|
رجل يحسد الأرانب/قصة قصيرة
مصطفى النفيسي
الحوار المتمدن-العدد: 2894 - 2010 / 1 / 20 - 17:42
المحور:
الادب والفن
إلى أنيس الرافعي بدون إطراء في ذلك الصباح الصيفي،الحزين جدا،والمخيب جدا للآمال،والذي أصبح بعيدا الآن بحيث يمكنك تذكره دون أن تنتابك تلك المشاعر الجياشة اللصيقة بك،إذ تبدو كطفل صغير ضيع لعبته الجديدة ،شرعت في اقتطاف أسناني. صباح قد يظهر عاديا للكثيرين،تصدح فيه طيور الدوري المشاكسة بسيمفونيات شبيهة بعزف المبتدئين،ويذهب فيه هؤلاء الكثيرون إلى مقاهيهم المعتادة،مقهى "جوهرة الأطلس"،أو "الرونيسانس"أو أي مقهى آخر يتمتعون فيه بفناجين البن،مع "هلاليات" أو "كرواصة" ،ومثرثرين كثيرا ،بعد أن لم يعد لهم من هواية سوى الثرثرة،التي لم يتم إخضاعها بعد لأي نظام ضريبي،وهو ما يمكن أن يتم مستقبلا دون تأنيبات ضمائر،أو أسئلة برلمانية. كان بودي أن أقول :كان صباحا مكفهرا كغيره من الصباحات الصيفية،لولا أنه كان صباحا حزينا فعلا،يختلف عن الصباحات القلقة خريفا،والمفرطة في الكسل شتاء،والندية ربيعا. هو "صباح منحوس أو صافي"،أو هو صباح وحسب... صباحئذ،انخرطت في قطف أسناني سنا بعد سن، وببطء شديد يدل على أنني أتبع نصائح معينة،،كما يحدث في كوابيس أصيلة،دون أية آلة حادة،كما هو مبين في كتيب للإرشادات حصلت عليه في صباح صيفي آخر، ولكنه غير حزين من سوق الليدو للكتب المستعملة بفاس،كتيب اصفرت أوراقه واغبرت، لا يمكن أن يشتريه أحد غيرك،بل لا يمكن أن يثير حتى أولئك العتاة في التفرس في سحنات الكتب،متفرسون تجد أمثالهم في أكشاك "لافياط" بفاس،أو بالشارع الرئيسي بالرباط. قلت هو كتيب تجعدت جنبات غلافه وصفحته الأولى،لا ينقصه سوى تلك الجملة الرنانة،التي تطبع بشكل رائق على أغلفة كتيبات تعلم اللغات:"كيف تتعلم اللغة الايطالية في خمسة أيام"مثلا،وهي جملة تجعل منا أشخاصا قادرين على تعلم ستين لغة في السنة البسيطة،دون احتساب أيام العطل التي قد تصل إلى شهر ونصف،باعتبار أن كل شخص سيتعلم لغة أجنبية واحدة في خمسة أيام ،ليمر إلى تعلم لغة أخرى،وهكذا دواليك. لم أناقش ثمن الكتيب،بعد أن قال صاحبه:ثلاثة دراهم.في نبرة من استفز،أو سئل أسئلة سخيفة،فوجدت أنه يشرح في أسلوب سلس كيفية التخلص من أسنانك،دون مساعدة أي طبيب جراحي للأسنان،أو الاستعانة بأدوات حادة،اللهم إذا كنا سنعتبر الأظافر من الأدوات المذكورة.
كنت، فيما قبل ،قد اعتدت على التهام حبوب "دولامين"أو "سورجام" التي لم تعد مجدية الآن،بل جربت أكثر من طبيب،خذ مثلا تلك الطبيبة البضة اليدين، الفاشلة في نظري في إيقاف انهيارات أسناني وطابور الآلام المزدحم التي تنهشني.طبيبة في منتصف عقدها الرابع، تملك تلك العيادة الأنيقة في الطابق الخامس .ظننت في البداية أنها عانس،لأكتشف فيما بعد أنها متزوجة من طبيب آخر له نفس اختصاصها،ولو كنت أملك رباطة جأش أحد المتلصصين الكثيرين هذه الأيام،وهو مالا أمتلكه مما ضيع علي الكثير من الفرص في حياتي غير مأسوف عليها،كنت سأكتشف ببساطة أنها متزوجة منذ عشر سنوات، و لها طفلين،ذكر و أنثى،الطفل الذكر يتابع دراسته بمدرسة الصم،والأنثى لم تلتحق بأية مدرسة بعد إلا إذا كنا سنعتبر البيت مدرسة. زرت تلك الطبيبة في صباح صيفي آخر يختلف كثيرا عن الصباحات التي ذكرتها إلى حد الآن،وللتذكير هما صباحان:الصبح الحزين والصباح الذي اشتريت فيه ذلك الكتيب الهام جدا.ذهبت لأستنجد بها استنجادا ،كي تنقذ ذلك الضرس المنخور،بعد ليال طويلة من الألم،والذي ستشحن بداخله تلك الحشوة الرصاصية الهشة،والتي سرعان ما ستتفتت داخل فمي كقطعة "بسبوسة"،لأعد إليها بعد ذلك بأشهر معدودة في استنجاد أخير،وسوف تصارحني بأنني لن أضفر بذلك الضرس اللئيم،إلا إذا دججته بغلاف عاجي سيكلفني الكثير من المال. قبل ذلك كنت قد انسللت هاربا من إحدى العيادات الطبية لجراحة الأسنان،تاركا هالة كثة من الاستغراب على وجهي صديقاي،اللذين رافقاني إلى هناك ،هربت إذن تحت ذريعة الاكتضاض حتى لا أنعت بالجبن،وأنا أخفي خوفي الفادح من الصوت المفرط الإزعاج لتلك الآلة الحازمة الشبيه بصوت جوقة من الصرارير في يوم قائض.
حينما خيب ظني الأطباء أو خيبت ظنهم، الأمران سيان،وحينما أيضا اشتد الألم ذلك الصباح ،وأحسست بأن أسناني أصبحت كبراعم ذابلة،لا تستحق سوى الانتزاع،تذكرت ذلك الكتيب الشبيه بصك غفراني،أفردته أمامي ،أقلب صفحاته صفحة صفحة،وأقرأ بنهم القراء الجشعين(القارئ الجشع هو من يقرأ ليلة كاملة في كتاب دون أن يتوقف.)، ولما انتهيت،بدأت في اقتطاف تلك الأسنان السقيمة، مستعينا بإرشادات الكتيب ،كما يفعل العشاق المبتدئون بزهريات شقائق النعمان :ينزعون تويجاتها،مرددين في كل مرة:يحبني، لا يحبني...حتى إذا انتهوا تماما،كانت العبارة الأخيرة ،هي التي تفسر لهم مشاعر معشوقيهم تجاههم،بشكل لا يقبل المناقشة.
حينما انتهيت أو كدت،مرقت في ذهني أفكار سوداء كثيرة عن الأرانب التي لا تخذلها الأسنان،تستطيل في فمها باستمرار،حتى أنها تضطر إلى بردها في جذوع الأشجار كي تتخلص من زوائدها،حيوانات تعيش حياة هنيئة قبل أن يباغتها قناصون بأسنان متهرئة أو بطواقم أسنان اصطناعية. فهمست لنفسي:لا يسع المرء إلا أن يحسد هاته الأرانب...
#مصطفى_النفيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة
المزيد.....
-
افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
-
“مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|