|
المهذّبون يموتون غرقًا
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2912 - 2010 / 2 / 9 - 06:09
المحور:
حقوق الانسان
على مقربة من السواحل البريطانية، غرقتْ العام 1912 أكبرُ منشأةٍ صناعية بحْرية بناها الإنسانُ حتى آنذاك، تايتانيك، وحملتْ معها إلى قاع الأطلسيّ البارد ألفَ وخمسمائة روحٍ بشرية. وفي العام 1992، ضربَ زلزالٌ مروّعٌ أرضَ مصرَ الطيبة، وخطفَ معه أرواحَ ما يناهز الستمائة إنسان، وخلَّفَ وراءه ألوفَ الجرحى. وتقولُ الإحصاءاتُ والدراسات إن التدافعَ والتناكبَ كانت وراء معظم حالات وفاة ضحايا زلزال مصر. بينما أنبأتنا مؤخرًا وكالةُ أنباء الشرق الأوسط بلندن، أن التحليلاتِ والباحثين أرجعوا ارتفاعَ عدد ضحايا غرق السفينة الشهيرة "تايتانيك"، التي غرقت في أول رحلة لها من بريطانيا إلى أمريكا، أرجعوا ذلك إلى أدب الإنجليز الجمّ ورقيّ سلوكهم لحظةَ الخطر، ما دعاهم إلى الاصطفاف بتهذُّب وهدوء انتظارًا لدورهم في النزول إلى قوارب النجاة! وقال أحدُ رجالات الاقتصاد من المدرسة السلوكية، إن البيانات تشير إلى أن البريطانيين في تلك الحقبة كانوا يريدون أن تكونَ تصرفاتُهم راقيةً، في الوقت الذي كان فيه الأمريكيون، على ظهر السفينة ذاتها، أكثرَ أنانيةً وتهافتًا على الحياة. اصطدمتِ السفينةُ العملاقة، التي كانت تحفةً فنيةً فاتنة، بجبل جليديٍّ عائم على سطح المحيط. وعلم المسافرون أن ساعاتٍ قليلةً تفصلهم عن لقاء حتفهم. قدَّم الرجالُ النساءَ على أنفسهم، لينزلن إلى قوارب النجاة، وقدّمتِ النساءُ الأطفالَ على أنفسهن، وقدّم الأطفالُ الشيوخَ، وظلّتِ دائرةُ الإيثار والرُّقيّ تدورُ حتى قضي معظمُ المسافرين "المهذّبين" غرقًا، بينما ظلّ قاربَا نجاةٍ لم يُستعملا أبدًا، على الرغم من أن عددَ القوارب في الأساس لم يكن ليكفي إلا نصفَ عدد المسافرين على متن السفينة! وقال ديفيد سافدج، البروفيسور بجامعة كوينزلاند للتكنولوجيا، إنه درسَ الكارثةَ ليطَّلِع على ردود فعل الناس في مواقف الحياة والموت. وأشار إلى مقولات النساء، الناجيات، بأن أزواجهن قد وضعوا زوجاتهم في قوارب النجاة، ثم عادوا إلى السفينة بحجّة أنهم يريدون تدخين السيجار! في الوقت الذي كانت فيه السفينةُ تغرق بالفعل، بينما كان انزواؤهم من أجل أن يسمحوا لنساء أخريات بالنزول إلى قوارب النجاة؛ خجلاً من أن ينجو رجلٌ، فيما تصارعُ سيدةٌ أو طفلٌ صغير الموجَ الثلجيَّ القاسي! ولهذا نالتِ النساءُ والأطفالُ 70% من فرص النجاة، فيما لم يحظَ الرجالُ بتلك الفرصة. حدثان كارثيَّان. ونتيجتان مأساويتان متشابهتان، لكنْ لسببين متناقضين! لكي نحلِّلَ تلك الظاهرة الحاملةَ تناقضَها، علينا تحديد عوامل المقارنة. المكان: أرضان ضاربتان بجذورهما في عمق الحضارة والتاريخ. مصرُ، بعراقتها التي فاقتْ عراقةَ العالمين، ومازالت حتى الأمس القريب تنجبُ فرائدَ بشريةً في الفن والفكر والأدب؛ وبريطانيا العظمى التي سادتْ دولاً متراميةً على سطح الخارطة، حتى كُنِّيَت: بالإمبراطوريةُ التي لا تغيبُ عنها الشمس. مصرُ التي قدّمت للعالم إرثًا حضاريًا وفنيًّا وفكريًّا مازال يُدهش الدنيا، وبريطانيا الدولةُ التي أنجبت نخبةً من رموز العالم في الأدب والفن والسياسة والفكر. أما الزمان، فأولهما في بداية القرن الماضي، والثاني في نهايته. ثمانون عامًا تفصلُ بين كارثة تايتانيك، وكارثة زلزال مصر. ويحقُّ لنا أن نسأل: ألَوْ ضربَ الزلزالُ مصرَ عام 1912، هل ستكون الأنانيةُ وراء سقوط معظم الموتى؟ في ظنّي أن الأمر سيكون جدَّ مختلف. فتلك النماذجُ الناتئة على النسيج المصريّ التي نشهدها من بعض المصريين الراهنين، ليست إلا إفرازًا لحال سياسية واجتماعية واقتصادية تعسة تمرُّ بها مصرُ الآن، ومنذ أربعين عامًا. بدأ ربما مع الانفتاح الاقتصاديّ الساداتيّ الذي شوّه الهرمَ الاجتماعيّ، وأطاح معه بكتاب القِيَم النبيلة الذي كتبه المصريون على مدار التاريخ، وحتى الستينيات الماضية. المواطنُ المصري الراهن لا يشبه بحال ذلك المواطنَ القديم الذي قرأتُ عنه في مدونة التاريخ، وشاهدته في الأفلام القديمة، وسمعت عنه من حكايا جدتي وجدي. المواطنُ الحالي، الذي قد نراه متهافتًا قليلَ الوعي فقيرَ التحضّر، هو ابنُ لحظةٍ حرجة جثمتْ على مصرَ مع المدّ السلفيّ الذي تزامنَ زحْفُه مع الانفتاح الاقتصاديّ، وما واكب ذلك من انهيار في منظومة التعليم الفاشلة، الذي غدا مجانيًّا مع ثورة يوليو. إذْ ليس كلُّ نظريةٍ نبيلةٍ تُطبَّقُ على النحو النبيل! ولنا في النظرية الماركسية خيرُ مثال. فَصَيحةُ العظيم طه حسين: "التعليم حقٌّ كالماء والهواء"، صيحةٌ نبيلة ابنةُ نظريةٍ فلسفية نبيلة، لكن تفعيلها تمَّ على النحو الخطأ، ما أدى إلى غياب التعليم تمامًا في مدارس مصر؛ فباتت الجامعاتُ تُخرجُ لنا كلَّ عام ألوفًا من أنصاف الجهلاء والأميّين فاقدي التهذُّب والرقيّ، الذين هم خطرٌ على المجتمع أكثرَ من تاميْ الجهل وتاميْ الأُمية. قرأتُ مؤخرًا إحصاءً يقول: إن الفرد الراهن، إلى أن يصل إلى عمر المراهقة، يكون قد سمع ما لا يقلُّ عن ستة عشر ألف كلمة سيئة، ولكنه، في المقابل، لا يسمع إلاّ بضعَ مئات من الكلمات الحسنة! ولا أدرى إن كانت هذه الدراسة عربية أم عالمية! أرجو ألا يشتمَّ القارئُ في مقالي هذا أيةَ نزعة ماضوية. لكنْ ما حيلتُنا حينما نرى أمةً تسيرُ بدأب وإصرار نحو الوراء، في حين يسعى العالمُ بأكمله للأمام، مع كل خطوة من عقرب الساعة على دائرة الوقت؟! بظني، المُحبِّ لبلد جميل اسمه مصر، أن ما تمرُّ به الآن طارئٌ وعابر، وليس أصيلاً ولا ثابتًا. كأنما هو ردةُ فعل متعَبة للحظة متعَبةٍ ومُتعِبةٍ تمرُّ بها بلادي. ولا يصحُّ، رياضيًّا وفلسفيًّا، الحكمُ على كيان ضخم صنع أولَ إمبراطورية حضاريةً في التاريخ، قوامُها سبعة آلاف عام، من خلال برهةٍ زمنية ضئيلة قوامُها نصفُ قرن، إنْ هو في قياس الزمن إلا لمحةٌ خاطفة. مصرُ الراهنةُ منهكةٌ تحت وطأة أثقالٍ أدمتْ كاهلَها وفتَّتت كاحلَها. لكن صحوةً نهضويةً لابد آتيةٌ في لحظة ترسمها السماء. هل أتجاوزُ إذا قلتُ إننا بحاجة إلى النظر إلى الوراء دون غضب؟ وهل أبدو ماضوية جدًّا إذْ أقولُ إن مصرَ في عصر السلطان محمد علي كانت أكثرَ ليبرالية وتحضّرًا عمّا هي عليه الآن؟ في كافة الأصعدة: سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا. وكانت بالفعل في طريقها لأن تغدو دولةً مدنيةً، وهو الحلم الذي أراه بات بعيدَ المنال في هذه اللحظة المعتمة التي تحياها مصرُ الآن. ويبقى الأملُ في جيل طليعيّ مستنير، لستُ أرى بشائرَه بعد، يُصلحُ ما أفسده الدهرُ، والساسة. -
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اقرأوا تصحّوا!
-
انظرْ خلفك -دون- غضب
-
كلَّ عام ونحن أجمل!
-
حوارٌ متمدِّنٌ في ثماني سنوات
-
رجلُ الفصول الأربعة
-
اسمُه: عبد الغفار مكاوي
-
أولى كيمياء/ هندسة القاهرة
-
المحطةُ الأخيرة
-
هُنا الأقصر
-
وتركنا العقلَ لأهله!
-
لا شيءَ يشبهُني
-
طيورُ الجنة تنقرُ طفولتنا
-
المرأةُ، ذلك الكائنُ المدهش
-
مصنعُ السعادة
-
شباب اليوم يعاتبون:وطني حبيبي الوطن الأكبر
-
سور في الرأس، سأسرق منه قطعةً
-
التواطؤ على النفس
-
حاجات حلوة، وحاجات لأ
-
التخلُّص من آدم
-
بلال فضل، وزلعةُ المِشّ
المزيد.....
-
عضو بالكنيست الإسرائيلي: مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وجالانت
...
-
إسرائيل تدرس الاستئناف على قرار المحكمة الجنائية الدولية الص
...
-
وزير الخارجية الأردني: أوامر اعتقال نتنياهو وجالانت رسالة لو
...
-
هيومن رايتس ووتش: مذكرات المحكمة الجنائية الدولية تفند التصو
...
-
الاتحاد الأوروبي والأردن يُعلنان موقفهما من مذكرتي الاعتقال
...
-
العفو الدولية:لا احد فوق القانون الدولي سواء كان مسؤولا منتخ
...
-
المفوضية الاممية لحقوق الانسان: نحترم استقلالية المحكمة الجن
...
-
المفوضية الاممية لحقوق الانسان: ندعم عمل الجنائية الدولية من
...
-
مفوضية حقوق الانسان: على الدول الاعضاء ان تحترم وتنفذ قرارات
...
-
أول تعليق من -إدارة ترامب- على مذكرة اعتقال نتانياهو
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|