|
قصة : ارتواء
ادريس الواغيش
الحوار المتمدن-العدد: 2892 - 2010 / 1 / 18 - 08:14
المحور:
الادب والفن
- في كل مرة كان يلقاني فيها ، يسألني :" هل كلمتك...؟ "...إلى أن حصل ذات مساء ، فجئته مرتبكا مذهولا ، وأنا أهرول على غير عادتي. - كلمتني...كلمتني....يا أيوب...أقسم لك. كنت ميالا إلى العنف يومها ، كحصان بري يحتاج إلى ترويض ، ربما كانت طريقتي المثلى( في اعتقادي) لإثبات الذات مع المراهقين من أمثالي. لكن في المقابل ، كنت جادا ومجتهدا ، وكان كل أساتذتي يثنون علي بشكل مبالغ فيه أحيانا. مع ذلك ، شيء ما كان ينقصني لإيجاد توازن في حياتي ، إلى إن التقيت معها بالصدفة ، كل ما حصل لي معها ، جاء بالصدفة. أتذكر جيدا أنني كنت نازلا كثور هائج من الطابق العلوي ، الذي يفضي مباشرة إلى ساحة الثانوية ، فصدمتها عن غير قصد ، لكن بقوة كادت أن تسقط على إثرها ، التفت...، لم تكن إلا هي ....بصدر مكتنز تحت بلوزتها وعينين عسليتين ، وشعر أسود فاحم يغازل بياض الحيطان. انتظرت أي رد فعل منها ، لأبدأ معركتي على الطريقة المعتادة، لكن نظرة وابتسامة منها كان لهما أكثر من معنى ، أربكا كل حساباتي. قالت بصوت رخيم لا يكاد يسمع من الخجل ( الله يسامح). ياه....أإلى هذا الحد تكون ابتسامة واحدة كافية لإخماد كل الوحشية الراقدة في أعماقي ؟. انتابني لأول مرة إحساس بالندم ، في معارك صغيرة كنت أفتعلها في الغالب ، شعرت برهبة الجمال وجبروته لأول مرة في حياتي ، فانتابني مزيج من الحسرة والذوبان ، وقليل من الخوف والقلق. في كل مرة أكاد أنساها ، تأتي الصدفة لتشعل النار الخامدة في جوفي من جديد. مرة ونحن صعاليك نجوب أزقة المدينة القديمة ، نتحرش بالفتيان والفتيات على السواء ، وبعض النساء العاهرات أو المطلقات الغاويات للمعاكسة ، ونستلذ بالبحث (كما كنا نعتقد) عن مشاجرات للتسلية ، وإذا بها تظهر فجأة مع أمها ، أصخت السمع فإذا هي تقول :"هذا...هو". لم أعرف بالتحديد هذا ال(هو) ، وبالا علي هو ، كما حصل لي في كثير من الحالات ، كان آخرها مع (بنت الكوماندار) أم أنه في صالحي؟ . استبعدت الخيار الأخير بكل عناد ، لسبب بسيط ، هو أنني لم أكن محظوظا مع الفتيات. لكن سرعان ما عدت لأتساءل : ما معنى هذه الابتسامة البريئة ؟ ، وهذا الإيحاء بلغة اليد ؟ وهذه الالتفاتة السريعة في غفلة من أمها ؟. نسيت كل شيء وابتعدت عن المدينة للعمل ، وقيل لي ذات لقاء أنها رحلت إلى كندا ، لتكمل دراستها الجامعية ، فنسيتها ...نسيتها تماما. لكني وجدتها في طريقي ، وبالصدفة أيضا هذه المرة ، كما كان يحصل لي معها دائما. هي....وليست غيرها ، مرتبكة وخائفة ، لكن مكتملة القوام كما عهدي بها ، عيون تأتي بالهوى من " شيشاوة " ، تغزلنا بهما أيام المراهقة الأولى ، فتعرضنا للمضايقة من إخوتها ، والسب من أخواتها الصغيرات ، لكن الويل لمن سقط ضحية (ابا ابراهيم العسكري) الذي تعرفنا عليه فيما بعد ، لتردده المستمر على الثانوية ، كان ينزل بمقبضه على الرأس كالمطرقة. لكنها الآن نضجت أكبر، وزاد جمالها فأصبحت نظرة أكثر. أما مفاتنها فأصبحت بادية بشكل مستفز وغاو ، لكن حلو ومغر للعين . نظرت إليها وأنا لا أصدق ما أراه ، رجعت بي ذاكرتي مسرعة إلى أيام كانت تصدني فيها عن بعد ، بلا استحياء وبكل قسوة. لكن.... ، هاهي الآن تشد على يدي بحرارة ، وكأنها خجلة من كل ما فعلته معي ، في مشوار حب (كان) من طرف واحد ، لم يكتب له أن يعمر طويلا. - " لم يتوقف قلبي عن النبض من أجلك (تقول لي) ، لكنهم ظلموه وظلمونا معه. صحيح أن أهلي ترددوا في البداية ، لكنهم استسلموا أمام إصراري وخفقان قلبي. كان رضوان (الشرطي) يغدق عليهم ويغرقهم بالهدايا التي كان يجلبها معه أو يرسلها من الإمارات ، وكانت أمي كعادتها يسيل لعابها كل صيف للعطر الفرنسي والقماش الهندي والساعات السويسرية المستوردة من إيطاليا . صحيح أنه كان كريما وحنونا وجذابا ، كما كانت تقول لي عنه الفتيات حينها ، لكني مع ذلك لم أرتح ولم أستسلم له ولا لهداياه ، ولا لعبارات الحب التي كان يتفوه بها لي أو يرسلها عبر الرسائل ، كل ما كان يعجبني فيها صور الطيور الاستوائية الجميلة. لا تصدق نظرات إعجابي بمصطفى وهو داخل في (رأس الدرب) بهندامه الأنيق وربطات عنقه المزركشة ، ولا بمحفظته الجلدية الغالية ، لم أكن أعره أي اهتمام حتى وهو ينزل من سيارة الخدمة التي كانت توصله إلى البيت كل مساء ، ثم تتوارى مع سائقها العجوز ، قبل أن يحصل على جواز السياقة ويشترى سيارته الجديدة ، ولا بأولاد الدرب كلهم ، معطليهم وموظفيهم ، بعد أن كبروا وصاروا شبانا ، وحدك كنت حاضرا معي كلما استسلمت لذاكرتي ، حتى وأنت في غياباتك الطويلة في الجنوب. سأبرهن لك ، وآتيك بكل رسائلك القديمة ، لم أمزقها كما كنت تتهمني ، ولم أقطعها إربا كما كان يقول لك عني المغرضون ، لا تصدق كل شيء من ذلك. إنني أحبك ، أحبك ، أحبوووووك." كانت وهي تحدثني يزداد صوتها ويعلو ، فيلتفت المارة إلينا بفضول كبير ، ونحن على الرصيف أو نجوب الشارع الطويل تحت ضوء خافت ، فتزداد وجنتاها احمرارا من الخجل ، وكانت الموسيقى الأندلسية الصامتة تتهاوى من سقف المقهى فتسقط على مسامعنا ناعمة كالرذاذ ، هادئة كنتف ثلج أطلسي بارد في زمن الصيف ، فتزداد رغبتنا في البوح والكلام والفضفضة. أتألم الآن كلما مررت قرب المقهى القديم (جامع العشاق) الذي تحول في الزمن الجليدي البارد إلى مؤسسة مالية أو (شارع شوفوني) الذي (كنا) و كان صديقي إبراهيم على الخصوص يتحاشاه ، فقط لأن حذاءه يفتح فمه عن عمد من الواجهة ، كلما واجه فتاة جميلة ليزيد من عقده، وكانت رقعة حمراء من الجانب الأيسر تضاعف من غربته، وترمي به في متاهات الجنون. كنت أجتهد في نسيان الشعور بالصدمة والهزيمة ، بالضعف الذي لازمني في وقوفي عاجزا أمام الفتيات لسنوات طويلة ، ولم أتخلص منه إلا على فترات متقطعة . لن أنسى يوم طوحت في وجهي بساعة أتيت لها بها من مدينة " الناظور" ، وألقت بها وبما تبقى من الهدايا الصغيرة أمام الملأ من الجيران في غرور، فأحسست بكبريائي الكيميائي يتغير لونه بين ثانية وأخرى ، وأنا(ي) يغلي كالمرجل فوق صفيح من نار ، كانت قد ألقت بي عن قصد أو غيره في الجحيم. - "لا تصدق الحربائية (ليلى) ، كان همها الوحيد تسميم العلاقة بيننا لتفوز بك ، وتلقي بأحلامي على الرصيف كالخردة البالية . هل تسمعني ؟...صدقني أجوك ، فأنا والله صادقة...صادقة... يا إدريس". كنت مترددا... هل أصدقها أم أصدق نفسي ؟ مع ذلك كنت أكره قلبي فأصدقها ، ولا أصدق (ني). لم يكن أمامي أن أفعل غير ذلك ، خصوصا وهي أمامي مجردة من ثيابها تماما ، ورمانتيها تلامسان جسدي المنهك ، العطشان إلى اللحم الطري ، فتشتعل النار في دواخلي. كنت أحس بالدفء يتسرب تدريجيا إلى بدني ، يمر من أطرافي العليا ، فلا أشعر إلا وأشيائي السفلى تنتصب كالمارد دفعة واحدة. كانت تمرر يديها الرخوتين على مقبضي الأسفل ، فتشتعل النار في أحاسيسي وأنهار تماما ، كما تنهار الحشائش أمام نيران الصيف المتوحشة للرماد ، وأصبح رخوا كعجين حلوى ، منهك القوى كمخلوق طحلبي أخرج لتوه من الماء. أتأمل ببلاهة جغرافية جسدها الموغل في البياض ، المكتنز بلا زيادة أو نقصان ، فأتذكر كم كنت غبيا ونذلا وحقيرا ، حينما جاءتني طائعة تائبة ، وهي تقبل يدي و تقدم اعتذارها أمام مجمع من الأصدقاء والصديقات في (رأس الدرب)، وتترجاني أن أقبل توبتها ، فأرفض بغباوة كل عروضها وتوسلاتها ، ويزداد طول عنقي (عجرفة) حتى يصبح في حجم عنق زرافة كينية ، تبحث يائسة عن أوراق رطبة في موسم جاف . كم يلزمني الآن من الوقت لأنسى غلظتي معها ...أكفر عنها ؟ . - نعم.... ، أقر الآن أنني أخطأت في حقك ، وأنا أصدك بلا إحساس ، أمثلك من توصد الأبواب في وجهها ؟ لست أدري لم اعترتني كل تلك البلادة دفعة واحدة ؟ . أقلبها على جنباتها وهي مسترخية بين يدي ، كسمكة مستسلمة ليد صيادها ، بعد طول عناد ، تكاد تزهق روحي مني كلما أطلت النظر إليها ، وأنا أعبث بمكامن الحسن والنعومة فيها ، أهم بها وهي تقول لي : - " على رسلك يا إدريس ...أنا الليلة لك....كلني بما تشاء ،....وكيفما تشاء . " فأنقض عليها كما ينقض الذئب المتعطش لدم ضحيته. - مالك زربان... ؟ (تقول لي) متحيدشي منك هاد العادة خلاص؟ بلاتي عليك ...". ومرة واحدة كان لحمي يغوص في أعماق لحمها ، أعب أمواج شطآنها الدافئة كبحار قديم ، كدت أنسى فيها أنا هو أنا. عشت أسعد لحظات في حياتي ، صحيح أن الشك كان الشك يراودني من حين لآخر ، يفسد علي متعتي ، فأطرده بكل ما أوتيت من قوة اليقين. لم يعد يهمني كثيرا الفرق بين الحلم والحقيقة. المهم أنني في حضرة جسدها الناعم والسلام ، أرتوي من بحر يختلف عن كل البحار ، وأعب من زلال ريق فمها البارد ، خصوصا ونحن في حر فصل الصيف. بعد مد وجزر ، أحسست بالرعشة الكبرى تسافر بي كموجة حاقدة على الخلجان الاستوائية ، عبر أزمنة وأمكنة لم أعد أتذكر الكثير من محطاتها ، لكنني حمدت الله أخيرا أنها لم تدمر أحدا غيري. شعرت بدوار وغثيان ، ثم بإعياء وآلام في المفاصل والظهر، والعرق ينصب من جبيني وكل ثقب من مسام جلد تيبس فوق عظامي ، فأصبحت كمومياء فرعونية قديمة. أحسست برجلي متصلبتين ، ذكرتني بالمسيح و آلامه. أصخت السمع لصمت ليس بغريب يسري في البيت ، كان المؤذن وحده ينادي في مكبر الصوت بأعلى المئذنة : " حي على الصلاة... الصلاة خير من النوم ". تبعه مؤذنون آخرون ...، فاختلطت الأصوات الآتية من كل الفجاج العميقة ...." الصلاة خير من النوم". انتبهت... ، لم يكن أحد في البيت بجواري على السرير.....كنت أنا ...، وأنا وحدي فقط. أحسست ببلل بارد ، أفسد علي ما تبقى من سكرات النوم ، تلمست ملابسي الداخلية ثم الفراش ، فوجدت أنني أعوم في بحيرة منوية. كان آخر المؤذنين لازال يردد لازمته الأخيرة ( الصلاة....خير من النوم). لعنت حظي والشيطان وما بقي من فلول ظلام هاربة من ضياء الصباح ، هممت بالقيام لصلاة الفجر، فتذكرت أني فعلتها. ضغطت على زر الضوء ، رأيت صورة جماعية لأسرتي الصغيرة معلقة قبالتي في بيت النوم ، فتذكرت أنها مسافرة منذ أكثر من أسبوع . كان المارد الصغير(وديع) يتوسطها وهو باسم دون غيره من إخوته.....كأنه يشمت بي.
#ادريس_الواغيش (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة : ضيافة
-
ظبية خميس: شهرزاد روت لتتقي العقوبة ..أما أنا فلأني أحترم حق
...
-
عزة رشاد.... شاعرة رومانسية.. ، بعيدا عن الإيديولوجيات الصار
...
-
قصة قصيرة : قصة ألوان
-
فاس تكرم الدكتور محمد بودويك.....الشاعر الذي لا يحصى
-
محاربة تشغيل الأطفال....تجربة بدأت مغربية من مدينة فاس/ وأخذ
...
-
- القردانية- لمحمد اشويكة - - العنزة لولو- لصخر المهيف و روا
...
-
حجاب المرأة بين التقاليد الاجتماعية والموروث الديني
-
مبراطوريات الوهم العربي
المزيد.....
-
الشَّاعرُ - علاَّل الحجَّام- فِي ديوان - السَّاعَةِ العاشِق
...
-
محمد الغزالي.. الداعية الشاعر
-
تحقيق المخطوطات العربية.. بين إحجام العالم وإقدام الجاهل
-
رواية -نيران وادي عيزر- لمحمد ساري.. سيمفونية النضال تعزفها
...
-
فنانة تشكيلية إسرائيلية تنشر تفاصيل حوار خطير عن غزة دار بين
...
-
مغني راب أمريكي يرتدي بيانو بحفل -ميت غالا- ويروج لموسيقى جد
...
-
فنانو أوبرا لبنانيون يغنون أناشيد النصر
-
72 فنانا يطالبون باستبعاد إسرائيل من -يوروفيجن 2025- بسبب جر
...
-
أسرار المدن السينمائية التي تفضلها هوليود
-
في مئوية -الرواية العظيمة-.. الحلم الأميركي بين الموت والحيا
...
المزيد.....
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|