|
عودة كازانوفا
احمد ثامر جهاد
الحوار المتمدن-العدد: 884 - 2004 / 7 / 4 - 06:17
المحور:
الادب والفن
من الأدب إلى السينما نجد في اختيار القصص الرومانسية ما يغري طرفي المعادلة السينمائية ( المخرج – الجمهور ) للذهاب نحو صناعة أفلام درامية تتمسك بمتعة تفترش الأعماق وبحضورها يكتمل جمال الأشياء . خاصة ما يستند منها إلى اصل أدبي تخلق جدارته نوعا من التواصل الحي ما بين الكلمة والصورة بوسعه إذكاء الشعور الإنساني . ومن دون تصميم مسبق تعود القصص إلى فناء الشخصية – الأسطورة أو لنقل بقدر ما تتلون أصداء الشخصيات المتعرشة في ذاكرتنا (كمتلقين ) خلال ظهورها المتناوب ، تصبح جديرة بالحياة مرة أخرى ، فتستحق محاولات المبدعين - بمختلف فنونهم - لتخليدها في صورة عصرية تنفتح أمام أي تفسير جديد لها ، قد يجرب في حدوده القصوى قلب معادلتها التاريخية أو تفعيل حضورها على ضفة التأويل عبر الاحتفاء بها أو تأمل مغزاها المتجدد . ومع أن هناك مسافة طويلة واحتضار شاسع بين حاجة الجمهور إلى هذا النمط من الأفلام وبين إدمانهم قصصا تفضي بتكرارها إلى تقليد ساذج ، فثمة ضوء إنساني مسه الجنون دائما ، يوصف بأنه فرحة مستفزة للوجدان البشري تطالب بانتزاعها من الدوامات الغائمة ومن صفرة التدني في نسق الحياة أو الشعور بها . إن السينما بوصفها إحدى أهم أساليب القرن الفنية اقترابا من حس المتلقي ، بدا نصيبها من الأدب كبيرا إلى درجة ندر فيها وجود شخصية معروفة ( سياسية ، اجتماعية ، فنية ) لم تنل نصيبها في عمل سينمائي يوثقها قديما أو حديثا . بل أن الغالبية منها تعرض إلى أكثر من صياغة سينمائية قدمت فهمها وتفسيرها الخاص لها وبما تجده ملائما ومقبولا . أفلام لا يتسع المجال لذكرها عن أبطال ملاحم الإغريق والشكسبيريات وعن تاريخ الشرق وأساطيره . وبلا شك لا تملك كل الشخصيات الأدبية ذات الامتداد في ذاكرة الشكل الفني . بعضها يلقي بظله طويلا على الأثر المكتوب ، بينما يندثر بعضها الأخر . أجمالا تبدو الشخصية التي تتعدد وتتفاعل ميول العصر فيها أكثر إصرارا في حضورها الممتد عبر ذاكرة الأجيال وأشد إسهاما بتخليق " المعنى" وتجديده . كازانوفا السينما الفرنسية : وفقا لزاوية حديثنا هذا ، يكون اختيار المخرج (إدوارد نيرفن ) جميلا في تقديم فيلمه ( عودة كازانوفا ) الذي اعتمد نص الكاتب (آرثر سنتزلر) ، وطريفة أيضا محاولته تقديم العاشق المجنون (كازانوفا) بحلة مختلفة ، تصوره وقد خابت بطولاته وغادرته وسامته ، وهو الذي ليس لسواه تذوى قلوب العذارى ، طمعا في حبه أو بحثا عن اثر حقيقي له . و(كازانوفا ) السينما الفرنسية سيكون متجاورا مع (كازانوفا آخر) كان المخرج فلليني- عبقري السينما الإيطالية - قد قدمه سابقا برؤية خاصة تنسجم مع تصوره للسينما . في هذه المرة سنشاهد المحاولات الأخيرة ( لكازانوفا ) وقد خانته حيلته في إغواء الفتيات وغزا الشيب رأسه وما عاد ذاك الشاب الساحر بطلعته ولباقة حديثه ، إن لم تكن شعريته الفائقة . فإليه يلجأ متعلما كل عاشق عاجز عن الحديث الجريء ! لكنه (كازانوفا) ذاته ، المغامر الذي تسبقه سمعته مثل فارس أو شاعر نبيل إلى أي مكان يحط فيه ، متنقلا كضيف مرغوب ومحتفى به من قبل الجميع ، وذلك بعد أن توارت حياته الماضية في موطنه " إيطاليا " . ليس ( كازانوفا ) شخصية سهلة يمكن اكتناهها أو تقليدهـا بسـهولة ، ففيها تتجسّد كل الطموحات التي تنسجم مع إبداع يحققه رجال يمتلكون عبقرية فذة في الحصول على مبتغاهم لينالوا إعجاب الناس ، إنْ بحدة مواهبهم أو ببراعة أسلوبهم . أما حياته المكرسة لفنون الحب فتبدو جديرة بالملاحظة مع حيوات أخرى وَسَمت أسماء مبدعين كبار مثل ( بتهوفن ودافنشي ونيجنسكي وبيكاسو ). من جهته لم يتوغل الفيلم كثيرا في تقصي أسرار مغامرات (كازانوفا) أو في تفسير طبيعة قلقه الوجودي ، ناهيك عن عبثه المتأصل . واكتفى بالوقوف عند أجزاء من سيرته التي طرحها عبر مشاهد سريعة عرضت شيئا عن أيامه المتعثرة مع فتاة طموح بشكل غير اعتيادي ، عجزت لباقته المدهشة في استمالتها بعيدا عن اهتماماتها العلمية والفنية ، لذلك صعب عليه وضعها في مخيلته كموضوع جنسي يسهل نيله . وكما هو معروف من النادر أن يتساءل (كازانوفا ) : إذا ما كانت تلك رغبة صادقة تستحق المغامرة ؟ يحاول الفيلم بإيقاعه الهادئ أن يرينا شيئا من سيرة هذا الشاعر التي احتوت على قدر كاف من المتعة والبراعة بحيلٍ لا نهاية لها ، جعلت من جنون طبيعته مبدأ معقولا لتجاوز لا انتمائه . لقد أدرك (كازانوفا) انه أسطورة عصره ، مثلما خبر أن ميزة فيه ستنصبه مثلا لأجيال لاحقة ، فدون أغلب غزواته الجنسية في مذكراته التي أصبحت نموذجا للنفسية الدونجوانية … وعنها يقول (كولن ويلسون ) في كتابه ( أصول الدافع الجنسي ) : إن مذكرات كازانوفا هي تحفة أدبية رائعة ، ظن بعض النقاد أن مؤلفها هو ستندال ، ذلك لبراعتها في السرد وشاعريتها المحظورة ، وفيها يذكر كازانوفا إن أول حادثة غرامية وقعت له كانت في سن المراهقة ، أما تجربته الجنسية الأولى ، فلم تحدث مع امرأة واحدة بل اثنتين . وفي مكان أخر يقول الكاتب :" من النادر أن يلاقي كازانوفا إعراضا أو مهانة من النساء التي وقــع عليهن اخــتياره ، وان حدث وعارضت واحدة منهن غزله ( مثلما حدث في الفيلم ) فنجده وقد التجأ إلى الحيلة …" وفي الحيلة تحديداٌ تظهر قدراته الذاتية الحقيقية على التحدي والمراوغة ، وتحقق بداهته الذهنية قدحاً سريعاً يُقاد لقوة نزواتهِ ، وهي أسلوبه الأصيل في معرفة الذات والسيطرة عليها . ولكي يتوقف كازانوفا عن التفكير بالمرأة ( بسعة دلالتها ) عليه أن يلاقيها ، مستعيداً هيبته إذا ما وضعها في المسار الصحيح ، ساخراً من مراهقتها المغالية في تصديق هراءات ( فولتير وروسو ) ، فلا شيء يعادل جوا مشحونا بالعواطف يخلقه لنفسه أو كشفا لمفاتن اللذة الآسرة أو حديثا هامسا عن أمنيات الشيطان وجنون الجسد ، وكلها في النهاية ضرب من التحرر الواثق من سلطة العقل أو غروره . أما تلك الحيل الجميلة فهي ذخيرة خياله المتقد ، ولا يمكن لها- بحال من الأحوال- أن تستنفد لأن حياته ببساطة تبدأ مع كل مغامرة جديدة .. بالتأكيد ليس كل ما دونه ( كازانوفا ) في مذكراته ، قد وقع له حقيقة ، إنما ما تمناه على نحو خاص سيكون حدثا عظيما لو انه نال الوصف بطريقة مؤثرة ، فحياته الجميلة وخياله الخصب يتبادلان التأثير لجعل الواقعة ممكنة . وفي عودة للفيلم الذي يكشف عنوانه ( عودة كازانوفا ) عن استراحة قصيرة للمحارب قبل الخوض مجددا في الحياة وإعلان حالة الحب أو التظاهر به ، تبدو غزوات ( كازانوفا ) سهلة قياسا بهمومه الكبيرة ، فهل هي المراوغة التي التجأ إليها الفيلم للدلالة على أصالة هذه الشخصية ومواهبها العديدة ؟ ربما يبدو الطريق مفتوحا أمام وضع هذه الشخصية الحية مع صف آخر طويل من ذوي الثقة بالنفس . وهنا بودنا أن نشير في زحمة الحديث عن ذاك العاشق ، أن لكازانوفا صديـقا ورفيقا دائما اسمه (كميل) ، كان بمثابة الظل اللصيق له . مثلما في معـــظم شخصيات الأدب الكلاسيكي القـديم ( سانشو- دون كيشوت ) و ( سجاناريل - دون جوان ) . و ( كميل ) هو الممهد لأفعال ( الشخصية – كازانوفا ) كاتم أسرارها وأول المتضررين بمشاكلها لكنه على الدوام صديق وَفي وظل تابع وهو الصوت الراوي لإحداث الفيلم من موقعه المؤثر . وكأن الأمر بتكراره الملحوظ إشارة دالة إلى ثنائية ملازمة تبرز مسألة الذات وظلها ، انسجامها أو انشطارها ستحتاج من الدارس وقفة أخرى لتأملها . ذلك الفنان البارع ( كازانوفا ) الذي جسده على الشاشة النجم ( ألن ديلون ) بتمكن وحب للشخصية ، صيَّر الحب ممارسة طيعة ، نوعا متفردا لفن الحواس ليقول بلسان بارع : ( إذا لم تعرف أن سريرك قاسيا ، ستنام نوما هانئا …) .
#احمد_ثامر_جهاد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أفلام وأوهام وواقع افتراضي
-
بوابة رومان بولانسكي عالم من الأسرار والمتاهات
-
أفكار حول خطاب الثقافة العراقية وحسن قراءة العالم
-
حوار مع الناقد السينمائي أحمد ثامر جهاد
-
جحر الإمبراطور
-
سوء استخدام الحرية
-
صور الاستبداد من ثقافة الخوف إلى الخوف من الثقافة
-
الحرب من الواقع الى الصورة
-
عالم السينما الفسيح
-
عيد الحب ومنفى البلاد العربية
-
حول إشكالية التلقي بين الرواية والفيلم
-
أجهزة الدولة العراقيةإإإ والولاء المزدوج
-
بوضوح شديد ..تعددت السلطات والهم واحد
-
بوضوح شديد الاعلام العربي...سلوك النعامةإإإ
-
ماذا تبقى من البعث؟سؤال عراقي
-
عن السؤال الثقافي والقراءة الواهمة إشارات في المتغيَّر العرا
...
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|