صباح هرمز الشاني
الحوار المتمدن-العدد: 2903 - 2010 / 1 / 30 - 11:46
المحور:
الادب والفن
1- أزمته
هذا السؤال الكبير و الخطير و اللامألوف ، غالباً ما يتردد على السنة المثقفين الكرد ، وقد ازداد اكثر الحاحاً في السنوات القليلة الفائتة ، لتدني مستوى العروض المقدمة ، وركود المشهد المسرحي في المدن الكردستانية الثلاث : اربيل ، السليمانية ، ودهوك .
قد يتفق معي ، و لا يخالفني الرأي احد من المسرحيين ، اذا قلت أن مستوى المسرح الكردي بعد الانتفاضة ، ليس بمستوى فترة بداية انتعاشه في السبيعينات ، وفترة عزه و ازدهاره في الثمانينات . واذا كان من مفارقة بوسعها ان تضم كل التناقضات بين جنباتها ، من ضحك وبكاء وسخرية ، فهي مفارقة ، تقدم المسرح الكردي في ظل النظام البائد و المراقبة والملاحقة وتكتيم الافواه ، وتخلفه في ظل الانعتاق وهامش الحرية والتعددية .
لقد مهدت السبعينات ، وعلى كلا الصعيدين ، الثقافي و السياسي ارضية خصبة لمسرح الثمانينات ان تتسم عروضه بالأصالة والتفرد ، وذلك بفعل تأثيرات العامل الاول في تكوين الكادر الاكاديمي الدارس و المتخرج على اعمدة المسرح العراقي الثلاثة المعروفين : ابراهيم جلال ، سامي عبد الحميد ، وقاسم محمد ، ومعاصرته لاكثر فترات المسرح العراقي ازدهاراً في السبعينات ليلعب مسرحيو هذا الجيل دوراً كبيراً قي ترسيخ القواعد السليمة التي تعلموها من اساتذتهم ، وفي تربية الذين جاءوا من بعدهم في الثمانينات للسير على نفس النهج ، وبتفاعل تجربة الاثنين ، الجيل السبعيني والثمانيني ، زائداً العامل الثاني المتمثل بنكبة حركة التحرر الكردية في عام 1975 في اتفاقية الجزائر المعروفة ، ادى الى بلورة فكر الفنان المسرحي الكردي بأتجاه فهم و استيعاب قضية شعبه القومية واحتوائها بالأدوات الفنية الجديدة المتسلح بها ، و توظيفها في المسرح ، وذلك كرد فعل طبيعي - ذاتي وموضوعي – نابع من قدرة الفنان نفسه من جهة ، ومفروض عليه من الظرف القائم المستجد من جهة اخرى .
ان حرص النظام ، ابتداء من منتصف الثمانينات على اقامة المهرجانات المسرحية سنويا في اقليم كردستان ، لم يأت حباً بالشعب الكردي ، ولا رغبة منه لتطوير مسرحه، وانما كان الهدف الاساسي من وراء ذلك، عزوف المسرحيين الكورد من العمل السياسي ظناً منه ، انه بذلك يضرب عصفورين بحجر فمن جهة يقدم خدمة اعلامية لنفسه ومن جهة ثانية يوقع المسرحيين الكرد في شرك الانشغال بامور ثانوية ان لم يذهب به الظن متصورا اياها (تافهة) والهدف الثاني هو امتصاص نقمة الجماهير الكردية عن الاعمال الاجرامية التي يرتكبها بحقها ، وتفريغ جزء من شحنتها الثورية باعتبار ان هذه الوسيلة الاعلامية تاثيراتها وقتية وتزول بخروج المتلقي من صالة العرض .ولكنه لم يفلح في كلا المسعيين شانه شان وسائل انتاج الرأسمالية التي تنقلب ضد المستغل لتفشل اوراقه الاعلامية هذه وتزداد نقمة الشعب الكردي عليه ويتطور المسرح رغم انف عاتيات الزمن .ولعل ايلاء اقامة المهرجانات المسرحية في السليمانية اهمية خاصة من بين المحافظات الكردستانية الاخرى، ولخمس سنوات متتالية من خلال معهد الفنون الجميلة الموجود فيها وبدون انقطاع( 1985-1989) افضل اجابة على نواياه المبيتة ذلك ان هذه المدينة تشكل بالنسبة اليه بؤرة الخطر ومصدرا للمشاكل والمتاعب التي هو بغنى عنها ،لأنه كان في الثمانينات قد دخل في حرب طاحنة مع الجارة ايران .
اذن فالمسرح الكردي الثمانيني لم يخرج من تحت ابط النظام وانما خرج من تحت ابط الفنانين المسرحيين الكرد انفسهم وفهمهم وادراكهم للظروف المحيطة بهم وفرض الظرف القائم عليهم .والظرف القائم هو عمليات الانفال والتبعيث والتعريب متمخضا عن هذا الظلم والقهر والاضطهاد عدد كبير من المسرحيات وعروض جيدة وبقدر دور واهمية ما مهدته فترة السبعينات من ارضية خصبة للثمانينات، باتجاه التحرر من الاساليب الاخراجية التقليدية المعروفة ، الا ان اقتران توجه هذه الفترة بالتاثر غير المبني على فهم دقيق وسليم للأساليب الاخراجية المتبعة في المسرح العراقي ، وسعي نقلها ببغاوياً الى المسرح الكردي ادى الى بروز ثلاثة اتجاهات فيه والاقتداء بتجربة كبيرة مقرونة بأمكانات تعوزها الخبرة والممارسة و بحاجة الى فهم وادراك عميقين لها ، معروفة عواقبها الوخيمة ، فمثل هذا التوجه من الصعب ان يتركز على منهج معين ، و اكثر ما انسحب هذا التأثير بالمسرح العراقي هو على فترة الثمانينات في الاتجاه الداعي الى التجريب و بشقيه مسرح الصورة ، ومسرح الحداثة. وبنفس الحجم من التأثر بالأساليب الأخراجية السائدة في المسرح العراقي ، جرى اللهاث وراء تأليف النصوص المحلية ، ظناً من مخرجي بداية السبعينات ، ان هذا المنحى هو الذي يقود المسرح الكردي نحو مشروعية تأسيسه ، ناسين الامكانات المتوفرة في هذا المجال .
وأذا كان الاتجاه الاول بشقيه ، يسعى الى التجريب من خلال تثوير تراكيب وتكوينات جمالية العرض المسرحي ، على حد ادعاء المنضوين تحت لواءه ، و الاتجاه الثاني الى تأصيل المسرح الكردي ، فأن المسعى الأول ابعد ما يكون عن التجريب ، لان التجريب ليس بتقديم نصوص ينزع مؤلفوها الى المسرح الطليعي ، و لا بأبهار المتلقي من خلال اجواء و امكنة غريبة ومناخات غير تقليدية و الاتيان بحركات بهلوانية ، وانما هو الشروع بوضع بعض الفروض النظرية التي تقوم على اساس التعرض لعنصر من عناصر المسرح . وذلك قبل وضع الفكرة موضع التنفيذ ، وتنفيذ الفكرة يأخذ وقتاً طويلاً ، قد يستغرق عدة سنوات ، وتمر الفكرة في عدة مراحل ، وتتطور بين عرض و اخر ، وهي مثلما قابلة للنجاح كذلك معرضة للاخفاق و الفشل ، والمجرب لا يعمل في فراغ ، و في منأى عن هدف معين ، وانما وفق رؤية ومنظور وتصور واضح ومحدد ، كما عمل بريشت وحقق نتائج باهرة في مسرحه الملحمي بالأسناد الى طروحات ماركس وتطبيقها على مسرحه هذا ليصل الى نفس النتيجة التي حققها ماركس في مقولته المعروفة : ( ان الانسان ينسلخ في المجتمع الرأسمالي من انسانيته بأنسلاخه من شخصيته = التغريب ) .
و اذا كان مسعى بريشت في مسرحه التجريبي هو ترجمة طروحات ماركس بهدف حفز ذهن المتلقي الى الوعي و التفكير بعكس المسرح الارسطي االداعي الى الخمول و الاسترخاء عبر عنصري الخوف و الشفقة ، فأن مسعى بيتر بروك انصب من تجربته الاولى على المسرح الخالص ، و الظاهرة المسرحية اي ان المسرح اكثر بكثير من مجرد النص وكانت مسرحية ( نحن و الولايات المتحدة ) اول تجربة له بهذا الخصوص ولم تثمر ، فأخذ أعضاء فرقته يتمرنون من خلال منظور جديد كلية على الحركات البدنية و على التحكم في قدراتهم الصوتية و الانفعالية معتمدين على الاسلوب الارتجالي، وتحليل المقاطع و الكلمات وايقاع اللغات المختلفة ، غير ان كل هذه التجارب اثبتت كما يقول الدكتور صبري الحافظ في كتابه (التجريب و المسرح ) استحالة عمل مسرحي على درجة معقولة من التشابك و التعضيد في غياب اللغة كلية ، وكان الحل الوحيد هو تقليل دور اللغة بقدر الامكان دون الاستغناء عنها و بعد عدة اعوام من العمل المسرحي على تجارب مسرحية عديدة ، قدمت فرقته اول عمل مسرحي متكامل لها بعنوان (الاتك) و اعقبها بعملها الاكثر نجاحاً ( مؤتمر الطيور ).
أذن فأن بروك لم يعمل في فراغ ، ولا بمنأى عن هدف معين وانما سعى للبرهنة على فرضه النظري في المسرح الخالص و الظاهرة المسرحية وبعد عدة سنوات من البحث و التجربة لم يحقق الا نسبة ضئيلة من النجاح . بينما يظن مسرحيونا او هكذا يتراءى لهم انهم عبر عمل مسرحي واحد و بسقف زمني لا يتعدى عدة ايام وبخبرة متواضعة وكادر فقير وهدف غير واضح ومعلن قد حققوا ما حققه بروك بل و اكثر منه بأسم المسرح التجريبي . اما الاتجاه الثاني ، لوضوح رؤية مخرجه الفنان احمد سالار في المسرح الاحتفالي وخاصة في ثلاثيته المعروفة (نالي وحلم ارجواني ، الصقر يحلق عالياً ، و الجزيري) فقد حاول ان يدخل المسرح الكردي من اوسع ابوابه نتيجة اجتهاده بأسلوبه هذا الواقع تحت تأثيرات المسرح العراقي ، والمسرح العربي ان ينحو بأتجاه تأصيل المسرح الكردي ، وايجاد هويته المحلية وخصوصيته القومية، الا ان انشاء هذا الفنان لنفس ألمفردات الموظفة في ثلاثيته في عروضه اللاحقة ، تحديداً عقب الانتفاضة ، ادى الى عدم ترسيخ اسلوبه وبالتالي تطويره وافضائه الى مسارات كان من الممكن ان يعطي نتائج افضل ويحقق الاهداف المرجوة من اتباع هذا النهج .
اذا كان المسرح بأعتباره جزءاً من الثقافة حاجة ينزع اليها الانسان لاشباع رغباته وبناء شخصيته ، فمن الضروري تحقيقاً لقدر من هذه الحاجة مد جسور التواصل بينه و بين هذا الفن وعدم خلق فجوات وكل ما من شأنه ان يؤدي الى القطعية بينهما ، كما هو الان حال مسرحنا الذي تخلو الايام الاعتيادية و على امتداد السنة من عروضه . ان مسرحاً لا يبنى و يتأسس وفق منهج مدروس ورؤية واضحة ، سواء في رسم خطابه او خلق جمهوره لايمكن بأي حال من الاحوال ان يتجاوز خطواته الاولى ، وهنا تكمن المشكلة ، مشكلة الخوف من الحنين الى الماضي ، من خلال التباكي على فترتي السبيعينات و الثمانينات ، ذلك ان هذا الحنين قد يوحي بخلو المسرح الكردي من المعوقات و المشاكل ، وبالمقابل تقدمه و ازدهاره في ظلهما و سوء استخدامه في الظرف الراهن ، بينما الحقيقة ليست كذلك و انما تتمثل بهجرة الفنانين الحقيقيين الى الخارج وتفرغهم للعمل في قنوات التلفزيون للأحزاب الكردستانية ومن ثم القنوات الفضائية ومعالجة الاخطاء السابقة بما يعادل و يوازي نفس الاخطاء ، بأعطاء الحرية الكاملة للعمل و بدون تميز لمستوى المخرجين مقابل لجنة فحص النصوص السيئة الصيت التي كانت تمارس صلاحياتها بشكل واسع مما ادى بالاضافة الى المبالغ الكبيرة الممنوحة لبعض المخرجين الى دخول هذا الفن من لا صلة لهم به ، وبالتالي الاساءة اليه وتدني مستواه .
لقد انتعش المسرح الكردي في السبعينات ، ونما و تقدم و تطور في الثمانينات لسبب واضح جداً وهو ان الشعب الكردي كان صاحب قضية في هاتين الفترتين . اما بعد ذلك .... بعد الانتفاضة ....؟ !
هذا هو السؤال المهم و اللغز المحير . الذي بحاجة للأجابة و ايجاد العلاج الناجع ، هل ان قضيته انتهت لتراجع مسرحه بخطوات كبيرة الى الوراء ام ان هناك اسباباً اخرى ادت الى ذلك ؟؟
لم تكن انتفاضة اذار عام 1991 حدثاً بسيطا لمشاركة كافة شرائح وطبقات الشعب الكردستاني فيها، والاحداث الكبيرة كما هو معروف بحاجة الى فترة طويلة لاستقرارها و بناء نفسها من جديد سعياً للتحرر من ترسبات الماضي وبأنتظار ما تفرزه من ظواهر و معطيات جديدة ، الا انه بسبب انشغال الحزبين الكبيرين بالأقتتال الاخوي . افقد الانتفاضة الكثيرمن الخصائص و المقومات التي انطلقت شرارتها من اجلها و تتحلى بها الانتفاضات الكبيرة ، مما ادى الى عدم بلورة الظروف الموضوعية و الذاتية ( الناضجة ) و المساهمة في دفع عجلتها الى الامام ، من ان تتضح معالم هويتها و تكشف عن سماتها الحقيقية وذلك بهدف فهم و استيعاب المثقف الكردي لها ، وتبني قضيتها التي هي قضيته . فمن هنا هذا اللافهم الذي يفضي الى الحيرة و البلبلة و الغموض ، نشأت الازدواجية لدى المثقف الكردي ، بجدوى او عدم جدوى توظيف ادواته الفنية في الظرف القائم و المستجد ، وافرغته من الشحنات التي كانت تعتمل في داخله بأتجاه الانزواء و الانعزال النسبيين و لربما الهجرة في بعض الاحيان . و بمناسبة الهجرة فأن المسرحيين المهاجرين قياساً بفئة المثقفين الاخرين كالشعراء و القصاصين و التشكيليين و الموسيقيين فأنهم يعدون اكثرهم عدداً ومن سوء حظ المسرح الكردي ، ان معظم الذين اتخذوا المنفى مأوى لهم هم من خيرة المسرحيين الكرد .
واذا كان الاقتتال الكردي يأتي بالدرجة الاولى الى ما آل اليه المسرح الكردي بعد الانتفاضة ، فأن العامل الثاني وثيق الصلة بمعيشة الفنان لايقل شأناً عنه وذلك من خلال عزوف معظم المسرحيين العمل في المسرح وايثارهم العمل في حقل قريب الى مجال اختصاصهم وهو الدراما التلفزيونية ، سيما و قد فتحت القنوات الفضائية ابوابها لهم و خصصتهم راتباً شهرياً محترماً . وبهذا يكون هذا العامل الموضوعي المفيد من جهة و الضار من جهة اخرى ، قد اعاد نفسه ثانية وكررها و فرض حضوره بذات الثوب الذي جاء يتبختر به في بداية الانتفاضة عندما امتصت القنوات التلفزيونية التابعة للاحزاب الكردستانية قدرات و طاقات المسرحيين الكرد ، و افرغت المسرح الكردي عن العملية الابداعية . و يأتي عامل الحصار الثقافي المفروض على العراق بوجه عام ، و الاقليم بوجه خاص ، الثالوث المكمل للعامل الاقتصادي و الاقتتال الكردي ، و اذا كان هذا الحصار مفروضاً على العراق من طرف واحد فأنه قد فرض على الاقليم من ثلاثة اطراف وهي بالأضافة الى الطرف الاول المتمثل بالقرار الدولي في مجلس الامن ، الحصار الثقافي المفروض من العراق على الاقليم ، و الحصار الثقافي المفروض داخل الاقليم ، وبين محافظة و اخرى ، وبالرغم ان الاطراف الثلاثة لعبت دورها في عزلة الاقليم من حيث رفدها بالمطبوعات الادبية و الفنية و الفكرية ، واحتكاك المثقفين الكرد بالمثقفين العراقيين و العرب و تبادل الخبرات و التجارب بينهم فقد كان دور الحصار الثقافي المفروض من قبل العراق اكثر تأثيرا على المثقفين الكرد من الحصارين الاخرين و خاصة على المسرحيين منهم بسبب وقوعهم تحت تأثيرات المسرح العراقي ، وتجارب فنانيه الكبار ، واكتساب خبرتهم عبر هذا الرافد . و المشكلة الرابعة التي يعاني منها المسرح الكردي ، و قد تنسحب هذه المشكلة الى المسرح العراقي و المسرح العربي ايضاً ، هي بناء فهم معظم المخرجين مصطلح رؤية المخرج ، وسلطة المخرج او موت المؤلف ( لا فرق بين المصطلحات الثلاثة ) انطلاقاً بما يمنحهم حق تأويل النص و تقديمه بالأسلوب الاخراجي الذي يرتأيهم ، وخاصة النصوص التي تخضع لمنهج فني واضح كنصوص بريشت مثلاً ، و النصوص المنضوية تحت لواء مسرح اللامعول او الطليعي ، وقد قادهم هذا الفهم لتشويه الكثير من نصوص روائع المسرح العالمي ، وتقديمها بشكل باهت و بما يسيء للذوق ، ويتجاوز مكانة هذه الروائع و مبدعيها ، ذلك ان القصد من وراء طروحات التوسير و رولان بارت الى القراءات المتعددة للنص لم يكن تعميم هذه القراءة على مستوى كل القراء بقدر ما كان موجهاً تحديداً الى القراء الممتازين .بناءاً على هذا الفهم لمصطلح رؤية المخرج يطرح هذا السؤال نفسه بألحاح : ترى هل ان كل مخرج قارئ ممتاز للنص ، شأنه شأن قراءات التوسير لأعمال ماركس المتأخرة ، وشأن قراءات رولان بارت لروائع الأعمال الأدبية و الفنية ؟؟؟ طبعاً لا ... لجملة اسباب و تقف في مقدمتها الهدف الكامن من وراء هذه الرؤية ، ثم الوضوح في الاسلوب الاخراجي ، فتجاوز النهج الذي اعتمده النص و مدى قدرة ادراك و استيعاب فريق العمل لطريقة العمل الجديدة ، زائداً الثقافة الواسعة ، ولعل السبب الاخير متفرداً وبمعزل عن الاسباب الاخرى يشكل عائقاً كبيراً امام جيل التسعينيات لعدم الخوض في تجربة فاشلة مسبقاً ، أقول السبب الاخير لان معظم مسرحي الكرد للجيل التسعيني لا يجيدون اللغة العربية و ان المصدر الثقافي الوحيد الذي يتيح لهم تطوير امكاناتهم هو اللغة الكردية والمصادر الثقافية الكردية كما هو معروف نادرة وغير قادرة على خلق مثل هذا القارئ الذي يدعو اليه التوسير و رولان بارت ، وحتى اذا افترضنا بتوفرها ، فأنه سيكون بحاجة الى مصادر ثقافية اخرى لاتقل اهمية عن الاولى ، وهي استخدام حاسة البصر لالتقاط تراكيب وتكوينات جمالية العرض المسرحي ، اذ بدون حركة مسرحية متقدمة و متطورة لايمكن لهذه الحاسة ان تلعب دورها السحري في التقاط وخزن الاشياء الجميلة ، وتوظيفها بالأضافة عليها ماهو اجمل من عندياتها بسقوط النظام في بغداد ، حتماً زالت بعض الاسباب التي كانت تشكل عائقاً امام المسرح الكردي كالاقتتال الاخوي و الحصارين الاقتصادي و الثقافي ، وبالمقابل يظل يعاني من مشكلتين اساسيتين ، ذلك ان مشكلة الدعم المادي ، من الممكن معالجتها و احتوائها هي الاخرى من قبل المؤسسات الثقافية وغير الثقافية وهاتان المشكلتان هما الهجرة و رؤية المخرج . اقول (هاتان المشكلتان اساسيتان) او هما تعتبران كذلك لان تجربة سنوات العقد الاخيرة من القرن الماضي اثبت انها عاجزة ان تملاء الفراغ الذي تركه المسرحيون المهاجرون ، ومعالجة هذه المسألة بحاجة الى فترة طويلة وجيل جديد من المسرحيين ، وهذا الجيل لاينشأ الا على اساتذة المسرح العراقي الكبار ، ومتابعته لتطورات المسرح العالمي ، ومشاهدته للعروض الجديدة .
2- نقوده:
الرأي القائل أن النقد دون مستوى العروض المسرحية الكوردية ليس رأياً جديداً ولا رأياً خاصا بمسرحنا فهذا القول مثلما ينطبق على المسرح العراقي كذلك يمكن أن يقال نفس الشيء عن المسرح العربي ولو توخينا الدقة أينما اخضع المسرح للنقد في هذه المعمورة ويأتي هذا الرأي طبيعيا جدا إذا ما جاء على لسان الفنانين الحقيقيين,أو الذين زرعوا بذرة خير في جسد المسرح الكوردي ,أما أن يأتي بهدف تبرير البعض عن فشلهم فهو غير مقبول أساساً ,وباعتقادي أن هذا الرأي لو جاء على لسانهم بصفتهم مثقفين وليس مخرجين سيحظى باحترام أوفر ,لأنه عندما يطرح بالصيغة الأخيرة يبدو في تشخيصه اقرب إلى الكتابات النقدية التي تناولت العروض المتدنية المستوى منه إلى العروض الجيدة.ليس المهم أن يكون هذا الرأي عاماً أو خاصاً وإنما كما يقول الناقد "ياسين النصير" (أن بإمكان مناقشة منطقية دحضه عبر إخضاع العروض المسرحية لعملية لي إذا ما أريد ضمها إلى الأطر الثقافية الأوسع التي تشكل التقليد العام كما فعل يوما ما الدكتور "جميل نصيف" عندما حلل مسرحية(أشجار الطاعون),أو كما يتدرج الناقد الأوربي ضمن سياق عمله ابتداءً بالنص ومروراً بالعناصر الفنية التي تتكون منه وانتهاءً بحضوره اليومي للتمارين الجارية عليه,مبنياً تصوره لمراحل عملية الإنتاج الفني على أساس تراكم خبرات كل العاملين فيه.
ولكن لان مسرحنا يفتقر إلى مثل هذا الناقد المنهجي ولم يظهر فيه لحد الأن الناقد الدارس الجاد والموسوعي ليجعل من النقد احترافاً له,فقد اضطر أن يتنازل وعلى حساب تذوقه الفني لجملة من الاضطرابات التي تعتور العروض المسرحية ويغض الطرف عنها.
وبقدر مايعد البعض هذا التنازل من قبل النقد أسلوباً من أساليب المساومة غير المشروعة لسد النقص الذي يعاني منه أو لخلق حالة من التوازن الابستمولوجي بين طرفي المعادلة(النقد والإخراج) فانه أي الناقد ,للنرجسية التي يتحلى بها شأنه شان أي فنان ,وخشية إزاحته من الطرف المقابل للمكانة التي يحتلها في الوسطين الثقافي والاجتماعي لايتوانى أحياناً أن يوسم كتاباته النقدية,وسداً لهذا النقص لما توحي بتجاوزها على العرض وذلك من خلال إقحامها بطروحات لا تمت له بصلة.
هذا المأخذ على نقدنا ربما يقودنا إلى مأخذ أخرى ,إلا انه للأسف لم يتناول لحد ألان بشكل جدي من قبل دراسي المسرح والمهتمين به وربما كان هذا احد الأسباب الجوهرية التي حدت بجماعة المسرح الهابط أن تقرن أسباب تخلف النقد المسرحي الكوردي بألد خصومها وهو الناقد لامن خلال المناقشة الموضوعية لهذه الأسباب وإنما بتوجيه السباب والشتائم له والمطالبة بسحق عظامه لأنه تجرأ يوماً ما وكشف عن الأخطاء الكبيرة لعروضهم , والعودة إلى تصفح دفاتره(العتق)وكل ما كتبه في الصحف و المجلات للبرهنة على انه طفيلي وابن طفيلي ولا علاقة له بالمسرح والمسرحيين ,ناسين هذه الجماعة ,أن داخل صفوفهم جمهرة واسعة من الطفيليين الحقيقيين الذين تسللوا إلى الحركة المسرحية الكوردية بغفلة من الزمن وهم في جانب مظلم من نهجهم أصل البلاء.
أعود فأقول للأسف أن هذه المآخذ على نقدنا لم تتناول بشكل جدي وتقف في صدارة هذه المآخذ ,عدم إتباع الناقد لمنهج نقدي متكامل ,والناقد العراقي هو الأخر يفتقر إلى هذا المنهج ومنشأ هذا السبب ليس الناقد وإنما كاتب المسرح الكوردي لأنه ليس كاتباً درامياً ,بالإضافة إلى المخرج الذي تتسم عروضه بتدني مستواها الفني ,وعدم رضوخ أسلوبها وأسلوب المدرسة الإخراجية التي تنضوي تحت لوائها ,وهذا الخلل وان كان قائماً في بنية الثالوث المسرح الكوردي منذ نشأته ولحد ألان (التأليف – الإخراج – والنقد) فإنه يبدو أكثر بروزاً في بنية المقال النقدي لكون النقد اقل حضوراً وجمهرة من العرض المسرحي ,وبتقديري من هنا يأتي الاتهام الموجه إلى تخلف النقد علماً أن العروض المسرحية الكوردية لو أخضعت إلى تحليل معايير الإخراج الدقيقة لوجدنا أنفسنا إزاء اضطراب رهيب لمعايير الإخراجي المسرحي.
ورغم ذلك فالناقد الكوردي يتستر على الكثير من العيوب ويتغاضى عنها في محاولة منه لرفع مستوى العرض وعدم التقليل من شأنه سيما وثمة مسوغ فيه تسمح له بالنفاذ من خلالها ,كما انه يتفادى أن يصدر عليه أحكاماً مطلقة ,كأن يقول هذا العرض غير جيد أو يفتقر إلى أسلوب إخراجي معين إلا مانَدُرَ وفي حالات تدني مستوى العرض إلى درجة كبيرة ويبني نقداً آراؤه في اغلبه على الرأي الصحافي السريع ,بسبب عدم وجود مجلة خاصة بفن المسرح تتبنى قضاياه ,وقد مر النقد في المسرح العراقي لفترة طويلة ومازال بهذا المنحى ومارس الاعتماد على الاجتهادات الشخصية دوره الكبير للخروج بآراء يمكن تطبيقها على كل العروض بشكل عام ,وارتكز لفترة طويلة على نقد المضمون وخاصة في بدايته وبداية انتعاش الحركة المسرحية الكوردية في أوائل ومنتصف السبعينات محدثاً بذلك فجوة كبيرة في العرض باتجاه الفصم في وحدته العضوية وبين أهم عناصره التي تشكل(العرض المسرحي) وهما الشكل والمضمون ,لم ينجُ من هذا المنهج حتى نقاد كبار في المسرح العراقي أمثال الدكتور"جميل نصيف"و"يوسف عبد المسيح ثروة".
ويحتل لهاث الناقد الكوردي وراء العروض المسرحية التي تتطابق مع منهجه النقدي من اكبر المآخذ التي يمكن أن تسجل عليه,وبدون أن تتزاوج أو تنصهر هذه المنهجية بالنظرية أو بالعكس تطبيق النظرية على العرض.
معظم المخرجين المسرحيين الكورد لايتقبلون النقد ويتذمرون منه ,أن لم اقل لا يحبذونه وينفرون منه أساساً ظناً منهم انه لا يتعرض ألا على الجانب السلبي لأعمالهم ,طبعاً لهذه النظرة إلى النقد أسبابها الموضوعية والذاتية فالسبب الموضوعي هو الناقد والذاتي هو المخرج وذلك بتعرض الناقد للأعمال الهابطة وتقديم المخرج لعروض تخلو من أساليب إخراجية معينة.
وعندما أقول أن السبب الموضوعي هو الناقد ,لا اقصد من وراء ذلك الدفاع عنه لا لان نقده لايتسم بالجدية أي لاتتعرض للعروض المسرحية الجيدة وإنما لشيوع العروض الرديئة في مسرحنا تفرض بعض الظواهر والمعطيات التي تفرزها مثل هذه العروض أحكامها على الناقد.
واعتقد أن عدم تقبل معظم المخرجين المسرحيين الكورد للنقد ليست مسألة خاصة بقدر ما هي مسألة عامة, ويمكن أن تنسحب على سواهم من المخرجين العراقيين وان اختلفت درجة حدة هذا الصراع من مخرج إلى أخر تبعاً لمديات مستوى العرض,والصراع القائم بين الناقد والمخرج ربما برز بظهور أول مسرحية ممثلة ولو بشكله السطحي وهذا الصراع سيستمر مادام الناقد ينشدُ الإبداع والمخرج لا يقر بشهادة الناقد.
ومادام موقف معظم المخرجين إزاء النقد كذلك والعرض المسرحي يفتقر إلى الإبداع والوسط الثقافي يشكو منه والحال هذا من المفروض الالتفات إلى الجانب الثاني منه المتمثل بندرة من المخرجين الذين لا يخشونه ويستسيغونه ,والقلة كما هو معروف في كافة المجالات الثقافية هي دائمة صاحبه الوجه الحقيقي والناصع للعملية الإبداعية .
ولكننا إزاء هذا الواقع المسرحي البائس الذي يفتقر إلى حتى هذه (القلة) مضطرون أن نتحدث هنا بالعموميات وليس بالخصوصيات.
غالباً مايمنح المخرجون المسرحيون الكورد الحق لأنفسهم اتهام الذين يتعرضون لاعمالهم من النقاد بأنهم غير جديرين في اداء مهمتهم النقدية بذريعة ان المخرج في معظم الاحوال حاصل على شهادة فنية , والناقد مجرد متابع , ناسين اصحاب مثل هدا الرأي المثل الشعبي القائل(مو كل مدعبل جوز) ويتمادى البعض منهم على حقه النقدي في محاولة لتفريغه من المصطلح الذي يطلق عليه وهو الناقد بهدف التقليل من شأنه والتشهير به تحت تسميات عجيبة وغريبة بينما لا يعطون نفس الحق للناقد وهو مايسعى تجنبه احتراماً لقدسية العملية الفنية ومكانتها الاثيرة في نفسه ,ان يطلق المسميات بغير تسمياتها الحقيقية كأن ينعت مخرجاً بغير المصطلح المعروف به وهو الفنان مع ان وسطنا المسرحي واقول ذلك مضطراً تتعشعش فيه عشرات اللافنانين المحسوبين على الفن .
فليس كل خريج معهد او كلية الفنون الجميلة فناناً ,وليس كل من قام بأخراج مسرحية ما هو كذلك ,فالفنان الحقيقي هو من يضيف الى معلومات المتلقى شيئاً جديداً ويجعله ان يستمتع في الوقت نفسه بهذه الاضافة لا ان يفسد ذوقه ويقوم بتمييع ما لديه من علوم معرفية عامة والمسرح خاصة ,سيما معاهد وكلياتنا لجملة اسباب عاجزة ان تقوم بتأهيل الدارس واعداده لما تتوافر فيه كل مستلزمات الفنان الحقيقي حاضراً ومستقبلاً ,لعدم اتباع كادرها التدريسي منهجاً واضحاً في القاء الدروس النظرية والتطبيقية بالاضافة الى عدم استعداد الدارس نفسه لمدى الاستفادة من خبرات وتجارب اساتذته وتطوير امكاناته بالاعتماد على الجهد الذاتي والمتابعة ,زائداً الموهبة التي يتحلى بها قدرته على التخيل في تفجير اللحظة الابداعية تماماً بعكس الشخص الذي لم تسنح له فرصة الدراسة الاكاديمية ,نجده لتعويض مافاته اكثر اندفاعاً لمتابعة واستزادة المعرفة من زميله الدارس الاكاديمي بل ولا اغالي اذا قلت اكثر ثقافة منه وبالتالي ابداعاً في اعماله ,فمن الظلم والاجحاف بحق معاهدنا وكلياتنا اناطتها بدور اكبر من حجمها الحقيقي او تأطير دورها لمن يحلو لبعض من الاكاديميين ,بهالة من الدخان الكثيف المشابه للدخان المتصاعد من المعامل والمصانع لمنحها بنفس سماتها ظناً منهم بهذا التأطير والتشبيه انهم قد اصبحوا صنواً لها .
ارجوا الا يفهم القارئ انني هنا اسعى الى التقليل من شأن الاكاديميين او احاول الاستخفاف بأمكاناتهم بقدر ما اود التأكيد على دور معاهد وكلياتنا الفنية المحدود والضيق في صقل وتنمية مواهب الدارسين فيها , اذ لايتعدى اكثر من تمهيد ارضية خصبة لهم للبحث عن المصادر التي يستقون منها زادهم الثقافي لتطوير امكانيتهم ,وانها ليست معامل لتخريج الفنانين كما يتوهم البعض .لاضفاء هذه المسحة ,مسحة الفنان على انفسهم وان الشخص الذي تعتمل في داخله حب المسرح يستطيع وبمجهوده الفردي وعن طريق المتابعة والمشاهدة ان يترجم هذا الحب الى اعمال ابداعية , لا اقول هذا جزافاً انما هي حقيقة تلمستها من خلال تجربتي مع المسرح الكوردي واحتكاكي بمسرحييها الاكاديميين وغير الاكاديميين , وهنا يطرح هذا السؤال نفسه بألحاح بأعتبار ان الناقد شأنه شأن غير الاكاديمي كون ذخيرته المسرحية بمجهوده الفردي.
ماهو السر الكامن وراء وجود الناقد المسرحي في اربيل وعدم وجوده في السليمانية مع ان الاساليب الاخراجية للمسرح الكوردي تبلورت على ايدي فناني السليمانية ؟؟
ان الاجابة على هذا السؤال هو : ان عدم اشباع المثقف المسرحي للطموح الذي ينشده من خلال العروض التي يشاهدها في اربيل ، جعلته ان يعبر عنه من خلال كتاباته النقدية هذه الاجابة تقودنا الى التذكير بالمتابعات الجادة التي كان يقوم بها أربعة من مسرحيينا الكورد غير الأكاديميين قبل الانتفاضة ، للمهرجانات المسرحية المقامة في بغداد وعلى نفقتهم الخاصة، واعتقد ان الوسط الثقافي الكوردي يعرف جيداً الذين اعنيهم لدورهم المشهود في الحركة المسرحية الكوردية .سواء من خلال عروضهم ، او طروحاتهم ،وفي تجربة مسرحنا نماذج كثيرة تعزز صحة قولنا هذا، واكتفي بهذا الخصوص إعطاء النموذج التالي :
لقد اخرج مسرحية الغجر لبوشكين اثنان من فنانينا كل منهما في عرض مستقل ، احدهما أكاديمي والآخر غير اكاديمي ، وفي حينها نشرت مقالا خاصاً عن العرضين في جريدة الجمهورية ولا اريد ان ادخل في تفاصيل ما كتبته عنهما،فمخرجا المسرحيتييين أدرى من اي شخص اخر برأيي عن العرضين،بقدرما اود التأكيد على ان عرض المخرج غير الاكاديمي كان أفضل من عرض المخرج الاكاديمي ،لا بل نال الجائزة الاولى في مهرجان المسرحي المقام في بغداد،وكذا الحال بالنسبة لعرض الدراويش يبحثون عن الحقيقة لمصطفى الحلاج،عندما قام باخراجه فنان غير اكاديمي ، وجاءت النتائج مماثلة للتجربة الاولى ، بتفوق عرض غير الاكاديمي ، وحيازته على الجائزة الاولى في المهرجان المسرحي المقام في السليمانية ..
فالابداع مسألة ذاتية خاصة منوطة بالفنان ، وترتبط بمدى عشقه للفعل الذي يعتمل في داخله ومدى قدرته كموهبة وتخيل ومتابعة لتفجير هذا الفعل والشخص الذي يفتقر الى هذه العناصر لا تستطيع كل معاهد وكليات العالم ان تجعل منه فناناً مبدعاً، وضمن هذا السياق بأعتبار النقد عملية ابداعية كالعملية الفنية فلا مناص للناقد بهدف الوصول الى هذه الحالة ان يتابع تطورات ومستجدات المسرح وهو يواجه جديد العرض المسرحي ، واعتقد ان الناقد الذي لا يطمح ان يكون بهذا المستوى من المتابعة والوعي سوف لا يستمر في عمله النقدي هذا طويلاً، اذ سرعان ما ينسجب منه كما قدر للكثير من النقاد العراقيين والكورد الذين دخلوا هذا المعترك وغادروه بملء ارادتهم.
ولربما بالأضافة إلى هذا السبب ثمة اسباب أخرى لعزوفهم عن ممارسة عملهم النقدي،الا أن هذه الأسباب مهما أختلفت وتنوعت وتعددت فإنها دليل على عدم التصاقهم الحقيقي بالعمل الذي مارسوه عن طواعية،وعلى هذا الاساس يبقى الناقد شأنه شأن الفنان الحقيقي نفر ضيئل من الذين يلهثون وراء الأبداع..
ولعل هذا الاستنتاج يقودنا الى القول:بأن الصراع القائم ظاهراً، ليس صراعاً بين الفنان الحقيقي والناقد،وإنما هو في جوهره قائم بين الناقد والفنان غير الحقيقي ،وهنا تكمن المفارقة ورغم ذلك يبقى غير الحقيقي يتسيد الساحة.
وهنا أعود فأثب إلى الأولى التي بدأت بها لا قول: فبدلاً من أن يقوم هؤلاء المخرجون المتذمرون من النقد بتشخيص العيوب والنواقص التي تعتور العملية النقدية بشكل علمي وموضوعي لايجاد الحلول الناجعة لها نراهم قد استلوا سيوفهم بوجه النقاد معلنين عليهم حرباً ضروس للتشهير بشخصهم وتأريخهم النقدي ، ومدافعين بغير وجه حق عن عروضهم الهابطة، لدرجة ان غذت مسألة عدم تقبل النقد واتخاذ مواقف متشنجة ومنفعلة منها ظاهرة مألوفة في وسطنا المسرحي واذا ما امتدت هذه الظاهرة طويلاً اكثر من حجمها الحالي،لابد للناقد في ظرف لا يسمح له بممارسة عمله النقدي، ان يستلسم لهذه الجماعة ويقدم لهم فروض الطاعة والولاء،أما من خلال الطبطبة على ظهورهم ومحاباتهم ودغدغة عروضهم، او ان يسارع الى البحث عن مهنة أخرى يقوم فيها بدور المهرج مثلاً او الدلال ليترك الفن وأهل الفن إلى الأبد...
يقول المخرج المسرحي الكبير بيتر بيروك:
(ان الفن الذي يخلو من النقاد محفوف بالمخاطر) هذا القول لبيتر بروك يدفعني إلى دعوة مسرحيينا لاجراء مسح ميداني في كوردستان بغية الوقوف على عدد الذين يمارسون العملية النقدية فيها.
بإعتقادي ان المخرج المثابر والجاد لا يتوجس من الناقد،فليكتب الناقد ما يشاء ،كما كان يقول المرحوم "ابراهيم جلال" دائماً، او كما يحرص بيتر بروك على المسرح اينما كان خشية خلوه من النقاد، لا كما حاول مرة احد المخرجين المسرحيين الكورداخراج احد النقاد من صالة العرض،ويضيف بيتر بروك قائلاً:"لابد ايجاد العلاقة بيننا وبين النقاد لا بالمعنى المصطنع ولكن بمعنى أعمق لان هذه العلاقة هي ضرورية مثل ضرورة حياة المحيط للسمك،فكل منا يحتاج الى موهبة الأخر الملهمة لإدامة حياتنا في القاع ،وسواء كتب الناقد ملاحظاته بسرعة ام بتأنِ وسواء كانت تلك الملاحظات طويلة ام قصيرة فليس ذلك مهما...
ولعل تشكيوف كان اكثر الكتاب عدم اكتراثاً بالنقد،اعتقاداً منه بأنه لا يجدر بالمرء ان يستجيب له. وقس نفس الشئ بالنسبة للكاتب الامريكي وليم سارويان الارمني الاصل الذي كان يحس بالرضى عندما يمدحون نتاجاته ولا يهتم كثيراً عندما تتعرض الى ضربات المطارق،ذلك ان الناقد من وجهة نظره اما ان يكون على صواب او على خطأ، فلو كان مصيباً فمن الحماقة الرد عليه وإذا كان مخطئاً فالجدال معه امراً بلا معنى ..
واذا كان من غدر بحق العملية الفنية هي خيانة الناقد لقلمه فاصحاب مثل هذه الاقلام ينبغي الكشف عن سلوكهم اللامبدئي هذا، واذا كان ثمة عقوبة فلا مناص من انزالها بهم، ولكنني اسمح لنفسي لأعود واقول، هل هناك حقاً ناقداً كهذا في وسطنا المسرحي؟؟
شخصياً لا ادري لماذا اميل إلى الأعتقاد ان الناقد شخص عادل ومخلص في ممارسة عمله اياً كانت الاسباب ،واعتقد ان الفنانين الحقيقيين يشاركونني الرأي،ايماناً مني بأن الناقد حتى لو كان مدركاً على الفوضى التي يبثها في الوسط الذي يعمل فيه،فهو ينتقص من قيمة فعله على اشاعة الخير ....
وهو لكونه يتمتع بوعي مسرحي اكثر من غيره،ويعيش ويتلمس التجربة عن كثب تجربة النجاح والاخفاق معاً،ويمتلك ويتفاعل مع الفنانين بشكل مباشر وغير مباشر، ويطلع على اخر المستجدات وعطاءاتهم فليس غريباً ان تختلف آرائه مع آراء الآخرين ،وينفعل مع العرض اكثر مما ينفعل معه المتلقي ،وان تتسم احكامه بالقساوة،وان يبدي التذمر والشكوى،ويشير إلي الأخطاء والسلبيات .ولعل بيتر بروك اصاب في الصميم عندما اشار إلى هذه المساءلة على الوجه التالي:
"غالباً ما يخدم الناقد المسرح عندما يرصد كل ما هو سلبي ،فاذا قضي معظم وقته متذمراً فهو في ذلك مصيب".
بينما يحدث في مسرحنا عكس هذا تماماً فالمخرج هو الذي يرصد سلبيات الناقد،ويبدي تذمره منها،ظناً منه بأنه غير جدير في اداء مهمته،لأنه ليس بحوزته شهادة اكاديمية كالتي بحوزته، وعلى هذا الاساس فهو لا يرتقي بوعيه المسرحي إلى مستوى وعي المخرج،ان لم يذهب به الظن اعمق ناعتاً اياه بشخص امي ومتطفل على المسرح والفن والاخراج والحياة والعالم....و.... ناسياً صاحب مثل هذا الرأي ان بريشت الذي لم يقرأ حرفاً واحداً بين جدران المعاهد والاكاديميات ،قد احدث ثورة حقيقية في المسرح العالمي،وان المناوئين له من كلا القطبين في المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي (سابقاً) لم يستطيعوا ان ينكروا انجازاته واضافاته الرائعة في هذا المجال،واقروا بها رغماً عنهم.هذا هو حال معظم الادباء والفنانين الكبار المعروفين في العالم،سواء كانوا روائيين ام شعراء، قصاصين ام موسيقيين،تشكيليين ام مسرحيين، ايتداءً من هوميروس وانتهاء بآخر مبدع برز في نهاية القرن العشرين ويصل تجاوز البعض منهم على النقاد حداً لا يمكن تصوره، وكان اغربهم واكثرهم اثارة للضحك والبكاء معاً، اتهام احد النقاد بعدم قراءته في حياته لكتاب ما، ترى من يقتنع بهذا الكلام؟؟ وهل من المعقول ان من لم يقرأ في حياته كتاباً،بوسعه ان يكتب مقالاً... وان يكون هذا المقال نقدياً؟؟؟
ان هذا التجاوز ضمناً ومبدأَ، دعوة صريحة لطرد الناقد المعني من الوسط الثقافي الكوردي ، كما دعا افلاطون في جمهوريته بطرد الفنانين منها..
وإذا كان الفنانون ما يزالون يفتخرون بدعوة افلاطون لطردهم من جمهوريته انطلاقاً من عدم فهمه لوظيفتهم في بناء المجتمع، فما على الناقد الذي يطرد في اواخر القرن الواحد والعشرين من مدينة الفنانين ان يزيد فخراً بهذه الدعوة، وعند هذا الحد عرف الناقد المعني ان صاحب هذه الدعوة في هذا محق فقط ،في عدم حاجة المسرح الكوردي إلى النقد والنقاد.. اعرف مخرجين في وسطنا المسرحي ،نتيجة فشل عروضهم يقومون بجولات مكوكية بين الصحف والمجلات للفوز بلقاء صحفي يتيح لهم فرصة تبرير فشلهم هذا، او الدفاع عن العرض ، وان كان المخرج دبلومسياً ويتقن فن الكلام فإنه يطمح الى اقناع المحرر الصحفي بكتابة مقال نقدي عن عرضه ووفق الملاحظات التي يمليها عليه، وليس حسب قناعة المحرر الصحفي ، والاخير لحاجة صفحته الى مادة كهذه، لا يجد ضيراً بتنفيذ هذا المشروع السري للغاية جداً، بينه وبين المخرج، اما في حالة فشل كل مساعي المخرج المكوكية هذه، فإنه وبتوقيع مستعار لا يتوانى ان يكتب مقالاً نقدياً عن العرض...
لسنين خلت يؤكد نقادنا على التخلف الذي يعاني منه واقعنا المسرحي في أربيل،وان هذا الواقع يجب الاقرار به، والسعي نحو تغييره للوصول الى الانجازات والتطورات التي يشهدها المسرح في السنوات الأخيرة على الصعيدين المحلي والعالمي ، ولكن كلما ارتفع صوت كهذا جوبه برد فعل قوي من قبل جماعة المسرح الهابط لخنقه والقضاء عليه، وشجع من استمرار هذا الواقع المؤلم بعض الاقلام النقدية التي دخلت مجال النقد من باب الصحافة ...
احد المخرجين قاطع ناقداً لمدة خمسة عشر عاماً، وآخرهم حاول طرده من صالة العرض، وثالثهم وجه له السباب والشتائم وبشكل علني ومكشوف ، ورابعهم لم يضعه في مصاف المشاهد الاعتيادي ان لم أقل بمستوى ادنى بكثير وكثيرا جداً،وخامسهم وصفه بأنه سحابة سوداء في سماء المسرح الكوردي..
لست هنا بصدد ابراز التجاوزات التي يتعرض لها النقاد من بعض المخرجين، ولكن كما يقال الشئ بالشئ يذكر، بقدر ما اود التأكيد على البون الشاسع بين حقيقة ادعاءات هذا البعض والامكانات التي يتحلون بها. وان السبب الاساسي في هذه التجاوزات هي هذه الامكانات . ومع هذا هناك من يعتقد ان هذه التجاوزات ضد الناقد هي بحد ذاتها ادلة دامغة تثبت على عدم قيامه بالعمل الذي يمارسه عن جدارة. طبعاً يبدو هذا الاعتقاد هذا صائباً اذا ما دققناه بشكل سطحي ، اما اذا اسبغنا اغواره فسنخرج بانطباعات مغايرة تماماً. وعليه فأنا اعتقد ان كل هذه التجاوزات ما هي الا اوسمة وميداليات ونياشين ينبغي ان يلعقها الناقد على صدره اعتزازاً وافتخاراً بها،شأنه شأن الرجل السياسي الذي يفتخر ويعتز باشتباكه في يوم ما مع رجال الشرطة ، وشأن الصحفي الذي يرفض المسؤولون ان يلتقي بهم ويجري معهم اللقاءات، نتيجة إحراجهم ومضايقاتهم في اسئلة استفزازية .
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه بالحاح:
من منهما المحق ، او على حق ؟؟
وقبل الاجابة علي هذا السؤال والاسئلة التالية:
لماذا يختار(س) من الناس مزاولة العمل النقدي؟ هل سعياً وراء الشهرة؟ هل نتيجة فشله السابق كممثل اومخرج او كاتب؟ هل حباً في احتلاله مكانة متميزة في الوسط الثقافي والاجتماعي ؟
اذا افترضنا كل هذه العوامل مجتمعة كانت حافزاً لهذا ( السين) من الناس ان يختار مزاولة العمل النقدي، ترى الا يختار الذين يمارسون مهنهم برغبة وعشق وتضحية من نفس المنطلق؟؟ اذا لماذا لا يجوز للناقد فقط؟؟
وعلى ما اظن جاء اوسكار وايلد ببدعة لجوء الفنان والاديب الفاشل الى النقد، ولو اخذنا هذا الرأي ، فأليوت شاعر مسرحي فاشل ، لأنه من يستطيع ان يضمن بأنه قبل ان يلجأ الى كتابة القصيدة والمسرحية كان يمارس العملية النقدية ، ويمكن ان يقال نفس الشئ بالنسبة لكل الادباء والفنانين الذين مارسوا العملية النقدية الى جانب العملية الابداعية ...
ان الناس تميل الذهاب الى المسرح بدافع الحب الذي يمنحه اياهم ، والمخرج الحريص يزرع نواة هذه البذرة وانباتها بشكل سليم ، عليه ان يقدر هذا الحب فليس من السهل استغلال وقت عامة الناس لساعتين في فن مبتذل، وهو اذا يدعو الناس للاستفادة من تجربته فليكن هو الآخر بنفس المستوى ويصغي الى آرائهم المتمثلة برأي الناقد ( باعتبار الناقد وسيطاً بين العمل الفني والمتلقي) والمخرج الفطن يسعى الى توثيق صلته به، لأن الناقد في كل الاحوال هو الشخص الاقرب اليه، بحكم وطبيعة تفاعله مع العرض ، قياساً بكل الذين يشاهدونه في محاولة التجنب فرض رأيه ورأي الفنانين عليه، والطريف ان البعض منهم لا يكتفون بهذا وانما يفرضون رأي المتلقي عليه ايضاً، بالحكم على نجاح العرض من خلال التصفيق الذي يثيره احياناً والاستعانة برأي الفنانين غير الموثق والمبني على المجاملات . فالرأي المدون هو الرأي الوحيد القابل للمناقشة ،وماعداه كلام فارغ . اما الجمهور الاعتيادي فغير مسؤول عن الرأي الذي يبديه، وحتى وان كان مدوناً لأنه اساساً جمهور غير مسرحي ولكي يتحرر المخرج من هذه الحساسية المفرطة تجاه الناقد،وثقافه الناقد،ونزاهة قلمه، عليه ان يعرف بأن الناقد شأنه شأن المخرج يمتلك تصوراً معيناً ازاء المسرح وما يجب ان يكون عليه، ويتحلى بالشجاعة التي يمكن ان يخاطر بهذا التصور ، وبدون ذلك، بدون هذا التصور فالناقد اشبه بالحمل الوديع الذي تكمن مهمته في نقل تصورات الآخرين الى القارئ وبدون ان يقول هو شيئاً ويضيف الى العرض، بالاضافة إلى ذلك ،فإن الناقد أدرى من المتلقي او اي شخص آخر بآسرار الصنعة الاخراجية والمسؤولية الملقاه على عاتقه، اكبر من مسؤولية المخرج، فيما يخص الربط بين الواقع الاجتماعي ومتطلباته، ومع ذلك يوضع بمثابة لاحق وتابع له،وبقدر ما في هذا من صحة وصواب الا انه لا يمكن الحديث عن الحركة النقدية بمعزل عن الحركة الفنية ، ذلك ان مستوى النقد مرهون بمستوى درجة تقدم وتخلف الفن.
ففي الدولة العربية ،وخاصة مصر، ثمة صلة وشيجة تربط المخرج بالناقد،وبالعكس ، وان الحركة النقدية فيها متقدمة على كافة المجالات الثقافية، وبالاخص المسرح، بينما هنا في كوردستان يعتقد مخرجونا انه ليس من حق الآخرين ان يكتشف ضعفاً او خطأ في عروضهم ، علماً ان اي عمل فني او ادبي كما هو معروف حين ينشره الاديب او يعرضه الفنان يصبح ملكاً للمفسرين،اي ان النقد يقوم بانعاشه واعادته ثانية، ان مخرجينا حتى وان كان البعض منهم يعرفون هذه الحقيقة، فإنهم لا يقرون بها، او يصمون اذانهم عنها، ظناً منهم ان هذا الانعاش من قبل الناقد لعروضهم ، يجردهم من بعض حقوقهم في الاخراج والمخرج شاء ام ابى..فالناقد هو الجزء الاهم من قطع اكسواراته الموظفة في العرض، ان الغاهُ كتب له الفشل ، كذلك فلا يمكن التعامل مع الناقد ، كما يتعامل المتلقي بلامبالاة مع اصغر جزء من القطع الآنفة الذكر ، او كما يقول اليوت:
"نحن لا نرصد للص لصا وانما نرصد شرطياً"
مع الفارق بين الص والمخرج، والناقد والشرطي ، فهل من الممكن ان تتجاهل اللصوص رجال الشرطة؟"
3- عروضه:
1- سه فه رى باك بوونه وه: اخراج مهدي حسن
ليست الشكلانية بنية غير متميزة ومتبلورة كما هو شأن اللاشكلانية في المسرح التقليدي , فالأشكال في المسرح اللاتقليدي تعتمد على الربط وضم العناصر البارزة معاً,وهذا مايمكن ملاحظته في(سه فه رى باك بوونه وه) أخراج مهدي حسن, فالشموع الموزعة على جانبي المسرح والوسط والدلالات التي أوحى من تشكيلاتها والعنكبوتين الكبيرتين المستجدتين في مواجهة المتلقي , وأشرطة الفيديو الممتدة تحت سقف صالة العرض,كلها عناصر تمتد بينهما صلة من التفاهم فإذا كانت الشموع رمزاً للطهارة والبراءة والنقاوة فإن العنكبوتين هما العالم الجديد الذي تنتفي فيه القوانين, ذلك أن الإنسان غريب عن نظام الأشياء الموجودة وأشرطة الفيديو هي أرجل العنكبوتين المتوثبة للاقتناص والدالة على اليأس والاستسلام للمصادفة,كما يقول كارل ياسيرس:إننا لسنا أحراراً من قبل أنفسنا بل من قبل الذي هو في أعماق حريتنا والذي يقدم لنا ذاتنا كهبة . إننا نشعر بهذا الواقع حينما تخطيء ضد أنفسنا,حينئذ مهما أردنا أن نكون أحراراً فإن إرادتنا لن تكفي لكي تجعلنا أحراراً حيثما تبلغ حريتنا ذروتها .
ولعل نتيجة اليأس الذي يلف بطل المسرحية.جاء تعامله مع المقعد الذي يجلس عليه بلا مبالاة مقصودة,وبانسحاب ذلك إلى الصوت البعيد الذي يأتيه من خلف المسرح, وهو مايفتأ أن يطرح هذا السؤال :أين نحن ؟؟ أين هنا ؟؟ أريد أن اعرف ... وصديقه لايقل عنه يأساً وعدم إكتراث, أذ يجد حتى في مسألة قتل الأطفال مسألة اعتيادية وممارسة يومية طبيعية . فالعالم عندهما سائر في طريق الخيبة و الإخفاق بغياب الأمل فيه وتلاشيه, مع ذلك يبقى لديهما أمل وحيد هو أمل محافظتهما على كينونتهما الذاتية من خلال عملية التطهير التي يمارسانها في ثلاث صيغ, لترمز كل صيغة إلى حالة لكينونة معينة , فالصيغة الأولى اقترنت بالماء وفق ماهو سائد للدلالة على طهارة المسيح , وثمة صلبان على أرضية المسرح وجانبه الأيمن,والصيغة الثانية ابتدأت بالشذوذ الجنسي وانتهت بالتقيؤ, والثالثة بصلب المسيح و العودة إلى البداية , وعلى الرغم من إن بطلي المسرحية يشهدان عملية التطهير أكثر من مرة ألا أن العفونة تبقى عالقة بهما وتبقى في داخلهما , وبأنسحابها إلى الملتقي عبر الخناق عليه عبر أشرطة الفيديو النازلة من سقف الصالة , ذلك لأنه لابد للإنسان الذي لايريد إن يفنى في السلاسل التي تخنقه أن يمزق هذه السلاسل بضربة واحدة وان يخلق قيمة الخاصة , وبناء على هذا الفهم الميتافيزيقي للتمرد تعم العفونة كل الجالسين في الصالة الذين يبدأون بتمزيق أشرطة الفيديو(أرجل العنكبوت) التي حاصرتهم ليعيشوا هم أيضاً حالة التطهير هذه.
مهدي حسن من الشباب اللاهثين وراء الشكلانية سعياً لتأطير الفضاء المسرحي بما هو جمالي , وهو في سعيه هذا يستخدم أكثر من مفردة ويلجأ إلى استعارات شاذة وغريبة من اجل إيصال فكرته إلى المتلقي , أجد في هذا السعي و الاستخدام نوعأ من التجني على المسرح اللامعقول , فمن حيث المفردة يكون مثل هذا المسرح بحاجة إلى اقل من المفردات , ذلك أن الاقتصاد هو لب المسرح الحديث فأي شيء غير ضروري كما يقول "مارتن أسلن" لا يدعم ذلك القالب سيظهر كدخيل ,كعنصر مهيج, وعلى المخرج أن يعي باستمرار دور كل تفصيل داخل البناء كله , فالشموع المبالغ في استخدامها سيما الموجودة على أرضية خشبة المسرح لم توظف تكويناتها بما يخدم ماهو مرسوم في ذهن المخرج , بألاضافة إلى أنها مع الشموع الموجودة على جانبي المسرح شكلت ازدحاماً وفوضى بالنسبة لنظر المتلقي وإعاقة حركة الممثل . أما بالنسبة للاستعارات الشاذة والغريبة كما حدث في مشهد القبلة بين الشخصيتين , فلا أجد فيه غير عجز المخرج عن تفجير الحدث من حالته الاعتيادية إلى الخاصة , فالحالة الخاصة هي كذلك دائماً في ذروتها , أي في صيرورة تثوير وتفجير متواصلين وليس بحاجة إلى تأطيرها في قالب فني لمسرحتها إخراجياً .
2 – ئه حه ى كرنو : أخراج عثمان جيوار
قبل أن أشاهد مسرحية (ئه حه ى كرنو) أعداد و أخراج الفنان "عثمان جيوار " اخبرني أكثر من فنان بأنها تقع ضمن المسرحيات التجارية , ولكنني لم المس فيها مايوحي بذلك , مما يدفعني إلى أن أتساءل مع نفسي عن السر الكامن وراء محاولة الإساءة لمسرحية (ئه حه ى كرنو) التي استمرعرضها اكثرمن أربعين يوماً,فهي من المسرحيات الشعبية "فن الحكواتي" الذي هو الصورة الشعبية المتأخرة زمنياً لرواة كانوا سابقاً يتنقلون في الأسواق ودور الندوة وحيثما يتجمع الناس لكي يرووا حكايتهم وينقلوا مشاهداتهم وما سمعوه أو رأوه من غرائب وبطولات . كما هو حال حاكينا هذا الملقب " ئةحةى كرنو" وهو يعود بنا إلى عام 1915 حيث كان ممثلاً قديراً يجسد مآثر غيره من الناس الذين عاشوا في زمانه. ويعتبر المقهى بالنسبة لفن الحكواتي انسب مكان للعرض , فأعده المخرج إعداداً يشبه الطقس التمثيلي فجعل الحاكي في موضع مرتفع ليكون على مرأى ومسمع من الجميع وجعله جزءاً من الجلسة ومنحه فرصة لتغير أدواره من شخصية إلى أخرى ومن مشهد إلى أخر ومن زمان إلى زمان تتصاحب في الحضور شخصيته الحقيقية والشخصيات التي يتطلبها , ولم يبدأ العرض بانقطاع زمني وتقسيم مكاني كما في بداية أي عرض تقليدي . وتم التواصل والتلاحم بين الممثلين والمتفرجين بالانتماء المشترك إلى التراث واقتراب الأداء من الطابع المرتجل الذي يبدو في ظاهره عفوياً وتلقائياً على الرغم من تبعيته لنص مكتوب.
يبدو أن عدم ارتياح الوسط الفني في السليمانية لهذا العرض كان نتيجة المشاهد الكوميدية التي احتوته, علماً أن الحكواتي يلجأ إلى استخدام هذه الوسيلة في بعض الأحيان كنوع من التهدئة الضاحكة من التوتر الذي تخلقه حكاويهم عندما تسبي أذهان المستمعين وتأسر قلوبهم , ومن المفيد أن اذكر هنا بأن عروض فرق مسرح الحكواتي المنتشرة في الدول العربية لاتخلو من الفكاهة و الكوميديا اعتقاداً بأنها الوسيلة الأيسر نفاذاً إلى نفوس المتفرجين . فتراها تغلف المرارة بالضحكة والسخرية الهادفة , والممثل في هذه الفرق متكامل المؤهلات والصفات قادر على أن يرسم بالحركة ويعزف بالصوت ويكتب بالصمت , وهو مسرح جاد ويحتل مكانة بارزة وما تزال الجهود حثيثة من اجل تطوير هذا المسرح في الدول العربية بما فيها العراق .
لندعم هذه التجربة الفنية الوليدة عندنا شأن حرصنا على التيارات و الاتجاهات الأخرى بهدف تأصيل المسرح الكوردي .
3 – حه شاركه : اخراج زيلوان طاهر
يبدو ان موجة المسرح الحديث بدأت في الفترة الاخيرة تمتد الى ايدي مسرحيينا الشباب في اربيل وهي ظاهرة سليمة لا غبار عليها , خاصة وان هذه الموجة بدأت في كوردستان منذ بداية الثمانينات على ايدي فنانين شباب من السليمانية و الذين استمدوها من اساتذتهم في بغداد . الا ان مايخشى عليها وهي في بدايتها شأنها شأن انطلاقتها الاولى في السليمانية , ان توظف توظيفاً غير دقيق وسليم من خلال البحث عن اساليب جمالية لاتمت بصلة الى المضامين المطروحة , كما حدث في عرض مسرحية (حه شاركه- المخباْ) اخراج زيلوان طاهر . بدلا من ادانة الجنرال المهزوم جاء اختيار الفضاء الواسع الممنوح له (الطابق العلوي والارضي لصالة المديرية العامة للثقافة) افضل هدية يحلم بها الدكتاتور تكريما للجرائم التي اقترفها، في وقت يتلقى المتلقي صفعة الادانة عندما يحشره المخرج على خشبة المسرح وهو بذلك يقلب موازين معادلة العرض بأتجاهين، اتجاه يجعل من المتلقي مكانا للعرض وممثلا على خشبة المسرح، والممثلين متفرجين والاتجاه الثاني يجعل من المتلقي داخل المخبأ والممثلين (الجنرال وسكرتيره) خارج المخبأ، ماذا كان المقصود من وراء الادانة الموجهة للمتلقي ليتمرد على الانظمة الدكتاتورية ؟ فأذا كان المقصود به حفزه على ذلك ، فإنه لم يعزز بمفردات تعطي هذا المعنى ، بل بالعكس ان الجنرال لحين عصيانه في الطابق العلوي يتحدى ارادة الشعب ويدوس على رأسه ويركله بقدميه ، عبر وثوبه من مقعد غلى اخر ، ولم يتنازل عن غطرسته هذه الا متى ما أحس بنهاتيه، أي بتحوله من الطابق العلوي إلى الأرضي ، من وجهة نظري ان الممثل يملآ الفضاء المسرحي بقوة تمثيله ، والمبررات التي تسند انتقالات افعاله، حيث تبدأ مع هذه المبررات حركة الممثل، وليس بالصولات والجولات التي يمنحها له المخرج هرعاً من هذا الجانب إلى الجانب الآخر وبدون اي تبرير، كما سعى المخرج في هذا العرض ان يملآ فضاءه الواسع بهذه الذريعة ، وهو بالاضافة إلى ذلك ليس حلبة سيرك ليخلق المخرج لدى المتلقى مخاوف من سقوط الممثل من الطابق العلوي واحدهما يمتطي عنق رئيسه مهمته جلية وهي اطاعته، فمثل هذه الحركات وغيرها لا تضيف شيئاً إلى معلومة المتلقي، اللهم الآ استعرض بعض الحركات البهلوانية ..
ولا انكر أنني استمتعت بالمشهد الاخير للعرض ، حيث يفتح مدخل الباب الرئيسي وارضية الصالة مغطاة بنشارة الخشب ممزوجة بقليل من الماء، مانحاُ هذا المشهد تكويناُ في غاية الجمال لآثار الدم المتبقية نتيجة مصرع شخصيتي المسرحية ، مع انه امتداد للصفعة الاولى التي تلقاها المتلقي على امتداد العرض حيث يخرج الجنرال وسكرتيره من المخبأ ويبقى الجمهور في داخله، ولربما جاء توزيع الاوراق على الاضرين اثناء دخولهم الى العرض من نفس المنطق، من منطلق ان المتلقى وضع نفسه في المخبأ بمحض اراته، ومادام الأمر كذلك فلا مناص له للخروج منه، اي مادام عاجزاُ عن مقاومة الدكتاتور.
4- قصة حب : اخراج حسين ميسري
اما في مسرحية " قصة حب معاصرة " تأليف فلاح شاكر ، فقد اختار المخرج حسين ميسري نصاً يتناول موضوع الساعة ، تسير احداثه وتتمحور ضمن اطار الهجرة إلى خارج البلد في الصراع الدائر بين الزوج المتحمس لمغادرة الوطن والزوجة المتشبثة بالاحلام التي عاشتها فيها ؟ والنص كما يبدو ولخلوه من الاحداث المتشعبة واقتصاره على شخصيتين ولما يشيع من اجواء تتسم بالتراجيكو ميديا قريباً إلى روحية تشيخوف وفودفيلاته القصيرة، بغياب سمة المأساة من العرض والاكتفاء بالتعرف على نتائجها وحضور الكوميديا الخفيفة عن طريق التداعي والعودة إلى الغابر..
ان المفردات الموظفة في هذا العرض بلغت من البساطة حداً جعلها تعبر بنفسها عن ثيمة المسرحية ، فاذا كانت الحقائب المتكدسة في يمين المسرح دلالة على اصرار الزوج على مغادرة الوطن فأن المواد الموضوعة في يسار المسرح الخاصة بالزوجة دلالة على تشبثها بالوطن، ولعل تقسيم المسرح إلى هذين النصفين ينطوي على دلالات في فهم موقف الزوجين وهناك اكثر من دلالة اخرى تشير إلى ان موضوع المسرحية هو موضوع الهجرة ، كالقميص النازل من اعلى سقف المسرح والمثلث الكبير في الوسط الذي تعلوه علامة استفهام موحياً كمفردة مستخدمة لتعليق الملابس ومدلول يطرح السؤال عن اسباب هذه الهجرة .
ان الفوضى المتعمدة التي بثها المخرج في عرضه من خلال تكديس مجموعة كبيرة من الحقائب اشارة واضحة إلى الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير المستقرة التي يعاني منها الشعب العراقي عموماً، هذه الحالة تحفز الفرد لان ينتهز اية فرصة ليحزم حقائبه لمغادرة الوطن ، كما حدث في اللحظة الاخيرة للعرض عندما توقظ الاصوات الزوج النائم استعدادً لذلك، وتصيح الزوجة بذعر:"لا ... دعوه ينام ..."ثم ينتهي العرض .
5- اغنية التم : اخراج رزكار امين .
يعتز تشيكوف ان كتابة مسرحية اغنية التم لم تستغرق منه سوى ساعة وخمس دقائق ، وهو زمن اطول بقليل من الزمن الذي يستغرق عرضها ، ولكن في العرض الذي نحن بصدده تناوله في اخراج رزكار امين ،وهنا تكمن مفارقة هذا العرض (وقد تكون هي الاخرى احدى المفارقات التي عاشها هذا الكاتب الروسي الكبير) يستغرق عرضه اكثر من الزمن الذي استغرق تشيكوف في كتابة مسرحيته هذه.
لم يسبق لي ان شاهدت عرضاً هزيلاً مثل هذا العرض ، اتذكر انني شاهدت هذه المونودراما قبل اكثر من سبع او ثماني سنوات قام بادائها احد طلبة جامعة صلاح الدين باللغة العربية واخراجها اسايش عثمان على ما اظن ، كانت اداء واخراجاًافضل من عرض هذا المهرجان بكثير، ولعل هذه مفارقة اخرى مضافة إلى مفارقات تشيكوف، ان تقوم جهة لا علاقة لها بالمسرح وقبل سنوات بتقديم عرض أفضل من جهة لها مساس مباشر بالمسرح وهي منتدى المسرح وبمناسبة يوم المسرح العالمي ،وفي مهرجان مكرس لهذا العرض، والأغرب من كل هذا ان المخرج اضاف إلى جانب الاخراج مصطلح (سينوكرافيا) ولم يكتف بهذا بل واضاف اسم منفذه، كما لو كان هناك فعلاً لمسات اخراجية كبيرة ساعد على تفجيرها مصمم ومنفذ ديكوره مع ان ديكور هذه المسرحية عبارة عن قطعتين من قطع العاب الاطفال الحديدية المتوفرة في الحدائق العامة، وبإمكان اي مخرج الاستعانة بهما بدون ان يضيف عليهما او يلغي شيئاً منهما، ووضعهما على خشبة المسرح كماهما بالتمام والكمال ،ضارباً كل قواعد الاخراج المسرحي عرض الحائط.
ترى ما علاقة هاتين القطتين الحديديتين الفارغتين بموضوع اغنية التم الموسيقي العذب؟ ماعلاقة هذا الجسم الاصم باغنية هذا الطائر الجميل الذي لا يغنى واذا غنى مات؟ ماعلاقة هذا الديكور بحياة الممثل العجوز فاسيلي ؟ وهو جالس وسط تلك الهوة المظلمة التي يدعونها خشبة المسرح وقد ارتدى ملابس المهرج وحوله كومة من النفايات وبقايا مناظر العرض المسرحي ، يتذكر امجاده يوم كان شاباً يؤدي ادوار عطيل وهاملت واللمك لير ورائعة بوشكين ( بوريس غودونوف) والفتاة التي احبها وتركته لآنها عرفت بانه يمتهن التمثيل، ها هو يعاني من الوحدة وسط قاعدة مظلمة بعد انتهاء العرض ، وفي هذه الهوة يفيق تدريجياً من سكره ويبدأ باستعادةامجاده باداء الادوار الكبيرة التي قام بتمثيلها في يوم ما . هل ان موضوعاً دقيقاً كهذا بحاجة إلى نقل كل مدينة الالعاب إلى صالة مديرية الثقافة ؟ لكي يتزحلق عليها ممثله ويعتليها ويدير قرصها الدوار ...
ان المخرج عندما يستعين بعناصره الفنية ويقوم بتوظيفها من قبل ممثليه لابد أن يسعى من خلال هذه العناصر والمفردات إضفاء الطابع الجمالي على عمله بالحد الذي يسمح للممثل بتطويعها لأدائه ووفق ما يتحلى به من المرونة الجسمانية بهدف تفجير اللحظة الجمالية فيه..
ترى هل أن الحديد يمتلك هذه الخاصية ؟ أو بشكل أوضح كيف للممثل أن يتعامل مع الحديد. أن هذا لأمر محير فعلاً، فأغنية ألتم أساساً ليست بحاجة إلى ديكور ، إن ما تحتاجه هذه المسرحية هو الممثل الجيد فقط..
ثم لا ادري لماذا اختار المخرج من بين كل قاعات العرض،قاعة الثقافة بالذات التي خشبة مسرحها اكبر حجماً من خشبة المسارح الأخرى ، ولماذا استغل كل رقعتها ... لا ادري .. لا ؟
فالبنسبة لهذا العرض لا استطيع أن أقول أكثر من إن مخرجها لم يفكر قبل تقديمها بالأداء الرائع الذي قدمه سامي عبد الحميد في هذه المسرحية ، بالاداء الرائع الذي قدمه كامران رؤوف فيها ، ترى هل كان يطمح المخرج بتقديم عرض يتجاوزهما فيه؟؟؟
قبل أن ادخل العرض هذا ما كنت أفكر به، كنت أقول مع نفسي أليس من الجنون أن يغامر فنان ما بعرض أغنية التم بعد كل الذي منحه سامي وكامران وإبداعا فيه؟فهذا لم يحصل .. وليته حصل .. وإنما الذي حصل كان كارثة شهد عليها عشرات المتذوقين للمسرح الذين افسد هذا العرض تذوقهم.
6-هات ونه هات: اخراج نهاد جامي
لابأس بالاعتماد على قدراتنا المتواضعة واجتهاداتنا الشخصية نحاول أن نشق طريقاً صعباً من اجل وضع اللبنات الاولى لنمط معين من المسرح لم يسبق أن خضنا غماره وهو فن التمثيل الصامت (البانتوميم).
برزنهاد جامي في الساحة الفنية الكوردية متبنياً لهذا النمط, واتمنى ان يسير على هذا النهج, مادام هذا هو العمل الثاني الذي نشاهده له , غير ان امنيتي هذه أرجو الاتغدو جواز مرور لنهاد جامي وغيره من الفنانين الذين يسعون بتبني هذا النمط,ذلك انه بحاجة الى تكتيك وتحليل ومرونة عضلية تستند الى دراسة صعبة في الجانبين العلمي والنظري , فكل حركة مرنة تأتي نتيجة لتمارين يومية مستمرة خاضعة لقواعد دراسية فنية صعبة . او كما يقول الفنان "سعدون العبيدي" ان كل جزء منها(من الحركة) يتكرر الاف المرات كي يصل الفنان الى المرحلة المتطورة والمطلوبة .
ويعتبر "مارسيل مارسو" وهو مدير اشهر مدرسة للتمثيل الصامت في فرنسا من ابرز المبدعين في العالم في هذا المجال الى جانب تلميذه اميل .
يتحدث "سعدون العبيدي" عن مارسيل مارسو قائلاً: قدم اكثر من عشرين حالة , بدأها بالولادة وانهاها بالموت , كان يستخدم يده لتغطية وجهه,ثم يسحبها بعد اربع ثواني لنرى تعبيراً جديداً على الوجه, كل سحبة يد كانت تعني قفزة في العمر , وهكذا توالت تعابير الوجه المختلفة من مرحلة الطفولة والصبا والشباب والكهولة والشيخوخة وأخيراً الموت. كل مرحلة كانت تعج بالملامح التعبيرية المعقدة.كان المسقط الضوئي الوحيد على وجه الممثل يتدرج هو ايضاً تبعاً لما يتطلبه التعبير حتى اصبح اخيراً مسقطاً ضبابياً ضعيفاً مائلاً الى الاصفرار ثم تلاشى حيث تم لقاؤه بالذبول والموت. ويضيف:
لم تكن هناك حتى ولاضربة موسيقية واحدة , فتراقص عضلات الوجه كان يوميء وكأنه نغمات موسيقية معبرة .
طبعاً لسنا هنا بصدد مقارنة عرض نهاد جامي (هات و نه هات) بعروض البانتوميم العالمية , فمثل هذه المقارنة شبه مستحيلة بقدر مانود التأكيد على ان فن البانتوميم اذ ما اردنا تقديمه بأسلوب علمي دقيق وسليم انما ينبغي تقديمه وفق المقومات والاسس التي يخضع لها وبالعودة الى اساليب منظريه ومبدعيه , ومهما اتسم هذا التوجه الذي تبناه نهاد جامي بالتواضع فهو توجه ينبغي عدم التقليل من شأنه, لانه اساساً مبني على اجتهاداته الشخصية.
ان تقسيم الحاضرين الى نصفين قسم منهم يشاهد العرض من الطابق العلوي والنصف الثاني من الطابق الارضي,تولد لديهم رؤيتين مختلفتين سيما وان فن البانتوميم بحاجة الى المشاهدة القريبة لتمييز التعابير والانفعالات كما ان الدائرة التي رسمها المخرج داخل المربع اعطت اكثر من تفسير , وتعد هذه الملاحظة في غير صالح العرض , ولم يصل مدلولها الى المتلقي الا بعد العرض بعشردقائق تقريباً ثم ان معظم الحركات تم تجسيدها زحفاً او على الاربع, اضافة الى ان استخدام الاكسسوارات من قبل الممثل في هذا الفن يعد نقصاً كبيراً في ايصال فكرته الى المتلقي عبر انفعالاته وتعابيره الجسمانية,كما في استخدامه للكرات الثلاث والدمية وقطعة القماش بالاضافة الى السلم , وتخرج الموسيقى هذا الفن من طابعه الاساس ,ليغدو اقرب الى فن الباليه.
وعلى الرغم من هذه النواقص التي اعتورت العرض، فقد استطاع المخرج ان يرسم بعض الحركات الايمائية الجميلة، واخص منها بالذكر مرور الفتاة الرامزة لكوردستان من تحت الشباب الزاحف على الاربع بشكل سريع وخاطف ، والمشهد الاخير الذي انتهى بزحف الثعبان من نهاية المسرح إلى مقدمته، فهاتان الحركتان بالاضافة إلى ما اتسمتا به من جمالية ، لم تخلُ من مدلولاتها السياسية القوية .
7- عطيل :اخراج هيوا سعاد
يقول برادلي :ليست عطيل اكبر مأساة شكسبير تركيباً وحسب، بل ان اسلوب تركيبها غير عادي، وهذا الاسلوب يجعل الصراع يشرع متأخراً، ثم يتقدم بدون وقفة ويتسارع صاعداً نحو الكارثة.
اسوق هذه المقدمة لما لها صلة ب¬¬¬¬¬¬¬¬(عطيل) اخراج هيوا سعاد، واقصد الصراع الذي بدأ مبكراً بعكس ما يؤكد عليه برادلي ، وبالتالي الايقاع البطئ الذي رافق العرض منذ بدايته إلى نهايته..
فان يبرز المخرج التوتر الأليم بسقف زمني قصير، انما يلغي قوة شخصية عطيل مع انها شخصية بسيطة نسبياً من حيث كونها رومانسية وقوية اذا ما أثيرت.. فمثل هذه الشخصية المركبة اذن بحاجة إلى سقف زمني طويل لاقناعها بدسيسة ياغو، وعليه فأن التوتر يأتي متأخراً، ويستمد العرض ايقاعه البطئ من هذا التوتر كرد فعل له، وعلى ما أظن ان عملية الحذف التي قام بها المخرج من النص الاصلي أساءت إلى العرض كثيراً، فبالاضافة إلى هذا الحذف عجل في ابراز الصراع فإنه لم يمهل للمتلقى فرصة التعرف على مشاعر عطيل النبيلة بغية التعاطف معه والشفقة عليه، بدلاً من ان يولد تجاهه الكراهية ، لا ندفاعه إلى فعلته بتهور وعنف لا مبرر لهما، وبمعنى اخر، ان المتلقي الذي لم يسبق له ان قرأ مسرحية عطيل ومعظم الذين شاهدوا عروض المهرجان هم كذلك، سيخرجون من هذا العرض وهم يكنون الحقد والكراهية لعطيل، وتبعاً لذلك فقد العرض اهم عناصر المسرح الارسطي فيه وهو اثارة الشفقة لدى المتلقي( الكاثارسيس).
ان الفراش الذي تخنق فيه ديدمونة يقع وراء الستائر وليس في وسط المسرح كما حدث في هذا العرض، فمن الوحشية وما منها اكثر وحشية تجسيد هذا الفعل امام المتلقي ، والابشع من كل هذا ان يجر عطيل ديدمونة وهي على سريرها في انحاء المسرح .
يقول برادلي : ان بعض القراء يجدون ان ثمة اجزاء في عطيل تصدمهم لفظاعتها وهم يعتقدون ان شكسبير في هذه الاجزاء قد أخطأ بحق شرائع الفن حيث على المسرح فعلاً عنيفاً او وحشياً أليم الوقع في النفس دون ضرورة ومثير اكثر منه مأساوياً. ولعل المقاطع التي تخدش احاسيسهم هي حيث يضرب عطيل ديدمونة وحيث يتظاهر بمعاملتها كأنها نزيلة مبغى واخيراً مشهد مصرعها..
وما يمكن ان يسمح لي هذا العرض ان اسجله لصالحه هو احتفاظ المخرج بروحية كلاسيكية شكسبير في توظيف قطع الديكور والازياء والمدلولات التي اضفتها الوان قطع القماش الابيض والاحمر إلى المعنى الفلسفي العام للمسرحية وابعاد شخصياتها: عطيل ، ياغو ، وديدمونة .
يقول الفيلسوف المسرحي الكبير الاراديس نيكول عن مسرحية عطيل ان محاسنها التمثيلية تفوق محاسن مسرحية الملك لير...
بناء على هذا القول ، كنت اتوقع ان يشدني اداء ياغو اليه الذي مثله يوسف عثمان، للأسف لقد اداه بتكلف ولعل هذا كان سبباً لعدم ارتقاء مستوى ادائه إلى مستوى اداء عطيل الذي مثله يونس حمه كاكا، وخاصة في المشاهد الاخيرة، وكذا الحال بالنسبة لديدمونة في المشاهد التي يدلي لها عطيل عن خيانتها ومواجهتها له بالهدوء وبمنتهى العفة والطهارة والثقة بالنفس ، وبالنسبة لبقية الممثلين لم يؤدوا ادوارهم بشكل جيد..
ولا يفوتني ان اذكر المشهد الذي فات المخرج ان يوليه اهميته ومرعليه مرور الكرام وهو المشهد الذي يخنق فيه عطيل ديدمونة ، وفي هذه الاثناء يتناهي إلى سمعه طرقات على الباب، فإن هذا المشهد يذكرنا بمشهد قتل مكبث للملك وصحوته من فعل جريمته، اذ يتكرر نفس الفعل في المسرحيتين وبنفس الصيغة،صيغة الطرق على لاباب،وهي اشارة الى الخروج من الوهم الى الواقع.لم يجسده المخرج بما يوحي الى ذلك ، وكان بالامكان ان يكسبه مساحة اكبر وان يجد له اسلوباً اخراجياً يفي حقه.
8 – يوميات الأخوة : أخراج كامران رؤوف .
هل يحق للمخرج أن يثير اهتمام المتلقي إلى الحد الذي يخلق موقفاً يستدر منه الدموع؟؟؟
وإذا ما أشاع هذا الجو,فهل ينضوي مثل هذا العرض تحت لواء المسرح العاطفي أي تصوير الواقع كما يحدث في الحياة اليومية المألوفة؟؟؟ افتراضاً , إن مخرج المسرحية التي نحن بصدد تناولها ألان اتبع اسلوباً لاينشد فيه تطهير المتلقي , فهل كان عرضه يفي الغرض المطلوب؟؟؟بمعنى هل كان موقفه تجاه التجربة الكوردية بالوضوح الذي بثه في العرض؟؟؟وهل كان المتلقي سيتخذ موقف التعاطف إزاء الشخصيات الايجابية, وبالعكس بالنسبة للسلبية منها و الأحداث الجارية بشكل عام؟؟؟
وبمعنى أدق,أي منحى كان العرض سيتجه,لو قدر المخرج أن يقوده إلى غير الأسلوب الواقعي أكان سينحو منحى تحريضياً أم يكتفي بطرح الحالة؟؟؟
هذه الأسئلة وغيرها تثيرها مسرحية (يوميات الأخوة) فكرة الكاتب "برزان فرج" صياغة وإخراج الفنان "كامران رؤوف" التي عرضت في مدينة السليمانية اعتباراً من يوم الخميس المصادف 4-6-1998 بدعم وزارة الثقافة ,ومشاركة أربع فرق فنية في تقديمها هي: فرقة المسرح القومي , جمعية الفنون الجميلة الكوردية , فرقة السليمانية للتمثيل , وفرقة فنون المدينة.
أحداث هذه المسرحية تدور في دار يسكن فيها خمسة أخوة مع والدتهم وزوجة شقيقهم إبراهيم (ذيان) بالإضافة إلى أزاد-الطفل –ابن شقيقهم الشهيد,والأخوة الخمسة هم (ياسين) سياسي انتهازي (ياسين قادر البرزنجي),(إبراهيم) جندي سابق مبتور الساقين(أزاد جلال).(نةجو) مهرب(عزت رؤوف).(دانا) يعيش في الخارج, وقد عاد بشكل وقتي إلى ارض الوطن,(ئاشتي كمال)و(شيرو) فنان تشكيلي-(ميران علي).
والأخوة الخمسة تتباين طريقة تفكيرهم وفهمهم للحياة ,طبقاً للإعمال التي يمتهنونها ,وعلى هذا الأساس وزعت مواقفهم باتجاهين ,فياسين ونةجو ودانا بالاتجاه السلبي , وإبراهيم وشيرو إلى جانب الأم وذيان والطفل بالاتجاه الايجابي , وذلك من خلال سعي الاتجاه الأول لبيع الدار التي يسكنون فيها والاتجاه الثاني بالتصدي لهذا السعي ,وبتصادم الاتجاهين تتجلى حقيقة الشخصيات الثلاث ويصار إلى تعريتها والكشف عن زيفها ودجلها من قبل الشخصيات الايجابية.
أن تأثيرات الكاتب المسرحي الكبير(تشيكوف) واضحة على شخصيات هذه المسرحية,بخصوص الطموحات التي تعتمل في دواخلها وعجزها عن تحقيقها باستثناء شخصية (زيان) المرأة الخدومة والميالة لتوفير الراحة للجميع واستتباب الأمن والاستقرار في الدار التي تغادرها في النهاية اثر محاولة اعتداء شقيق زوجها عليها.
أما أم الأخوة الخمسة فتترقب ابنها الشهيد وتعتقد انه غير ميت , وأما ياسين فيطمح بالفوز في الانتخابات والارتقاء إلى درجات السلم الحزبية على أكتاف شقيقه الشهيد وابنه الطفل أزاد عبر تقديمه للمسئوولين في المقبرة الجماعية و(دانا) العائد من الخارج يحلم بالفوز بزوجة شقيقه,أما (إبراهيم) و(شيرو) فهما يحاولان ألا تباع الدار والطفل يعيش في أحلامه اللامرئية .
وفي نهاية العرض يموت إبراهيم ويغادر دانا ارض الوطن إلى الخارج ويرحل (شيرو) إلى قرية نائية وتبقى الأم مع (أزاد) بانتظار أن تأتي الملائكة إلى الدار لتقوم بتنظيفها وتوسيعها وزرع الشتلات فيها ليعيش الكل فيها بسعادة.
أقول هذه الأسئلة وغيرها تثيرها مسرحية (يوميات الأخوة) لأنها تتناول موضوعاً دقيقاً وحساساً يرتبط بتجربة الشعب الكوردي بعد الانتفاضة والإخفاقات التي أصابتها والجدل الذي يدعو بعض شخصيات المسرحية ضمن نفس السياق كشخصية الشهيد الذي يحس المتلقي بحضوره على امتداد العرض بالإضافة إلى شخصية إبراهيم الجندي المبتور الساقين في الحرب الإيرانية-العراقية الذي يلقى نفس التعاطف , ناهيك عن شخصية الأم والطفل وزوجة إبراهيم وشيرو.
ترى ألا تدغدغ ثيمة كهذه مشاعر المتلقي وأحاسيسه وتجعله ينحاز إلى العرض تلقائياً وينغمس في الأحداث بدلاً من انغماسه في الأسلوب المتبع؟؟؟
شاء المخرج أم آبى , فهو في مواجهة حدث ميلودرامي وحشد من الشخصيات هي كذلك.
لست هنا معنياً بالدخول في تفاصيل مفهوم الميلودراما بالرغم من أن مؤلفي الماسي القديمة كانوا يبثون فلسفة هذا المصطلح في مسرحياتهم ألا إنني استطيع اقول ان الميلودراما تراجعت إلى الوراء بعد ظهور مسرحيات (ابسن) و(تشيكوف) و(يوجين أونيل),وبروز أساليب حديثة في الإخراج بسبب افتقارها إلى التعمق في الهدف الفلسفي وتوجه شخوصها إلى أن تصبح مجموعة من النماذج الثابتة التي تعرض بطريقة بسيطة وواضحة ,وطغيان الحوار على الحركة المسرحية فيها
ولعل عودة متأنية إلى قراءة نص (يوميات الأخوة) ستظهر لنا أن منشأ هذا الاضطراب لايمت للنص بصلة وإنما هو ناشئ في لاوعي المتلقي نتيجة موقفه من هذا النوع من الثيمات والشخصيات , بفعل الظلم والاضطهاد الذي عانى منه لسنين خلت من النظام ,وتوقه لنجاح تجربة شعبه الفتية بعد الانتفاضة .
وهنا يأتي دور المخرج عن طريق أسلوبه الإخراجي الذي يعتقد انه السبيل الأمثل لتحرر المتلقي عن حالة اللاوعي المبثوثة فيه وبدون معالجته لهذه الحالة إخراجياً فأنه سيضاعف من توغل العرض في الميلودراما.
أتذكر في مسرحية (شجرة التوت) تمثيل وإخراج الفنانة "كه زيزة عمر علي أمين"المعروضة عام1989بمدينة السليمانية في المهرجان المسرحي الثالث , التي تدور أحداثها هي الأخرى حول أم فقدت ابنها . الصمت الذي كان مخيماً على الحاضرين والوجوه التي سادها الاكفهرار,لسبب واضح وهو أن الأم فقدت ابنها لاستشهاده تحت التعذيب في غياهب سجون النظام ترى :هل كان الكل يذرف الدموع؟؟؟
لا ادري....
أن ما وددت الذهاب إليه من أعطاء هذا النموذج , هو مدى قدرة المخرج في مثل هذا النمط من المسرحيات على كبح عواطف النظارة والسيطرة على أحاسيسهم ومشاعرهم من خلال العناصر والمفردات الفنية المتوفرة له والمتاحة لديه لكي لاينقلب العرض إلى مرثية بكائية.
ترى هل استطاع "كامران رؤوف" بأدواته المسرحية هذه أن ينقذ عرضه من لغة الميلودراما؟؟؟
اعتقد بالإجابة على هذا السؤال ايجاباً فقط تكمن مهمة نجاحه يبدو لي أن المخرج تعامل بذكاء في صياغة النص , عندما لم يسع إلى التفلسف في تطبيق أسلوب إخراجي عليه ,قد لاينسجم مع المنهج الذي اتبعه كاتب الفكرة ,متجنباً بذلك التصادم مع رؤيته وسائراً على هدى الفكرة التي كتبت أساساً بمقومات الأسس الجوهرية التي يعتمد عليها المذهب الواقعي متمثلاً إياها بأسلوبي ستانسلافسكي الواقعي وفاختاتكوف الواقعي-الخيالي والمذهب الواقعي كما هو معروف يفسح المجال سواء للمؤلف أو المخرج ,أن يستحوذ على اهتمام المتلقي ,وان يخلق بعض المواقف لاستدرار دموع النظارة.
والمخرج إذ يعمد إلى هذين الأسلوبين ,فإنما يتوخى من الأول الصدق الداخلي لأداء الممثلين النابع من الباطن إلى الظاهر ...ومن الثاني الوعي بظاهرة التمسرح حين لاينسى المتلقي لحظة واحدة انه في مسرح ,وحين يعي طول الوقت وجود الممثل من حيث هو حرفي .وبمزج هذين الأسلوبين يصل المتلقي إلى حالة التطهير التي ينشدها المخرج . والتطهير هنا موقف وقضية بالنسبة للمخرج ,فإذا كانت قضيته هي نجاح تجربة الشعب الكوردي ,فأن موقفه منها ليس تحريضياً وإنما طرح الحالة فقط لإشاعة مايمكن إشاعته من بغض تجاه الشخصيات السلبية وعطف حيال الشخصيات الايجابية من خلال الكشف عن الوجوه الخائنة , والحكم على زيفها وإبراز الصفات التي يتخلى بها اصحاب المواقف النبيلة .
والتأثر في هذا النوع من العروض لايأتي إلا بتأمل العلاقة بين بني الإنسان بعضهم ببعض ,كما كان الحال قائماً في المآسي القديمة التي تتسم بطابع الهمجية ,وتأخذ طابع الخيانة هنا نفس الموقع الذي كانت تحتله الهمجية في المآسي القديمة وهو موضوع خيانة الوطن والسقوط في الرذيلة,ألا أن الفارق بينهما هو أن همجية المآسي القديمة كانت تفرض نفسها ا وان المتلقي كان يفرض نفسه(لافرق) لان تقديم بأسلوب ميلودرامي ,أما الخيانة في الوقت الحاضر أو المضامين التي تنطوي على معان كبيرة ,فتتطلب أن تقدم بأسلوب درامي ,للتطورات الناجمة في الأساليب الإخراجية , وبمعنى أوضح أن الهمجية لكي تهاجم كانت بحاجة إلى مسرحية عاطفية جدية تؤثر فينا بالوسائل الطبيعية , أما الخيانة فلكي تهاجم بحاجة إلى وسائل مسرحية للحد من هذه العاطفة.
وابرز الوسائل التي استخدمها المخرج في هذا العرض ,هي الرمز , ذلك أن هذه الوسيلة تثير الخيال ولا تقدم للمتلقي مادة جاهزة وتشده إلى الأحداث الجارية على خشبة المسرح كما حدث في المشهد الاستهلالي عبر ديكوره الدال إلى حصان طروادة بخروج رموز الخيال من أحشاء الحصان والفوضى التي بثها على المسرح كمحصلة هذه الخيانة , ارتباطاً بما حل بكوردستان من دمار وتخريب وفرقة , ألا أن الخيانة لكونها لب ثيمة المسرحية, فالمخرج لم يكتف بتجسيدها في المشهد الاستهلالي بالديكور ومجموعة من الممثلين الملثمين وهم يعبثون بالدار ,وإنما أسعفه بمشهد يليه يوحي إلى نفس الحالة على لسان الطفل, سعياً لتوضيح المشهد الاستهلالي وفك رموزه.
الطفل أزاد : (وهو يخاطب جدته)كان الحصان كبيراً جداً , أنا وأنت والأم زيان فزعنا منه ,وكان العم إبراهيم لايفتأ. أن يتحرك على كرسيه والعم ياسين والعم نةجو والعم دانا خرجوا من أحشائه ,وكانت وجودهم دميمة جداً.
أذا أردنا أن نستعرض المشاهد التي تتسم بالرمز ,فمعظم المشاهد أو كما يطلق عليها المخرج (الأحلام)هي كذلك, ولربما أراد المخرج بإطلاق هذه التسمية على مشاهده أن يذهب منحى(ارتو) عندما يقول: بأن الناس لايرون أنفسهم بوضوح ألا في أحلامهم ,المهم أن المسرحية زاخرة بالرموز ,فالدار التي يسكن فيها الأخوة الخمسة هي رمز يدل على كوردستان وسعي الأخوة الثلاثة لبيع الدار هو رمز للخيانة وتجزئة كوردستان ,وكذا الحال بالنسبة للشخصيات الايجابية ,إذ يرمز كل واحد منهم إلى دلالة معينة وتبقى شخصية إبراهيم الوحيدة التي يلفها بعض الغموض و(الالتباس) وان كان لي بشأنها وجهة نظر خاصة.
ليست هذه التجربة الأولى لعملية الإعداد التي يقوم بها "كامران رؤوف" اوكما يحلو له أن يطلق عليها (صياغة النص),فكما أظن لقد قام بإعداد عملين آخرين هما (رحلة حسن) و(القصر) والذي شاهدهما لابد أن يقرر النجاح الذي لقياه,ارجو أن لايفهم القارئ بأنني هنا ومن خلال هذه التزكية أحاول أن اجعل من العملين السابقين جسراً لهذا العمل بقدر ما أسعى إلى التأكيد على أن الوسط المسرحي الكوردي لم يشهد لحد الآن معداً ناجحاً مثل(كامران) وهذه مسألة طبيعية لكون عملية الإعدام أصعب من عملية التأليف ,ولان في بغداد لم يبرز من بين المسرحيين الكبار في هذا الخصوص سوى "قاسم محمد" .
أذن أليس من حقنا كمسرحيين كورد وكوردستانيين أن نفتخر به؟؟؟
ليس القصد هذا وإنما القصد هو إن تألق الكُتاب العٌظام لم يأت ألا نتيجة استخدامهم للعبارة الموهمة التي تحمل بين ثناياها أكثر من مغزى ومدلول,و أن "كامران" استفاد من تجربته السينمائية ونقلها إلى المسرح باعتبار أن الدراما السينمائية من خلال البراعة البصرية والمتع التصويرية تؤدي نفس عمل العبارة الموهمة بالضبط اذ ما من مشهد يخلو من هذه العبارات ,ولعل أجمل هذه المشاهد هو المشهد الذي يستنجد فيه العم إبراهيم بوالدته خوفاً من أن يطرد خارج الدار من قبل أشقائه وهو يزحف وراءها بعربته المتحركة.
ماذا يفهم المتلقي من هذا الاستنجاد؟؟؟
ألا يذكره بالملك لير وهو يقذف من قبل بناته وأزواجهن مستنجداً ببهلول خادمه الأمين أن يحميه من البرد القارص ؟؟؟ألا يذكره بشعبنا الكوردي والهجرة المليونية ؟؟؟ ألا يذكره بالفرد الذي يعيش في وطنه ويحس بالغربة؟؟؟ ألا يذكره بالتمزق الذي ينخر في صفوفنا...ألا...ألا...ألا...؟؟؟
ومشهد مغادرة زيان للدار ,بالأحرى وطنها,لان شقيق زوجها حاول الاعتداء على اعزماتملك ويجب المحافظة عليه وهو شرفها.إلى أين هي ذاهبة ,ولم؟؟؟أسئلة يثيرها المخرج,وهل وصلت العلاقات في مجتمعنا إلى هذا الحد من التفسخ؟؟؟من المسؤول؟؟؟
والمشهد الذي يسرد فيه إبراهيم كيفية إصابة ساقيه ومشهد الطير المسكين الذي أمطروه بوابل من الرصاصات ومشهد معاتبة العم إبراهيم لزوجنه ذيان لأنها لم تهيئ له طعام العشاء .... و...و...مشاهد كثيرة لامجال لذكرها هنا . وإذا كان لي من ملاحظة حول عملية الإعداد التي قام بها كامران في هذه المسرحية وغيرها من المسرحيات التي شاهدتها واقصد بالذات(رحلة حسن)هي انه غالباً مايركز اهتمامه على شخصية واحدة ويوليها عناية خاصة ,ويجعل بقية الشخصيات (ونفس الشيء يمكن أن يقال عن إخراجه) ظلاً لهذه الشخصية كما يحدث في هذا العرض إذ أن العم ياسين كان المحور الرئيسي للأحداث والمحرك الجوهري للشخصيات ,فالمشاهد التي تخلو من أدائه تبدو ضعيفة والمشاهد التي يشترك في أدائها تتفجر قوة.
كما أن العبارات إلي جاءت على لسان الأم في المشاهد الأخيرة من العرض ذكرتني بأم الشهيد في مسرحية(شجرة الموت) وهي تردد:
"انه حي,لم يمت" وهذا ماينطبق أيضا بالنسبة لغرفة الطابق العلوي الخاصة بالشهيد في نفس المسرحية الدالة على السمو والارتقاء.
قلت في مكان ما في هذا المقال أن شخصية إبراهيم يلفها بعض الغموض والالتباس, إذا نظرنا إلى هذه الشخصية من خلال عملها في الجيش العراقي وعلى هذا الأساس أفرزنا انتماءها إلى النظام وبمعزل عن الحوارات التي تأتي على لسانها في تقديري سنكون قد أجحفنا بحق هذه الشخصية وبالتالي بحق المعد والمخرج وذلك أن في المسرحية أكثر من حوار تعطي هذه الشخصية المبررات المنطقية والكافية لمشاركتها في الحرب الإيرانية-العراقية , وعدم ترميزها للنظام .
دانا : لماذا وضعت نفسك في هذا المنزلق (ويقصد مشاركته في الحرب الإيرانية-العراقية) ولم تنفذ بجلدك؟؟؟
إبراهيم:عندما ذهبتم (ويقصد سفر دانا إلى الخارج والتحاق ياسين بصفوف الثوار الأكراد) اضطررت أن أبقى هنا لإعالة والدتي وهذا الطفل.
دانا : ألم يكن نه جو هنا؟؟؟
إبراهيم : لم نكن نرى نه جو ثلاث مرات طول السنة , إذ كان شغله الشاغل الانتقال بين بغداد والبصرة (أشارة إلى علاقاته المشبوهة)ومن الجدير بالذكر أن إبراهيم كان قد جلب معه من الحرب أشياء غريبة كالأحجار و الأخشاب وقطع الحديد والحبال واحتفظ بها في مكتبه ظناً منه كما جاء في احد حواراته :أننا ننسى العدو بسرعة(إشارة أخرى إلى انه ضد النظام).
وهذا الحوار مع دانا يؤكد موقفه السلبي من النظام وتعاطفه مع قضية شعبه .
إبراهيم : وهذا الحبل انتزعه من كلب إثناء عمليات أنفال أحدى القرى,كلب صد هجوم الشوفلات ومنعها من أن تتقدم خطوة واحدة لهدم دار صاحبه لكنهم أمطروه بوابل رصاصاتهم , سقط الكلب ولم يلفظ أنفاسه الأخيرة ألا بعد أن انتهت الشوفلات من هدم تلك الدار.
وهذه (النظارة) لرجل طاعن في السن هرعت لأعطيه نظارته التي وقعت من على عينيه ,مد يده وقال بصوت أجش: لم اعد بحاجة إليها,فقد انتهى كل شي في حياتي لم يعد ثمة شيء لأنظر إليه ولم يأت عوق العم إبراهيم بشكل عفوي إذ لربما هو أنزه شخصيات المسرحية وأكثرهم تحلياً بالأخلاق والقيم نتيجة عدم أنانيته وحبه لإفراد أسرته ورفضه الانتماء إلى أي فكر سياسي أخر,ماعدا تضحيته من اجل والدته وابن شقيقه وإخوته وقت الشدائد والمحن, أذن هو احد أفراد هذا الشعب المغدور, هذا الشعب المصاب بالشلل والعجز التامين,كالعم إبراهيم جراء الحروب المتتالية للنظام .
وتأتي صافرة الإنذار التي أطلقت في نهاية العرض بعد موت العم إبراهيم كصفعة قوية على وجه المتلقي لتنشله من حالة اللاوعي التي كان فيها طوال مدة العرض .إلى حالة الوعي التي يعيشها في حياته الاعتيادية وعنصر المفاجأة هذا أحدث فيه التغريب وأخرجه من واقعه الخيالي إلى الواقعي ليحثه على الخطر القادم.
اشد بحرارة على أيدي كافة الذين شاركوا في هذا العرض واخص منهم بالذكر الفنان"أزاد جلال" الذي مثل بحق طريقة (ستانسلافسكي) بجدارة ,وأعجبني أداء "ميران علي" الذي اتسم بالتلقائية وعدم التكلف بالإضافة إلى الفنانة "فيان كمال" التي استطاعت أن تقنعنا بأداء الزوجة الحنونة والخادمة الأمينة ,ولا انسي أداء الطفل الموهوب "كوزين كامران" بخفة دمه على المسرح ولكنته المحببة.
تراَى لي الفنان " ياسين البرزنجي" ولربما لأنه كان اليوم الأول للعرض قلقاً على المسرح ,أمل أن يكون قد تجاوزها في أيام العروض اللاحقة.
" أشتي كمال " لم يمثل بقدر ماكان يلقي الحوارات التي حفظها عن ظهر قلب ." عزت رؤوف" لم يخرج عن أدائه النمطي المعروف به في الأدوار الكوميدية ’ "أما سهيلة حسن" فقد كانت أم الشهيد المرهقة بحق بخطواتها الثقيلة على المسرح ككل الأمهات العراقيات واللواتي ناضلن إلى جانب أبنائهن.
وأخيراً أعود لأطرح السؤال الذي بدأت به في الأول:
ترى هل استطاع كامران أن يكبح عاطفة المتلقي ,ويضع حداً للاوعيه الغريزي باتجاه عدم استدرار الدموع من مآقيه؟!
هذا ما أشك في .....
وحسناً ما فعل ......
9 – زه مبيل فروش : إخراج زيلوان طاهر
يبدو لي أن عملية مسرحة الفلكلور أو التراث أو الحكاية الشعبية بحاجة إلى ذهنية تجيد التعامل مع ثلاثة عناصر أساسية لنجاح العرض المسرحي ,هي تحرير الحكاية من بنائها القديم أولاً وإعدادها ثانياً وعصرنتها ثالثاً , ولكن لافتقار مسرحنا إلى الذهنية التي تتوافر فيها هذه الشروط ,فأن معظم المحاولات التي تصب في هذا الاتجاه تتعرض للفشل ولاتجدي نفعاً , بدءاً بمسرحية (مه م وزين) إخراج طلعت سامان ومروراً ب (لاس وخه زال) إخراج صباح عبد الرحمن,وانتهاء ب (سورمه خان) إخراج صفوت الجراح ,بالإضافة إلى المسرحية التي نحن ألان بصدد تناولها والمسرحية الوحيدة التي لاتدخل ضمن هذا السياق هي مسرحية (في انتظار سيامند) إعداد شمال عمر وإخراج الفنانتين "ميديا رؤوف ونيكار حسيب).
بين عرض (سورمه خان) إخراج الفنان صفوت الجراح وعرض(زه مبيل فروش) إخراج الفنان زيلون طاهر,ستة عشر عماً , إذ قدم الأول عام 1983,والثاني في الفترة الأخيرة ضمن المهرجان الفني الذي أقامته معهد الفنون الجميلة في اربيل عام 1999 .كما يفصل عرض (في انتظار سيامند)عن العرض الثاني احد عشر عاماً ,حيث قدم عام1988.
طبعاً لم آت على ذكر هذين العرضين اللذين مضى على تقديمهما فترة غير قصيرة اعتباطاً , وإنما جئت بهما للصلة الوثيقة التي تربطهما بهذا العرض وخاصة في ما يتعلق باستقاء مادة الثالوث المسرحي من التراث والفلكلور الكورديين,بالإضافة إلى السمات المشتركة وغير المشتركة بين رؤية المخرجين الثلاثة في التعامل مع المادة التراثية ومسرحتها وذلك بألتزام عرض (سورمه خان) بأحداث نص الحكاية وتقديمها بالأسلوب الأرسطي وتكثيف في (انتظار سيامند) للحكاية وتقديمها بأسلوب انتونان ارتو ,وتقيد(زةمبيل فرؤش) بأحداثها وتقديمها بأسلوب المسرح الاحتفالي .
"لعل ابرز إشكالات التعامل المسرحي مع تراثنا الكوردي يكمن في تحرك الكاتب ضمن الرقعة والإطار المحددين للمادة التراثية المنتقاة من حدث وشخصيات ولغة إلى أدق التفصيلات ,هذا التعامل الذي يقوده لان يظل أسير النقل والاستنساخ وكأن التراث مجرد حدث ولغة , مع العلم أن التراث بالنسبة للمبدع رموز وحيوات مليئة بالحياة والإيماءة فليس مجدياً إعادة تسجيله بهيكله ولكن بأكتشاف القدرات الموحية والملهمة للإنسان المعاصر لإعادة بناء نفسه بوعي جديد".
هذا ماجاء في المقدمة التي كتبتها عن عرض(سورمه خان) عام 1983, واعتقد أن هذا الكلام مازال ينطبق على واقع مسرحنا آو الذين يتعاملون مع المادة التراثية , بدون عصرنتها كثيمة وتأطير هذه الثيمة بالشكل الذي يتلائم معها فالمخرجون المسرحيون الكورد لايسمحون لأنفسهم بفحص أحداث الحكاية وشخصيتها من منظور فكري مخالف ,ولا يتصدون لها بالنقد والتقييم ولكن بالتأليه فقط مع أن الحكايات القديمة كما هو معروف لاترتكز إلى بناء فني متماسك ولا تقيم وزناً لمبررات الانتقالات بين أفعالها كما حدث لمسرحية (سورمه خان) والمسرحية التي نحن ألان بصدد تناولها,إذ مثلما وقع عرض (سورمه خان) في شرك ثلاثة انتقالات لأفعال تفتقر إلى التبرير الفني السليم ,كذلك فقد سقط عرض (زةمبيل فرؤش) في هذا الشرك ,وذلك بزيادة فعل واحد عليه أي بأربعة أفعال والحكاية من أولها إلى أخرها تتكون من هذه الأفعال فقط ,علماً أن المسرح الاحتفالي لايستند إلى التسلسل المنطقي للأحداث ,فمثل هذا التوجه هو من شأن المسرح الدرامي والأفعال الثلاثة التي وقع عرض (سورمه خان) في شركها هي عدم هروب (خورشيد) مع (سورمه خان) أولاً والفعل الثاني في إيعاز (حسين بك) إلى قتل نجله (سه نانيك) والفعل الثالث في غفران (زولفان) من قبل والدها , والأفعال الأربعة غير المبررة والتي وقع في شركها عرض (زه مبيل فروش) هي:
1 – اكتشاف المير بعدم اقتصار الموت على كبار السن وإنما على الشباب أيضاً .
2 – إقناعه لزوجته بالتخلي عن الثروة والجاه والعيش كعامة الناس.
3 – اكتشافه بأن النائمة إلى جانبه ليست زوجته لمجرد احتكاك قدمه برسغ قدمها الخاوية من الحجل.
4 – موافقة زوجته على أن تشارك معشوقة زوجها فراشها .
وهذا ماسنحاول التعرض إليه بالتفصيل :
بالنسبة للفعل الأول فالمير بالإضافة إلى عدم كونه أنساناً اعتيادياً فهو يتوسم بصفة ثانية وهي هواية ممارسة الصيد وهذه الصفة تعزز الصفة الأولى وتؤكد الذكاء الذي يتحلى به وليس الجهل بأبسط أمور الحياة كالموت في سن مبكرة.
ولكن لان عملية الإعداد صعبة وبحاجة إلى خبرة وتجربة طويلتين ولربما إلى وقت وجهد إضافيين كذلك ,فالمخرج لما تتسم بها أصل الحكاية من سهولة ,يرى من الأفضل له أن يخفي إمكانياته المتواضعة بالتشبث بأذيالها,تحقيقاً بالإضافة إلى السبب السالف , رغبة تذوق العامة بمشاهدة الحكاية كما هي مغناة أو منقولة من الرائي.
والهدف من إظهار المير بهذا الجهل المتأخر هو لإيجاد المسوغ لفعله الأول للانتقال إلى الفعل الثاني وهو تخلي المير عن ثروته وجاهه والانسلاخ عن طبقته ,وبالتالي الالتقاء بالأميرة وقد أصبح بائعاً للسلات التي تهيم به عشقاً , بينما يواصل هو امتداداً للموقف الأول تصديه لها بحثاً عن التصوف والتمرد ,وضمن هذا السياق وبين ثنايا اللقاء الجاري بين المير والأميرة ثمة ضعف كبير في رسم البناء الفني الذي لم يسع المخرج إلى معالجته شأنه في ذلك شأن انتقالات الأفعال الأربعة وهذا الضعف يكمن بالإجابة الموضوعية على السؤال التالي:
- ترى أي المنحيين أكثر إقناعاً ,هل منحى إلتقاء المير بالأميرة وهو في عز جاهه وثروته أم في منحى تحوله إلى بائع السلات؟؟
اعتقد أن المنطق يقول المنحى الأول وليس الثاني ,ذلك أن الذين ينتمون إلى مستوى طبقي متميز تكون العلاقات الاجتماعية بينهم أقوى من الذين يقل عنهم مستواهم الطبقي وتخف هذه العلاقات كلما ازداد الفارق الطبقي وبناء على هذا الأساس فألتقاء المير بالأميرة لوجاء قبل انسلاخه من طبقته وليس بعده ,كان في تصوري سيحمل قدراً اكبر من مقومات الإقناع.
وبين ثنايا نفس اللقاء أو المشهد الجاري أمام شرفة الأميرة يقع المخرج في نفس الخطأ عندما يقود المير المتصوف ببيع سلاته أمام قصر الأميرة لأنه مشهداً كهذا يُوَلدُ الشك والارتياب لدى المتلقي عن سر وجود المير في هذا المكان سيما وقد اتخذ موقفه الثابت الذي لارجعة فيه ,وهو التصوف والتمرد بالتخلي عن الثروة والجاه وإزاء هذا الموقف من المفروض أن يتجنب مثل هذه الأماكن,خشية ألا يهتم بالحنين إليها وزعزعته من القرار الذي سبق وان اتخذه .
غير انه وهنا تكمن المفارقة ,لايكتفي فقط بالغدو والرواح تارة والجلوس تارة أخرى أمام قصر الأميرة وإنما يقبل على نفسه أيضاً وتحت إلحاحها أن يدخل قصرها ,أي أن يعود ثانية لأحضان الطبقة التي انسلخ منها .
والفعل الجوهري في هذه الحكاية هو الفعل الثاني ,لان موقف المير الذي يتخذه يبدأ منه وتنبني ثيمة المسرحية عليه لذا فأن رسم مثل هذا الفعل الذي يلعب دوراً أساسياً في تغيير مجرى الأحداث وتحولاً في أبعاد الشخصيات ,بحاجة إلى بناء فني محكم لمد جسر من التفاهم بينه وبين الأفعال السابقة والأفعال اللاحقة , ألا أن المخرج لأنه اخذ الحكاية على علاتها,ولم يسع إلى عصرنتها فقد جاء هذا الفعل من أكثر الحلقات ضعفاً في العرض .المتمثل (بإقناع) المير لزوجته بالتخلي عن الثروة والجاه أو هكذا تراَى للملتقى , لخلو العرض من أي حوار يوحي إلى معارضة الزوجة على موقف زوجها, بل بالعكس فهي تبدي استعدادها لمشاركة الحياة معه في أحلك الظروف.
لو ركز توجهه نحو عصرنة أحداثها ,بالاستفادة من الخط العام لفكرتها وربطها بالظرف الحالي والسياسي أو الاجتماعي لما كان قد أوسم العرض الذي قدمه بهذا الكم من المسوغات التي يأبى عقل هذا العصر الاقتناع بها ولا اقصد هنا فقط بصعوبة إقناع الزوج لزوجته بالتخلي عن الجاه والثروة والباشاوية واختيار طريق الفقر المدقع وإنما اقصد أيضاً وتحديداً ,الأهانة الموجهة للمرأة الكوردية من خلال تصويرها بهذا الشكل التبعي(الظل) لزوجها.
وكلا الأسلوبين (الرضوخ والطوعي) المتبعين من قبل الزوج لإقناع زوجته باختيار هذا الطريق يؤديان إلى نفس النتيجة ,فإذا كان الطريق الأول يُفضي إلى اهانة الزوجة فأن الثاني يمنحنا انطباعاً ,أن الزوجة هي الأخرى اختارت نفس الطريق الذي يسلكه زوجها بدليل أن زوجة المير تقبل بكل بساطة أن تشارك معشوقة زوجها بمخدعها ,وهذا برهان ساطع أخر على أنها اختارت نفس الطريق ,أي تصوفت مثله وهنا برسم أبعاد هذه الشخصية ,شخصية الزوجة ,يقع المخرج ثانية في خطأ كبير ذلك أن التصوف لايعني الاستسلام وإنما يعني التمرد كما تمرد المير على ترف الحياة ولو سحبنا هذا التمرد على شخصية الزوجة باعتبارها ظلاً له ومكملة لشخصيته فأن المنطق يرفض أن تقبل الزوجة أن تشارك امرأة أخرى في فراشها كما رفض زوجها حبها وعشقها له.
والغريب أن يأتي الفعل الثالث مقروناً باكتشاف لم يتوصل إليه أدهى الأزواج عبر معرفة المير بأن النائمة إلى جانبه ليست زوجته وإنما هي الأميرة لمجرد احتكاك قدمه برسغ قدمها مع انه لم ير وجهها, كما يحاول أن يكشف عنه , والأغرب أن الأميرة هي الساعية لطلب مخدعه ,فبدلاً أن تتحرش هي به يبادر هو إلى التحرش بها ظناً منه بأنها زوجته و الأكثر غرابة أن المير في الوقت الذي تجرد من كل ممتلكاته ماتزال زوجته يتزين رسغ قدمها بقطع من الحجل.
في البداية استثنيت مسرحية (في انتظار سيامند) من بين العروض المسرحية الكوردية التي وقفت في مسرحة الفلكلور أو التراث وذلك لخوض هذه التجربة على الوجه التالي:
"استفاد معد الحكاية شمال عمر من جزء يسير مما يرد في أحداث حكاية (خه ج وسامند) وبالذات من الصراع الدائر بين سيامند والثور البري بأتجاه تحويل هذا الصراع إلى ثيمة المسرحية وموضوعها الرئيسي ,لتبدأ من هذه النقطة ومن هذا المرتكز سلسلة الأحلام المتعاقبة السوداء ل (خه ج) بحثاً عن (سيامند) الذي انحدر من قمة جبل سقوطاً تثقل جسمه جذورع أشجار متراكمة ولعل تكثيف هذه الأنشودة المتكونة أصلاً من أكثر من ثلاثين شخصية واختزالها في شخصية واحدة أو شخصيتين ومن ثم انعطافها في عالم الأحلام اكسب العرض المسرحي منحى فانتازياً شفافياً والبسه ثوباً جديداً بتحويل الجمل الحوارية المباشرة إلى رموز ودلالات عميقة عبر توظيف مجموعة من عناصر العرض المسرحي البسيطة متجاوزاً الأطر التقليدية المعروفة لمفهوم الأنشودة إلى اطر غير مألوفة تستقريء مفاهيم الأنشودة من (الأنا)إلى (نحن)".
فالثوري البري لايشكل في الحكاية حاجزاً إزاء هروب(خه ج) و(سيامند) بينما هنا يتحول إلى عائق ورمز لوحش هائل يحول دون تحقيق مبتغاهما مستفيداً المعد من ملحمة كلكامش في الصراع الدائر بين الوحش وكلكامش ,مانحاً لهذا الصراع مدلولاً لرمز الخير والعطاء ولشخصية(خه ج) قلقاً شبيهاً بقلق كلكامش من حيث ترقبها وانتظارها بما سيحل بمصيرها المرتبط بمنقذها (سيامند)الذي نطحه الثور وأوقعه من قمة جبل وتركها وحيدة تعيش في كابوس من الأحلام المتداخلة .
أما مخرجتا هذا العرض "ميديا ونيكار" فقد استفادتا من مفهومين اثنين فقط من المفاهيم المتعددة التي ينطلق منها ارتو في الإخراج المسرحي ,وهما بالتحديد مفهومه للعناصر التي تمتلك الصفة المسرحية الخالصة .وثانياً انطلاقاً من كون الناس لايرون أنفسهم بوضوح إلا في أحلامهم وتطبيقاً للتفسير الثاني للحلم لدى ارتو أشاعت المخرجتان ما أشاعته من جو مسرحي حالم وشفاف.
بينما اخرج زيلوان طاهر (زه مبيل فروش) بأسلوب المسرح الاحتفالي ,واعتقد انه اتبع هذا الأسلوب لكون الحكاية أساساً مغناه وتناقلت أحداثها على ألسنة الشعراء,حتى الناس العامة , واختار بناية معهد فنون الجميلة مكاناً لعرضها,باستغلال كل فضاء الصالة ,و ارتأى أن يضع الجمهور في صفين متقابلين ,وان تجري أحداث المسرحية في الممر الفاصل بين الجمهور بالإضافة إلى خشبة المسرح الموظفة لدار المير .واحد جوانبها للفرقة الموسيقية والكورس, وجعل قصر الأميرة في مواجهة الخشبة تمًاماً . مستغلاً الفسحة التي تعلو باب الدخول ولجأ إلى تغليف جدران الصالة بالحصران لإضفاء الجو العام للعرض بالطقس الفلكلوري.
أول مايتبادر إلى الذهن في الأسلوب الذي اعتمده والإعداد الذي قام به المخرج ,قدرته المتواضعة على توطين الانسجام في العمليتين بين عملية الإعداد التي قام بها , والأسلوب الإخراجي الذي اتبعه ,وبعبارة اوضح مدى قدرته على نجاح عملية الإعداد غير المعصرنة التي قام بها. وهو يقدم الحكاية بكل ما تنطوي بين ثناياها من مثالب وعيوب ونواقص بأتجاه تزاوجها مع أسلوب إخراجي حديث وهو أسلوب المسرح الاحتفالي؟؟
للإجابة على هذا السؤال ,لابد لنا أن نستعين ببيان جماعة المسرح الاحتفالي الستة ,الطيب ألصديقي"عبد الكريم برشيد","عبد الرحمن بن زيدان","محمد الباتولي","عبد الوهاب عيد وبيه"و"توريا جبران". الذين أصدروا بيانهم الأول عام 1976بمدينة مراكش بمناسبة الاحتفال بيوم المسرح العالمي ,إذ جاء في الفقرة الثالثة عشرة منه مايلي:
"المسرح الاحتفالي لايحاكي ولا يحكي,انه حدثاً,حفلاً,ويقيم لقاء تظاهرة-هنا وألان-هذا اللقاء-الاحتفال هو جزء منا نحن المحتفلين انه نحن وهو لايمكن أن يكون ألا كما نريده ونحياه,فالمسرح الاحتفالي لايحيل على الماضي كما هو شأن الدرامية ولا يحيل على الأخر والغائب البعيد-كالمسرح الملحمي- وإنما يحيل على ذاته فهو وحده المرجع والمصدر,لأنه لقاؤنا نحن – ألان – هنا – فالاحتفال المسرحي إذن لا يحي زمناً كان ثم مضى كما انه لا يحكي عن زمن كان أو يكون ولكنه يخلق زمناً جديداً".
لمناقشة الجمل والعبارات الواردة في الفقرة الثالثة عشرة من البيان ومقارنتها بعرض(زه مبيل فروش) أضع خطاً تحت الجملة الأولى (لايحاكي ولا يحكي,انه يحي حدثاً) أي أن المسرح الاحتفالي يقوم على استثمار المادة الفنية والتاريخية والتراثية,ويعالج موضوعاته الآنية معالجة ملحمية من خلال التركيز على الماضي. في نسيج الحاضر من اجل المستقبل واضع الخط الثاني تحت جملة (ولكنه يخلق زمناً جديداً) أي أن هذه الجماعة لاتنظر إلى النص نظرة تأليه وإنما تسعى إلى تذويب مفهومه وإحلال مضامين جديدة بدلاً عنه,ولعل جملة أخرى في الفقرة تؤكد هذا المنحى ,عندما تقول(الاحتفال هو جزء منا نحن المحتفلين,انه نحن وهو لايمكن أن يكون إلا كما نريده ونحياه)".
والجمل الثلاث بقدر ماتوحي إلى نفس المعنى,أو معنى واحد ,فأن جماعة المسرح الاحتفالي عبر تركيزها على الحاضر والمستقبل والزمن الجديد ,تولي اهتماماً كبيراً بمسألة العصرنة ولكننا لم نلمس في هذا العرض بأن المخرج قد سعى إلى توظيفها واعتقد من هذه النقطة يبدأ الخلل ليمتد إلى أهم عنصر من عناصر العرض وهو التمثيل ,ذلك لأننا كما نوهنا في مكان ما من هذا المقال أن المسرح الاحتفالي لايستند إلى التسلسل المنطقي للأحداث وإنما على حبكة تعتمد على أحداث متوازية تتوافر فيها شروط الإقناع .ومؤطرة بشكل مركب تركيباً ذهنياً ولعل عدم انتباه المخرج إلى هذه المسألة الجوهرية في إعداد خطابه للمسرح الاحتفالي قاده أيضا أن يؤدي ممثليه أداء أسلوب المسرح الأرسطي-الدرامي-التقليدي.
يقول "نبيل بدران"(إننا لانقول للمثل كن عطيلا كما كان,"كما قال المخرج في هذا العرض ل(طارق ئاكره يي) كن ميرا,وكما قال لاوسكار كوني الأميرة).
بل نقول اجعل من عطيل ما أنت عليه ألان .أن الممثل في المسرح يجب أن يسأل نفسه دائماً لو أن الشخصية المسرحية كانت في مثل موقعي ماذا كانت تفعل ,كيف كانت تتصرف لو أنها جاءت لتعيش نفس واقعنا المعاصر بكل ما يحمل من متناقصات وخصوصيات؟؟ كيف كانت تنطق,وكيف تتعامل مع الأحداث".
فخطأ المخرج أذن لايكمن في عملية الإعداد التي قام بها فحسب بل بالإضافة إلى ذلك في كيفية صياغة هذه العملية في المسرح الاحتفالي وإلا فهل من المعقول أن نجعل من شخصية المير المتصوفة انموذجاً لشخصية إنسان العصر الحالي , أم بالعكس؟؟أو نجعل من شخصية زوجته الخاضعة انموذجاً للمرأة الكوردية ,ثم ما جدوى تقديم شخصات تعبر عن واقع أكل الدهر عليه وشرب؟؟؟
لأاعتقد أن المخرج قدم شخصية المير آو (زه مبيل فروش) أنموذجاً للتذكير بمواقف الشعب الكوردي البطولية ولو كان قد قدمها كذلك لأحدث تغيراً جذرياً بها,بتحولها الطبقي لامن المير إلى بائع السلات وإنما بالعكس منن بائع السلات إلى المير ,كما احدث تغيراً في شخصية الأميرة وبمنحها الحب العذري بدلاً من الشهواني,ذلك أن حدوث مثل هذا الانقلاب في الشخصيتين الرئيستين يؤدي إلى علاج موضوع الحكاية معالجة ملحمية ,أي بالدعوة إلى تغيير الواقع القائم وليس تفسيره.وهذا هو المطلوب في المسرح الاحتفالي ,أن نخلق زمناً جديداً كما نريده نحن الأن في الوقت الحاضر وليس في الزمن الماضي ,فالطيب ألصديقي(ينفي وجود الزمان والمكان ,فالأحداث لديه منتزعة من عالم غير تأريخي ,ففي مسرحية ديوان سيدي يلتقي القرنان الرابع عشر والحادي عشر ,مما ساعد هذا التداخل في الزمان وجود الراوي الذي يربط الأحداث ,وحيث ينقلب المتفرجون من أشخاص تروى لهم الأحداث إلى مشاركين في صنعها).
التفاته ذكية من المخرج وهو يعمد إلى استخدام أسلوب التقابل أو المواجهة (الميزانسين) في الكشف عن أبعاد شخصيته الرئيسيتين بتحديد مستقر المير على خشبة المسرح والأميرة في الشرفة المقابلة لها, والأذكى أن يمنح هذا الفضاء الواسع الفاصل بينهما للدلالة على عدم التقاء الشخصيتين في النهاية والأكثر ذكاء أن تأتي شرفة الأميرة في مكان أعلى بقليل من خشبة المسرح للإشارة على موقعها الطبقي المقارن بموقع المير المتحول وذلك أن هذا الفضاء الممنوح يعطي انطباعاً أن ثمة اتفاقاً مسبقاً بين الجمهور والممثلين لحضور هذا الاحتفال وان جماعة المسرح الاحتفالي تؤكد على هذا الاتفاق من خلال مايسمونه ب (العقد المسرحي),مع أن المخرج يمنح هذا الفضاء ,ربما وهو في ذهنه تصور أخر عنه كأن يجعل منه ديوخاناً كالديوخانات القديمة التي تتجمع فيها كافة الشرائح والطبقات الاجتماعية.
والملاحظة الثانية حول الفضاء الممنوح هي ,الوقت الذي يأخذه من الممثلين أثناء تحركهم وانتقالهم من عمقه إلى خشبة المسرح وخروجهم ودخولهم إلى الصالة, هذا الوقت الطويل نسبياً قد يعمل على تشتت ذهن المتلقي ,والخروج من الجو ,الاحتفالي خاصة إذا عرفنا أن حرارة الصالة كانت مساعدة لتهيئة مثل هذا الشرود الذهني لذا ففي تصوري أن هذا العرض كان سينال حظاً أوفر من النجاح لو قدم لجمهور النخبة وفي غرفة لاتتعدى مساحتها على 5 * 7م2 .
أن غرفة كهذه هي أولاً اقرب إلى الديوخان, وثانياً لما كان يتخلل أداء الممثلين هذه الفراغات , وثالثاً لتحققت المشاركة في الاحتفالية من قبل الجمهور من خلال الاحتكاك بالممثلين,وتلمس الحدث عن قرب بشكل أفضل من السابق,ورابعاً وهذا هو المهم ,لضغط اختيار هذا المكان على المخرج واعد الحكاية بشكل أخر وسعى إلى عصرنتها واختزال حواراتها وبالتالي الاعتماد على أداء الممثل في المسرح الاحتفالي الذي يرسم بالحركة ويعزف بالصوت.
وحالة التطهير التي بثها المخرج في نهاية العرض بشكل مفاجئ من خلال المياه الساقطة من أعلى السقف على الممثلين الرئيسيين , كانت التفاتة ذكية منه ,وأدت بالإضافة إلى الحالة الأولى إلى التغريب ما اتسمت الحالتان بالجمالية إلا أن المسرح الاحتفالي كما يقول "شوكت عبد الكريم" :(يسعى إلى الاندماج ألتغييري وليس إلى الاندماج ألتطهيري).
واعتقد لو عمد المخرج إلى إسقاط هذه المياه على الجمهور بدلاً من المير بشكل خاص لاتسمت حالة التطهير التي أراد أن يبثها بشكل أجمل وأكثر إقناعاً ,ذلك لان المير سبق وان تطهر من خلال تصوفه وهو ليس بحاجة إليه والذين يحتاجون إليه هم الأميرة والجمهور ,وحسناً فعل المخرج عندما ترك الأميرة تتطهر تحت المياه الساقطة بقدمين عاريتين.
وتلتقي الاحتفالية مع البريشتية في مسألة التغريب كون الأسلوبين يسعيان إلى تقديم ماهو غير مألوف.
يقول تايروف :(لو سألني احد ما هو أصعب أنواع الفنون ,لقلت فن التمثيل,وإذا سألني أخر .ما هو أذاً أنواع الفنون لأجبت أيضاً فن التمثيل ... انه أسهل عندما نأخذه كمجرد محاكاة,ولكنه فن صعب عندما ندرك انه صناعة).
جئت بهذا القول الذي استقيته من كتيب الاحتفالية في المسرح المغربي لمؤلفه "أديب محمد السلاوي" لاقتناعي بأن أداء الممثلين في هذه المسرحية لم يخرج عن نطاق المحاكاة .أو بما يسمى المسرح الأرسطي .فالفنان "طارق ئاكرةيي"والفنانة "اوسكار" أديا شخصية المير والأميرة ولم يبحثا عن شخصيتهما لان التمثيل كما جاء في البيان الثاني لجماعة المسرح الاحتفالي"حياة ,ولا أحد يمكن أن يعيش بدلاً عن الأخرين".
10- به ره و خور: اخراج ارسلان درويش وزيلوان طاهر :
ليس المسرحيون الكورد حسب تعوزهم القدرة على الأحاطة والألمام بأسلوب بريشت التغريبي ،فالمسرحيون العراقيون والعرب على حد سواء يخشونه ويجدون فيه صعوبة بالغة ويتناولونه بحذر،ذلك ان فهمه بحاجة الى معرفة شكل تأثير الفكر الماركسي به،سعياً لأستقطاب متناقضات ومتغيرات الواقع كشكل إبداعي لما يسمى ب ظاهرة( الغموض) بأعتبار ان هذه الظاهرة حضارية اساساً، او كما تسعى الملحمة البريشتية على التأكيد الى ان تراكم الغموض يؤدي الى الوضوح . فلا غرو اذا عرفنا ان فنانا كبيراً كالمرحوم ايراهيم جلال وهو من الذين عرفوا بتفهمه لمسرح بريشت قد اعتذر من اخراج مسرحية(دائرة الطباشير القوقازية) التي كان من المزمع تقديمها من قبل طلبته في أكاديمية الفنون الجميلة ،وذلك بعد مرور ثلاثة اشهر من اجراج مسرحية(بونتيلاوتابعه ماتي = البيك والسائق)وكذا الحال بالنسبة للدكتور عوني كرومي المعروف بحيازته لشهادة الدكتوراه من المانيا الديمقؤاطية (سابقاً) عن دراسته لبريشت،انه في مسرحية (كشخة ونفخة)لم يضف رصيداً إبداعياً الى تجاربه السابقة،ولا يفوتني هنا ان أنوه بتعذر المخرج الألماني (كورت فيت) من اخراج مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) لحين إنتهاء العمل من إنشاء القرص الدوار في مسرح الازبكية حيث استغرق إنشاؤه عاماً واحداً، اما في كوردستان حسب علمي ، فبأستثناء هذه المسرحية التي نحن بصدد تناولها لم يسبقها سوى تجارب ثلاث اخرى هي(دائرة الطباشير القوقازية) اخراج الفنان احمد سالار التي لم يتسن لي مشاهدتها و(القاعدة والاستثناء) اخراج الفنان أيام اكرم، حيث كانت اسوأ نموذج للمسرح البريشتي.و(بونتيلا وتابعه ماتي) اخراج الفنان فاضل القصاب التي جاءت نسخة مقلدة لطريقة اخراج استاذه المرحوم ابراهيم جلال.
أسوق هذه المقدمة بقصد التأكيد على ان فريق المسرحية التي نحن هنا بصدد تناولها من مخرجيها وممثليها بالأضافة الى مصممي ومنفذي الديكور والأضاءةفيها ليسوا أوفر حظاً ممن سبقوهم بالتعرض لبريشت،لسبب بسيط جداً وهو إفتقار المسرح الكوردي الى كوادر بمستوى الطاقات التي يحتضنها المسرح العراقي والمسرح العربي، واذا كان العاملون في هذه المسرحية يعرفون هذه الحقيقة وحقيقة امكانياتهم، فلماذا اذن يغامرون مع بريشت،وفي نص كهذا؟؟
رداً على هذا السؤال يقول العاملون في هذه المسرحية وفي مقدمتهم مخرجها الفنان ارسلان درويش ،بأننا لم نقدم مسرحية بريشتية وانما استفدنا من النص الذي كتبه بريشت وهو ( دائرة الطباشير القوقازية).
حسنا... ما مدى استفادتهم منه؟؟
هذا هو السؤال المطروح لمناقشة رأي المخرج والعاملين في المسرحية.
كما ان لمسرحية (به ره و خور= نحو الشمس ) اخراج أرسلان درويش وزيلوان طاهر لها في اصولها الاسطورية صلة بحكاية النبي سليمان وتحكيمه بين ام دعية بولد وام اصلية كذلك لمسرحية بريشت(دائرة الطباشير القوقازية) لها في اصولها الاسطورية صلة بحكاية النبي سليمان وينحو المخرجان منحى بريشت عندما يقلب القضية راساً على عقب، فبدلا من ان يدفع بالولد الى الام الاصلية يدفعه الى الام المربية بعد اجتيازها اختبار دائرة الطباشير،ومثلما انحاز الى جانب الفلاح ومنحه الارض التي كد عليها وزرعها،كذلك فقد سار المخرجان بنفس الاتجاه..
لهذا السبب وأسباب مهمة أخرى، فالمخرجان شاءا أم أبيا فهما قد اختارا نصاً بريشتيا رغم إجراء بعض التغييرات الطفيفة عليه بقصد إعداده وتكريده،فقد ظلت الفكرة الجوهرية التي أراد أن يقولها المؤلف عالقة في تضاعيفه التي مؤداها:أن الصلات الإنسانية تبقى دائما في الصدارة بينما تهوي صلات الرحم في الحضيض،وهذا يعني في مفهوم بريشت الماركسي ،أن الروابط الاجتماعية المتفسخة يمكن ان تقضي على الروابط البيولوجية، باعتبار أن الإنسان ينسلخ في المجتمع الرأسمالي من انسانيته بانسلاخه من شخصيته،شأنه شأن العامل الذي ينتزع منه رب العمل ملكيته،وانتزاع الملكية هذه نوع من أنواع التغريب..
وسيبقى المخرجان أكثر أحكاماً بقبضة اسلوب بريشت،اذا عرفنا ان النص كان المحور الاساسي الذي حظي بتجاربه في أسلوبه التغريبي،اي ان الفكر الماركسي الذي تبناه واعتنقه قام بتطبيقه على نصوصه ومن خلال هذه النصوص استمد القيم الجمالية والفنية لمسرحه،وهو بهذا ،اي بريشت،يضع المخرج الذي يتناول نصوصه في خناق لا فكاك منه وهو ان يعتمد على اسلوبه التغريبي مرغماً.
ان البحث عن اي مبرر في التعامل مع بريشت بالطريقة (الهكذاوية) انما لا يستند الى الحقيقة الموضوعية، بقدر ما هو ذريعة للتملص من اسلوبه،للتشبث بما هو جاهز ومطبخي، كونه اسلوباً صعباً وبحاجة الى فهم وتعمق ومتابعات مشاهداتية و لتجاربه،وبالتالي هو تنازل للجمهور ،بدعوى انه لا يفهم اسلوبه، والحط من مستوى أداء الممثلين، وهذا التناول شبيه بتنازل المخرج السوفيتي (ليوبيموف) في اخراجه لمسرحية بريشت(إمرأة طيبة من سوزان)عندما استجاب امام الطبيعة العاطفية للجمهور السوفيتي ليدخل مجموعة من عازفي القيثار كان عزفهم ينساب برقة شديدة.وضمن هذا السياق تطرح مجموعة اسئلة نفسها بألحاح:
• اذاكان المخرجان لم ينويا تقديم عرضاً بريشتيا لماذا شارك فيه كل هذا الحشد المتميز من فناني اربيل الموزعين بين اربع فرق؟
• واذا كان الغرض من هذا الحشد هو تحريك الجو المسرحي،هل أضاقت هذه المسرحية شيئاً جديداً على المسرح الكوردي؟
• واذا كان في نية المخرجين عدم تقديم ما هو بريشتي،لماذا يدعو الممثلون الجمهور في المشهد الاستهلالي الى التفكير والبت في القرار،ولماذا يخرج الممثلون عن تقمص ادوارهم ليؤدوها بشكل اعتيادي،ولماذا يخاطب احد الراويين الجمهور باسمائهم الحقيقة؟ أليست كل هذه أساليب بريشتية وان جاء تقديمها بشكل سطحي وساذج؟
لعل هذه الاسئلة تقودنا الى السؤالين التاليين الأهمين:
• ترى هل يجوز إقامة مسرح تقليدي محل المسرح الملحمي؟
• واذا جاز ذلك هل سيكون هذا المسرح اكثر تطوراً من المسرح الملحمي،وبشكل اوضح هل سيستطيع مثل هذا المسرح ان يبعث القيم الجمالية والفنية السائدة في المسرح الملحمي ويبث فيه الفكر الماركسي؟
يقينا ان الاجابة على هذين السؤالين واضحة بأعتبار ان المسرح الملحمي اكثر تطوراً من المسرح التقليدي ويلغيه في معظم جوانبه وليس بالعكس، والحالة هذه ينبغي ان نقلب طرح صيغة السؤال على الوجه التالي:
• هل يجوز إقامة مسرح ملحمي محل المسرح التقليدي؟
وهنا يمكن الاجابة الموضوعية الذي يردنا عليه بريشت في مسرحه الجديد؟ ولكن عرض( بةرةو خور) يحاول ان يطرح علينا سؤال مغلوطاً ويسعى بنفس الطريقة الأجابة عليه،يحاول ان يجعل من المسرح الملحمي مسرحاً تقليدياً.
ان المسرح الملحمي ليس مسرحاً جامداً كما هو شأن الفكر الماركسي ،فهو قابل للتجدد والتغير والاجتهاد، الا ان كل هذا مرهون بمدى دفعه الى امام وتقديمه باسلوب ينفرد بهويته ويتميز بمواصفاته الخاصة،فالجديد عندما يتجاوز القديم لا يبقى متشبثاً بتلابيبه وانمايواصل بناؤه بحثاً عن ديمومة جدته. فبريشت لا يلغي المسرح التقليدي إلغاء تاماً،وهذا ما ليس بمقدوره ولا بمقدور اكثر المتطرفين المسرحيين بما في ذلك آرتو.
ان مسرح اللامعقول مهما سعى الى الغاء المسرح التقليدي سواء في ابتكار العناصر والمفردات الفنية الحديثة او التحرر من الكلمة ،سيبقى في جزء منه أكان ذلك على الصعيد الادائي او الأخراجي متأثراً بهذا المسرح.فعملية الابداع لا تقاس بمقدار ما تتحلى بها من العمومية ،وانما تقاس بمديات خصوصيتها،وجريا على هذا القول،فهل من المعقول تقديم بيكيت ويونيسكو وجان جينيه واداموف بالاسلوب التقليدي؟؟ كيف اذن مع بريشت الذي يعد اول فنان يترجم الفكر في الفن،كيف وبأية وسيلة يغدو التطهير تغريباً مثلاً،او الاندماج انفصالاً؟؟؟
يعرف لنا بريشت التغريب بقوله:
أذا كان الاندماج يصنع شيئاً اعتيادياً من حدث خاص فأن التغريب يصنع شيئاً خاصاً من حدث اعتيادي .فالأمور غير المتوقعة تحدث والتسلسل الحتمي ينتفي وجوده كما ينفصل الممثل عن دوره،لا بمعنى تناقضه مع دوره بل بمعنى عرضه لهذا الدور من بعيد كأنه يعرض حادثة معينة او يرويها او يضع الأسئلة عنها تحريكا لذهن الجمهور واستفزازاً لمحاكمته ليتخذ الجمهور نفسه القرارات الحاسمة او يقدم الأجوبة المناسبة...
أكاد أجزم بأن مشهد الغزل الذي جمع بين سيامند( محمد سعيد ابراهيم) ونيركز (هةلالة صمد) هو المشهد الوحيد الذي عبر بصدق عن روحية بريشت في هذه المسرحية وتعريفه السالف الذكرله لما أتسم به من تلقائية وعفوية في الاداء...
فبريشت لكي يصل بممثله الى مرحلة من الانفصال العاطفي النسبي عن الدور الذي سيؤديه على المسرح يجعله أثناء التدريبات يقرأ دوره في زمن الماضي بل وبضمير الغائب فبدلاً من قوله انا (هو). فكان هذا المشهد الوحيد الذي أخرج بهذه الطريقة ،او ان ممثليه ادياه هكذا.ولكي اكون اكثر إنصافاً أضيف الى هذا المشهد مشهد الجندرمة ، اثناء انتقال الطفل بين ايديهم ووصوله الى اخر افرادها وهو ايام اكرم الذي يناوله الى لا شئ.
مسرح بريشت يرفض تقسيم جغرافية المسرح الى يمين ويسار ،فمثل هذا التقسيم من شأن المسرح التقليدي ،كما حدث في المشهد الأول والأخير من المسرحية.وهو بتبنيه للفكر الماركسي القائم على الصراع الطبقي ينحو منحى المبدأ القائم على التضادات في إبراز التناقضات بين الكتل والاحجام في توظيف قطع الديكور الموزعة وتجسيد الشخصيات وتنفيذ الأضاءة والموسيقي التصويرية.والغريب في الامر ان المشهد الآخير الذي يعتبر من أهم وأطول مشاهد المسرحية ، حيث تستغرق مدته قرابة الساعة ، انه على امتداد هذه الفترة جاء هذا المشهد خالياً من معالجة بريشتية وأرتاى المخرجان ان يتبعاً في معالجته الأسلوب التقليدي..
ليست التراجيديا وحدها تثير التطهير بشطريها الرعب والشفقة ، وانما الكوميديا ايضاً تثير التطهير، لا كوميديا الموقف، بل كومديا الشخصية ، عندما نضحك على الشخصية ، ونشفق على الساذجة منها،لا على الموقف الذي تثيره، وكان على المخرجين قبل ان يقع اختيارهما على الممثلين ان يوليا هذه المسألة أهميتها ، بعدم إناطة الادوار الى الممثلين المعروفين من قبل الجمهور في ادائهم الكوميدي وبشكل خاص ايام اكرم ، وابراهيم حكيم ، ونوزاد رمضان...
ان بريشت يثير الموقف الكوميدي إنشاءاً لعملية التغريب عبر المفارقة والشئ غير المتوقع،ويطالب هذا الموقف من الجمهور بأتخاذ قرارات ايديولوجية ، فمشهد الجندرمة الذي يغرق فيه ممثليه بالأداء الذي يثير الضحك لدى الجمهور لا يصل الى حالة من حالات التغريب الا في الموقف الذي اشرنا اليه، وبقية ما حدث كان استطراداً غير موفق للايغال في المزيد من التهريج..
وهذا ما ينطبق ايضاً على المشهد الثاني في قصر عصمت باشا، فالجمهور لا يضحك على الموقف الذي يثيره( حكيم) ابراهيم حكيم وانما على الاصوات الغريبة التي تصدر منه، كذلك بالطريقة التي تلقي فيها ( فيروزخانم) حواراتها.صحيح ان هذا المشهد هو تعرية لطبيعة النظام الراسمالي وتركيبته القائمة على المصالح الذاتية من خلال ما تتحلى به فيروزخانم زوجة عصمت باشا من ازدواجية في شخصيتها،غير ان السمة التي تحلت بها فيروز بدا وقعها باهتاً ازاء ( ضرطات) حكيم ودخول وخروج خادم المثيرين للضحك.. وأقصد مشهد إهتمام فيروز بأبنها ومشهد مغادرتها له..
وبقدر ما أغرق العرض في عملية التطهير من جانبه الكوميدي،نال بنفس الدرجة او ادنى منه قليلاً من جانبه الانفعالي – العاطفي ..
واسوق بهذا الصدد ثلاث حالات :
• سلام كويى ( زينل) في آخر المسرحية ينزوي مع نفسه ( في عملية تطهير واضحة ) نادماً على حماقاته..
بكر معروف ( لالو) وهو يعبر عن معاناته بانفعال في الخدمات التي قدمها للارض وحفر البئر.
• هةلالة صمد (نيركز) في مشهد احتضان الطفل مع انسياب موسيقى عذبة. تعليقاً على هذه الحالات ساكتفي بضرب نموذجين من اخراج بريشت:
- مسرحية ( اوبرا القروش الثلاثة): ثمة غناء عن الحب والعاطفة ، بينما المشهد محزن ويطفح بالسلع المسروقة.
- فلم (شتاء بارد): تعزف موسيقى ناعمة ورقيقة ، وثمة شاب عاطل.
ليس هناك نهاية سعيدة او محزنة في مسرح بريشت كما آل اليه العرض في نهاية سعيدة وتعليمية. فمسرحية دائرة الطباشير القوقازية ليست مسرحية تعليمية وانما ملحمية ، والمسرح الملحمي كما هو معروف ضد المسرح المطبخي الذي يقدم تجربة سارة او عظة اخلاقية يسهل هضمها. وبمعنى اخر ان القرار الذي يصدر بحق المرأتين والرجلين يبت به الجمهور وليس الممثل..
وبالنسبة لاعداد هذا النص ومدى عصرنته ، فقد أعد الى المسرح الكوردي من عام 1983،وقدر لجمهور اربيل ان يشاهده بنفس الثوب بعد مرور اربعة عشر عاماً على ولادته، ولعل عدم ايلاء اهمية بما طرأ من تغيير في مجتمعنا كل هذه الفترة الطويلة ،دليل كبير لما تعتور عملية الاعداد هذه من عيوب ومثالب، اضف الى ذلك انها لا تربط الاحداث بتأريخنا القريب والبعيد ولا بواقع مجتمعا الحالي ولا بالفترة التي تم فيها اعداد هذا النص وانما تربطها بالدولة العثمانية . ويخيل لي ان في تصور المخرجين اضافة الى عملية الاعداد بأتجاه عصرنتها عبر شخصية (قوباد) فيصل محمد صالح التي اطلقت بعض العبارات لأثارة حماس الجمهور وذغدغة مشاعره.ارجو ان كانا في التصور ان يتخليا عنه.
كأداء،كان بودي ان اشاهد الوجوه المعروفة التي غابت عن المسرح لفترة طويلة اكثر تألقاً من السابق ، وبشكل خاص الفنانين صباح عبد الرحمن وسلام كويى،الا انني للاسف لم المس فيهما ما يوحي الى ذلك ، وبالذات صباح عبد الرحمن الذي بدا مرهقا ويؤدي دوره على وتيرة واحدة ، اما سلام كويى فكان يسعى ان يؤكد جدارته كممثل للمسرح التقليدي ، واستطاع بحق ان يتوصل الى مطمحه هذا، الا انه لم يكن ممثلاً بريشتياً ، بينما كان دور بكر معروف وعلي احمد منسجماً مع امكانياتهما المعروفة في اداء شخصية الفلاح والمختار، ومحسن محمد لأول مرة اشاهده على خشبة المسرح،في رأيي من الأفضل ان يتفرغ للعمل الارشيفي المسرحي ، ولا بأس أحيانا لكتابة النقد المسرحي ، وأثمن حب الفنان قادر مصطفى هذا الرجل الطاعن في السن للمسرح،وابراهيم حكيم كان كما في ادواره السابقة،نفس ايراهيم حكيم ، وادى بةيار دوره بالشكل المطلوب منه.اما نوزاد محمد رمضان وفيصل محمد صالح اللذان أديا دور الراوي فلم يتفهما لدور الراوي في مسرح بريشت، وايام اكرم هو الآخر أسقط دوره في الكوميديا المفرطة.
11 – من هناك : إخراج صديق حسين
لم يتصد المسرحيون الكورد بالدعوة إلى إشاعة السلام في عروضهم إلا في السنوات القليلة الفائتة تحديداً عقب إشعال فتيل الاقتتال بين الشقيقين الكورديين المتصارعين,ويأتي في مقدمة الذين تصدى لهذا الموضوع الكبير و الحساس جداً بالنسبة لتجربة التي يخوضها الشعب الكوردي ,تجربة نجاح أو فشل انتفاضة المجيدة لعام 1991,الفنان "كامران رؤوف" في مسرحيته (الخراب) و (يوميات الأخوة) ,أما بالنسبة للمسرح العالمي فيعتبر هذا الموضوع قديماً إذ تناوله (بريشت) في الثلاثينات من هذا القرن في مسرحيته (الأم الشجاعة وأبناؤه).
وقد اخرج كامران رؤوف مسرحيته الأولى بالاعتماد على أسلوب الواقعية الخيالية لفاختانكوف والثانية بالاعتماد على منهج ستانسلافسكس الواقعي المعروف . إلا أن المسرحية التي نحن بصدد تناولها , ارتأى الفنان الشاب "صديق حسين" إخراجها بأسلوب (انتونان ارتو) الذي يرتكز على ثلاثة عناصر أساسية هي : الحلم,شاعرية المكان,وإلغاء الكلمة, ووظيفة هذه العناصر هي الاختزال في العمل الفني بهدف إبراز تكويناته الجمالية .
وانتهجت الفنانتان "ميديا رؤوف"و"نيكار حسيب" عام 1988 نفس الأسلوب في [إخراجهما مسرحية (في انتظار سيامند) أعداد الفنان "شمال عمر" ولكن ليس باستخدام مسرح العلبة كما في هذه المسرحية ,وإنما باستخدام مسرح الغرفة.
يبدأ عرض (من هناك) بدخول المشاهد إلى الصالة لا من خلال العرض التقليدي بأداء الممثلين لأدوارهم وإنما من خلال بث الأغاني الأجنبية والكوردية التي تتسم بإيقاع بطيء ونفحة حالمة , تمهيداً لخلق الجو العام للعرض والكشف عن انسيابية إيقاعه وربط خصوصيته المحلية بالعالمية وذلك بهدف تطهير المتلقي في الحالة الأولى وتجسيد الملل السائد بين الناس جراء الاقتتال في الحالة الثانية وتفاعل التجربة والخبرة بالاستفادة من الاخرين في الحالة الثالثة .
والحالات الثلاث الموظفة في استهلال العرض لا تتطلب من المخرج جهداً كبيراَ سوى تسجيل الأغاني المطلوبة ,وبوسع أي مخرج أن يعتمد هذه الطريقة السهلة أو بالأحرى ثمة من اعتمدها ,ولكنها لم تؤد دورها المطلوب كما أدت دورها في هذا العرض لافتقارها إلى ما يبررها.
ولعل هذا العرض بدون هذا الاستهلاك سيبدو باهتاً,ويعتوره خلل ما,أذا فات على المخرج أن يقدم للمتلقي تفاصيل العمل قبل أن يمنحه جزيئاته سعياً لتوضيح أسلوبه الإخراجي وأمثال هذه اللمسات الصغيرة – (الكبيرة) ليست من مهمات المخرج المسرحي فحسب بل من المهمات الجوهرية لأي عمل فني أو أدبي ينشد الإبداع ,ذلك أنها تكسب العمل تكثيفاً واختزالاً شديدين, وهنا يكمن سر نجاح هذا العرض الذي لم يأخذ من وقت المشاهد سوى عشرين دقيقة وخلال هذه الفترة القصيرة أوصل للمتلقي كل ما أراد أن يقوله ليس بالكلام وإنما بأدوات التعبير المسرحي .
ومادام المخرج قد شرع بأدوات التعبير المسرحي من بداية العرض فلا مناص أذن الفكاك من أتباع هذا الأسلوب ,وقد اثبت فعلاً إلى نهايته انه مدرك تماماً لوجهة قيادته,بسوقه نحو الاختزال والتكثيف من خلال استغلال الوقت الضائع للمتلقي ,والاعتماد على العناصر والمفردات الفنية للمسرح الخالص ,سعياً للتحرر من الكلمة أو كأدنى حد اقتصاداً بها,ذلك انه إذا كان الاتصال الفكري كما يقول ارتو من خلال الكلام هو غاية ما يهدف إليه المسرح فأنه لايكون هناك معنى على الإطلاق لتحمل المشقة الهائلة والتكاليف الباهضة التي يتطلبها إخراج مسرحية ما.
وما زاد من أهمية هذا العرض ,أن كل المفردات التي استخدمها المخرج لم تأخذ هذا المنحى فحسب وإنما بالإضافة إلى ذلك أكسبته بمدلولاتها غنى وثراء وعبرت عن ثيمة المسرحية بدون تزلف وعن نفسها بدون تعقيد بدءاً من مفردة العربة ومروراً بمفردة الحبل وانتهاء بمفردة الشموع,والبابان,والداخل,والدليل على ذلك فهم المتلقي لما يجري على خشبة المسرح الخاوية من قطع الديكور وتشخيص زمان(الحدث)وشخصيات المسرحية بالرغم من خلو الحوارات من أية إشارة إلى العناصر الثلاثة الأنفة الذكر. فالأم الجالسة على مقعد متحرك ترمز إلى كوردستان المصابة بالعجز التام.والحبل يرمز للصلة الوشيجة التي تربط بين الشقيقين المتقاتلين والبابان هما الطريقان اللذان يفضيان إلى مصيرهما المشترك,والداخل يجمعهما معاَ تحت خيمة واحد بمعاناتهما وهمومهما وأفراحهما ,انه البيت الكوردستاني ,صحيح أن مفردتي العربة والحبل ليستا جديدتين في مسرحنا الكوردي وقد استخدمتا بدون مبرر في معظم العروض التي تدعي بالحداثة ,إلا إنهما في هذا العرض كان ما يبرز توظيفهما بالارتباط مع ثيمة المسرحية ,والجو العام للعرض ,ذلك أن ثيمة المسرحية أذا كانت الاقتتال ,فالخيط المشترك وهو الحبل بين الطرفين قد انفرط بلجوئهما إليه أي إلى الاقتتال وكذلك بالنسبة للجو العام للعرض وهو ما أصاب من عجز بكوردستان نتيجة لهذا الاقتتال متمثلاً بالعربة. لأن خشبة مسرح مديرية الثقافة العامة خدمت هذا العرض إلى حد كبير ,بالاستفادة من البابين اللذين يفيضان إلى الداخل ,ذلك أن انفتاحهما وانسدادهما وإضاءة المصباحين ثم انطفاءهما كان سبباً في إشاعة الغموض لدى المتلقي ,يشوبه نوع من التجلي بانتظار ما يحدث في الداخل عبر استغلال المخرج لهذه المفردة بترميزها لأكثر من حالة ,مرة لإشعال فتيل الاقتتال ومرة ثانية لاستتباب الأمن ومرة ثالثة لانسحاب نتائج الاقتتال إلى كل بيت كوردستاني ,فالشقيقان يدخلان منهما أما للاقتتال أو للمصالحة إلا إنهما غالباً ما يسلكان الطريق الأول الذي يتجرع مرارته المواطن الاعتيادي.
وأضفى المخرج بهدف إيصال لحظات الفعل الموظفة من خلال مفردة الباب لمسات إخراجية أجمل ,وهو يفجر هذه اللحظات في الداخل وليس أمام الجمهور على هيئة همهمات متقطعة اقرب إلى الأنين منها إلى البكاء ,وفي تصوري لو عمد إلى تجسيد هذه اللحظات أمام الجمهور لما كانت قد احدث نفس التأثير ولربما جاءت نشازاً وبعكس توقعات المخرج ,إضافة إلى إن تفجير هذا الفعل في الداخل عمق من مدلولاته وأعطاه أكثر من معنى ,فهو لا صرخة ولا استسلاماً ويمنح انطباعاً بميله إلى الحيرة أكثر من أي شيء أخر , إذن فهو سؤال بحاجة إلى جواب ومعالجة ,وهذا السؤال الذي لا جواب له يدور في خلد كل مواطن وهذه المعالجة تشغل باله وتهمه وتحدد مصيره ,مصير التجربة الفتية التي يخوضها شعب كوردستان .
وبقدر ماكان مدركاً أو غير مدرك لحالة التطهير التي أحدثها لدى المتلقي عبر تجسيد هذا الفعل في الداخل ,سيما وقد أعاد تجسيده أكثر من مرة ,فأن إنهاء عرضه بهذا الفعل وبهمهمات متقطعة بالتعاقب من قبل شخصيته ,بدلاً من التشكيلة المتكونة في الختام لضاعف من أهمية هذه الحالة وبث التطهير في نفوس مشاهديه وصولاً إلى ذروة العمل الفني ككل بها ومن خلالها.
كما إن المخرج لم يعتمد إلا في حدود ضيقة على نص جان تاردو وبوسعي أن اذهب أكثر من هذا وأقول انه أساساً لم يستعن بكتابة أو إعداد خطاب مسرحي بالمعنى التقليدي المعروف عنه ,بقدر استعانته بما يشبه كتابة سيناريو تنشطر فيه المشاهد إلى خطة إخراجية ولعل هذا الملاحظة هي الأخرى تؤكد منحى المخرج الاختزالي ,باللجوء إلى رسم لتكوينات جمالية بدلاً من الكلمة والحوارات التي تأتي على لسان الشخصيات ,فمثل هذه التكوينات عدا أنها تتسم بالجمالية تلغي أهمية الكلمة أيضاً وبإلغاء دور الأخيرة يلغى دور الحدث كذلك في هذا العرض الخالي من الحدث ,وبذلك تلعب المفردة الموظفة في المسرح الدور الذي تلعبه المفردة في القصيدة عندما تجعل منها صوراً شعرية وبمعنى أوضح إن المفردة المسرحية هي الآخرة مفردة شعرية أو تغدو كذلك, عندما توظف بشكل دقيق وسليم في رسم التكوينات أي تختزلها وتبرز جماليتها أو كما يسميها ارتو ب (شاعرية المكان التي تقضي على الحدث).
فتوجه المخرج نحو الاختزال والتكثيف مثلما بدأ في المشهد الاستهلالي بدخول المشاهد ,فهو كذلك يمتد بنفس الصيغة على المشاهد الأخرى إلى نهاية العرض سعياً للقضاء على شاعرية الحدث وبحثاً لبث شاعرية المكان وإشاعة هذا العنصر الهام لدى ارتو في عروضه وقد بدأ بالمشهد الذي يلي المشهد الاستهلالي وهو مشهد الرقص الدال من خلال الحلم على الآمال المعقودة على تجربة انتفاضة آذار وما ستحققه من مكاسب للجماهير الكوردستانية ,فبدلاً من أن يصور هذا الحلم بالعودة إلى إحداث الانتفاضة بشكل تقليدي وما يتطلب الأسلوب الأخير من جهد ووقت وإمكانيات ولربما هي أساساً غير مجدية وقد تسوق العرض إلى أسلوب أخر استعان بممثل واحد ليؤدي رقصة تعبيرية ,استطاع من خلالها بالإضافةً إلى توصيل الهدف المطلوب منه وهم حلم الجماهير ,أن يفك أسرار هذا المشهد من الحوار ويقدم لوحة فنية لاتخلو من الجمال عبر الحركة الجسمانية للمثل ,كما إن مشهد الصراع بين الشقيقين في الحبل لم يأخذ من الوقت سوى لحظات ,ونفذ بلمسات فنية جميلة بالإضافة إلى مشهد نقل جثة القتيل إلى مقدمة المسرح الذي كما يبدو أن الممثل قد تدرب عليه كثيراً إلى أن استطاع أن يمنحه هذا القدر الكبير من المرونة والجمالية ,وإنني على ثقة بأن هذا المشهد لو نفذ من قبل مخرج تقليدي لما كلف ممثله أن يقوم بنقل الجثة بالكيفية التي تم نقلها من قبل الممثل الذي أدى هذا الدور,خاصة وهو يضع رأس القتيل بزاوية منفرجة على خشبة المسرح وهذا ماينسحب أيضاً على المشهد الأخير وفاتني أن اذكر بصدده واقصد مشهد الشموع والمجاميع المحيطة بتشكيلية صلب المسيح ,أن المخرج بنى هذا المشهد بالاستناد إلى فكرة ارتو الداعية إلى العودة إلى أكثر أشكال المسرح بدائية لاعتقاده أن الطقوس الدرامية عملية يؤكد بها الإنسان كرامته وحريته ومن ثم كانت اعلاناً للتحدي والاحتجاج على القوة الأعظم ,فالإنسان عندما يقوم بأداء الشعائر الدينية يتلاشى دوره تماماً بينما يكون هو صاحب الدور كله عندما يعبر بالدراما عن نفسه.
أن صح ما يذهب إليه ارتو ,فأن المخرج أذا كان بدون موقف في بداية العرض نتيجة حيرته فقد اتخذ لنفسه في النهاية موقفاً يتسم بالتحدي و الاحتجاج ,أي أن المخرج لم يستقر على موقف ثابت من بداية العرض إلى نهايته وإنما تطور هذا الموقف وفق تصاعد الخط الدرامي وتماس هذا الخط بذروة تفجير الفعل .
ولو أجرينا مقارنة بين الحوارات التي ترددت على ألسنة الشخصيات والتشكيلات المكونة لتبين لنا غلبة التشكيلات على الحوارات وندرة من العروض بوسعها أن تصل إلى هذه النتيجة وإذا ما تسنى لها ذلك فهذا يعني إنها حققت نجاحاً كبيراً .
وإذا أسعفتني الذاكرة ,فلم تتردد على ألسنة الممثلين سوى ثلاث جمل فقط وهذه الجمل كانت تتكرر بين آونة وأخرى من قبل الأم والمصور واحد الشقيقين والجمل الثلاث هي : (هذه مهزلة)و(تعفن الدار) أما الجملة الثالثة فهي مجرد كلمات غير مترابطة مع بعضها ,وقد عمد المخرج أن تأتي على لسان احد الشقيقين بهدف السخرية من ثرثرته الفارغة وهذا يعني أن المخرج استطاع من خلال جملتين فقط وكل جملة تتكون من كلمتين ,أي من أربع كلمات أن يقدم عملاً فنياً تتوافر فيه كل مكونات النجاح وان يتصدى من خلال هذه الكلمات القليلة بالاعتماد على التكوينات الجمالية لقضية كبيرة ماتزال قائمة في الساحة السياسية الكوردستانية وهو بهذا أنجز إبداعاً قلما يستطيع الفنانون الذين مضى على خبرتهم وتجربتهم سنين خلت ان ينجزوا مثله.
فألف تحية حب وتقدير للمخرج الفنان الشاب"صديق حسين" وهو يخوض تجربته البكر واشد على يده وأيدي كل الذين عملوا معه في هذا العرض بحرارة , وأمل أن لاتقل تجربته القادمة عن مستوى هذه التجربة الفتية ,طبعاً بالسعي والاجتهاد ومتابعة كل ماهو جديد في المسرح الكوردي خاصة والمسرح العالمي عامة .
القسم الرابع
في العناصر الفنية المتممة للعرض
الجمهور:
اذا كان الممثل والنص والعناصر الفنية المعروفة الآخرى، كالموسيقى والديكور والأضاءة والماكياج، تمثل التشكيلة الاساسية للعرض المسرحي ، فان الجمهور بإعتباره مكملاً لهذه التشكيلة يعد اهمها اطلاقاً، لان اي عرض لا يتأسس الا منه ولا ينتهي الامن خلاله..
شاهدته في المدن الكوردية الثلاث: اربيل ، السليمانية، دهوك ، مثلما شاهدته في عروض المهرجانات كذلك شاهدته في العروض الاعتيادية ، فلاحظت ان وعيه المسرحي يتباين من محافظة الى اخرى، ويتسع هذا التباين اثناء مقارنته بين عروض المهرجانات والعروض الاعتيادية ..
لعلي بحكم وجودي في أربيل، فمن الطبيعي ان يتسم احتكاكي بجمهور هذه المدينة اكثر من اية مدينة كوردية اخرى ، الا اني ضد تقسيم وعي الجمهور المسرحي الكوردي وفق محل إقامته، لما قد يدعو هذا الى خلق بعض الاشكالات ، فالمسرح العراقي لم يعد اليه، وله ما يبرره، وهو جعل العروض المسرحية للعاصمة بغداد نموذجاً لكل محافظات القطر، اما المسرح الكوردي فان هذا النموذج لم يتبلور عنده لحد الآن، اي ان الناقد المسرحي العراقي عندما يتناول ظاهرة مسرحية ما، غالباً ما يقرن هذه الظاهرة بعروض بغداد وليس بعروض المحافظات ، او اية مدينه عراقية اخرى، مع ان هناك احتمالاً بان الظاهرة التي يتطرق اليها الناقد، تمثلت في عروض المحافظات ، واثبت دليل على ذلك ، عدم بروز اسم اخراجي من بين كل محافظات القطر،في الوقت الذي ثمة عشرات من الاسماء الاخراجية المعروفة في بغداد ، بينما المسرحي الكوردي سواء كان من اربيل ام من السليمانية ام من دهوك، يكادُ ان يكون معروفاً على نفس المستوى والنطاق بمعنى اخر، ان صورة الجمهور المسرحي الكوردي تبدو اكثر وضوحاً من خلال تناولها بالواقع المسرحي لكل مدينة، نظراً للدور الذي يلعبه هذا الواقع عبر مستوى عروضه في تغذية حس وذوق الجمهور، ورغم ذلك سوف لا أتبعُ هذا المنحى للأشكالات التي سبق وأشرتُ اليها، واتناوله بشكله العام.
من حسن حظ المسرح الكوردي انه مسرح جاد،لا بمعنى جاد بمستوى العرض جاد بمعنى التوجه، وهو بهذا المفهوم لا يدخل ضمن المسرح التجاري ، والمفهوم نفسه، ان الجمهور الذي يحضره، يحضره بمعنى معين.
وتتفاوت درجة معناه ،ودرجة مفهوم المسرح من انسان الى أخر،تبعاً لمستوى وعيه، فثمة من يأتيه كون مادة العرض تراثية او ان النص من تأليف محلي، وثمة اعجاباً بالمخرج، او الممثل الفلاني ، واخر لأن العرض تجريبي وهكذا...
الاانه بشكل عام يفضل الجمهور الاعتيادي ، مشاهدة لاعروض المسرحية التي تتسم بالمادة التراثية ، لانه سبق ان اطلع عليها وألم بكل تفاصيلها من اكثر من مصدر ،فيرغب في مشاهدتها متجسدة بشكل درامي ، كما يميل الى مشاهدة العروض التي نصوصها من تأليف محلي، وخاصة المحشوة منها بجمل خطابية وتقربرية وانشائية ، اي التي تدغدغ عواطفه ومشاعره وتثير وجدانه بشكل مبتذل .
ولعل نفس الجمهور يروقه الاسلوب الاخراجي التقليدي ويعزف عن الاساليب الاخراجية الحديثة ، اي ان حضوره يقترن بما هو – معروفي – معلوم – اكثر من اقترانه بما هو معرفي – مجهول – اذن هو حضور- استمتاعي – آني – لا حضور- استمتاعي – ثقافي دائمي-
وهذا النوع من الجمهور متذبذب ، فليس المسرح همه الثقافي ومتنفساً لأنماء حسه الفني ، يحضر متى يشاء ، ولا يحضر مت يشاء ، وقد يجد نفسه مصادفة في صالة العرض، صديق ما اصطحبه، قرأ اعلان العرض وهو في طريقه الى مكان اخر....
المادة التراثية :النص المحلي، نجومية الممثل، المخرج ، عنوان العرض ، وهكذا....
ان هذا النوع من الجمهور ، هو جمهور صالات دور عرض السينما التجارية كالافلام الهندية والمصرية الهابطة التي اجتذبته لسنين طويلة خلت وزرعت في نفسه بعض العادات التي لا يمكن التخلي عنها بسهولة، كالتدخين مثلاً داخل صالة العرض، والتصفيق في المكان غير المناسب ، واحياناً الصفير والتحدث بصوت مسموع، والضحك في الاماكن التي تستدعي عكس ذلك ، كما حدث في عرض مسرحية ( الملك لير) في مشهد ( العاصفة) وخرج كامران رؤوف من دوره وخاطب المسئ ، والحضور الى لاعرض بهندام غير منتظم ، بثياب العمل مثلاً.
يبدو لي ان شيوع هذه الظواهر في المسرح الكوردي، يتحمل مسؤولياتها بالدرجة الاساس، الفرق الفنية المعروفة في منحاها بتبني النص المحلي ،ومخرج العروض المسرحية السائدة في اسلوبه الاخراجي الاسلوب التقليدي ، وذلك من خلال اعتماد الاول على النص المحلي الضعيف ، واعتماد الثاني على لغة اخراجية فضفاضة وسهلة،من منطلق تكوين قاعدة جماهيرية مسرحية عريضة عبر هاتين القناتين ، ليأتي هذا المنطلق محملاً بنتائج مغايرة لتصورات اصحابه ، فبدلاً من ان يقود الفنان الجمهور والعملية الفنية ، فقد غدا الجمهور هو الذي يقود الفنان والعملية الفنية ،اما الجمهور المسرحي، اي غير الاعتيادي ،فهو الجمهور المتحمس، المندفع لمشاهدة اي عرض مسرحي ، بغض النظر عن كون مادته مادة تراثية او ان نصه نص محلي او عالمي ، او ان الممثل الفلاني النجم يؤدي دوراً ما فيه بهذا يحضر طقساً ، يعتقد انه مكانه المقدس، اي انه جمهور متابع يجد في المسرح حاجة معنوية وروحية ، ومعظمه من الفئة المثقفة، كطلبة الكليات والمعاهد، وكل من يحسب نفسه جزءاً في حقل الثقافة ، كالشعراء والقاصين والموسيقيين والتشكيليين، علاوة على الموظفين الصغار ، فليس الغرض لديهم مشاهدة عرض مسرحي تجريبي او تقليدي المهم ان يشاهدوا عرضاً مسرحياً تتوافر فيه مقومات الفن الجاد،اي ان متابعتهم مقرونة بما هو- معروفي مجهول – وليس بما هو – معروفي معلوم – اي انه متابع استماعي – غرضي – دائمي – لا متابع استماعي – آني – ولا أغالي القول ان هذا النوع من الجمهور هو حصيلة تراكم ثقافي انجذب الى المسرح نتيجة متابعاته الادبية والفنية .
اذن هو في ثقافة اقرب الى ثقافة الناقد منه الى الجمهور الاعتيادي ، فهو بالحماس الذي يحضر عرضاً اعتيادياً ،يحضر بالحماس نفسه عروض المهرجانات،بل ويشتد حماسه هنا اكثر ،لكون عروض المهرجانات محمدودة بسقف زمني ضيق لا يتجاوز العرض الواحد،ولعل هذا هو السبب في الاقبال المتزايد على عروض المهرجانات ، ولا عجب ايضاً ان يحضر الندوات الخاصة بالمسرح ويشارك فيها مشاركة فعالة، يبدو لي فضلاً عن الاستعداد الذاتي الموجود لدى الجمهور في اشاعة مثل هذه الظواهر الرائعة في المسرح الكوردي ، فقد لعبت الفرق الفنية المعروفة بتبنيها للنص العالمي، والمخرجون الساعون لتجسيد الاساليب الاخراجية الحديثة الدور الأكبر في ترسيخ هذه الظواهر وتوطيدها في جسد المسرح الكوردي، فتحية والف تحية لكل من زرع بذرة خير في هذا الجسد الطاهر...
ثقافة الممثل:
قد يبدو هذا العنوان غريباً,وتكمن غرابته بالتشكيك في ثقافة الممثل الكوردي, ولعل هذا التشكيك يقود إلى التمييز بين فئتين من الممثلين ,فئة تملك رصيداً ثقافياً وفئة تفتقر إليه.فالفئة التي تملك رصيداً ثقافياً تحتسب على ملاك الفن بكل ما لكلمة من معنى ,باعتبارها قد اكتسبته بجهد مقرون بالمتابعة سواء عن مؤسسة فنية أو مصادر خاصة بالمسرح ,والفئة التي لاتملك رصيداً ثقافياً لا تحتسب على ملاك الفن,كونها قد انخرطت فيه بحسابات أخرى ,تخرج عن نطاق المعرفة الثقافية.
ومن هذا المنطلق,ثمة من يجتهد وفق تفسيرات سطحية وهشة لاتمت إلى منطق الفن بصلة ,مؤكداً احتمال حدوث هذه المسألة بعكس ذلك من حيث إجادة الممثل غير المتابع لأداء دورٍ ما أفضل من الممثل المتابع ,أي أن المتابع الذي يملك رصيداً ثقافياً يفتقر إلى أداة أدائية يرتكز إليها , بينما غير المتابع الذي لايملك رصيداً ثقافياً ,له أداة أدائية يرتكز إليها.
هذا محتمل بل وجائز ولكنه احتمال ضعيف ,ويدخل ضمن الاستثناءات القليلة جداً ,ذلك أني لااعرف كيف أن ممثلاً غير متابع يمتلك هذه الأداة مع أن أساس هذه الأداة هو المتابعة ,فمثل هذا الممثل قد يمتلك بعض مقوماتها عبر التجربة والممارسة الطويلتين ولكنه لايمتلكها كلها ,أي لم يتوغل إلى أعماق جذورها بهدف توظيفها توظيفاً مبنياً على منطق دقيق وسليم.
فضمن هذه الدائرة الانفلاتية - التلاحمية,تتمحور ثقافة الممثل الكوردي,الممثل-الفنان في تزاوجه الثقافي ,والممثل – الإنسان الاعتيادي ,على خشبة المسرح. خطرت لي هذه المعالجة نتيجة عجز مجموعة من الممثلين الكورد,من الإجابة في لقاء صحفي معهم عن ذكر أسماء بعض المخرجين المسرحيين العالميين ,فشبهت هذا العجز بعجز عامل البناء الذي تعذر له تعداد العناصر التي تدخل في مادة البناء.
فألاً يهتدي عامل البناء إلى العناصر التي تتكون منها مادة البناء مسألة قد تبدو طبيعية إلى حدٍ ما ,لأنه في الحالتين ,في حالة اهتدائه أو عدم اهتدائه إليها سوف يكتمل البناء ,أما لدى الممثل فالمسألة تختلف اختلاف طبيعة العملين واختلاف طبيعة المكونات الداخلية في تركيبة العملين ,ذلك أن اكتساب الممثل الخبرة متفردة عن تجربة ليس إلا كعامل البناء أو أية حرفة أخرى قد تقف عائقاً في تطور أدواته الأدائية لتتحول في النهاية إلى أشبه بتلقين ببغاوي ,تتسم بالطابع العفوي أكثر من اتسامها بطابع مقرون بوعي.
من هنا أستطيع أن أقول أن الممثل الذي يتصرف بعفوية في الفضاء المسرحي,إنما لايقوم بأداء فعل مسرحي ناجم عن مبرر يفضي إلى نتيجة بقدر ما يؤدي دوره ضمن الإطار المطلوب للشخصية أي أن تجربته التي تفتقر إلى ثقافة مسرحية جعلت منه أداة طيعة بيد المخرج ,ولم يدع لخياله أن يتوسع ويطلق العنان نحو التأمل ليضيف إلى توجهات المخرج من عندياته والتأمل لا يأتي من الفراغ فهو الذي يُعينه لمعرفة أسلوب أدائه والأسلوب الإخراجي للعرض ,وبدون التأمل كحالة من حالات الإبداع ,لايستطيع الممثل أن يُبدعَ في مجال دوره لأنه أساساً لم يسبق أن سمع بأسماء بعض المخرجين المسرحيين العالميين ولم يقرا لهم وعنهم أيضاً فكيف له أن يؤدي أسلوباً من أساليبهم؟!
فالممثل الذي لايلم بتراكيب عناصر أبيا الإخراجية مثلاً النابعة من المركب الشاعري المكون من الإضاءة والموسيقى والحركة فأن ممثلاً كهذا لايستطيع أن يؤسس الصورة المسرحية على الوجود الحي للمثل ,ذلك أن الممثل في مسرح آبيا ليس فقط حامل الكلمة بل هو عنصر من عناصر التركيبة الشاعرية النابعة من انصهار حركة الجسم الحي وحركة الديكور وحركة الإضاءة وحركة الموسيقى . أوكيف أن هذا الممثل سيؤدي دوراً في مسرح ارتو بتوصيل فكرة مسرح القسوة عن طريق التوصيل إلى تنويم جهاز الإحساس عند المتفرج إلى درجة فقدان المتفرج السيطرة العقلية وجعله يعيش حالة من الثورة الهدامة على الذكاء الإنساني, اوكيف سيؤدي دوراً ما في مسرح ستانسلافسكي القائم على منهجي يعمل الممثل الباطني والظاهري فيما يخصه وفيما يخص دوره ,أو في مسرح بريشت الملحمي القائم على تحفيز ذهنية المتلقي أو غروتوفسكي أو "بيتر بروك"أو"كوردن كريج"أو"مايرهولد"أو"تايروف"أو"فاختانكوف" أو....أو....غيرهم.
أن ممثلاً كهذا أن كان يعتبر نفسه فناناً بحق فما عليه إلا أن يعيد النظر لا في قدراته وإمكاناته فحسب وإنما أن يعيد النظر بما يمتلكه من ذخيرة ثقافية مسرحية من حيث مدى استيعابه للمذاهب والمدارس الإخراجية السائدة في العالم وكيفية طرق إعداد الممثل ومدى اطلاعه على النصوص المسرحية الكوردية والعراقية والعربية والعالمية ومدى متابعته للدراسات النقدية للعروض المسرحية ومشاهدته للعروض الكوردية والعراقية على حدٍ سواء , ومتى ما الم بكل ذلك وقتها فقط يحق له أن يُسَمي نفسه فناناً ,وبدون ذلك فلا هو ممثل ولاهو فنان.
يقول الفنان"قاسم محمد" في مقاله الموسوم(رؤوس أقلام في فن الممثل)المنشور في مجلة الأقلام الخاصة الصادرة عن المسرح بعددها(12)العام1974. أن طريق الخلق والإبداع والكشف في العمل الفني الدائم لايتفتح إلا لم لديه ثقافة شاملة وان التمكن من الوصول إلى تحقيق عالم ممثل خلاق بشكل علمي فني معاصر أمر ليس باليسر أبداً ,كما العالم والطبيب ورائد الفضاء والرياضي ,كذلك الممثل الفنان مضطر إلى دراسة الفن و الأدب و اللغة والاهتمام بفنون النحت والموسيقى والرسوم والاطلاع على علوم مختلفة أخرى.
أما "بيتر بروك" في كتابه الموسوم(المكان الخالي) ترجمة سامي عبد الحميد , فيقول:الممثل كأي فنان أشبه بالحديقة ,حيث يجب أن نستمر بقطع الشوائب منها ,إلا أن نقلعها مرة واحدة فقط ,فالطحالب تنمو باستمرار وهذا أمر طبيعي واقتلاعها أمر موضوعي وطبيعي أيضاً...
النقد
الرأي القائل أن النقد دون مستوى العروض المسرحية الكوردية ليس رأياً جديداً ولا رأياً خاصا بمسرحنا فهذا القول مثلما ينطبق على المسرح العراقي كذلك يمكن أن يقال نفس الشيء عن المسرح العربي ولو توخينا الدقة أينما اخضع المسرح للنقد في هذه المعمورة ويأتي هذا الرأي طبيعيا جدا إذا ما جاء على لسان الفنانين الحقيقيين,أو الذين زرعوا بذرة خير في جسد المسرح الكوردي ,أما أن يأتي بهدف تبرير البعض عن فشلهم فهو غير مقبول أساساً ,وباعتقادي أن هذا الرأي لو جاء على لسانهم بصفتهم مثقفين وليس مخرجين سيحظى باحترام أوفر ,لأنه عندما يطرح بالصيغة الأخيرة يبدو في تشخيصه اقرب إلى الكتابات النقدية التي تناولت العروض المتدنية المستوى منه إلى العروض الجيدة.ليس المهم أن يكون هذا الرأي عاماً أو خاصاً وإنما كما يقول الناقد "ياسين النصير" (أن بإمكان مناقشة منطقية دحضه عبر إخضاع العروض المسرحية لعملية لي إذا ما أريد ضمها إلى الأطر الثقافية الأوسع التي تشكل التقليد العام كما فعل يوما ما الدكتور "جميل نصيف" عندما حلل مسرحية(أشجار الطاعون),أو كما يتدرج الناقد الأوربي ضمن سياق عمله ابتداءً بالنص ومروراً بالعناصر الفنية التي تتكون منه وانتهاءً بحضوره اليومي للتمارين الجارية عليه,مبنياً تصوره لمراحل عملية الإنتاج الفني على أساس تراكم خبرات كل العاملين فيه.
ولكن لان مسرحنا يفتقر إلى مثل هذا الناقد المنهجي ولم يظهر فيه لحد الأن الناقد الدارس الجاد والموسوعي ليجعل من النقد احترافاً له,فقد اضطر أن يتنازل وعلى حساب تذوقه الفني لجملة من الاضطرابات التي تعتور العروض المسرحية ويغض الطرف عنها.
وبقدر مايعد البعض هذا التنازل من قبل النقد أسلوباً من أساليب المساومة غير المشروعة لسد النقص الذي يعاني منه أو لخلق حالة من التوازن الابستمولوجي بين طرفي المعادلة(النقد والإخراج) فانه أي الناقد ,للنرجسية التي يتحلى بها شأنه شان أي فنان ,وخشية إزاحته من الطرف المقابل للمكانة التي يحتلها في الوسطين الثقافي والاجتماعي لايتوانى أحياناً أن يوسم كتاباته النقدية,وسداً لهذا النقص لما توحي بتجاوزها على العرض وذلك من خلال إقحامها بطروحات لا تمت له بصلة.
هذا المأخذ على نقدنا ربما يقودنا إلى مأخذ أخرى ,إلا انه للأسف لم يتناول لحد ألان بشكل جدي من قبل دراسي المسرح والمهتمين به وربما كان هذا احد الأسباب الجوهرية التي حدت بجماعة المسرح الهابط أن تقرن أسباب تخلف النقد المسرحي الكوردي بألد خصومها وهو الناقد لامن خلال المناقشة الموضوعية لهذه الأسباب وإنما بتوجيه السباب والشتائم له والمطالبة بسحق عظامه لأنه تجرأ يوماً ما وكشف عن الأخطاء الكبيرة لعروضهم , والعودة إلى تصفح دفاتره(العتق)وكل ما كتبه في الصحف و المجلات للبرهنة على انه طفيلي وابن طفيلي ولا علاقة له بالمسرح والمسرحيين ,ناسين هذه الجماعة ,أن داخل صفوفهم جمهرة واسعة من الطفيليين الحقيقيين الذين تسللوا إلى الحركة المسرحية الكوردية بغفلة من الزمن وهم في جانب مظلم من نهجهم أصل البلاء.
أعود فأقول للأسف أن هذه المآخذ على نقدنا لم تتناول بشكل جدي وتقف في صدارة هذه المآخذ ,عدم إتباع الناقد لمنهج نقدي متكامل ,والناقد العراقي هو الأخر يفتقر إلى هذا المنهج ومنشأ هذا السبب ليس الناقد وإنما كاتب المسرح الكوردي لأنه ليس كاتباً درامياً ,بالإضافة إلى المخرج الذي تتسم عروضه بتدني مستواها الفني ,وعدم رضوخ أسلوبها وأسلوب المدرسة الإخراجية التي تنضوي تحت لوائها ,وهذا الخلل وان كان قائماً في بنية الثالوث المسرح الكوردي منذ نشأته ولحد ألان (التأليف – الإخراج – والنقد) فإنه يبدو أكثر بروزاً في بنية المقال النقدي لكون النقد اقل حضوراً وجمهرة من العرض المسرحي ,وبتقديري من هنا يأتي الاتهام الموجه إلى تخلف النقد علماً أن العروض المسرحية الكوردية لو أخضعت إلى تحليل معايير الإخراج الدقيقة لوجدنا أنفسنا إزاء اضطراب رهيب لمعايير الإخراجي المسرحي.
ورغم ذلك فالناقد الكوردي يتستر على الكثير من العيوب ويتغاضى عنها في محاولة منه لرفع مستوى العرض وعدم التقليل من شأنه سيما وثمة مسوغ فيه تسمح له بالنفاذ من خلالها ,كما انه يتفادى أن يصدر عليه أحكاماً مطلقة ,كأن يقول هذا العرض غير جيد أو يفتقر إلى أسلوب إخراجي معين إلا مانَدُرَ وفي حالات تدني مستوى العرض إلى درجة كبيرة ويبني نقداً آراؤه في اغلبه على الرأي الصحافي السريع ,بسبب عدم وجود مجلة خاصة بفن المسرح تتبنى قضاياه ,وقد مر النقد في المسرح العراقي لفترة طويلة ومازال بهذا المنحى ومارس الاعتماد على الاجتهادات الشخصية دوره الكبير للخروج بآراء يمكن تطبيقها على كل العروض بشكل عام ,وارتكز لفترة طويلة على نقد المضمون وخاصة في بدايته وبداية انتعاش الحركة المسرحية الكوردية في أوائل ومنتصف السبعينات محدثاً بذلك فجوة كبيرة في العرض باتجاه الفصم في وحدته العضوية وبين أهم عناصره التي تشكل(العرض المسرحي) وهما الشكل والمضمون ,لم ينجُ من هذا المنهج حتى نقاد كبار في المسرح العراقي أمثال الدكتور"جميل نصيف"و"يوسف عبد المسيح ثروة".
ويحتل لهاث الناقد الكوردي وراء العروض المسرحية التي تتطابق مع منهجه النقدي من اكبر المآخذ التي يمكن أن تسجل عليه,وبدون أن تتزاوج أو تنصهر هذه المنهجية بالنظرية أو بالعكس تطبيق النظرية على العرض.
معظم المخرجين المسرحيين الكورد لايتقبلون النقد ويتذمرون منه ,أن لم اقل لا يحبذونه وينفرون منه أساساً ظناً منهم انه لا يتعرض ألا على الجانب السلبي لأعمالهم ,طبعاً لهذه النظرة إلى النقد أسبابها الموضوعية والذاتية فالسبب الموضوعي هو الناقد والذاتي هو المخرج وذلك بتعرض الناقد للأعمال الهابطة وتقديم المخرج لعروض تخلو من أساليب إخراجية معينة.
وعندما أقول أن السبب الموضوعي هو الناقد ,لا اقصد من وراء ذلك الدفاع عنه لا لان نقده لايتسم بالجدية أي لاتتعرض للعروض المسرحية الجيدة وإنما لشيوع العروض الرديئة في مسرحنا تفرض بعض الظواهر والمعطيات التي تفرزها مثل هذه العروض أحكامها على الناقد.
واعتقد أن عدم تقبل معظم المخرجين المسرحيين الكورد للنقد ليست مسألة خاصة بقدر ما هي مسألة عامة, ويمكن أن تنسحب على سواهم من المخرجين العراقيين وان اختلفت درجة حدة هذا الصراع من مخرج إلى أخر تبعاً لمديات مستوى العرض,والصراع القائم بين الناقد والمخرج ربما برز بظهور أول مسرحية ممثلة ولو بشكله السطحي وهذا الصراع سيستمر مادام الناقد ينشدُ الإبداع والمخرج لا يقر بشهادة الناقد.
ومادام موقف معظم المخرجين إزاء النقد كذلك والعرض المسرحي يفتقر إلى الإبداع والوسط الثقافي يشكو منه والحال هذا من المفروض الالتفات إلى الجانب الثاني منه المتمثل بندرة من المخرجين الذين لا يخشونه ويستسيغونه ,والقلة كما هو معروف في كافة المجالات الثقافية هي دائمة صاحبه الوجه الحقيقي والناصع للعملية الإبداعية .
ولكننا إزاء هذا الواقع المسرحي البائس الذي يفتقر إلى حتى هذه (القلة) مضطرون أن نتحدث هنا بالعموميات وليس بالخصوصيات.
غالباً مايمنح المخرجون المسرحيون الكورد الحق لأنفسهم اتهام الذين يتعرضون لاعمالهم من النقاد بأنهم غير جديرين في اداء مهمتهم النقدية بذريعة ان المخرج في معظم الاحوال حاصل على شهادة فنية , والناقد مجرد متابع , ناسين اصحاب مثل هدا الرأي المثل الشعبي القائل(مو كل مدعبل جوز) ويتمادى البعض منهم على حقه النقدي في محاولة لتفريغه من المصطلح الذي يطلق عليه وهو الناقد بهدف التقليل من شأنه والتشهير به تحت تسميات عجيبة وغريبة بينما لا يعطون نفس الحق للناقد وهو مايسعى تجنبه احتراماً لقدسية العملية الفنية ومكانتها الاثيرة في نفسه ,ان يطلق المسميات بغير تسمياتها الحقيقية كأن ينعت مخرجاً بغير المصطلح المعروف به وهو الفنان مع ان وسطنا المسرحي واقول ذلك مضطراً تتعشعش فيه عشرات اللافنانين المحسوبين على الفن .
فليس كل خريج معهد او كلية الفنون الجميلة فناناً ,وليس كل من قام بأخراج مسرحية ما هو كذلك ,فالفنان الحقيقي هو من يضيف الى معلومات المتلقى شيئاً جديداً ويجعله ان يستمتع في الوقت نفسه بهذه الاضافة لا ان يفسد ذوقه ويقوم بتمييع ما لديه من علوم معرفية عامة والمسرح خاصة ,سيما معاهد وكلياتنا لجملة اسباب عاجزة ان تقوم بتأهيل الدارس واعداده لما تتوافر فيه كل مستلزمات الفنان الحقيقي حاضراً ومستقبلاً ,لعدم اتباع كادرها التدريسي منهجاً واضحاً في القاء الدروس النظرية والتطبيقية بالاضافة الى عدم استعداد الدارس نفسه لمدى الاستفادة من خبرات وتجارب اساتذته وتطوير امكاناته بالاعتماد على الجهد الذاتي والمتابعة ,زائداً الموهبة التي يتحلى بها قدرته على التخيل في تفجير اللحظة الابداعية تماماً بعكس الشخص الذي لم تسنح له فرصة الدراسة الاكاديمية ,نجده لتعويض مافاته اكثر اندفاعاً لمتابعة واستزادة المعرفة من زميله الدارس الاكاديمي بل ولا اغالي اذا قلت اكثر ثقافة منه وبالتالي ابداعاً في اعماله ,فمن الظلم والاجحاف بحق معاهدنا وكلياتنا اناطتها بدور اكبر من حجمها الحقيقي او تأطير دورها لمن يحلو لبعض من الاكاديميين ,بهالة من الدخان الكثيف المشابه للدخان المتصاعد من المعامل والمصانع لمنحها بنفس سماتها ظناً منهم بهذا التأطير والتشبيه انهم قد اصبحوا صنواً لها .
ارجوا الا يفهم القارئ انني هنا اسعى الى التقليل من شأن الاكاديميين او احاول الاستخفاف بأمكاناتهم بقدر ما اود التأكيد على دور معاهد وكلياتنا الفنية المحدود والضيق في صقل وتنمية مواهب الدارسين فيها , اذ لايتعدى اكثر من تمهيد ارضية خصبة لهم للبحث عن المصادر التي يستقون منها زادهم الثقافي لتطوير امكانيتهم ,وانها ليست معامل لتخريج الفنانين كما يتوهم البعض .لاضفاء هذه المسحة ,مسحة الفنان على انفسهم وان الشخص الذي تعتمل في داخله حب المسرح يستطيع وبمجهوده الفردي وعن طريق المتابعة والمشاهدة ان يترجم هذا الحب الى اعمال ابداعية , لا اقول هذا جزافاً انما هي حقيقة تلمستها من خلال تجربتي مع المسرح الكوردي واحتكاكي بمسرحييها الاكاديميين وغير الاكاديميين , وهنا يطرح هذا السؤال نفسه بألحاح بأعتبار ان الناقد شأنه شأن غير الاكاديمي كون ذخيرته المسرحية بمجهوده الفردي.
ماهو السر الكامن وراء وجود الناقد المسرحي في اربيل وعدم وجوده في السليمانية مع ان الاساليب الاخراجية للمسرح الكوردي تبلورت على ايدي فناني السليمانية ؟؟
ان الاجابة على هذا السؤال هو : ان عدم اشباع المثقف المسرحي للطموح الذي ينشده من خلال العروض التي يشاهدها في اربيل ، جعلته ان يعبر عنه من خلال كتاباته النقدية هذه الاجابة تقودنا الى التذكير بالمتابعات الجادة التي كان يقوم بها أربعة من مسرحيينا الكورد غير الأكاديميين قبل الانتفاضة ، للمهرجانات المسرحية المقامة في بغداد وعلى نفقتهم الخاصة، واعتقد ان الوسط الثقافي الكوردي يعرف جيداً الذين اعنيهم لدورهم المشهود في الحركة المسرحية الكوردية .سواء من خلال عروضهم ، او طروحاتهم ،وفي تجربة مسرحنا نماذج كثيرة تعزز صحة قولنا هذا، واكتفي بهذا الخصوص إعطاء النموذج التالي :
لقد اخرج مسرحية الغجر لبوشكين اثنان من فنانينا كل منهما في عرض مستقل ، احدهما أكاديمي والآخر غير اكاديمي ، وفي حينها نشرت مقالا خاصاً عن العرضين في جريدة الجمهورية ولا اريد ان ادخل في تفاصيل ما كتبته عنهما،فمخرجا المسرحيتييين أدرى من اي شخص اخر برأيي عن العرضين،بقدرما اود التأكيد على ان عرض المخرج غير الاكاديمي كان أفضل من عرض المخرج الاكاديمي ،لا بل نال الجائزة الاولى في مهرجان المسرحي المقام في بغداد،وكذا الحال بالنسبة لعرض الدراويش يبحثون عن الحقيقة لمصطفى الحلاج،عندما قام باخراجه فنان غير اكاديمي ، وجاءت النتائج مماثلة للتجربة الاولى ، بتفوق عرض غير الاكاديمي ، وحيازته على الجائزة الاولى في المهرجان المسرحي المقام في السليمانية ..
فالابداع مسألة ذاتية خاصة منوطة بالفنان ، وترتبط بمدى عشقه للفعل الذي يعتمل في داخله ومدى قدرته كموهبة وتخيل ومتابعة لتفجير هذا الفعل والشخص الذي يفتقر الى هذه العناصر لا تستطيع كل معاهد وكليات العالم ان تجعل منه فناناً مبدعاً، وضمن هذا السياق بأعتبار النقد عملية ابداعية كالعملية الفنية فلا مناص للناقد بهدف الوصول الى هذه الحالة ان يتابع تطورات ومستجدات المسرح وهو يواجه جديد العرض المسرحي ، واعتقد ان الناقد الذي لا يطمح ان يكون بهذا المستوى من المتابعة والوعي سوف لا يستمر في عمله النقدي هذا طويلاً، اذ سرعان ما ينسجب منه كما قدر للكثير من النقاد العراقيين والكورد الذين دخلوا هذا المعترك وغادروه بملء ارادتهم.
ولربما بالأضافة إلى هذا السبب ثمة اسباب أخرى لعزوفهم عن ممارسة عملهم النقدي،الا أن هذه الأسباب مهما أختلفت وتنوعت وتعددت فإنها دليل على عدم التصاقهم الحقيقي بالعمل الذي مارسوه عن طواعية،وعلى هذا الاساس يبقى الناقد شأنه شأن الفنان الحقيقي نفر ضيئل من الذين يلهثون وراء الأبداع..
ولعل هذا الاستنتاج يقودنا الى القول:بأن الصراع القائم ظاهراً، ليس صراعاً بين الفنان الحقيقي والناقد،وإنما هو في جوهره قائم بين الناقد والفنان غير الحقيقي ،وهنا تكمن المفارقة ورغم ذلك يبقى غير الحقيقي يتسيد الساحة.
وهنا أعود فأثب إلى الأولى التي بدأت بها لا قول: فبدلاً من أن يقوم هؤلاء المخرجون المتذمرون من النقد بتشخيص العيوب والنواقص التي تعتور العملية النقدية بشكل علمي وموضوعي لايجاد الحلول الناجعة لها نراهم قد استلوا سيوفهم بوجه النقاد معلنين عليهم حرباً ضروس للتشهير بشخصهم وتأريخهم النقدي ، ومدافعين بغير وجه حق عن عروضهم الهابطة، لدرجة ان غذت مسألة عدم تقبل النقد واتخاذ مواقف متشنجة ومنفعلة منها ظاهرة مألوفة في وسطنا المسرحي واذا ما امتدت هذه الظاهرة طويلاً اكثر من حجمها الحالي،لابد للناقد في ظرف لا يسمح له بممارسة عمله النقدي، ان يستلسم لهذه الجماعة ويقدم لهم فروض الطاعة والولاء،أما من خلال الطبطبة على ظهورهم ومحاباتهم ودغدغة عروضهم، او ان يسارع الى البحث عن مهنة أخرى يقوم فيها بدور المهرج مثلاً او الدلال ليترك الفن وأهل الفن إلى الأبد...
يقول المخرج المسرحي الكبير بيتر بيروك:
(ان الفن الذي يخلو من النقاد محفوف بالمخاطر) هذا القول لبيتر بروك يدفعني إلى دعوة مسرحيينا لاجراء مسح ميداني في كوردستان بغية الوقوف على عدد الذين يمارسون العملية النقدية فيها.
بإعتقادي ان المخرج المثابر والجاد لا يتوجس من الناقد،فليكتب الناقد ما يشاء ،كما كان يقول المرحوم "ابراهيم جلال" دائماً، او كما يحرص بيتر بروك على المسرح اينما كان خشية خلوه من النقاد، لا كما حاول مرة احد المخرجين المسرحيين الكورداخراج احد النقاد من صالة العرض،ويضيف بيتر بروك قائلاً:"لابد ايجاد العلاقة بيننا وبين النقاد لا بالمعنى المصطنع ولكن بمعنى أعمق لان هذه العلاقة هي ضرورية مثل ضرورة حياة المحيط للسمك،فكل منا يحتاج الى موهبة الأخر الملهمة لإدامة حياتنا في القاع ،وسواء كتب الناقد ملاحظاته بسرعة ام بتأنِ وسواء كانت تلك الملاحظات طويلة ام قصيرة فليس ذلك مهما...
ولعل تشكيوف كان اكثر الكتاب عدم اكتراثاً بالنقد،اعتقاداً منه بأنه لا يجدر بالمرء ان يستجيب له. وقس نفس الشئ بالنسبة للكاتب الامريكي وليم سارويان الارمني الاصل الذي كان يحس بالرضى عندما يمدحون نتاجاته ولا يهتم كثيراً عندما تتعرض الى ضربات المطارق،ذلك ان الناقد من وجهة نظره اما ان يكون على صواب او على خطأ، فلو كان مصيباً فمن الحماقة الرد عليه وإذا كان مخطئاً فالجدال معه امراً بلا معنى ..
واذا كان من غدر بحق العملية الفنية هي خيانة الناقد لقلمه فاصحاب مثل هذه الاقلام ينبغي الكشف عن سلوكهم اللامبدئي هذا، واذا كان ثمة عقوبة فلا مناص من انزالها بهم، ولكنني اسمح لنفسي لأعود واقول، هل هناك حقاً ناقداً كهذا في وسطنا المسرحي؟؟
شخصياً لا ادري لماذا اميل إلى الأعتقاد ان الناقد شخص عادل ومخلص في ممارسة عمله اياً كانت الاسباب ،واعتقد ان الفنانين الحقيقيين يشاركونني الرأي،ايماناً مني بأن الناقد حتى لو كان مدركاً على الفوضى التي يبثها في الوسط الذي يعمل فيه،فهو ينتقص من قيمة فعله على اشاعة الخير ....
وهو لكونه يتمتع بوعي مسرحي اكثر من غيره،ويعيش ويتلمس التجربة عن كثب تجربة النجاح والاخفاق معاً،ويمتلك ويتفاعل مع الفنانين بشكل مباشر وغير مباشر، ويطلع على اخر المستجدات وعطاءاتهم فليس غريباً ان تختلف آرائه مع آراء الآخرين ،وينفعل مع العرض اكثر مما ينفعل معه المتلقي ،وان تتسم احكامه بالقساوة،وان يبدي التذمر والشكوى،ويشير إلي الأخطاء والسلبيات .ولعل بيتر بروك اصاب في الصميم عندما اشار إلى هذه المساءلة على الوجه التالي:
"غالباً ما يخدم الناقد المسرح عندما يرصد كل ما هو سلبي ،فاذا قضي معظم وقته متذمراً فهو في ذلك مصيب".
بينما يحدث في مسرحنا عكس هذا تماماً فالمخرج هو الذي يرصد سلبيات الناقد،ويبدي تذمره منها،ظناً منه بأنه غير جدير في اداء مهمته،لأنه ليس بحوزته شهادة اكاديمية كالتي بحوزته، وعلى هذا الاساس فهو لا يرتقي بوعيه المسرحي إلى مستوى وعي المخرج،ان لم يذهب به الظن اعمق ناعتاً اياه بشخص امي ومتطفل على المسرح والفن والاخراج والحياة والعالم....و.... ناسياً صاحب مثل هذا الرأي ان بريشت الذي لم يقرأ حرفاً واحداً بين جدران المعاهد والاكاديميات ،قد احدث ثورة حقيقية في المسرح العالمي،وان المناوئين له من كلا القطبين في المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي (سابقاً) لم يستطيعوا ان ينكروا انجازاته واضافاته الرائعة في هذا المجال،واقروا بها رغماً عنهم.هذا هو حال معظم الادباء والفنانين الكبار المعروفين في العالم،سواء كانوا روائيين ام شعراء، قصاصين ام موسيقيين،تشكيليين ام مسرحيين، ايتداءً من هوميروس وانتهاء بآخر مبدع برز في نهاية القرن العشرين ويصل تجاوز البعض منهم على النقاد حداً لا يمكن تصوره، وكان اغربهم واكثرهم اثارة للضحك والبكاء معاً، اتهام احد النقاد بعدم قراءته في حياته لكتاب ما، ترى من يقتنع بهذا الكلام؟؟ وهل من المعقول ان من لم يقرأ في حياته كتاباً،بوسعه ان يكتب مقالاً... وان يكون هذا المقال نقدياً؟؟؟
ان هذا التجاوز ضمناً ومبدأَ، دعوة صريحة لطرد الناقد المعني من الوسط الثقافي الكوردي ، كما دعا افلاطون في جمهوريته بطرد الفنانين منها..
وإذا كان الفنانون ما يزالون يفتخرون بدعوة افلاطون لطردهم من جمهوريته انطلاقاً من عدم فهمه لوظيفتهم في بناء المجتمع، فما على الناقد الذي يطرد في اواخر القرن الواحد والعشرين من مدينة الفنانين ان يزيد فخراً بهذه الدعوة، وعند هذا الحد عرف الناقد المعني ان صاحب هذه الدعوة في هذا محق فقط ،في عدم حاجة المسرح الكوردي إلى النقد والنقاد.. اعرف مخرجين في وسطنا المسرحي ،نتيجة فشل عروضهم يقومون بجولات مكوكية بين الصحف والمجلات للفوز بلقاء صحفي يتيح لهم فرصة تبرير فشلهم هذا، او الدفاع عن العرض ، وان كان المخرج دبلومسياً ويتقن فن الكلام فإنه يطمح الى اقناع المحرر الصحفي بكتابة مقال نقدي عن عرضه ووفق الملاحظات التي يمليها عليه، وليس حسب قناعة المحرر الصحفي ، والاخير لحاجة صفحته الى مادة كهذه، لا يجد ضيراً بتنفيذ هذا المشروع السري للغاية جداً، بينه وبين المخرج، اما في حالة فشل كل مساعي المخرج المكوكية هذه، فإنه وبتوقيع مستعار لا يتوانى ان يكتب مقالاً نقدياً عن العرض...
لسنين خلت يؤكد نقادنا على التخلف الذي يعاني منه واقعنا المسرحي في أربيل،وان هذا الواقع يجب الاقرار به، والسعي نحو تغييره للوصول الى الانجازات والتطورات التي يشهدها المسرح في السنوات الأخيرة على الصعيدين المحلي والعالمي ، ولكن كلما ارتفع صوت كهذا جوبه برد فعل قوي من قبل جماعة المسرح الهابط لخنقه والقضاء عليه، وشجع من استمرار هذا الواقع المؤلم بعض الاقلام النقدية التي دخلت مجال النقد من باب الصحافة ...
احد المخرجين قاطع ناقداً لمدة خمسة عشر عاماً، وآخرهم حاول طرده من صالة العرض، وثالثهم وجه له السباب والشتائم وبشكل علني ومكشوف ، ورابعهم لم يضعه في مصاف المشاهد الاعتيادي ان لم أقل بمستوى ادنى بكثير وكثيرا جداً،وخامسهم وصفه بأنه سحابة سوداء في سماء المسرح الكوردي..
لست هنا بصدد ابراز التجاوزات التي يتعرض لها النقاد من بعض المخرجين، ولكن كما يقال الشئ بالشئ يذكر، بقدر ما اود التأكيد على البون الشاسع بين حقيقة ادعاءات هذا البعض والامكانات التي يتحلون بها. وان السبب الاساسي في هذه التجاوزات هي هذه الامكانات . ومع هذا هناك من يعتقد ان هذه التجاوزات ضد الناقد هي بحد ذاتها ادلة دامغة تثبت على عدم قيامه بالعمل الذي يمارسه عن جدارة. طبعاً يبدو هذا الاعتقاد هذا صائباً اذا ما دققناه بشكل سطحي ، اما اذا اسبغنا اغواره فسنخرج بانطباعات مغايرة تماماً. وعليه فأنا اعتقد ان كل هذه التجاوزات ما هي الا اوسمة وميداليات ونياشين ينبغي ان يلعقها الناقد على صدره اعتزازاً وافتخاراً بها،شأنه شأن الرجل السياسي الذي يفتخر ويعتز باشتباكه في يوم ما مع رجال الشرطة ، وشأن الصحفي الذي يرفض المسؤولون ان يلتقي بهم ويجري معهم اللقاءات، نتيجة إحراجهم ومضايقاتهم في اسئلة استفزازية .
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه بالحاح:
من منهما المحق ، او على حق ؟؟
وقبل الاجابة علي هذا السؤال والاسئلة التالية:
لماذا يختار(س) من الناس مزاولة العمل النقدي؟ هل سعياً وراء الشهرة؟ هل نتيجة فشله السابق كممثل اومخرج او كاتب؟ هل حباً في احتلاله مكانة متميزة في الوسط الثقافي والاجتماعي ؟
اذا افترضنا كل هذه العوامل مجتمعة كانت حافزاً لهذا ( السين) من الناس ان يختار مزاولة العمل النقدي، ترى الا يختار الذين يمارسون مهنهم برغبة وعشق وتضحية من نفس المنطلق؟؟ اذا لماذا لا يجوز للناقد فقط؟؟
وعلى ما اظن جاء اوسكار وايلد ببدعة لجوء الفنان والاديب الفاشل الى النقد، ولو اخذنا هذا الرأي ، فأليوت شاعر مسرحي فاشل ، لأنه من يستطيع ان يضمن بأنه قبل ان يلجأ الى كتابة القصيدة والمسرحية كان يمارس العملية النقدية ، ويمكن ان يقال نفس الشئ بالنسبة لكل الادباء والفنانين الذين مارسوا العملية النقدية الى جانب العملية الابداعية ...
ان الناس تميل الذهاب الى المسرح بدافع الحب الذي يمنحه اياهم ، والمخرج الحريص يزرع نواة هذه البذرة وانباتها بشكل سليم ، عليه ان يقدر هذا الحب فليس من السهل استغلال وقت عامة الناس لساعتين في فن مبتذل، وهو اذا يدعو الناس للاستفادة من تجربته فليكن هو الآخر بنفس المستوى ويصغي الى آرائهم المتمثلة برأي الناقد ( باعتبار الناقد وسيطاً بين العمل الفني والمتلقي) والمخرج الفطن يسعى الى توثيق صلته به، لأن الناقد في كل الاحوال هو الشخص الاقرب اليه، بحكم وطبيعة تفاعله مع العرض ، قياساً بكل الذين يشاهدونه في محاولة التجنب فرض رأيه ورأي الفنانين عليه، والطريف ان البعض منهم لا يكتفون بهذا وانما يفرضون رأي المتلقي عليه ايضاً، بالحكم على نجاح العرض من خلال التصفيق الذي يثيره احياناً والاستعانة برأي الفنانين غير الموثق والمبني على المجاملات . فالرأي المدون هو الرأي الوحيد القابل للمناقشة ،وماعداه كلام فارغ . اما الجمهور الاعتيادي فغير مسؤول عن الرأي الذي يبديه، وحتى وان كان مدوناً لأنه اساساً جمهور غير مسرحي ولكي يتحرر المخرج من هذه الحساسية المفرطة تجاه الناقد،وثقافه الناقد،ونزاهة قلمه، عليه ان يعرف بأن الناقد شأنه شأن المخرج يمتلك تصوراً معيناً ازاء المسرح وما يجب ان يكون عليه، ويتحلى بالشجاعة التي يمكن ان يخاطر بهذا التصور ، وبدون ذلك، بدون هذا التصور فالناقد اشبه بالحمل الوديع الذي تكمن مهمته في نقل تصورات الآخرين الى القارئ وبدون ان يقول هو شيئاً ويضيف الى العرض، بالاضافة إلى ذلك ،فإن الناقد أدرى من المتلقي او اي شخص آخر بآسرار الصنعة الاخراجية والمسؤولية الملقاه على عاتقه، اكبر من مسؤولية المخرج، فيما يخص الربط بين الواقع الاجتماعي ومتطلباته، ومع ذلك يوضع بمثابة لاحق وتابع له،وبقدر ما في هذا من صحة وصواب الا انه لا يمكن الحديث عن الحركة النقدية بمعزل عن الحركة الفنية ، ذلك ان مستوى النقد مرهون بمستوى درجة تقدم وتخلف الفن.
ففي الدولة العربية ،وخاصة مصر، ثمة صلة وشيجة تربط المخرج بالناقد،وبالعكس ، وان الحركة النقدية فيها متقدمة على كافة المجالات الثقافية، وبالاخص المسرح، بينما هنا في كوردستان يعتقد مخرجونا انه ليس من حق الآخرين ان يكتشف ضعفاً او خطأ في عروضهم ، علماً ان اي عمل فني او ادبي كما هو معروف حين ينشره الاديب او يعرضه الفنان يصبح ملكاً للمفسرين،اي ان النقد يقوم بانعاشه واعادته ثانية، ان مخرجينا حتى وان كان البعض منهم يعرفون هذه الحقيقة، فإنهم لا يقرون بها، او يصمون اذانهم عنها، ظناً منهم ان هذا الانعاش من قبل الناقد لعروضهم ، يجردهم من بعض حقوقهم في الاخراج والمخرج شاء ام ابى..فالناقد هو الجزء الاهم من قطع اكسواراته الموظفة في العرض، ان الغاهُ كتب له الفشل ، كذلك فلا يمكن التعامل مع الناقد ، كما يتعامل المتلقي بلامبالاة مع اصغر جزء من القطع الآنفة الذكر ، او كما يقول اليوت:
"نحن لا نرصد للص لصا وانما نرصد شرطياً"
مع الفارق بين الص والمخرج، والناقد والشرطي ، فهل من الممكن ان تتجاهل اللصوص رجال الشرطة؟"
#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟