أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - الليبرالية ليست إلاّ من مخلّفات التاريخ















المزيد.....

الليبرالية ليست إلاّ من مخلّفات التاريخ


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 2909 - 2010 / 2 / 6 - 10:05
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


أحد الليبراليين الهامشيين المتنطعين انتقد دفاعي عن الماركسية فوصفه بالزعيق الهستيري وخاصة عندما يصل الأمر إلى الرفيق ستالين. ووصفني هذا الليبرالي الهامشي المتنطع بالسلفي، شبيهاً بشيوخ قناة الجزيرة، يكرز بالماركسية باعتبارها من المقدسات. ثم أوصى بالرفق بالماركسية طالما أنها حسب قوله " فكر علمي فوق الطبيعة البشرية عامة ولمن نفذوه " (!!) إلا أن " تقديسها يسد الطريق أمام فكر أكثر تقدماً " كما زعم.

قبل أن ندلف إلى تأكيد الإفلاس الكلّي لليبراليين، حيث أن الليبرالية خلّفتها البشرية في أعماق الأرض قبل ثلاثة قرون، حالها كحال المستحثات، قبل ذلك يتوجب تفكيك الكلام غير المسؤول الذي تفوّه به السيد الليبرالي الهامشي المتنطع دون أن يحاذر من السقوط في مهوى عواهن الكلام، تفكيكه بعيداً عن كل أدلجة كما يشترط المنهج الماركسي الديالكتيكي.
كان على هذا الليبرالي الهامشي أن يحاذر فيما يقول، خاصة وأنه كثيراً ما فاخر بتاريخه الفكري، ولم نعبه على ذلك. أما أن يقول .. " الماركسية فكر علمي وفوق الطبيعة البشرية " فهو قول لا يستوي مع العقلانية وهي هوى الليبراليين؛ إذ كيف يكون الفكر العلمي فوق الطبيعة البشرية طالما أن البشر هم المخلوقات الوحيدة التي تفكر. حتى الدين، وهو الفكر نقيض العلم، هو من طبيعة البشر إذ غير البشر لا دين لهم. أما عن تكريس الماركسية كدين مقدس مما يسد الطريق أمام فكر أكثر تقدماً، فإن مثل هذا القول لا يصدر إلا عن جاهل بألفباء الماركسية التي تؤكد حقيقة واحدة مطلقة فقط وهي حقيقة التغيّر الذي لا يتوقف للحظة واحدة، فتقول أن الشيء ليس هو ذاته بذات اللحظة. ولذلك نعم، نحن نقدس الماركسية لأنها لا تقدس شيئاً ولن يكون هناك فكر متقدماً على الماركسية طالما أنه سيكون بالتأكيد تحت مظلة الماركسية.

لم يحاذر هذا الليبرالي المتنطع في أن يصف الذين نفذوا الفكر الماركسي بأنهم فوق الطبيعة البشرية. يظهر أن السيد لا يعلم بأن ستالين، الذي شبهه ببوكاسا أفريقيا الوسطى آكل لحوم البشر، هو الشخص الوحيد في التاريخ الذي نفّذ الفكر الماركسي. حتى معلمه لينين، وهو صاحب الثورة الإشتراكية في روسيا القيصرية، لم ينفذ شيئاً من قراءته للماركسية. فانتفاضة أكتوبر 1917 في بتروغراد، التي يشار إليها كثورة إشتراكية، كان لينين قد قام بها بالنيابة عن البورجوازية النامية حسب توصية الأممية الثانية 1912 وليس تنفيذاً لوصية ماركس في الثورة البروليتارية. لم يترك لينين قبل رحيله، عدا قراءته الصحيحة للماركسية، سوى السياسة الإقتصادية الجديدة (NEP) المعارضة للفكر الاشتراكي الماركسي كما أكّد هو نفسه. نعم، حين اعترف هذا الليبرالي المتنطع بأن من نفذوا الفكر الماركسي هم فوق طبيعة البشر فقد كان ذلك عن جهل في أن ستالين هو الشخص الوحيد الذي "نفذ" الفكر الماركسي كما قرأه لينين. الإنسانية عبر تاريخها الطويل لم تعرف الاشتراكية سوى تلك التي بناها ستالين في الإتحاد السوفياتي؛ الإنسانية بأنسنتها الفريدة في كوننا الفسيح لم تقدم ابناً تفاخر به كمسترشد بالماركسية اللينينية لخير البشرية سوى ستالين. لذلك، وانتصاراً لإنسانية الإنسان قبل كل شيء آخر لا نتردد في أن نرفع عقيرتنا بكل غضب بوجه كل من يحاول أن يحط من قدر ستالين، فكيف بمثل هذا الليبرالي الهامشي وهو يشبه مفخرة الإنسانية ستالين ببوكاسا الحيوان الشبيه بالإنسان!؟ ليسأل هذا الليبرالي المتنطع قادة العالم المتقدم في القرن العشرين عن عظمة ستالين! سيجيبه فرانكلن روزفلت، وهو أعظم رئيس أميركي، بأن ستالين هو الإنسان المبدأي الكبير موضع الثقة التامة دائماً؛ وسيجيبه تشرتشل، ويعتبر أعظم رئيس وزراء في بريطانيا، بأن ستالين هو العبقري والمناضل الإنساني الصلب وكان من حسن حظ روسيا أن قادها ستالين إبّان انعطافة تاريخية مرت بها، بل إنه هو نفسه (تشرتشل) لا يستطيع أن يكون ندّاً لستالين؛ وسيجيبه الملك جورج السادس بأن ستالين هو من استحق سيفه المرصع بالجواهر لأنه حرر البشرية من غول النازية؛ وسيجيبه رفيق العمر مولوتوف بأنه العبقري دون منازع؛ وسيشهد له لينين بأنه البولشفي الأول في تاريخ البولشفية المجيد. بل دعك من كل هذه الشخصيات التاريخية وهؤلاء الرجال العظام الذين شعروا بأنهم مدينون لستالين بمثل هذه الشهادات التي لم تحظَ بها أية شخصية أخرى في التاريخ، لنتساءل، ألم يكن الإتحاد السوفياتي في الخمسينيات موئلا للعلم وللثقافة والفنون وللتكنولوجيا بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء بالرغم من كل المحيط الرأسمالي الحاقد الذي لم ينقطع بتاتاً عن اختطاف سلم الجزيرة السوفياتية الاشتراكية!؟ ألم يكن الاتحاد السوفياتي إمبراطورية الطفل ومملكة المرأة!؟ هل كان يتحقق كل ذلك بغير فيض من العطاء الإنساني من لدن الدولة السوفياتية وعلى رأسها ستالين؟؟ نعم، سنرفع عقيرتنا بكل غضب في وجه كل من يحط من قدر ستالين لأنه بذلك إنما يحط من قدر الاشتراكية ويشتم الإنسانية بأبهى تجلياتها. نحن نفهم جيداً لماذا ينهال عملاء الإعلام الرأسمالي على نسج الأكاذيب الرخيصة التي تجرّم ستالين، إلا أننا لا نستطيع أن نسكت عندما ينخرط الليبراليون في حملة قذرة يشنها الإعلام الرأسمالي عنوانها .. " إكره ستالين تكره الإشتراكية ". كيف لنا أن نفسر مشاركة بعض الليبراليين لمصاصي دماء الشعوب الاستعماريين في تجريم ستالين باني الإشتراكية ومن يعود له الفضل الأول بتحرير شعوب العالم من النازية ثم من ربقة الإمبريالية!؟ كيف نفسر ذلك والليبرالي الهامشي المتنطع يدعي بأنه لا يريد تشويه الإشتراكية!! أية إشتراكية تلك التي لا يريد تشويهها؟ هل هناك اشتراكية غير تلك التي بناها ستالين؟؟ هل هي اشتراكية الحزب الإشتراكي الألماني موئل خيانة الطبقة العاملة منذ مؤسسه كاوتسكي وما بعده!؟ أم هي اشتراكية الحزب الإشتراكي الفرنسي المعروف بحروبه الإستعمارية على الجزائر وعلى مصر!؟ عن أية إشتراكية يتحدث هذا الليبرالي الهامشي المتنطع وهو يدّعي أنه لا يريد تشويه الإشتراكية!؟

بعد انهيار المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية العالمية 1991، طفا الليبراليون على السطح يصيحون بأعلى صوتهم مبشرين بالديموقراطية الليبرالية التي كان قد غيّبها المشروع اللينيني طيلة القرن العشرين. ما يدلل على نفاق وبهتان الليبراليين العرب على الخصوص هو أنهم يتناسون عن عمد كل أساس اقتصادي لديموقراطيتهم الليبرالية المدّعاة. القانون العام، الذي لا خلاف حوله، يقرر أن لكل بنية سياسية أساساً اقتصادياً تستند إليه. ليبراليونا العرب صدعوا رؤوسنا بدعاواهم الديموقراطية من غير أن ينبسوا ببنت شفة عن أي أساس اقتصادي لتلك الديموقراطية، وهو الدلالة القاطعة على نفاقهم وبهتانهم. مسيحهم الذي طفا تلو انهيار المشروع اللينيني يبشر بالديموقراطية الليبرالية كآخر بنية سياسية يعرفها الجنس البشري، فرانسس فوكوياما، اضطر لأن يؤسس لدعواه الديموقراطية الليبرالية اقتصاداً ليبرالياً أيضاً وهو الإقتصاد الرأسمالي أو ما سماه " إقتصاد السوق "، اضطر لذلك رغم سخفه الفاضح في تفسير التاريخ كتجليات للروح الفردانية (Ethos) . لعل الليبراليين العرب تنكّروا لسخف فوكوياما فانتهوا إلى سخافة أدهى وأمرّ إذ ابتنوا لأنفسهم بنية سياسية بغير أساس، بنية معلقة في الهواء هي الديموقراطية الليبرالية في المجتمعات العربية غير النامية.

لن نتعرض هنا لسخف تفسير فوكوياما للتاريخ؛ ولن نطيل الوقوف أمام افتراضه الخاطئ بأن الاقتصاد الأميركي والاقتصادات النظيرة هي اقتصادات ليبرالية توفر الفرصة للمبادرة الفردية (Free Enterprise) ويمكن تأطيرها بإطار اقتصاد السوق، حيث أن مجمل إنتاج الخدمات وهو يعادل 80% من مجمل الانتاج القومي للولايات المتحدة لا يخضع لقانون السوق الأساسي وهو قانون القيمة الرأسمالية؛ فالسوق الأميركية وأسواق الدول المماثلة لم تعد أسواقاً رأسمالية، وهو ما مكّن المتنفذين فيها لأن يتحدثوا عما سمّوه " إقتصاد المعرفة "؛ والمعرفة كما هو معروف عصية على حسابات التقدير والتخمين وهي لذلك لا تدخل السوق من قريب أو بعيد. وعليه، فطالما أن الأساس الذي بنى عليه مسيح الليبرالية ديموقراطيته الليبرالية كان قد نخره السوس قبل عشرات السنين فلن تقوم إذاً قائمة لديموقراطيته الليبرالية. أما ما يراه فوكوياما لبعض التجليّات لحقوق الإنسان في المجتمعات الغربية فمرده أسباب أخرى ليست من صميم موضوعنا، لكن يجدر أن يشار إلى أن أهم هذه الأسباب هو أن النظام الرأسمالي لم يعد قائماً في تلك البلدان الموسومة بالديموقراطية الليبرالية التي باتت تستدين لتوفر الإستهلاك الواسع لشعوبها.

الليبراليون العرب تعلموا من مسيحهم النصف الأول من الدرس وهو الديموقراطية الليبرالية لكنهم لم يتعلموا النصف الثاني وهو الإقتصاد الليبرالي أو ما يسمى باقتصاد السوق. لم يتعلموه ليس غباءً فيهم كما يبدو بل لأن أحداً منهم لن يجرؤ على الإدعاء بتواجد اقتصاد السوق في بلدانهم. جراءتهم المعيبة من مختلف الأوجه لم تتجاوز حدود المطالبة بالديموقراطية الليبرالية دون التطرق لأنماط الإقتصاد السائدة في البلدان العربية. وهذا عيب يجب أن يخجل به هؤلاء المنافقون حيث أن أحداً منهم لن يدعي أيضاً بأن الديموقراطية الليبرالية يمكن أن تكون البناء السياسي لغير البناء الرأسمالي أو اقتصاد السوق كما ينظّر اقتصاديو الرأسمالية ومجندوها من مثل فوكوياما على الأقل. لو أن الليبراليين العرب تخلوا عن شيء من النفاق لطالبوا أولاً بإقامة البناء الرأسمالي كبناء تحتي لبناء الديموقراطية الليبرالية. وهكذا فإنهم يستخدمون النفاق لستر عوراتهم كدعاة للرأسمالية أو مأجوريها ربما.

لئن تمكّن فوكوياما من تبرير دعواه بالزعم أن اقتصاد السوق كان وما زال قائماً في البلدان الرأسمالية الكلاسيكية ــ وهو زعم باطل من مختلف الوجوه ــ فالليبراليون العرب يفتقدون كل مبرر لمطالبتهم بالديموقراطية الليبرالية حيث أن بلدانهم جميعها لم تقترب أبداً من عتبة النظام الرأسمالي الذي يبني مداميكه الأولى فقط اقتصاد السوق حصراً. اقتصاد السوق موصوف بثلاث خصائص جوهرية ..
(1) التبادل في السوق يتم بين منتوجات من الصناعة الوطنية حصراً، فالبذلة من الصناعة الأميركية لا تستطيع أن تنافس مثيلتها من الصناعة الصينية التي ثمنها يساوي 1/10 من ثمن البذلة الأميركية؛ والبذلة الصينية لا تنتسب بخيط من خيوطها إلى السوق الأميركية.
(2) الاحتكارات الرأسمالية كما الامبريالية تحولان دون التبادل الحر في السوق التي لن تعكس عندئذٍ غير تأثيرات شائهة على الإقتصاد الذي لا يمكن وصفه إذّاك باقتصاد السوق طالما أن السوق لم تعد حرّة. وذات الأتر ينجم عن تدخلات الدولة في الإنتاج والتوزيع وفق الوصفات الكينزية.
(3) الإقتصادات الريعية التي تعتمد بصورة رئيسية على تصدير المواد الخام أو على الزراعات الفلاحية لا تشكل بالطبع سوقاً لاقتصاد رأسمالي ولا يكن وصفها بالتالي باقتصاد السوق.
يترتب على هذه الخصائص الثلاثة حقيقتان في غاية الأهمية ..
[ أ ] اقتصاد السوق يقوم فقط في البلد الذي يعمل فيه أكثر من 60% من قوى العمل البشرية المتاحة فيه في الإنتاج مباشرة، فغياب 40% من هذه القوى عن سوق العمل، من جهة، وحصولها، من جهة أخرى، على إعاشة دون مقابل من شأنه أن يفسد السوق ويعطل بالتالي قانونها العام وهو قانون القيمة الرأسمالية. فالسوق تقوم أولاً وأخيراً على تحويل قوى العمل الإنسانية إلى سلع وفيها يتم حسم معارك الصراع الطبقي.
[ ب] لا يتماثل اقتصاد السوق إذا ما كان أكثر من 40% من القوى العاملة يعمل في إنتاج الخدمات حيث أن الخدمات تتم مبادلتها خارج السوق طالما أنها عاجزة بطبيعتها عن إكتساء صنمية السلعة وهو ما يبعدها عن نفاذ قانون القيمة الرأسمالية ولذلك تجري مبادلتها بصورة إعتباطية دون النظر لكلفتها الإجتماعية كما في حالة التبادل السلعي.
على ضوء هذه الخصائص والحقائق ينتفي أي إدعاء بتواجد ما يعرف باقتصاد السوق في البلدان التي سميت تعسفاً بالبلدان النامية من مثل البلدان العربية، بل وينتفى أيضاً في البلدان الرأسمالية سابقاً حيث أن نسبة إنتاج الخدمات تفوق 60% من مجمل الإنتاج فيها جميعها. وعليه، يمكن الجزم بأن الديموقراطية الليبرالية الحقيقية لا يمكن أن تقوم في البلدان العربية؛ كما أنها لم تعد قائمة في البلدان الرأسمالية سابقاً. البنية الإقتصادية والبنية السياسية المرافقة في البلدان الرأسمالية سابقاً إنما هي اليوم بنىً زاثفة لن تعمّر لبضع سنوات أخرى؛ فالرفاه الذي توفره دولة الرفاه، وهي دولة الطبقة الوسطى وليست دولة الرأسمالية، لا يتوفر إلا عن طريق الإستدانة، ولن يكون بمقدور دول الشرق الأقصى بعد سنوات قليلة أن توفر الرفاه للشعوب الغربية على حساب شعوبها.

ازدهار التجارة الدولية (Mercantilism) في عهد أليزابيث الأولى ملكة إنكلترا (1558 ــ 1603) شجع على إيجاد أدوات إنتاج جديدة لا عهد للنظام الإقطاعي بها ولا تتناسب بل تتناقض مع قوى الإنتاج فيه. إذّاك بدأت تتشكل في المناطق البينية الحرة مدن (Bourg) يهرب إليها الأقنان ليعملوا في الصناعات اليدوية (المانيفاكتورة) كصناعة النسيج، من مثل أمستردام وأنتويرب وهمبورغ وأدنبره وزيورخ وفلورنسة وجنوة والبندقية. تفتحت البورجوازية في هذه المدن وأقامت حكومات جمهورية ديموقراطية ليبرالية لأول مرة في التاريخ، ورفعت نداءها التاريخي " دعه يعمل دعه يمر " (Laissez faire,Laissez passer) وهو النداء الذي أشّر لبداية التطور الرأسمالي في مواجهة الإقطاع الذي كان يحول دون إلتحاق الأقنان بالعمل الصناعي، كما يحول دون انسياب التبادل التجاري بين المدن البورجوازية الحرة. قامت في هذه المدن نقابات مهنية (Trade Unions) واتحادات رؤساء الأعمال (Guild Masters) وتشكلت مليشيا مسلحة وأحيطت المدن البورجوازية بأسوار عالية كل ذلك من أجل حماية أنماط الإنتاج الجديدة التي بشّرت بانتقال أوروبا من عصر الإقطاع إلى عصر الرأسمالية.

نداء " دعه يعمل، دعه يمر " أطلقته المدن االبورجوازية الصناعية الحرة في وجه قوى الإقطاع الأوروبي كحماية لأنماط الإنتاج الجديدة. الروح الليبرالية والديموقراطية التي يحملها هذا النداء لم يكن بوسع البورجوازية أن تتنكر لها داخل جمهورياتها المدينية. من هنا تمتعت مختلف الإتحادات المهنية (Guilds) في المدينة البورجوازية (البورغ) بحرية كاملة في العمل وفي التطور. في تلك المدن البورجوازية نمت بذرة الديموقراطية الليبرالية في تربة الإقتصاد الليبرالي، إقتصاد السوق، وترسخت جذورها في الأرض طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر، فكان من ثمارها الثورة الصناعية 1760 والثورة السياسية متمثلة بالثورة الفرنسية 1789. هنا ومع ازدهار الديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق يجب ألا ننسى أبداً ما لحق بطبقة المتدربين (Apprentices) في المهن المختلفة من استغلال واضطهاد موصوفين عبر التاريخ خاصة وأن معظمهم لم يعبر عمر الطفولة. وهكذا فإن الهالة الرومانسية التي يحيط بها الليبراليون الجدد الديموقراطية الليبرالية وقرينها اقتصاد السوق لا تستطيع أن تخفي الندبة العريضة السوداء في وجه ليبراليتهم البائدة.

مع انطلاقة الثورة الصناعية 1760 انتقل العالم إلى مرحلة جديدة من النظام الرأسمالي. فكان كلما اشتد عوده تصرّف كما الفيل في دكان الخزف يحطم الصناعات الحرفية (المانيفاكتورة) بصورة همجية لا ترحم أودت بمصائر ملايين البشر الذي اعتمدوا في معاشهم على الصناعات اليدوية. كل ذلك لم يثنِ الليبراليين عن الإدعاء بالديموقراطية الليبرالية طالما أن مجمل الإنتاج القومي لم يفض عن حاجات السوق الوطنية قبل أن يتصدّع الإطار العام لاقتصاد السوق. بعد العقود الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر بدأ الإنتاج الرأسمالي الوطني يفيض عن حاجة السوق المحلية في البلدان الرأسمالية الكلاسيكية وهو ما استلزم تسويق فائض الإنتاج في الأسواق الخارجية. نشوء الروابط القوية بين السوق في المركز الرأسمالي والأسواق المحيطة، وهو ما يعرف بالإمبريالية، أفقد السوق المركزية حريتها ولم يعد بذلك اقتصاد المركز الموجه بمعظمه للأسواق الخارجية هو عينه اقتصاد السوق. وعندما يفقد الإقتصاد حريته الليبرالية تفقد السياسة حريتها الليبرالية أيضاً بصورة آلية. ولنا أن نستدل على ذلك مرة أخرى بالاقتصاد الصيني الذي غدا اقتصاداً موجهاً ليس صوب بناء الإشتراكية التي سقطت تبعاً لسقوط الاشتراكية السوفياتية بل صوب حاجات السوق الأميركية والسوق الخليجية، وعليه لا يمكن الإدعاء بأن الإقتصاد الصيني اقتصاداً وطنياً حراً، ومثل هذا الإقتصاد الإمبريالي لا يؤسس إطلاقاً لما يسمى بالديموقراطية الليبرالية.

نعود لنؤكد أخيراً أن الديموقراطية الليبرالية إنما هي البناء الفوقي السياسي للإقتصاد الحر أو إقتصاد السوق. ولما كان الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق كان قد تلاشى نهائياً في التاريخ بعد أن تغوّل النظام الرأسمالي وفاض إنتاجه عن الكفاية الوطنية ليدخل مرحلة الإمبريالية فإن الديموقراطية الليبرالية لم تعد واردة على أجندة التاريخ في مختلف الشروط والأحوال. لقد ركنت في متحف التاريخ منذ زهاء القرن ونصف القرن. بعض التجليات الماثلة اليوم لحقوق الإنسان في الدول الرأسمالية سابقاً مردها الضعف البنيوي لدولة الطبقة الوسطى، دولة المدينين غير المنتجين، دولة الرفاه. أما بخصوص الديموقراطية، أكانت ليبرالية أم غير ليبرالية، فإن التبادل الجائر الجاري اليوم بين الإنتاج الخدمي والإنتاج السلعي يهزأ بكل دعوى ديموقراطية.

فؤاد النمري



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حقائق أولية في العلوم السياسية
- شيوعيون بلا شيوعية !!
- كيف نتضامن مع الشعوب السوفياتية لاسترداد فردوسها المفقود
- إنسداد دورة الإنتاج الرأسمالي وانهيار الرأسمالية
- الإنحراف المتمادي لبقايا الأحزاب الشيوعية
- محاكمات غير ماركسية لمحاكمة ماركسية
- محاكمة ماركسية
- - الأصولية - الماركسية في وجه محمد علي مقلد
- العيد الثامن للحوار المتمدن
- آثام جسام وتشوهات خَلْقية ورثتها البشرية عن أعداء الشيوعية
- ما هي الشيوعية، ولماذا الشيوعية؟
- الماركسية تأسست على الحقيقة المطلقة
- الطبقة الوسطى كما البروليتاريا، كلتاهما تنفيان الرأسمالية
- ماذا عن راهنية البيان الشيوعي (المانيفستو) ؟
- فَليُشطب نهائياً مراجعو الماركسية !
- الحادي عشر من سبتمبر
- إشكالية انهيار النظام الرأسمالي
- ما الذي يجري في إيران ؟
- من هو الشيوعي الماركسي ؟
- القول الفصل فيما يُسمّى بالعلمانية


المزيد.....




- طاهر النونو: العلاقة بين الفصائل الفلسطينية متينة ومبنية على ...
- البيان الختامي للمؤتمر التضامني مع عاملات وعمال «وبريات سمنو ...
- كيف وقعت الصين الشيوعية في حب الخصخصة؟
- ماذا جرى قبل انفجار -تيتان-؟.. كشف آخر ما قيل على متن -غواصة ...
- حملة تضليل روسية لصالح اليمين المتطرف الألماني
- العراق.. مسيرة تركية تستهدف اجتماعا لحزب العمال الكردستاني
- صديق القادري.. جنرال عراقي قاتل مع القياصرة ضد الثورة البلشف ...
- رحيل المفكر العربي البناني – الفلسطيني إلياس خوري
- مقتل عنصر وإصابة 2 من حزب العمال الكردستاني بغارة تركية في ا ...
- مواجهات بين متظاهرين والشغب أمام مبنى ديوان محافظة ذي قار


المزيد.....

- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي
- تحديث. كراسات شيوعية (الهيمنة الإمبريالية وإحتكار صناعة الأس ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - الليبرالية ليست إلاّ من مخلّفات التاريخ