|
يوم مشهود من أيام أبي نرجس
نقولا الزهر
الحوار المتمدن-العدد: 880 - 2004 / 6 / 30 - 03:05
المحور:
الادب والفن
كان { نبهان } جالساَ على سريره ، ينسج لوحة فلاحة بلغارية تحمل سلة مملوءة بالثمار على ظهرها وطفلها الصغير بيدها. وفي أذنه كانت سماعة الراديو التي لاتغادره أبداً لا ليلا ولا نهاراً . فهذا الراديو الصغير العتيق ذو البطاريات الكبيرة المضمومة إليه من خارجه بقطعة من المطاط ، والذي لا يمكن للمرء أن يميزَ منشأ صنعه أو لونه الأصلي، كان قطعةً من نبهان، فقد كان يمضي أحياناً ساعاتٍ طوال لإصلاحه؛ ويرفض كل اقتراحات الذين ينصحونه باستبداله، فهو يعتبره أفضل من كل الراديوات الحديثة، ويفتخر به لأنه يُسمِعه كل محطات العالم من اليابان حتى الأرجنتين. في هذا الصباح كان نبهان منفرج الأسارير. فبعد أن لوَّح لي بيده، قام من سريره ووضع السماعة في أذني ليسمعني فيروز التي كانت تغني قصيدة جبران ( إعطني الناي وغَنِّ ....) . استيقظ (أبو نرجس)، واتجه على الفور نحو نبهان ليتأمل اللوحة الخرزية التي ينسجها، ثم راح يضع ملاحظاته الفنية والجمالية عليها. يذهب (أبو نرجس) إلى الحمام ، وبعد عودته من هناك يبدأ بحلاقة ذقنه، وما أن انتهى من هذه المهمة حتى راح يهذبُ شاربيه العريضين ولحيته الصغيرة ، ويمشّط بعضَ شعره المتبقي على رأسه. وبطبيعة الحال لم ينسَ كعادته أن يقصَّ بعض الأشعار الشاذة من حاجبيه الكثيفين. وبعد أن تناول أبو نرجس إفطاره، راح يشرب الشاي بصوتٍ عال، ويُمسِد شاربيه ، بينما كان يحدق ملياً في أنحاءِ الغرفة بنظرات طويلة لا تخلو من التأمل العميق. ثم راح يرتدي كل ألبسته الجديدة التي يرتديها عادة يوم الزيارة، ويخرج من حقيبته زجاجة الكولونيا، ليبخَّ عدة بخَّاتٍ على شعره ووجنتيه. يقترب من بعض الشباب الذين كانوا يتناولون إفطارهم ، ويشرع في إبداء ملاحظاته النقدية حول أنواع الطعام الموجودة أمامهم، ولم ينْسَ طبعاً أن يتكلم على آخر إبداعاته في الطبخ، وعلى إعجابه الشخصي بالمطعم الهنغاري، وبمدينتي {بودا } و { بست } على نهر الدانوب الأزرق وبرلمانها الشهير الذي يعتبر في الدرجة الثانية بجماله المعماري بعد البرلمان الإنكليزي في لندن. هنا يعلو صوت نبهان قائلاً : - " أستاذ ، بشوفك بتتكلم كثير عن الطبخ وعن خبرتك الكبيرة فيه، لكن في أكثر الأحيان طبخاتك بتطلع محروقة" ؟ يتجاهل أبو نرجس هذا الشغب النبهاني الذي لايخلو من الخبث، ويتابع جولاتِه بين الأسِرّة، في الوقت الذي كانت أصابعه تلعب بشاربيه . ثم يقترب من شبانٍ آخرين، كانوا يدرسون في جامع دروس اللغة العربية للشيخ { الغلاييني }، فيقتحم جلستهم، ويبدأ بطرح الأسئلة عليهم. وقبل أن يترك لهم فسحة من الوقت لكي يفكروا ويجيبوا عليها ، يجيب هو مزهواً، وهازئاً من مدرسي اللغة العربية في هذه الأيام، مذكّراً بأستاذ اللغة العربية العظيم الذي كان يدرِّسهم في الأربعيناتِ من هذا القرن . وكعادته لم ينس (أبو نرجس) في مناسبة من هذا النوع، أن يترنَّم بأبياتٍ من شعر أبي الطيب. في هذه الأثناء كان هناك شابٌ آخر، يسأل زميله عن معنى كلمةٍ باللغة الفرنسية ، فيتدخل أستاذنا تلقائياً، ليعطي جوابه باللهجة الباريسية المغنغنة، رغمِ حداثته في تعلمِ الفرنسية. ثم يقتربُ من (جابر) الذي كان يستعدُ لامتحاناتِ الدراسة الثانوية، وقد كان في يده كتاب للجغرافية يقرأ فيه، فيسرع (صاحُبنا) ليطرحَ أسئلته عليه، فيرتبكُ جابرٌ متلعثماً، ولكن أستاذنا الذي كان يذرعُ الغرفة ذهاباً وإياباً، ينجده من لعثمتِه ويعطيه الأجوبة فوراً. لكن المفارقة كانت في جوابه على سؤاله الذي طرحه، فقد حول نهر الفولغا ليلقيَ بمياهِه في البحر الأسود عوضاً عن بحر قزوين ، وجعلَ من { أولان باتور } عاصمة لنيبال بدلاً من منغوليا؟؟ يتعب أبو نرجس من ذرع الممر، فيجلس إلى جانب صديقه{ أبوعياش } ، ليتكلمَ معه على الفكرِ والسياسةِ والإستراتيجية والتكتيك، والإنسحابات الموضوعية، والتراجعات الضرورية، والفرق بين الرئيسي والثانوي ......إلخ من الأحاديث السياسية المعروفة. فيوقظ بصوته المنتمي إلى طبقة )السوبرانو(، بعض النائمين َالذين اعتادوا أن يسهروا إلى ساعة متأخرة من الليل ، الذين راحوا يظهرون تأففهم وتبرمهم من صوته العالي، بين آن وآخر. ولما علا صوتُ شخيرِ أبي عياش ، يعود أبو نرجس ليتأمل لوحة نبهان مرة أخرى ، ويعطي تقييماته الفنية من جديد. في هذا الوقت يشرع نبهان متخابثاً في إطراء رائحة ونعومة الكولونيا التي يشمها، لم يترك أبو نرجس المناسبة تهرب من يده، فبدأ في شرح مزايا هذا العطر الفرنسي لنبهان، ولم ينس أن يقول له أنه يحب أن يساعمل هذا العطر منذ الخمسينات حينما كان طالباً في الجامعة . يخرجُ أبو نرجس أخيراً من الغرفة، وهو يتأمل عضلاتِ ساعديه، متشاوفاً في مشيته يميناً ويساراً. في هذه اللحظات ينهضُ { صادق} من تحتَ غطائِه كالنابض ليلعن الكولونيا وصانعيها وبائعيها ومستعمليها، ثم يخرج منديلاً ورقياً ويشعله للتخلصِِ من رائحتها التي يتحسس منها. في هذه اللحظات يقفز نبهان من سريره فجأة ويمد رأسه من باب الغرفة ثم يعود إلى مكانه رافعاً ذراعيه إلى السماء ، شاكراً الربَ بصوتٍ عالٍ ، أن أبا نرجس كان قد ابتعد عن باب الغرفةِ في الممرِ الطويل . بعد حوالي الساعتين. يأتي صوت أبي نرجس مجلجلاً من الممر الطويل. يخرج الكثيرون من غرفهم، ليعرفوا ماذا حدث، ويستيقظ {غياث الجعفري} مبكراً على غير عادته ليسأل نبهان باستغراب عما حدث. وأخيراً تبين أن صاحبنا كان يخوضُ معركة حامية الوطيس مع أحد الشامتين بسقوط الإتحاد السوفييتي، وكاد الأمر أن يتحولَ إلى علقةٍ بالكراسي الحديدية .... يدخلُ أبو نرجس الغرفة متوتراً مصفرّاً، مسرعاً نحو التلفاز. وراح ينظف الشاشة بقطعةِ من القماش، يفتح الجهاز، يولف الصورة والصوت ، يسأل نبهان عن الساعة، فيطمئنه هذا الخبيث أن المسرحية لم تبدأ بعد . هنا يتجهُ إلى سريره ليأخذ من تحت السرير مطربان مخلوطة المربيات ويلحسَ منه قليلاً... أخيراً تبدأ مسرحية{ امبراطور كرْجينيا } ، فيظهر الامبراطور بكاملِ حلته الامبراطورية ، في عيد تنصيبه السادس عشر، محاطاً بثلاث حلقاتٍ من أجملِ الفتيات. في الحلقة الأولى كانت الرؤوسُ .. والصدورُ .. والخصورُ .. والهضابُ البنفسجية ..لدى الفتيات السمراوات مكللة بأزهارالثلج والفل والياسمين.... الحلقة الثانية كانت من الفتيات البِِيض المتألقة شعورُهنَّ كالشمس ، والمتماوجة أجسادهن في غلالات من الزنبق الأسود الموشاة بأزهار النرجس الأصفر ..... والحلقة الثالثة كانت من الحور العينِ ....من بناتِ السهوب الآسيوية ... اللواتي يتلوّين في فساتينَ من شقائقَ النعمان القانية .... يصرخُ أبو نرجس بأعلى صوته على { أبي عياش } ، ليخبره بابتداءِ عرضِ المسرحية ، فيخرج أبو عياش من دورة المياه راكضاً، يجلسُ على سريره محملقاً بكل عيونه في الحلقات الأنثوية المحيطة بالأمبراطور. وبعد أن يوزعَ الامبراطور الجوائز والنياشين على كبار الضباط و أمراء البصاصين وأصحاب الدعاية والإعلام وعلماء الزراعة ومنسقي الورود والأزهار، تبدأ المسرحية في سرد قصة النضالات الكبرى من أجل تأسيس الامبراطورية وتوطيدها وأستقرارها. هنا يشرع أبو نرجس في التعريف على أسماء الممثلين ، فمعظمهم كانوا من أصدقائه، خالد عمران وزوجته فرح، وداوود البركة، وفواز صموئيل وغيرهم . لم تطل متعة الأستاذ منصور بالمسرحية، فيقرع جرس المطعم؛ هنا يحمل أبو نرجس مذياعه الكبير، يولفه على موجة {الإف. م} . ثم راح يأكل من البرغل المطمطم، ويسمع المسرحية في آن بكل شغف. وعند عودتنا إلى الغرفة ،وعودة الأستاذ أبو نرجس إلى كرسيه أمام التلفاز، يأتي نبهان مسرعاً ليذكّره بنسيانه تنظيف الطاولة في المطعم؛ فلسوء حظه، كان دوره في تنظيفها في هذا اليوم المشهود. يذهب الأستاذ مسرعاً مغموماً ، حاملاً صندوقه الأسود ، والسماعة في أذنه إلى المطعم. يعود بعد لحظات ، حزيناً متعباً ليرمي بنفسه على الكرسي من جديد. وحينما يظهر الكاتب والممثل الكبير { صفي الدين المكي } على خشبة المسرح ، بقامته الفارعة ووجهه الوسيم وشاربيه الأنيقين، يتحمس أبو نرجس، معطياً على الفور لمحة كاملة عن صديقه، وعن إمكانياته فى المسرح الإستعراضي ، والأمور الثقافية الأخرى في الفلسفة والتاريخ والسياسة ، وعن أطروحته حول جدل الأمة والفرد وملامح الشخصية الكاريزمية ودورها في التاريخ . ولمّا أخذ شخير أبو عياش يعلو على صوت التلفاز , أيقظه أبو نرجس ليغير وضعية نومه. وعندما انتهت مسرحية أمبراطور كرجينيا، أغلق الأستاذ أبو نرجس التلفاز، ثم راح يمسد شاربيه مسروراً منتشياً. هنا اقترب (نبهان) من الأستاذ ، وراح يسأله عن النرجس الذي رآه لأول مرة اليوم في هذه المسرحية، وفيما إذا كانت تسمى به الإناثُ فقط ؟ يقبض منصور على السؤال النبهاني، ويبدأ بسرد أسطورة (نرسيس) كاملة: " شوف نبهان، نرسيس في الأصل هو من الآلهة الذكور وليس من الآلهة الإناث". فيدخل نبهان، في سؤالٍ جديد عبر ابتسامة خبيثة: عن المازوخية؟ فيأتيه جواب أبي نرجس على الفور: "المازوخية يا نبهان ، مرض نفسي، يتلذذُ المصاب به وينتشي ، حينما يلقى العذاب من الآخرين ، والإسم مشتق من الكونت { دو مازوخ } ، وهنالك السادية ، حيث المصاب بها يتلذذ ُ بتعذيب الآخرين، وهنالك علاقة جدلية بين المازوخية والسادية وهنالك اللاشعور الجمعي المازوخي...ويجب أن لاننسى مفهوم السادو-مازوخية..... يرفع أبو نرجس بعد فترة رأسه ، فلم ير أي أثرٍ لنبهان ... فاتجه آنذاك إلى سريره ليغطَّ في نومٍ عميق بعد يومٍ مُتْعِب. ******************** دمشق-9-3-1986
#نقولا_الزهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حمدي الروماني
-
التقيتهما مرة واحدة
-
حول التداخل بيت المقاومة والإرهاب
-
جودت الهاشمي
-
الشعوب العربية من نير الإقطاع السلطاني إلى نير الإقطاع الشمو
...
-
خيوط القمة العربية أوهى من الكلام على الإصلاح
-
قصيدة :دموع ليست من ماء
-
مقاربة حول الديموقراطية في العالم العربي
-
الأعمدة الزانية
-
قصائد صغيرة
-
رسالة إلى المهندس المعماري الفنان رفعت الجادرجي
-
همسة في واد
-
دوافع أوربا والولايات المتحدة من الإصلاح في العالم العربي
-
عرس المطر
-
الطوفان الرمادي
-
طبق القش
-
شجرةٌ من جبالِ قَلْمونْ
-
حارس الطريق الجنوبي - قصة قصيرة جداً
-
مصباح جديد
-
سرابٌ في حلمٍ نيساني - قصة قصيرة جداَ
المزيد.....
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|