الايراني يزداد شراسة ضد مواضعنا فوق هذا الجبل الأجرد الذي التهم الآلاف من الجنود منذ عام 1983 تاريخ أول احتلال ايراني له ؟ الشيطان وحده يعرف متى ينجلي الموقف . هل خطر ببالي في تلك اللحظة موت انكيدو وبكاء صديقه جلجامش عليه ؟ ربما ، { يبدو أن تجربة الموت في ملحمة جلجامش تتجاوز اكتشاف حتمية الموت ، فهناك اشارة الى طابعه النهائي وتتسم هذه التجربة بالشعورين المتداخلين زمنياً بخشية الموت وعقم الحياة ، الأمر الذي نلقاه في وقت لاحق لدى القديس اوغسطين في أعقاب موت أقرب أصدقائه اليه في{ الاعترافات} الكتاب الرابع ، ومن الأمور التي تدعو للاهتمام ، مقارنة رد فعل جلجامش للاستجابة العادية من جانب الرجل البدائي تجاه موت صديقه حيث يكون الاندفاع الأول متمثلاً في التخلي عن الجثة والفرار ، لأن الميت قد غدا شيطانا بوسعه أن يقتل } بالنسبة لي في تلك اللحظة ، استجمعت ما تبقى من شجاعتي ، ان كانت لي شجاعة وقررت الهروب من تلك الحفرة- القبر ، لكن الى أين والطريق الوحيد في قاطع حاج عمران تترصد ني فيه { لجنة الاعدامات } المكونة من الحزبيين ورجال الاستخبارات في مقر الفيلق الخامس والتي كان النظام يسميها لجنة متابعة المتسربين . كان هناك طريق نيسمي ضيق يقع في حقل كبير للألغام ، سرت فيه على حذر مضطراً وأنا أتوقع في كل ثانية أن تتناثر أشلائي في الهواء بفعل لغم مزروع . كان هذا الطريق مرصود من قبل جنود القناصات في الجانب الآخر ، ولم يطرقه أحد سواي . بعد تعب شديد استمر ساعات طويلة وخوف جهنمي وجدت نفسي أعبر لجنة الاعدامات ، وحين وصلت الى الموقع الخلفي لوحدتي العسكرية في منطقة ديانا حيث حياة الناس العادية البعيدة عن الموت الخطر ، المجاني . قررت أن لا أموت في الحرب أبداً ، وهكذا كنت في كل معركة تخوضها وحدتي مع قوة ايرانية في جميع الجبهات ، أهرب حال التقدم صوب ساحة المجزرة . الى أين ؟ الى الجحيم . كنت شأني شأن الآخرين الذين اكتشفوا موتهم نقدم دائماً الى المحاكم العسكرية المختصة بعد الهروب الذي يستمر شهوراً والعودة بعفو لاحقاً ، والتهمة دائما هي التسرب من المعركة وترك الموضع الدفاعي . حتى الآن- كان الموت قبل أن أكتشفه معرفياً في زمن لاحق ، يبدو لي مجرد خطر كبير محدق بحياتي الفقيرة ، لكنه كان أشد هولاً في الشهور الأولى من عام 1987 عندما تم تعميم برقية عسكرية من القائد العام للقوات المسلحة على جميع وحدات الجيش العراقي البالغ عددها 7 فيالق ، تطلب من كل فوج ضرورة الاسراع ومن دون تأخير باعدام 4 من الجنود الذين لديهم تسربات كثيرة ليكونوا عبرة للآخرين ، وكانت مناسبة تعميم هذه البرقية هي اعلان ايران عن عام الحسم الذي توقعته انه سيكون لصالحها وكثرة الهجمات على قاطع البصرة والقاطع الشمالي وقد تسرب الآلاف من جنود الجيش العراقي من وحداتهم أثناء تنقلاتها من قاطع الى قاطع للمشاركة في المناوشات التي تجري هنا وهناك وهاموا على وجوههم في البراري والصحارى والأهوار . وفي يوم شتائي كئيب من ذلك العام أخبرني أحد ضباط فوجي الاحتياط همساً واشفاقاً ، ان آمر سريتي قد أدرج أسمي في أول القائمة التي أعدها آمر الفوج للاعدام وهنا ضاقت الدنيا علي ورحت أخاطب موتي الوشيك وأنا أتمثل ببيت النابغة الذبياني : { فأنك كالليل الذي هو مدركي وان خلت ان المنتأى عنك واسع } . ما العمل الآن والخطر الشاخص أمامي جعلني أعرف لأول مرة في حياتي معنى { ارتعدت فرائصه }؟ هل أسمح لنزوات ودموية جنرالنا المزعوم أن تعدمني الحياة ؟ طبعاً لم تكن لدي الجرأة الكافية في تلك اللحظة المشؤومة ان أنتحر . اذن لم يبق لي سوى الهروب ، هروب اليائس من هذا الموت المجاني الذي لا معنى له . هربت في الحال من الثكنة من دون أن يشعر بي أحد ورحت أتسلق جبل مام روتا الشاهق حاملاً معي حقيبتي التي ضمت قصائد وكتباً وبعض الطعام وعصا أتوكأ عليها وتعينني على تسلق الصخور المسننة . كان جبل مام روتا القريب من قضاء جومان المهدم يبدو أمام خوفي الكبير أشبه برابية ، لكنني ما أن بدأت أتسلقه حتى اكتشفت انه أشبه بمتاهة شيطانية . استمر عبوري له عدة أيام بلياليها قضيتها بين الجوع والعطش والخوف الذي لا يوصف حتى وصلت الى منطقة أخرى ، بعد أن عبرت سيطرة استخبارات الفيلق الخامس . في بغداد بعد أن سكرت في اتحاد الأدباء ونمت في غرفة الحارس . لم أذهب الى البيت في اليوم التالي خشية أن يرسلوا من يقبض علي ويقودني مخفوراً الى ساحة الاعدام . ذهبت الى أقاربي في الناصرية الذين تولوا ايصالي الى منطقة الأهوار وبقيت هناك الى أن التحقت بموجب عفو سري . في وحدتي بعد التحاقي من الهروب اكتشفت أنهم نفذوا حكم الاعدام بالعريف المتطوع { طاهر } بدلاً عني لقيامه بالتسرب مرتين .


3

في حديقة سعدي يوسف

اكتشفت هذه الكلمة
عندما كنت أتأمل شجيرة الحبق الوحيدة في حديقة سعدي يوسف
اكتشفتها في اللحظة التي تذكرت فيها ذلك الكوخ المنعزل في راوندوز
الذي قصفته مدفعية ميدان الفرقة 23 عام 1986 وقتل فيه شاعر كردي
هذه الكلمة التي اكتشفتها
فككت لي المعنى الغامض لهذه الجبال التي عبرتها عدة مرات
حاملا فوق رأسي نذر النسور
أيّ لهب كانت تخفيه هذه الكلمة ؟
أحياناً كانت تغطسني في بئر من الدماء وتعلمني المعصية
وأحياناً أخرى كنت أخونها فتهرب مني لائذة بصمتها
الذي يعذب صرخات العالم :
ليل الأبدية يضيء مقبض القصيدة
ويزيح الموت عن طريق الشاعر .

بعد نهاية حروبنا العدوانية وتسريحي من الجيش ، رحت أتأمل تجربتي الشعرية بكل أبعادها وكنت قد أنجزت 9 مجموعات شعرية ، توجب علي بعدها أن أحرق 7 منها باعتبارها تمرينات لما هو لاحق . كان الموت في تجربتي هو الشاخص باستمرار ، ولكن أي موت ؟ لست أدري . كان الموت الخطر ، المخيف ، هادم اللذات ومفرق الجماعات على حد تعبير ألف ليلة وليلة . في حديقة سعدي يوسف بعمان عام 1997 أثناء ظهيرة شراب معه وكنا نتحدث عن الموت في الشعر الجاهلي . شرد ذهني ربما بفعل الشراب وكانت الجلسة طويلة . تركته يتحدث مع حسب الشيخ جعفر وهادي الحسيني ورحت أتأمل شجيرة الحبق الوحيدة في الحديقة التي كنا نغير لون وطعم الفودكا من خلال وضع ورقة منها في القارورة . في هذه اللحظة تذكرت مقتل شاعر كردي في منطقة راوندوز وبين انثيال الذكريات المرة والأسف لمقتل هذا الشاعر . تذكرت قصيدة هولدرلين التي يقول فيها { ما يبقى يؤسسه الشعراء } عرفت حينها أن الشاعر لا يموت بل يبقى عائشاً في الزمن وخارج الزمن ، وذلك الشاعر الكردي القتيل لم يمت بل ينطبق عليه قول البياتي في قصيدته { رؤيا في بحر البلطيق } المكتوبة عام 1974 : { يموت الدكتاتور ويبقى الشاعر } .

4


لماذا يخاف الانسان الموت ، رغم أن ابسط تأمل للحياة يظهر بجلاء أن الحياة{ عوز وتعاسة وبؤس وأسى } ؟ لماذا يعتبر الموت { الشر الأعظم وأسوأ عقاب يمكن التهديد به } ؟ ولماذا يعد الخوف من الموت { الخوف الأعظم } ؟ يذهب شوبنهاور الى القول بأن الألم النابع من الموت لا يمكن أن يكون هو ما نخافه ، حيث أن الألم ينتمي الى المرض والشيخوخة ، أي الى الحياة ، ويقول : { أن ما نخافه في الموت ليس هو الألم فهو يكمن بوضوح في هذا الجانب وعلاوة على ذلك فأننا غالبا ما نلوذ برحاب الموت من الألم تماماً على نحو ما نتحمل أكثر ضروب المعاناة افزاعا لنتقي الموت . أن الموت والألم شران متميزان } وعلاوة على ذلك فان الموت بالنسبة للشخص المحتضر هو لحظة الانشطار التي يتوقف فيها وعيه ، فهو شعور يشبه الاغماء وهو ليس سوى مشهد كريه ، وبالمثل فان فكرة اللاوجود ليست هي التي تجعلنا نخاف الموت وإلاّ لكنا فيما يقول شوبنهاور : { سنفكر كذلك بفزع في الأوقات التي لم نكن موجودين فيها بعد . إن ما نرهبه في الموت هو نهاية الفرد ، تلك النهاية التي يظهر الموت فيها ذاته بجلاء ، ولما كان الفرد هو تموضعا خاصاً لارادة الحياة ذاتها ، فان طبيعته بأسرها تكافح ضد الموت } اذن ففي الارادة يكمن الخوف من الموت ، ويبدو أن ثمة مفارقة في تأكيد شوبنهاور أن الوعي الذي يعرف الموت والذي يدمره ، لا يخشى الموت ، غير أن الحقيقة فيما يقول شوبنهاور هي انه كما أن الشخص الذي يطالع صورته في المرآة لا يفنى حين تتهشم المرآة ، فكذلك لا تتهشم الارادة حينما يفنى الفرد ، أما ذلك الذي يتأثر ويحيق به الدمار- أي الوعي والعقل- فهو لا يشعر خوفاً لأنه عاجز عن استشعار رغبة أو انفعال ، وبالتالي فانه لا يبالي بالوجود ، وبتعبير آخر فانه أياً كانت التناقضات المتعلقة بمصادر الخوف من الموت ، فان الأمر الهام هو أن هذا الخوف فيما يقوله شوبنهاور : { لا أساس له حتى وان المرء لا يشاركه رؤيته المتشائمة للحياة ولا يرغب في الهرب من الموت } ذلك لأننا لا نفنى عليه ، فالارادة اذن هي التي تسبب التعاسة من ناحية ، وتضع من ناحية أخرى عقبة كأداء في طريق الهرب من بؤس الوجود في صورة الخوف من الموت .

5


يقول فؤاد رفقة في بحث له ، وهو شاعر أكن له احتراماً كبيراً أن الموت { وجود الحقيقة الانسانية في النهاية } وهذا يعني أن الحقيقة الانسانية { وجود للموت } أي أن الموت نهاية وجودها لذا هي تموت في كل لحظة ، لأنها في كل لحظة تتجه في سيرها صوب نهاية طريقها في الوجود . يبدو فؤاد رفقة في اجابته هذه متأثراً بهايدجر من خلال كتابه { الوجود والزمن } الذي صدر عام 1927 ، وكان رفقه قد قدم أطروحته الى جامعة { توبنغن } وقد تناوله بصورة رئيسية ، والآن- ما هي أهمية مصطلح { الوجود الانساني } بالنسبة للبحث الانطولوجي الذي قام به هايدجر . انه يقول : { بقدر ما يكون الوجود الانساني انسانيا فحسب ، يكون وجوداً هناك } هنا لا يتعين أن يفهم ذلك بمعنى النزعة الذاتية أو المثالية فهايدجر لا ينكر واقعية العالم الخارجي ولا يريد القول بأن الوجود هو نتاج الانسان ، أو انه ما يمكن أن يستمد من الوجود كوجود انساني ، ولكن الوجود العام والوجود الانساني على نحو ما يفهم هايدجر هذا المصطلح ، يحتاج أحدهما للآخر ، فالانسان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدمية العالم التي تهوي و { الانسان ممثل العدم } والوجود والعدم ينتمي أحدهما للآخر ، لأن الوجود متضمن في العدم ، فهو يقدم في حجاب ، والعدم الذي يضعنا القلق أمامه يكشف عن الوجود الانساني الذي تعد صفته الأساسية { الارتماء في أحضان الموت } . كيف تنفعل الحقيقة الانسانية عند مواجهتها حقيقة موتها بالذات ؟ أن الطريقة التي تنفعل بها هي الرفض ، ويأتي هذا الرفض عادة من جانب معظم الحقائق الانسانية ، فالحقيقة الانسانية وخاصة العادية لا تقوى في بداية الأمر على احتمال هذه الحقيقة والقبول بها ، فتهرب الى الوجود حيث تحتمي وتتخدر ، لكن هذا لا يعني مطلقاً أن كل من يغوص في التيارات الوجودية يكون قد مر بلحظة المواجهة بصورة واعية ، ذلك لأن هذه المواجهة لا تصيب بصورة مباشرة إلاّ { القلة الخلاّقة } وطريقة أخرى تتجسد فيها هذه المواجهة هي التحديق في الموت . ماذا عن الحقيقة الانسانية التي تقوى على هذا التحديق ؟ انها تلاحقه وتعرف أن مهمتها على طريق وجودها هي أن تتعلم محبة الموت والاستسلام اليه ، ولكن مهما يكن من أمر فالحقيقة الانسانية رفضية كانت أم مستسلمة . هاربة من الموت أو منحدرة اليه ، وفي كل ما تفعله تحاول دائماً مقاومة زمنيتها . غير أن هذه المقاومة كثيراً ما تكون حركة لا واعية ، وكونها حركة لا واعية لا يضعف من صحة هذا القول بل هو دليل على انها متجذرة في الوجود الانساني ، واذا كان هذا الوجود انطلاقاً الى الموت ومقاومة هذا الانطلاق في آن واحد . يكون السؤال ، كيف تتم هذه المقاومة ؟ يجيب فؤاد رفقة : { طريقة أساسية لمقاومة حقيقة الموت ، هي الكلمة الشعرية ، ذلك لأن الحقيقة الانسانية زمنية وكل موجود زمني يتحول وكل تحول يعني الانتقال من حالة الى حالة ، وهذا الانتقال يعني بدوره عدم القدرة على اعادة اللحظة } لكن ما هي التجربة التي تستطيع أكثر من سواها أن تتخطى الزمنية ، أن تتخطى ما كان ، لن يكون ثانية ؟ الجواب : التجربة الشعرية . لكن لماذا ؟ يجيب فؤاد رفقة أيضاً : { في هذه التجربة يصعد الشاعر من الوجود العادي ويرتفع كما يرتفع الطائر مسترخياً في الهواء ، فيرى بفرح وامتلاء كل شيء متعاطفاً مع كل شيء بمحبة وانفتاح حيث يكتمل الوجود . في هذه اللحظة يصير الشاعر وهو في الوجود الزمني - لا زمنياً - أي فوق الموت وخلفه ، يصير هذا لا بارادته بل بنعمة تضيء فسحة وجوده كالشمس التي تضيء فرجة في غابة كثيفة } ولأن الكلمة الشعرية كما يقول هايدجر { محكي خالص } فأنها تضيء من خلالها الأشياء بصورة ممتازة في عريها وتعلن ذاتها للوجود الانساني ، لأن الكلمة الشعرية هي الأنقى والأصفى بين الكلمات . ينفتح عليها أكثر من سواها أفق السماء والأرض { أفق الوجود } وينزل فيها الى الوجود الانساني ، وفي هذا النزول تترجرج حضارة الشاعر لأن الكلمة الشعرية تفتتح جهة جديدة على هذه الأرض ، الكلمة الشعرية علامة ونقطة تحول { هؤلاء الادلاء هم الشعراء } يقول هايدجر وفي مكان آخر يقول { الشعر هو تأسيس كلامي للوجود } ولأن الكلمة الشعرية تبقى الى الأبد يقول هولدرلين { ولكن ما يبقى ، يؤسسه الشعراء } .


الفصل التاسع

مقتطفات

السجن- الحب
{ انخيدوانا الشفيعة }

يضفي العاشق أهمية زائفة على من يحب

1
حين انتهت الحرب العراقية – الايرانية . كنت هارباً من وحدتي العسكرية وأحيا متخفياً هنا وهناك . وبما أن وظيفتي السابقة قبل بداية الحرب كانت في احدى دوائر وزارة النفط فقد كنت أتدبر بطريقة ما ، نموذج الاجازة المزور من أجل ان استلم راتبي من دائرتي والذي يصادف يوم 23 من كل شهر . كانت القوانين والأوامر الشديدة تقضي انه في حالة القاء القبض عليّ أثناء هروبي من الخدمة العسكرية فيتوجب عليّ بعد تقديمي الى محكمة عسكرية مختصة والتي ستحكم بسجني أن أعيد كل المبالغ التي تسلمتها أثناء فترة هروبي الى الدائرة . عند نهاية الحرب وفي منمتصف الشهر التاسع من عام 1988 التحق آلاف الجنود الهاربين من الخدمة الى وحداتهم بموجب العفو الذي أصدره وزير الدفاع عدنان خير الله آنذاك . التحقت في هذا العفو الى وحدتي التي كانت تقوم بمهمات التدريب في منطقة قصري بقضاء جومان ووجدت الكثير من الجنود الهاربين مثلي قد التحق قبلي . بعد أيام ألغى صدام قرار العفو هذا كما هو معروف للجميع وجاءت التعليمات بمنع الاجازات عن الجنود الهاربين الذين التحقوا الى وحداتهم لحين تقديمهم الى المحاكم . في الشهر الحادي عشر بعد أن حرروا لنا المجالس التحقيقية تم تقديمنا الى محاكم عديدة ضمن قاطع الفيلق الخامس . ذهبت مخفوراً برفقة جندي مأمور الى المحكمة الدائمية 23 في الموصل . أصدرت المحكمة حكماً ضدي يقضي بحبسي حبساً شديداً لمدة 6 شهور واسقاط رتبة أعلى { كنت نائب عريف } واعتبار جريمة هروبي مخلة بالشرف . كان المألوف أن يسمح المأمور الذي يخفر الجندي المحكوم اذا كان واثقاً من عدم هروبه ويعرف عنوانه ، أن يسمح له بتمضية يومين أو ثلاثة يزور فيها أهله قبل الذهاب الى السجن . عدت الى بيت أهلي ومن ثم التقيت أصدقائي الشعراء في مقهى حسن عجمي وبعد يومين ملأت حقيبتي بالكتب وذهبت بصحبة المأمور الى سجن الموقع بأربيل . كان السجن الذي يشرف عليه عناصر الاستخبارات في ألوية الفيلق المختلفة ، أشبه بجهنم وربما أقسى منها . غرف صغيرة تم حشر الجنود فيها بقسوة بالغة . الغرفة تتسع لعدد محدود جداً ويسجن فيها أكثر من 25 شخصاً . واذا وضع أحدهم ساقه أو مؤخرته أو ضرط فوق رأسك فهذا شيء عاي . كنا ننام بصعوبة وفي النهار يسمح لنا بالخروج من الغرف لغرض تنظيفها وتعقيمها بالديتول بشكل يومي . والمصيبة الجهنمية التي كانت تواجهنا صباح كل يوم هي طريقة ذهابنا الى المراحيض . توجد في السجن 3 مراحيض ويبلغ عدد السجناء أكثر من 400 سجين . كان يسمح لكل 7 أو 9 جنود بالتبول سوية من أجل افساح المجال للآخرين . وكانت السياقات اليومية المعتادة للسجن الذي بدا لي أشبه بقلعة من قلاع القرون الوسطى ، تقضي بقيام السجّانين بعملية التعداد الصباحي للسجناء وتوزيع الأطعمة والتنظيف وتنتهي بالتعداد المسائي وبعدها يتم اغلاق الغرف . كانت اذا بدرت من أيّ سجين علامة غضب أو تأفف بسبب الأوضاع اللانسانية في السجن أو تشاجر مع سجين آخر لسبب ما تافه وبسيط . يتم تجريده من ملابسه واخراجه الى ساحة السجن معرى ، حيث يقوم السجاّنون بأبشع عملية تعذيب ضده لتأديبه حسب زعمهم ، ويتم ضربه بالسياط وحين يخرج الدم من جسده يقومون برش الملح على الجروح ويواصلون الضرب وسط صراخ وبكاء السجين العاري ، وهذه الأشياء التي كانت تحدث في سجن الموقع بأربيل يعرفها كل من أوقعه حظه العاثر في ذلك السجن . بعض الجنود الذين تعرضوا لتلك العمليات الوحشية وظلت آثار التعذيب بادية على جلودهم ، قاموا بعد تسريحهم من الخدمة العسكرية بتعقب أولئك الذي عذبوهم واغتالوهم في مدن مختلفة من العراق . قبل دخولي السجن لم أكن أعرف أي شيء عن داء الجرب المعدي الذي يتسبب فيه الظل والظلام والاقذار . حين أصبت بهذا الداء اللعين بعد أسابيع تم عزلي في غرفة مخصصة للمصابين الآخرين وكان يسمح لنا بتمضية وقت أطول في الشمس وتعريض جروحنا لحرارتها. لكن أين هي الشمس والفصل شتاء ؟ في هذه الغرفة التي كانت تضمنا نحن المرضى ، استطعت أن أقرأ بشكل جيد لكن الحساسية الشديدة التي كانت تداهمني في الليل عند حلول الظلام ، كانت تسبب لي ألاماً شديدة ولم تنفع معها تلك الأقراص التي كنت ابتلعها ولا ذلك المرهم الذي كنت أدهن فيه المناطق الحساسة من جسدي . جاء المرحوم العجوز أبي مرة واحدة الى السجن وكان أخوتي الثلاثة جنوداً مثلي ويمضون خدمتهم العسكرية في وحدات وقواطع أخرى والبعض منهم هارب من الخدمة وكان أبي يعاني المصائب . كانت السعادة القصوى التي أشعر فيها في تلك المحنة هي زيارة صديقي الطالب في جامعة صلاح الدين رزاق علي الذي يعيش هنا الآن في السويد . كان رزاق حين يزورني يحمل معه الكتب والصحف والمجلات وأخبار وتحيات الأصدقاء الشعراء والكتّاب في بغداد . وكان يجلب لي الأطعمة الجيدة ويمنحني المال ويواسيني دائماً . كان بعض السجناء ممن يقدر على دفع الرشوة يتم تعيينه بصفة { عنقرجي } من قبل ادارة السجن ولم أكن أفهم معنى كلمة العنقرجي التركية الأصل في البداية . كنا نقول في العامية عن الشخص الذي يأمرنا بعنجهية : { لا تتعنقر علينا } . يسمح للعنقرجي الذي يكون واسطة أحياناً بين السجناء وادارة السجن بالذهاب الى الأسواق والاستحمام في الحمامات ودور السينما التي كانت تعرض الأفلام البسيطة في أربيل كما يسمح له بشراء ما يطلبه السجناء من خارج السجن ويستطيع زيارة بيته متى ما شاء باتفاق مع مسؤول السجن ، أي انه يتمكن من خلال دفع الرشوة بتمضية مدة محكوميته خارج السجن . أغلب الجنود الذين يأتون الى السجن لتمضية فترة عقوباتهم . تنهض عواطفهم الدينية في الأيام الأولى للسجن ويقومون بتأدية الصلوات وقراءة القرآن والحديث في الأمور الدينية ، وبما انني غير متدين فقد كنت أعاني صعوبات مع هؤلاء المساكين الذين يلوذون بالدين في السجن وينسونه في اليوم الأول لخروجهم منه . كان البعض يعتبرني ملحداً ويحاول الوشاية بي الى السجّانين اذا لم تعجبه آرائي ، وكنت أموت من الرعب اذا حاول أحدهم ذلك . كانت أفضل طريقة لدي هي أن اعتذر منه واعارته رواية لا يفهمها أو مسرحية أو أي كتاب آخر من أجل امتصاص نقمته وغضبه وحرصه الشديد على إلهه الذي تذكره حين جاء الى السجن . في بداية الشهر الخامس من عام 1989 انتهت مدة محكوميتي وتم اطلاق سراحي من السجن . ذهبت الى وحدتي التي استولت هي ووحدات أخرى على بيوت الناس من أبناء الشعب الكوردي في منطقة ديبه كَه الواقعة بين كركوك وأربيل بعد عمليات الأنفال القذرة التي قامت بها ألوية الحرس الجمهوري وتم فيها ابادة وتهجير السكان الأصليين وعقابيل داء الجرب ما زلت أعاني منها . مكثت ليلة واحدة في وحدتي وبعدها أمر آمر سريتي النقيب جاسم محمد بمنحي اجازة لمدة 7 أيام .

2

من عادتي طوال سنوات الحرب انني عندما أحصل على اجازة ، أذهب عندما أصل بغداد بالتكسي مباشرة من كَراج النهضة الى مقهى حسن عجمي للقاء الأصدقاء ومن ثم الى بار وفي الليل نذهب الى نادي اتحاد الأدباء لمواصلة الشراب وبعدها أذهب الى بيت أهلي . حين وصلت المقهى والتقيت الأصدقاء ، أخبروني أن هناك تطورات قد حصلت في منتدى الأدباء الأشباب { كنا قد قاطعناه منذ عام 1981 حين ترأسه لؤي حقي بمرسوم جمهوري وتم تعيينه بمنصب المدير العام للمنتدى } ، حيث تم تعيين الشاعر علي الشلاه بمنصب الرئيس بعد طرد لؤي حقي لكن من دون منصب ، وهناك محاولات يقوم بها علي من أجل الاهتمام بالأدباء الشباب في المنتدى الذي كان يطبع لسعاد الصباح وينشر لها ولمحمود درويش وغيرهما في مجلة { أسفار } التي يصدرها المنتدى ، واقترح البعض أن نذهب الى هناك للقاء بقية الأصدقاء . كانت انخيدوانا جرح حياتي الدامي التي كنا نراها تتأبط في مهرجانات المربد الشعراء الكبار أمثال البياتي ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم حاضرة هناك في بناية المنتدى . فتاة جميلة وشاعرة في الواحد وعشرين من عمرها . أصدرت مجموعتها الأولى عام 1986 وكانت غامضة بالنسبة لنا نحن الشعراء الشباب وخصوصاً الصعاليك أمثالي ، بسبب مظهرها البورجوازي { لم أكن أعرف انها من أسرة فقيرة مثلي } ومحاولاتها المحمومة للتسلق وحب الظهور والشهرة . تعرفت اليها في ذلك اليوم للمرة الأولى وسألتني : { أين كنت طوال الفترة الماضية ؟ } أخبرتها انني كنت في السجن وعلمت منها أن مجلة { كلمات } التي تصدرها أسرة الأدباء بالبحرين قد أصدرت عدداً خاصاً بالشعر العربي أثناء فترة مكوثي في السجن وضم من الشعراء العراقيين سعدي يوسف وسركون بولص وجمال جمعة وأنا فقط . طلبت منها أن تعيرني المجلة فوافقت وقالت : { تعال غداً الى منتدى المسرح مساء . هناك مسرحية ستعرض وبعدها ربما نتمشى } ثم أبدت نحوي عاطفة حميمة جعلتني انجذب اليها بقوة ، ربما بسبب شهور السجن والخيبات المستمرة التي ظللت كل سنوات حياتي في الحرب . التقينا في اليوم التالي وكنا متلاصقين بشدة في قاعة المسرح بسبب كثرة عدد الجمهور ، وكان البعض من الأصدقاء وسواهم ينظر الينا بحسد واندهاش وقد قالت عنهم فيما بعد في قصيدة نشرت بمجموعتها الثانية { اتهموني بالحب . صفقتُ لخطيئتي أيها الشفيع المعصوم بحبل القلب } . بعد انتهاء العرض المسرحي ذهبنا نتمشى وتحدثنا في الشعر وعن المسرحية التي عرضت وأمور أخرى . قبل أن أودعها وأذهب الى نادي اتحاد الأدباء ، طلبت منها أن تعطيني رقم تلفونها . وافقت واتفقنا أن نبقى على اتصال . حين انتهت اجازتي والتحقت بوحدتي كنت أتصل بها كل يوم وكانت العاطفة المحمومة تزداد قوة في أعقاب كل اتصال . أسميتها انخيدوانا الشفيعة وأسمتني الشفيع . كتبت عنها في البداية قصيدتي الطويلة { عش وقواق من غيوم نووية الى الشاعرة الأميرة انخيدوانا } وكتبت هي عني قصيدتها { المعصوم بحبل قلبي . سفر الشفيع } بعد شهر أنجزت عنها مجموعة شعرية وهربت من الخدمة العسكرية من جديد لأنني لم أعد أتحمل فراقها . كنت أنام في الليل في منتدى الأدباء الشباب مع علي الشلاه وصديقنا الشاعر المصري فتحي عبد الله المحرر في مجلة { أسفار } بعد أن نعود من نادي اتحاد الأدباء مخمورين ، وكان علي الذي لا يشرب أبداً . يطيّر في كل مرة السكر من رأسي عندما يقول لي مازحاً : { اتصلت بي انخيدوانا قبل قليل وتقول انها تحب شخصاً آخر } . يذهب عقلي وأحاول الاتصال بها فلا ترد ، وكيف ترد والساعة هي الثالثة فجراً وهي تعرف انني مخمور ؟ . أمزق المجموعة التي كتبتها عنها لكن علي يجمع الأوراق الممزقة ويصرخ بي : { يا حمار ، كنت أمزح فقط } . في اليوم التالي أعيد كتابة المجموعة لأنني أحفظها كلها وأخبرها عندما تأتي الى المنتدى بما فعل علي بي فتقول لي : { هل أنت مجنون ؟ هذه ليست المرة الأولى التي يفعلها علي . اترك الشراب . لا أحب الشخص الذي يشرب كل يوم } . بعد شهر حصلت تطورات أخرى في منتدى الأدباء . طلب منا الترشيح لعضوية المكتب التنفيذي المزعوم بعد المؤامرة الشهيرة على علي الشلاه ومجيء عدنان الصائغ ليرأس المنتدى . رشح البعض أنفسهم وظهرت النتائج في اليوم الأول . بعد أسبوع تم ابلاغ وزارة الداخلية التي كان يقودها سمير الشيخلي من قبل رئيس المنتدى ، أن محمد النصّار ونصيف الناصري لديهما هروبات من الخدمة العسكرية ومحكومين بتهمة مخلة بالشرف ولا يحق لهما الترشيح في أي انتخابات . طردنا نهائياً من المنتدى أنا ومحمد وذهب علي ربما لاكمال دراسته . ظلت علاقتي مع انخيدوانا طيبة بعد التحاقي بوحدتي العسكرية نادماً ، على الرغم من الصعلكات والحماقات التي ارتكبها حين أكون مخموراً واتصل بها بعد منتصف الليل وهي نائمة . في عام 1990 بعد غزو الكويت أخبرني الصديق الشاعر عبد الرزاق الربيعي حين جئت بغداد في اجازة ، أن انخيدوانا مخطوبة الآن الى رجل عجوز . طبعاً لم أصدق رزاق في البداية لأنه جاد ولا يمزح معي الى هذا الحد . في يوم ما ذهبت الى المنتدى عصراً وجاءت انخيدوانا تقود سيارة ضخمة ويجلس الى جوارها رجل عجوز . تجاهلتني وألقت السلام على الآخرين . غادرت بناية المنتدى فوراً والنار تضطرم في أشلائي . حين بلغت بي حالة السكر في نادي اتحاد الأدباء الحالة القصوى . أخذت أحرق يدي اليسرى بأعواد الكبريت من دون أن أشعر بأي ألم . في اليوم التالي قطعت اجازتي والتحقت بوحدتي . بعد أيام وصلت صحيفة القادسية الى الوحدة وفي صفحتها الثقافية قصيدة لانخيدوانا تقول فيها :
أرح صمتكَ الآن
على مطر ينزوي في كذب الزمان
ووعود أصدقاء يمرون
كم كان موتي هادئاً
لكن دمعتكَ أقلقتني . أربكت كل هذا البياض
كم كنتَ هناك ؟
ابتعد عن مسامات الأمس .
آهٍ كم تلازمني حد النفور
وتؤاخيني حد البكاء ؟
شتلتُ فيك خضرة الوقت فاستحال الكلام
تاريخاً وطبعاً تجذر في الآخر
التحفتُ بعينين يستظل فيهما مجد الهزائم .
صرخت بالصمت
خوفي على أيامنا من النوم
خوفي على نومي من هذا الظلام .
صحوة هو الغياب
الذي صار أقرب الأصدقاء اليكَ
الغياب الذي صار أقرب الحزن إليّ
جائعة أنا وفجركَ فاكهتي .
آهٍ لو كان مجدكَ فراتاً يستريح بالنسيان مني
آهٍ لو كان جلدكِ كفني
لتنفستكِ
التحفتكَ
ومت
آهٍ لو كنت أغنيتي
لغنيتكِ
غنيتكَ وانتهيت .
بعد أن خطبت انخيدوانا لهذا العجوز الغامض الذي لا أحد منا يعرفه أو يراه من قبل وتواريها عن الأنظار . فقدت عقلي ورحت أعيش حالة جنون كامل . كثرت غياباتي في وحدتي وسببت لي عقوبات لا تطاق { سجن . ضرب . اهانات . حلاقة الرأس نمرة 4 } من قبل آمر السرية وآمر الفوج وصرت لا أعير أهمية لأي شيء وتساوى عندي النور والظلام . استدعاني مرة آمر الفوج وقال لي : { اسمع لك . كل مواليدك والمواليد التي خدمت بعدها تسرحت من الخدمة العسكرية في وحدتنا إلا أنت . الحرب انتهت فلماذا تهرب وتتغيب عن الوحدة ؟ } . حاولت التملص من أسئلة آمر الفوج فلم أفلح . أخيراً ، أخبرته انني أعاني من مرض نفسي حتى يكف عني لكنه أصر وأراد معرفة هذا المرض المزعومك حتى يتم ارسالي الى المستشفى العسكري في أربيل . قلت له : { سيدي أنا عاشق لفتاة شاعرة جميلة جداً ولا أستطيع عدم رؤيتها في الاسبوع مرة أو مرتين } قال
{ أي . وين هاي وشنو هاي ؟ } قلت له : { انها تقدم برنامج ثقافي في التلفزيون من القناة الثانية كل يوم أحد } . قال آمر الفوج : { سأرى هذه الشاعرة التي تكاد تجننك كما تقول } ثم قال لي { هل تستطيع أن تظهرك حبيبتك في برنامجها وتحكي لنا عن هذا الشعر البعروري الذي تكتبه أنت وجماعتك ؟ } كذبت عليه وقلت له { سيدي طبعاً تستطيع وقد طلبت مني أكثر من مرة لكنني رفضت } . ازداد تعجب ألآمر وقال : { زين . اسمع سأمنحك اجازة دورية وأريدك أن تظهر في التلفزيون واذا كذبت عليّ فسوف أعاقبك عقوبة لا تنساها مدى حياتك } . ذهبت الى بغداد وأخبرت انخيدوانا بتهديد آمر الفوج فاخبرتني أن البرنامج قد توقف بسبب مجيء سامي مهدي ليدير مؤوسسة الاذاعة والتلفويون وانها قد انتقلت مع المدير السابق للتلفزيون سعد البزاز الى صحيفة الجمهورية حيث سيكون البزاز رئيس التحرير الجديد . كان الجنود الذين لديهم هروبات وعقوبات يتسرحون حسب الأوامر بعد أن يمضون فترة سنتين اضافيتين من تسريح مواليدهم . في كل مرة عندما أتغيب من وحدتي وأعود الى بغداد من أجل رؤيتها . لا أراها ولا أعرف عنها أي شيء ولا صديق يعرف إلاّ بعض أولئك الذين أجبرتهم على الصمت . بعد أسابيع نصحني البعض بالكف عن السؤال عن انخيدوانا . تقبلت النصيحة بغصة أنا الجندي الشاعر المفلس كثير الهروبات من الخدمة العسكرية وأعاني من خراء العقوبات التي تفرض عليّ بسبب هروباتي المتكررة وغياباتي وتساءلت : لماذا تهجرني حبيبتي الشاعرة وتتزوج العجوز هذا ؟ أي زمن هذا الذي نحيا فيه ويجعل الشاعرة الشابة والصحفية والمتخرجة في كلية اللغات وتترجم من الانكَليزية ، أن تفضل العجوز على الشاعر ؟ أسئلة لم أجد لها الجواب الصحيح آنذاك . وجاءت المصيبة الأعظم حين علمت أن هذا العجوز متزوج ولديه طن من الأولاد . يا إلهي ، ما الذي يجعل العاشق يضفي أهمية كبيرة على المرأة التي يعشقها ؟ أي زمن هذا الذي يجعل المرأة التي تحبها وتحبك ثمرة محرمة عليك ؟ تزوجت انخيدوانا عجوزها وانجبت طفلة أسمتها على اسم أحدى قصائدي الموجهة اليها . أصبحت لقاءاتنا الآن طيبة جداً ويظللها التقدير والاحترام المتبادل . لم أسألها في يوم ما عن زوجها أو حياتها الشخصية . كانت تقول لي أحياناً بخبث وهي تعلم انني لا أستطيع التخلص أبداً من نسيان عشقها : { لو تتزوج يكون أفضل لك } أو تقول : { سمعت انك قد أحببت فتاة جميلة جداً } فأجيبها : { أنتِ أجمل نساء العالم ولا أحبك سواكِ } . عام 1993 بعد أن عادت من الأردن وأصدرت مجموعتها الثانية هناك . جلبت لي دعوة من اتحاد الأدباء في الأردن حتى يتسنى لي مغادرة العراق من دون أن أدفع مبلغ الضريبة المفروضة على السفر . كان مبلغ الضريبة الكبيرة التي لو أبيع أمي وأبي ومنزلهما لا يكفي لسفري الى الأردن . ظلت الدعوة في جيبي عدة أسابيع وأنا أمنّي النفس بنسيان انخيدوانا ومغادرة العراق الى الأبد . ذات يوم أثناء جلسة سكر صاخبة في بار روافد دجلة بساحة النصر والأصدقاء يلحون عليّ بنسيان انخيدوانا ومغادرة العراق ، قمت بتمزيق الدعوة التي جلبتها لي . أرادت أن تساعدني بكل وسيلة من أجل نسيانها فلم تستطع ولم أستطع أنا على ذلك .

3

في عام 1994 عادت من الأردن من جديد وجلبت لي دعوة أخرى من أجل مغادرة العراق . عندما تسرحت من الخدمة العسكرية الاجبارية في عام 1991التي أمضيت فيها 12 سنة ، عدت الى وظيفتي السابقة في وزارة النفط وبما أن الحصار المفروض على نظام صدام حسين قد أجهز على كل شيء في العراق فقد تمت احالتي من وظيفتي على التقاعد المبكر في 15 / 8 / 1993 . ذهبت الى دائرة التقاعد في { الكرخ } وقدمت لهم المعاملة . أخبروني في اليوم التالي أن راتبي سيصبح { 106 دنانير } ويتوجب عليّ أن أجيء كل 3 شهور مرة واحدة من أجل استلام الرواتب . قلت لهم : { كيف ؟ ولماذا 106 وثمن علبة سكائر سومر العراقية 300 ديناراً ؟ } . قالوا : { هكذا هو الأمر حسب قرار مجلس قيادة الثورة الأخير } . أخذت المعاملة منهم وأودعتها عند أمي التي تحتفظ فيها الى الآن وبقيت من دون وظيفة في ذلك العام . حين غادرت العراق في 14 / 12 / 1994 كان الصديق الشاعر خالد مطلكَ قد دفع أجرة سفري من كَراج { علاوي الحلة } وبقية الرسوم المتعلقة باخراج جواز السفر وكنت أحمل كيساً بلاستيكياً { علاكًة } ضمت مجموعة شعرية مخطوطة لي فقط ، صدرت عن المؤوسسة العربية للدراسات والنشر عام 1996 على نفقة المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي ، ولم أكن أملك من المال سوى دينارين أردنيين وشاءت الصدفة أن يكون جلوسي في الباص الى جوار المطرب أحمد نعمة الذي تكفل طوال مدة الطريق البالغة 16 ساعة بمهمة اطعامي ذلك انني لم أجلب معي أي طعام أبداً . في مقهى { العاصمة } بعمّان التقيت الصديق الشاعر والفنان ناصر مؤنس في يوم وصولي فأخذني الى مطعم فاخر وأخبرني أن لي مكافأة في جريدة { الرأي } الأردنية عن قصيدتين نشرتا في الشهور السابقة . تسلمت المكافأة { 30 ديناراً } واشتريت معطفاً يشبه معطف ستالين بدينارين من سوق الملابس المستعملة ودعوت جان دمو الى حانة ومنحته 5 دنانير ، عدنا بعدها الى مقهى { العاصمة } حيث التقيت الاستاذ الناقد ياسين النصير فأخبرني أن الاستاذ الشاعر سعدي يوسف يدعوني الى منزله ويتوجب عليّ أن أذهب وحدي حسب رغبة سعدي واعتذر هو عن عدم ايصالي الى هناك لسبب لا أعرفه . لم يكن يعرف عنوان منزل سعدي في عمّان كما علمت سوى الصديق الشاعر صلاح حسن وجان دمو . انتحيت صلاح جانباً وأخبرته دعوة سعدي لي فقال : { متى تود الذهاب ؟ } قلت له : { لست أدري ؟ ماذا تقترح أنت ؟ } فقال : { المساء } . حين وصلنا الى منزل سعدي كانت هناك مفاجأة غير سارة بانتظارنا في الحديقة الجوراسية لمنزل سعدي حيث وجدنا جان دمو جالساً على مصطبة في الحديقة ينتظر مجيئنا وهو مخمور جداً . من أخبره ؟ لسنا ندري . طرق صلاح الباب وخرج سعدي الذي كان قد أعد مأدبة ملوكية وكان معه الفنان والمخرج جواد الأسدي . في هذا اليوم كنت التقي وأرى سعدي يوسف لأول مرة في حياتي ، وبعد نقاشات عن العراق والشعر والثقافة قال لي سعدي : { البيت بيتك يا نصيف . تعال متى ما شئت } شكرت لطفه وكرمه الذي شملني به طوال السنوات التي أمضيتها بعمّان وسارت السهرة على ما يرام وفي النهاية غنى صلاح حسن عدة أغنيات لداخل حسن وياس خضر وحين تعتع السكر جان دمو وأراد أن يخربط ، نهره صلاح فسكت لكنه خرا علينا في الطريق الى منزل صلاح بالشتائم والقاذورات التي أطلقها ضدنا . كانت انخيدوانا تجيء الى عمان مرات في السنة . أحياناً مع زوجها ، وكنت التقيها خصوصاً في دورات مهرجان { جرش } . نتحدث في الشعر والأحلام وذكرى السنوات السابقة لكنني حرمت من رؤيتها بعد ذلك حين افتتحت حركة الوفاق الوطني المعارضة لنظام صدام حسين مكتباً لها بعمَان حيث منعتها السلطات الأردنية من دخول الأردن ولست أدري ما السبب ؟. الآن وأنا أنهي مجموعتي الشعرية السادسة التي كرستها كلها تحية لحبها وذكرى السنوات الماضية ، آمل لها العافية الإلهية الدائمة وهي تبدأ حياة أخرى مع زوجها الجديد .

تفو على هيك زمن ضرطة .



الفصل العاشر


من أجل أحلام بألوان قوس قزح

1
هنا رجل لا تستطيع حقيقة مظهره الخارجي أن تخفي روحا حساسة ، وخلال خدمته الطويلة في الخنادق ، شاهد مرة فأراً في موضعه يبعد ثلاثة أقدام عن وجهه حيث قال : { ما يزال هنا بصيص قادم من النجوم } وكان الضوء الضئيل يسطع خافتا على جلده الأملس ، وبحركة مفاجئة اختفى الفأر ، وما زلت أتذكر وبشعور بارد أن الفأر كان سمينا ، وأعرف لماذا هو سمين . فوق جبال حاج عمران وفي العراء حيث يتعرض الإنسان للموت ، لا يتناقض هذ مع قذارة التعايش تحت الأرض وبالاكراه مع الجرذان التي تفترس الإنسان ، في الوقت الذي يفترس هو فيه ابن جنسه . هنا أنف مدمى بسبب إصابته بشظايا انفجار معارك يومية مع القمل والبراغيث والجرب والبعوض . هنا رائحة الجثث المتعفنة ، ومشهد جثة جندي سائق عجلة إيفا مات بفعل رفسات البغال المرتعشة من شدة القصف المدفعي الكثيف ، وصراخ الجرحى الذين يموتون من الألم .
2
اهدئي يا روحي المضطربة ، لقد امتلأت مثانتي . أنفاس غير نقية . ضمير غير نقي . أنا كتلة من القذارة والنفاية التي أجيء منها مجدبة ، الى درجة لا ينمو فيها حتى الصبار . نعم يا جان دمو ، لقد هبط الظلام الآن . طابت ليلتك . غداً سنستيقظ إما على صوت شخص أسترد حريته ، أو على أنين إنسان محطم أغلقت عيناه بقضبان من حديد وقيدت روحه في سراديب تصلح للصراصير و العناكب . وأنا هنا جالس أفكر ، أوه ، يا إلهي ، هل جئت الى كوكب تحيط به الدماء وتكبله ضمائر ميتة ؟ هل جئت عبثا عن دعم من فلاسفتهم وعن سطور نبيلة بين أوامرهم التافهة ؟ لماذا تنطفىء نار ضمير الملتهبة ؟ جئت من التراب وفي التراب أتدحرج ، هل ينبغي أن أموت في حروبهم الشيطانية ؟ أن أموت ، يعني تجنب الموت ، آه ، يا جان ، الموت يعني قطع الصلة مع الموت قبل أن يأتي ليلفنا في ثنايا ردائه الصامت المعبد للأبدية ، هل ينبغي أن أموت ؟ أن أكون جبانا ، أو أحيا في السخف . هل أنام ؟ هل أضع خدي على وسادة ناعمة وأصلي من أجل أحلام بألوان قوس قزح . ولأي ثمن تدور رحى هذه الحياة ؟ أي فجر يجب أن أفرض بالقوة حتى أمزق ظلام ليلي ؟ أنتظر وميض البرق كبطل مستعد لكي يموت ولا يستسلم راضياً ، متى يتحقق هذا الايمان بأن الآلاف الصامتة ، سترفع إصبعا عندما أشير اليها ؟ ماذا لو تحول صوتي إلى لغة كريهة ؟ هناك دوما فريق من المداحين مستعد لنصب مشنقة لي بارتفاع عدد عيون أفراده . يا إلهي كم أنا محطم . أنا مصيدة لقتل الذباب ، هكذا يعتقد قائد الفيلق وقائد الفرقة وآمر الفوج . فليحفظ الله هذه الصليات . لنحيي احتفال النار الذي يمزق أحشاء الدهر في ليل العراق . الخوف ، الخوف وحده يضفي على البشرية الواسطة التي من خلالها تستطيع أن تتوالد ، تعال يا جان لنصلي لإله الخوف لأنه وحده ملاذنا ، أيها الخوف فك وثاقي من هذا الظلام ، أشعر بخدر تام في احساسي . آه ، يا جان ، كم أنت تعيس مثلي . أن طعامك الآن خال من التوابل ، طبول في كل مكان ، قمامة معلبة ، هذا كل ما هناك . هل أكتب عن مدى شعوري بالأسى من أجلكم أيها الأصدقاء الموتى ؟ الجنرالات هشموا عظامكم ووضعوا أسلاكا شائكة في أغصان أحلامكم ، آه ، يا إلهي . أصدقائي ماتوا في العشرينات من أعمارهم ، كلهم فقراء وعشاق وحلوون مثل حلاوة فصول السنة في العراق . اللعنة . أيها الجنرالات ، تعالوا احرقوا جسدي ، احشروا مدفعا في طيزي ، أر فسوني بجزماتكم ، افعلوا ما تشاءون ، لن أخبركم عن أحلامي ، وبماذا تهمكم ، فأنا لم أشاهد أية أشجار ولا طيور ولا نساء ولا أقمار منذ أن ابتدأت حربكم ، الموت يسطع في الظلمة كعيني حمار ، الموت يغرق في الينابيع كالشمس . الموت يتنزه في البيوت والسجون ، تعبت لأرفعه ، اختاروني لأجربه ، والآن ، تحررت لأقتله .
3
أنا شاعر غجري
اذا ربطوني يوما بعمود الاعدام ل جرائمي الغجرية سأشتهي أن ألتهم نعجة مشوية وأحتسي زجاجة جن قبل أن أموت . أن بيوت أصحاب النياشين والأوسمة الأسطورية تضايقني وتجعلني أشعر بالاضطهاد . أحب الأرصفة في ساحة التحرير كما أحب اللصوص والصعاليك والعاهرات في منطقة الحيدر خانة وعندما أرى أحد المطاعم يبيع الفلافل بعد الثالثة فجراً ، أشعر بالاطمئنان حتى لو كنت غير جائع . المصريون سرقوا كبابنا ودجاجنا ودولاراتنا وخلفوا لنا فلافلهم . أنا مجنون أغاني سعدي الحلي حتى أتفه ما يغني منها . لا أتكلم سوى لغة واحدة : العربية ، وأحب النهيق والعواء وأستطيع أن أقذف من فمي مليون كلمة في دقيقة واحدة ، عام 1980 دخلت دورة في النحو العربي ، وكان ترتيبي الأول ، من نهاية القائمة ، كان تعلمي بطيئاً ، بطيئاً ، لا أعرف الأوزان الشعرية ، ولا أفهم في السياسة ، أفضل نوبة حراسة ليلية فوق جبل بسبعة آلاف ساعة على اجتماع حزبي يدوم ساعة واحدة ، لقد تخليت عن قسم كبير من أصدقائي القدامى لسبب بسيط وهو إنهم باتجاههم نحو { جماعة الوضوح } قد اتجهوا نحو السياسة ، وكنت وما زلت أعتبر هذا الاجراء مناقضاً لجوهر ووظيفة الشعر كما عرفته منذ البداية ، بالنسبة لي _ كانت الصعلكة تحررا والسياسة نوعاً من العبودية بسبب شعاراتها والخط الذي يجب اتباعه ، حتى الآن _ ما زلت سعيداً وقانعاً بخساراتي ، لأنني في الواقع لم أرتكب عملاً دنيئاً ولم أكن محط شبهات ، ويداي على كل حال نظيفتان من عطايا السلطان ، وهذا شيء يبعث على المواساة على الأقل لمن كان في مثل وضعي ، لقد بقيت ومازلت رجلاً حرّاً ، وكلفتني استقلاليتي هذه الشيء الكثير . انني أزدري الأمجاد الزائفة والعطايا وكل ما من شأنه أن يقيد حريتي . لا أخفي القول ، بأنه كان ممكناً أن أهجر الشعر والكتابة وألا أواصل كل هذه التجارب التي مارستها طوال حياتي ، لأنني كنت وما زلت أحتقر صناع الأدب المتنطعين ، احتقاراً ما بعده احتقار ، لقد ساقوني الى جبهات الحرب وأعدت لي ألف ميتة بالمدافع والدبابات بسبب عدم تقديمي التنازلات الأدبية المطلوبة ، وهكذا حرمت من انهاء خدمتي العسكرية في ثكنات بغداد وطبع كتبي . دخلت الجيش مجندا في 5 / 5 / 1979 وتسرحت في / 5 / 1991 ، كنت عبارة عن جثة في كيس عسكري . بعد تسريحي من الجيش محبطاً ومحطماً . عانيت صعوبات كبيرة بسبب عدم تمكني من نسيان المشية العسكرية واعطاء الأوامر . مرة جاء اليّ شحاذ يطلب قطعة نقد فكدت أرسله الى ساحة التدريب . آمل أن تتولى البلدية بعد موتي ، دفن جثتي في مقبرتها . في بداياتي تأثرت بالشعر السريالي المترجم إلى العربية ، كما تأثرت برامبو وخصوصاً في سيرته الحياتية . عندما كنت مراهقا هربت من البيت العائلي لأصبح رامبو . أحببت شاعرة ببغداد وكنت مجنوناً بحبها ، كنت عاشقاً ومجنوناً ، تشردت وتعذبت وتلوعت . وماذا حدث لي أيضاً ؟ بشرفي لست أدري . في الحرب كان همي دائماً هو الهروب من الموت ، ولكنني لم أكن أهرب منه حتى ألتقيه مرة أخرى .
بم ، بم
بوسعي الآن بضربة واحدة أن أحطم عصا أي جنرال الى قطعتين وأكثر . لقد حافظت على علاقاتي بالمهمشين والصعاليك ولم أندم على ذلك . أن رزم المال الآن تأتيني دائما من خزنات التجار والعاهرات والمهربين والقوا دين .
الآن _ أود أن آكل شواء .
جميع القمل الذي يتم اصطياده في رأس حسن النواب يعود لي ، لأن لي عقدا معه . بامكاني العيش مع حسن النواب دائما لأنه عبقري . لماذا يتوجب علي أن أقوم بدور البطل وأموت في خندق ؟ هناك أشياء أجدر بالجروح البليغة . في حفلة موسيقية أقيمت العام الماضي ، نهضت من بين الجمهور الذي كان ينصت للموسيقى وقلت لجنرال يحمل مسدس عيار 16 / ملم : { أنا معجب جدا بملابسك يا ضفدع ، سأشتري بدلة خضراء مرقطة حالما تقوم حرب أخرى ، ويتم استدعائي لأداء خدمة الاحتياط } . كم أود في هذه اللحظة أن ألتقط هذا الضفدع الغبي من ساقه وأرميه في بركة آسنة . أحلم بالشعر والحب والسفر وبكل ما يحلم به الانسان من جنون وحرية . الآن أسير ولا أدري إلى أين . في السنة العاشرة من خدمتي العسكرية عام 1989 كان لدي شارب ضخم شبيه بشعر عانتي ، وكنت عندما أود أن أنام ، أسند رأسي بمظروف قذيفة مدفع ، وكنت أقول لأمي عندما أجيء في اجازة : { آخر كوكب لهذا الغجري سيكون أن ينتن بين نتانات الجنة الموعودة بالاهتداء القريب والمؤكد للطير المنتظر : شفاعتك } وكنت أقول لها { انني مقتول . الدم يجري منعيني وأنفي وفمي . لا تتخلي عني ، دافعي عني } ، لكن أمي كانت تجبرني على التنكر للذات وكانت تقول لي : { يا ولد ، الاستمناء يجلب الجنون ويصيب من يمارسه بالدمامل } وكانت تعلمني أن الجماع فعل سيىء ، وانه لا أخلاقي ، وكنت في حيرة ، لا أستمني ولا أجامع والآن _ أنا بطل العالم في العادة العلنية . بشرفي ، الله وحده يعلم كم مرة نكت جودي فوستر وبروك شيلدز وصوفي مارسو والمرحومة مار لين مونرو . وبصفتي عسكرياً سابقاً ، ليست لدي أية وظيفة الآن . أقول لنفسي دائماً : { يا نصيف ، لا تقلق ، اذهب الى مقهى حسن عجمي وشاهد التلفاز ، وسوف تكون أعظم مستمن في التاريخ } بعد ذلك قضيت وقتي ليلاً ونهاراً في شوارع بغداد ، أجامع كل النساء اللائي يمرقن أمامي . مرة قال لي أبي : { يا نصيف ، أنت شاعر مبجل وامكانياتك الجلقية هائلة ، اذهب الى الحمام يا ولدي وقص شعر عانتك الطويل الذي يجعلك مثيراً للسخرية . لن تحملك العاهرات على محمل الجد وأنت على هذا الشكل } فأجبته بسرعة : { كلا يا أبي ، أن جميع العاهرات يحملنني على محمل الجد وذلك بفضل طول شعر عانتي بالذات . أن شعر عانتي يعبر عن آرائي دائماً في الدين والسياسة والحب والحرب والقومية ، وهو يعبر يا أبي عن شعور حقيقي } قال أبي بحماسة : { حقا يا ولدي ، فنحن من سلالة قرود وهذا موضع فخر بالنسبة لنا } .

المحتوى

الفصل الأول
محني الظهر تحت أوامركم
الفصل الثاني
معارك الغضب الهادر . حاج عمران . سيده كان 13 / 5 / 1986
الفصل الثالث
معارك حاج عمران . سيده كان 1 / 9 / 1986
الفصل الرابع
معركة جبل كَرده منض الثالثة 3 / 3 / 1987
موت يحلم يحرارة شمس الصيف
الفصل الخامس
معركة جبل كَرده كَو 23 / 11 / 1987
خفة الشعر التي لا تحتمل
الفصل السادس
مقدمات ابادة الأكراد وتهجيرهم من مدنهم وقراهم
معركة جبل أحمد رومي 15 / 1 / 1988
الفصل السابع
معرك جبال كوجار . كوردي هلكان . حلبجة 17 / 3 / 1988
الفصل الثامن
باب الوجود . باب العدم
الفصل التاسع
السجن – الحب { انخيدوانا الشفيعة }
يضفي العاشق أهمية زائفة على من يحب
الفصل العاشر
من أجل أحلام بألوان قوس قزح



#نصيف_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أشياء ما بعد الموت
- مرثيتان
- ما ينشده الشيوخ المحقى
- كتاب صوت سنبلة قمح لم تولد
- مرضعات الموتى
- العتمة اللامتناهية للفناء
- يموت الدكتاتور ويبقى الشاعر
- سهر الشجرة وعطورها المنذرة
- أجمل العيش ، عيش التشاؤم والشقاء
- للخلاص من رطوبة السنوات التي عشناها
- عندما ارتعد عدي صدام من قصيدة دادائية
- حوار السيد والعبد
- قصيدتان
- صلوات الكاهن الغجري الى السيدة الشفيعة المعشوقة والفانية
- كتاب الحكمة الغجرية
- 3 قصائد
- 4 قصائد
- عبد الرحمن الماجدي في مجموعتيه الشعريتين { أختام هجرية } و { ...
- 10 قصائد
- 8 قصائد


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نصيف الناصري - كتاب { معرفة أساسية . الحرب . الشعر . الحب . الموت }