أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد باسل سليمان - وعود العولمة















المزيد.....



وعود العولمة


محمد باسل سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 2889 - 2010 / 1 / 15 - 08:47
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


برزت العولمة كظاهرة عالمية بعد انتهاء الحرب الباردة وولادة النظام العالمي الجديد الأحادي القطب بعد انهيار الإتحاد السوفيتي. وهذا ما يجعل العولمة لا ترتبط بالاقتصاد والسياسة فحسب، وإنما تتصل بمختلف جوانب الحياة الأخرى: الثقافية، والاجتماعية، والتقنية، والعلمية.... إلخ؛ وتؤثر في مزاج الناس وسلوكها فتغير تدريجياً طبائعها وتقاليدها. ويجعل من جانب آخر مفاهيم العولمة في هذه المجالات تستمد مرتكزاتها النظرية من الأيديولوجيا الرأسمالية، لأنها تحققت في ظل الرأسمالية وبقيادتها. وهي بالمناسبة ليست كشفاً فكرياً جديداً للرأسمالية يسجل لها كعلامة تفوق إضافية أخرى على الاشتراكية؛ وذلك لأن كارل ماركس وأئمة الاشتراكية الآخرين بشروا بالعولمة منذ وقت مبكر، وان تحت مسمى مختلف هو "الأممية" على اعتبار أنها مرحلة متقدمة من مراحل تطور المجتمع البشري، والحضارة الإنسانية، وجزء لا يتجزأ من مسار حركة التاريخ.

وكما وعدت الأنظمة الاقتصادية – السياسية السابقة الشعوب والمجتمعات البشرية بحياة أقل تعباً ومرارة وأكثر راحة ورفاهاً، واستخدمت كل أشكال التبشير والدعوة لنظرياتها وصلاح أنظمتها وتميزها على غيرها؛ بدءاً من استخدام سلاح الكلمة، ووصولاً إلى شن الحروب والاستعمار الكولونيالي؛ فإن نظام العولمة قام ويقوم بمثل ذلك أيضاً، ولكن بطرائق وأساليب اكثر تنوعاً وتعدداً. فإضافة إلى استعمال ما بقي من تلك الأساليب الحربية والاستبدادية، وظفت العولمة من أجل هذه الغاية كل الطرائق العصرية والحداثية التي يمكن أن تبتدعها ميكانيزمات التطور التكنولوجي المذهلة في مجال الاتصال الجماهيري وخصوصاً البث التليفزيوني الفضائي المعلومات، المعارف العلمية، الموسيقى، البرامج التوعوية، الندوات الفكرية والسياسية والثقافية، المؤتمرات الاقتصادية وحلقات البحث التخصصية، المسلسلات التلفزيونية، الأفلام السينمائية المنوعة،.... إلخ).
ويستشرف من معطيات متابعة انتشار العولمة أنها حققت قبولاً خرافياً خلال فترة وجيزة، وذلك بالقياس إلى الزمن الذي كانت قد استغرقته الأنظمة السياسية السابقة حتى استطاع جديدها الإحلال محل قديمها. ومع أننا لسنا بصدد استحضار وقائع التاريخ لإثبات ذلك إلا انه يمكننا القول أن المشاعية البدائية " قد تشكلت بعد ظهور "الإنسان العاقل" في سلم التطور البيولوجي، وأنها قد استمرت مكونة من "عصابات" بشرية صغيرة ومتفرقة تعتمد على الصيد في العصر الحجري الأول (الباليوليتي) ملايين السنين، وآلاف منها في العصر الحجري الثاني النيوليتي، وإلى أن ظهرت أريحا النطوفية سنة 8350 ق.م في الجزء الجنوبي من حفرة الإنهدام، وظهر على امتداد الحفرة جنوباً وضفافها غرباً مجموعة أخرى من القرى التي تنتمي إلى الحضارة النطوفية (نسبة إلى وادي النطوف الواقع شمال غرب رام الله). وفي آفاق الحفرة الشمالية ظهر بعد أريحا بقليل تجمع تل المريبط (عند شاطئ الفرات شرقي حلب)، وكذلك قرى في وادي الرافدين قبل حوالي سبعة آلاف سنة( ). ثم ظهرت القبيلة، والمشيخة، وإتحاد المشايخ، والمدينة، ودولة المدينة ثم أتحدث بعض دويلات المدن عن طريق الحروب والاحتلال من قبل الأقوى، إلى دول وإلى إمبراطوريات، تطور فيها النظام الاقتصادي السياسي من الاقطاع الذي دام آجيالاً طويلة الى الرأسمالية.

لقد دام الإقطاع في أوروبا نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة لم يحصل للمجتمع البشري خلالها أي تقدم. وذلك لأن الركود هو السمة الملازمة للمجتمع الزراعي الإقطاعي. ثم ولد النظام الرأسمالي من رحم النظام الإقطاعي في منتصف القرن السادس عشر الميلادي في أوروبا واليابان في وقت واحد تقريباً. وخلال الخمسة قرون الأخيرة حصل كل هذا التطور المذهل بسبب طبيعة النظام الرأسمالي الذي يعتمد على الربح وتراكم رأس المال. وهذا لا يمكن الحصول عليه إلا بالمنافسة وتشجيع الاختراعات العلمية والتكنولوجية، وحث العمال لزيادة الإنتاج؛ وهذا يتطلب منح الحقوق في مختلف المجالات. وهنا تتاح للديمقراطية فرصة الوجود بكل ما يعنيه ذلك من تعبير عن الأفضل في الحياة بما فيها " حق المعرفة"؛ وتجليات هذا الحق في خطاب المعرفة ونماذجها وتوفير آليات نقلها على وجه أسرع وأفضل وأشمل.
إن أزمات السنين الممتدة التي احتاجتها الأنظمة الإقتصادية – السياسية السابقة للانتقال من دور إلى آخر يليه لن يحتاجها نظام العولمة، لأسباب تتصل بتغيرات مذهلة حققها المجتمع الإنساني وتتوجت بظهور نظام العولمة؛ وتتمتع هذا النظام بقابليات حراك تفاعلية وتغييرية مدهشة، وامتلاكه تقنيات عالمية الفعالية وقوة التأثير. ولذا فإن أئمة العولمة وسدنتها لن يتلعثموا وهم يتلون بيان وعود العولمة، ولن يتأتوا وهم يشيرون إلى تراتبية الجدول الزمني لتحقيق هذه الوعود، ولن يترددوا عن الاستفاضة في تعدادها وتبيان محاسنها وأفضالها، وما تمثله من علامات فارقة لهذا النظام الاقتصادي – السياسي عمن سبقه من الأنظمة. وأن الوعود العولمية هي من التنوع بما يطال جميع جوانب حياة المجتمع البشري.

الوعود السياسية:
تكاد وقائع التطور التي حدثت إبان الثلاثين سنة الماضية أن تطال مختلف بلدان العالم. وان بعض هذا التطور وإن كان قد حدث بطيئاً وتدريجياً فإنه امتلك بقابلية تأثير إيجابية أحدثت تغييرات كبيرة لهذه المجتمعات أهّلتها لاكتساب شروط الانضمام إلى العالم الجديد وحمل سماته الواقعية والمتمناه، حتى عندما تلعب فيه أسطورة الهيام بالحياة دوراً رئيسياً، ويحظى فيه الثراء والرفاه والاستهلاك بمكانة مرموقة. وكذلك عندما يشير علم الجلوبالوجي "Globalogy" أي علم العولمة إلى أن مفهوم الاختراق ووسائله أصبح يعني: القنوات الفضائية والإلكترونيات والكمبيوترات والإنترنت ووسائل الاتصال الجديد، والعلوم الفيزيائية والجينية والبيئية والطبيعية والاجتماعية، وأدوات التغيير النسبية والتفكير النسبي، والتنبؤات التقنية والتكتلات الاقتصادية والثورة الموسوعية، و..... إلخ( ).
وأخذ يشدد منظّروا العولمة على أنه في هذا العالم الجديد ستعمل آليات عولمية متعددة ومعقدة على تحويل مدارك الإنسان من المفاهيم السياسية الأيديولوجية إلى المفاهيم الاقتصادية الكابيتالية. وسيتحول انقسام العالم من شرق – غرب إلى جنوب – شمال، وفق إملاءات التكتيلات التي يحدد ملامحها ويرسم هيئاتها جناة الربح المادي من برامج وخطط معلنة ومخفية، ومخصخصة جميعها، تضطلع بها ما يعرف باسم المنابر (Forums) الخاصة. ويستشف على هذا الصعيد انه سوف يسحق من لم يستطع اللحاق بكوكبة " القوى الحية " التي تعززها " المنابر " كأسياد مستبدين يبحثون دوماً عن المجالات الحيوية من خلال آليات لا تعترف بالحدود والكيانات والخصوصيات والوطنيات والتراثيات، لأنها تعمل بقوة قرار " الأسياد " ودون محاسبة أو قانون، أو... إلخ.
ويستشرف في الوجه الآخر من الصورة أن التوقعات السياسية من العولمة لا تتمتع إلا بضمانة قوة استبداد وبلطجة "القوى الحية". وهذا عامل مهم ولكنه ليس بكاف للإقناع بوعود سياسية في العالم الجديد، خصوصاً وان مفاهيم وآليات عمل "القوى الحية" مرشح بقوة وإلى أمد طويل قادم للاصطدام بالأيديولوجيات القانونية المنمّطة تاريخياً؛ وذلك لأن العولمة نقيض الدولة القومية، لأن همينة الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات مواقع متعددة ومختلفة في العالم دون منافس خصوصاً في الأمم المتحدة وهيئاتها المختصة فضلاً عن المنظمات الدولية الأخرى، كرس قانون "هيمنة القطب الواحد" وسيادته في العالم الجديد؛ وذلك بما عبّر عنه من أشكال فرض سياسات الولايات المتحدة الأمريكية على دول العالم وإجبار الدول ذات السيادة القومية المطلقة على التقييد بالتشريعات والقوانين التي كرسها الغرب. وزاد الطين بلة أن أشكال وصيغ معارضة الهيمنة الأمريكية باعتبارها تعبيراً عن ظاهرة العولمة، لم تقلّص من استمرار وتواصل التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية للحصون الاشتراكية او القلاع القومية أو الرباطات الوطنية. وحيث لم تتأثر القوة التدخلية الهيمنّية للسياسة الأمريكية بوصف الاشتراكيين والراديكاليين للعولمة بأنها "خدعة إمبريالية"، فهي لم تأبه لوصفها بـ "الإمبريالية الثقافية" من قبل الأصوليين والوطنيين والراديكاليين والتراثيين والخصوصيين عندما رأوها كونية استعمارية كاذبة لا تحترم الإنسان ولا تحافظ على جذوره وحضارته وموارده وتجاربه وثقافته؛ وتسعى إلى تهجين العالم وتجريده من خصوصياته، وفرض النموذج الغربي على سكان الأرض قاطبة.
تدعو العولمة إلى نمط من النظام السياسي الديمقراطي الذي يحقق الحرية والاستقرار والسلم واحترام الحقوق الأساسية والتعايش بين مختلف مكونات المجتمع المدني وشرائحه دون تمييز أو تقصير من أي نوع. ويُدعى النظام السياسي الذي تدعو له العولمة بـ "النظام الليبرالي الجديد". وتعتبر أهم مرتكزات عمل هذا النظام منظومة مبادئ حقوق الإنسان وما تشتمل عليه من تشريعات قانونية تكفل حق المواطنة وحقوق المواطن العادية للأقليات وللفئات المهشمة. وتفصل هذه المنظومة بين السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتضمن استقلالية كل واحدة منها عن الأخرى. وتنظم الجمعيات ومؤسسات العمل الأهلي. وتشجع إنشاء الأحزاب واستقطابها للطبقات وشرائحها المختلفة، والتنافس السلمي بينها في الانتخابات الديمقراطية التي تجري دورياً، وتكفل تداول السلطة سلمياً وبشكل هادئ من حزب سياسي لآخر وفق نتائج هذه الانتخابات، وفي ظل سيادة القانون واحترام هيبة المؤسسات والمواثيق الدستورية.
ويرى المفكرون في سياقات العولمة وعوداً ببدء مرحلة جديدة في السياسة تبدو تمثلاتها الأولية في المفاهيم الجديدة في علاقة الدولة بالأفراد والعلاقات بين الدول والشعوب، لا تؤدي بالضرورة إلى نشوب حروب وصراعات عسكرية، وإنما تحل الخلافات من خلال الترويض الاجتماعي والاستقطاب السياسي، وما يحقق ذلك من قابليات استيعاب تؤدي إلى التفاهم والتبادل والتساكن وفق قيم حسن الجوار والتسامح، واحترام سيادة الأوطان، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
ويشير فرانسيس فوكوباما المنظر الأيديولوجي للعولمة في كتابة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" إلى النموذج الليبرالي الديمقراطي التي تعدنا به العولمة، ويرى بأننا سنوؤل إليه في نهاية المطاف؛ وذلك باعتبار أن البشرية بأسرها تسير في تطورها إلى رفض كل النماذج الإيديولوجية الأخرى (مثل الاشتراكية مثلاُ)، وتسعى إلى تطبيق النمط الليبرالي في تنظيم الحياة السياسية. ويرجع تحديد هذه الايلولة الى جملة أسباب من أبرزها أن النموذج الليبرالي الديمقراطي يتمتع بالقيم المذكورة وما يتراكم عليها وما ينتج على أطرافها وحوافّها من قيم أخرى ينتجها تطور البشرية البطيء والتدريجي، وما تعززه من أشكال التلاحم والالتئام والتوافق.
إنها بداية ميلاد حقيقية لنموذج عالم أكثر عقلانية وشرعية وقدرة على توفير أمن الأفراد والمجموعات من سكانه على اختلاف (خصوصياتهم)، وعلى تحضيرهم لأن يجهزوا أنفسهم لعيش في ظلال السلام الشامل الوارفة. وتعزز الثقة بمثل هذه الوعود السياسية بروز إمكانية حل كل الصراعات والنزاعات بالطرق السلمية والتفاوض الدبلوماسي وفق القانون الدولي وقرارات ومقررات الشرعية الدولية التي تدعمه.

إن النموذج الليبرالي الديمقراطي الذي تعدنا به العولمة على الصعيد السياسي باعتباره النتاج الطبيعي في نهاية التاريخ، هو الإنسان الأخير في هذه النهاية الذي تأهل للاستمرار بها بكيفيات جديدة، وبمفاهيم جديدة وباتجاه أهداف أخرى غير مألوفة أو حتى معروفة. إن النمط الليبرالي الديمقراطي مختلف ونوعي لا يشابه من قبله ويجبّه حتى وهو يتشكل من كيفيات أيلولته، وذلك لأنه النهاية الطبيعية للتطور التاريخي والوجهة الحتمية لكل الدول والأمم، لأنها لن تجد بديلاً أفضل منه.
وتعد العولمة بالاهتمام الدائم بزيادة دور المجتمع المدني بما يؤهله أخيراً لبلوغ درجة العالمية، والاعتناء بالأفراد والمجموعات لتتأكد المواطنة العالمية، وتفكك عقد المفاهيم الخاصة بالأفراد من خلال الأخذ بالاعتبارات الخاصة بالجنس والسلالة، وتفهم دلالات ظهور حركة الحقوق المدنية.
وفي السياق نفسه تعد العولمة باستئصال شأفة الموارد السياسية التي تنبع منها مُنتجات الأنظمة: التوتاليتارية والفاشية والنازية، والأوليجاركية كآلية يمكن أن تظهر وتسود في كل منها، وذلك بطريقة ديمقراطية ومدنية شفافة.
وتقوم مفاعلات العولمة السياسية على هذا الصعيد انطلاقا من فرضية هي الأخرى عولمية سياسية تقول أن ضعف مكانة الحكومات عند المواطنين يقابله بشكل تلقائي زيادة فاعلية المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني التي أصبحت تشكل شبكة عالمية تتجاوز كل الحواجز. ومن هنا يأتي التداخل بين حقوق الإنسان والحريات العامة والعولمة، وبالتالي الاستقرار من عدمه في الدول.
إن مفهوم المجتمع المدني الحديث جاء وعداً سياسياً فعلياً من العولمة، يقوم كغيره من الأفكار السياسية الكبرى على دلالات وتوصيفات "أرسطو" المتصلة بهذا الخصوص، وذلك باعتبارها "تتكرر على الدوام عبر التاريخ". وينظر إليها المرء في كل مرة باعتبارها أفكار جديدة؛ وأن أحداً ما كان يعرفها من ذي قبل بشكل مختلف. وإن الاشتراكات والالتباسات التي تلاحظ في المفاهيم العامة حول المجتمع المدني تعود إلى أن الأوائل من المفكرون المعاصرين لم يتمكنوا من التمييز بين المجتمع المدني والدولة. لأن المجتمع المدني بالنسبة لهم كان نمطاً من أنماط الدولة التي تتميز بوجود عقد اجتماعي. وكان المجتمع المدني محكوماً بالقوانين، ويقوم على مبدأ المساواة أمام القانون.
وأما "هيغل" فرأى أن المجتمع المدني هو الفضاء الوسيط الفاصل بين العائلة والدولة، حيث يصبح الفرد شخصاً عاماً، ويستطيع من خلال انتمائه للمؤسسات المختلفة أن يقيم مصالحة بين العام والخاص.
وفي القرن العشرين فهم المجتمع المدني كمجال يشغل الخير خارج السوق والعائلة، وليس كمجال فاصل بين الدولة والعائلة، وقد عبر عن هذا المعنى بالنقاش الذي كان قائماً باحتدام بين الثقافي والأيديولوجي والسياسي، وبما يعني الموافقة أو الارتباط بين الأفراد في المجتمع بعقد، وبذلك كان التغيير في تعريف المجتمع المدني تعبيراً عن شتى الطرق المختلفة لتوليد الموافقة (كنوع من العقد الاجتماعي) في مختلف الفترات الزمنية.
وبمعنى آخر أن وعد المجتمع المدني أخذ يتحقق تدريجياً في سياق آلية منظورة الفعل تتعزز وهي تبلور أدائها التحققي بدءاً من الحالة التي يتفاوض من خلالها الأفراد ويتنافسون ويناضلون ضد بعضهم بعضاً، أو يتوافقون مع المراكز السياسية والاقتصادية في الدولة، فيستطيع الفرد من خلال الجمعيات التطوعية والحركات والأحزاب والإتحادات أن يعمل بصورة علنية.
وقد مثلت "الحقوق المدنية" التي تدشنت بها الحقبة الحالية بما تعنيه فكرة "التحرر من الخوف" كإطار لها، الصورة الأسطع لمفهوم جديد في الكفاحية، مختلف في أسلوبه وفي الدعوة له، وفي موقعه العلاقاتي مع المهام الأخرى عن مفاهيم كفاح الأحزاب السياسية في المرحلة السابقة. من هنا كان المجتمع المدني مختلفاً عن الصور السابقة، حيث أخذت في صورته الجديدة تحل القوانين محل الأوامر والتعليمات الإكراهية بالقوة والاعتقال العشوائي. ثم أخذت المسألة تتدرج حتى أصبحت تتعلق بالحقوق السياسية، وأصبح الناشطون في المجتمع المدني ينتمون طبقياً إلى البورجوازية الصغيرة والفئات الوسطى ثم البورجوازية الصاعدة. وأخذت فكرة المجتمع المدني تكتسب ملامح تأهل لبعد كوني تظهر في مواصفاته جزر العلاقات المدنية من خلال الروابط التي تنشأ بين المجموعات المتماثلة فكرياً في البلدان المختلفة. فقد دعمت مجموعات حقوق الإنسان في أمريكا الشمالية شعوب أمريكا اللاتينية. وأقام الأوروبيون الشرقيون روابط تجمعهم مع حركات وقوى السلام ومجموعات حقوق الإنسان في بلدان أوروبا الغربية الذين دعموا مادياً وروجوا لقضايا هذه الحركات والمجموعات والجماعات، ومارسوا ضغوطاً مختلفة على مؤسسات وحكومات البلدان الأوروبية الشرقية تضامناً مع هذه المجموعات ومطالبها. ومن جانب آخر فقد ساعد في نمو العلاقات المدنية، ظهور التشريعات المتعلقة بحقوق الإنسان في العالم وتشكيل أطر للدفاع عنها، أخذت حكومات دول العالم، مما أمكن استخدامها كورقة ضغط على الحكومات. وكانت هذه المسألة بالغة الأهمية في أمريكا اللاتينية. وكان اتفاق هلسنكي سنة 1975م ثمرة مباشرة لذلك أيضاً، وقد لعب دوراً رئيسياً في تطوير مفهوم حقوق الإنسان في بلدان أوروبا الشرقية إلى حدّ أن حكوماتها أطلقت على ذلك الميثاق إسم "تيار تقاليد الحقوق الإنسانية".
وقد أتاحت الروابط الدولية ومطالبات حكومات العالم بتنفيذ واجباتها في مجال توسيع هذه الحقوق واحترامها، فرصاً كبيرة وهامة أمام المنظمات غير الحكومية لخلق "فضاء سياسي" لهذا البعد الدولي أشمل من مفهوم القومية الجديد للمجتمع المدني. وقد أثمر الحراك بشأن هذه المسألة أخيراً ظهور مفكرين جدد تصدّوا للمفكرين المحافظين والتقليديين من كلا المعسكرين الشرقي والغربي، وأسسوا لمفاهيم معرفة جديدة نشأت وتبلورت بسرعة في بلدان أوروبا الشرقية. وقد جاء في سياقها صدور كتاب المفكر المجري جورج كونراد الذي حمل عنوان "ضد السياسة" في سنة 1982م. كما تحدث في السياق نفسه الكاتب التشيكي فاتسلاف هافل عن "الحضارة العولمية الثقافية"، وكانت هنالك مواقف أخرى لأسماء أخرى كبيرة في بلدان أوروبا الشرقية، شكل تضافرها التأثيري إلى انهيار الإتحاد السوفيتي وسقوط منظومة البلدان الاشتراكية في أوروبا الشرقية سنة 1989م.
وكانت النتيجة الصاعقة لهذا الحدث المدوي ظهور تغيرات كثيرة تجاوزت الحدود الجغرافية لمساحة الانهيار، فشملت أجزاء واسعة من العالم، لا زال بعضها يعاني من هول نتائج تلك الصدمة حتى اليوم. وقد أحدث ذلك الانهيار تأثيرات كبرى على مفهوم المجتمع المدني أيضاً، فقد أصبح لمفهومه معنى أوسع تطبيقياً من ذي قبل،وذلك عندما تبنى "مصطلح المجتمع المدني" جميع المركبات الاجتماعية الجديدة في كل دول العالم، بما في ذلك تلك التي تتبلور في الدول وهي في لحظة انشغالها بالمهام الجديدة التي اضطلعت بها، مثل: "السلام، حقوق المرأة والطفل، البيئة، حقوق الإنسان، أنماط الاحتجاج الجديدة، و... إلخ، وقد أصبح "مصطلح المجتمع المدني" تعبيراً سياسياً عن هذه "الحركات الاجتماعية الجديدة غير المتحزّبة سياسياً، وساعد ذلك على تشجيع النشطاء المهماتيين في تصعيد كفاحهم وتوسيع حراكهم التشاركي، وفي بلورة تجمعاتهم ضمن مجموعات وقوى مؤثرة انتدبت نفسها للقيام بهذه المهام، كما برزت "حركة الناشطين عبر العالم" بعد أن وجدت مهام ذات جذب استقطابي من كل العالم، مثل: "الألغام وحقوق الإنسان "و" والتغير المناخي ومرض الأيدز "و" خطر التصحر"، وغيرها. وقدمت القوى الجديدة دعماً واسعاً للأنشطة في هذه المجالات وكل ما يتصل بها من فعاليات متخصصة أو عامة، وخاصة في المجال الإنساني.
وللأسباب والدوافع نفسها نشأت منظمات جديدة تتبنّى "مفهوم النظام الإنساني" ولكن ليس بهدف دعم المنظمات غير الحكومية التي نشأت سابقاً كتعبير عن العولمة، وإنما في مواجهة العولمة إنطلاقاً من مفهوم "النظام الإنساني" أيضاً.
وجاء في تسعينات القرن الماضي الدور النشط للمؤسسات العالمية المدعوم بمشاركة الحكومات الغربية لتبني مصطلح المجتمع المجني، حتى أصبح يمثل جزءاً من الأجندة السياسية الجديدة " التي تتأسس على ما أخذ يعرّف العمليات بالحاكمية العالمية الجديدة Global Governing. وقد مكن ذلك من صوغ آلية لتسهيل الاصطلاحات داخل السوق، وإدخال الديمقراطية البرلمانية. وقد أسست إشاعه تبني هذه المصطلحات إلى تدجين الحركات الاجتماعية بما في ذلك الجديدة منها في إطار "مفهوم العالمية". وتحولت تدريجياً إلى ما يجعلها تتماثل مع مواصفات " الأطراف المعنية " التي هي بمثابة المسمى الثاني للمنظمات غير الحكومية.
وتشكل في إطار المضمون الجديد لمفهوم المجتمع المجني"منظمات عرقية" و"منظمات دينية" خلال العشرين سنة الأخيرة تعارض مفهوم العولمة، ولكنها لا تبتعد عن قيمها المعيارية لأنها تمثل جزءاً من المجتمع المدني العالمي. وهذا يعني أن مفهوم المجتمع المدني أخذ يتمتع بمواصفات تؤهله لأن يسمى "نسخة ما بعد الحداثة" باعتبارها "البعد الثالث" لهذا المفهوم بعد بُعدي "المصطلح" و "والمؤسسات العالمية" لمفهوم المجتمع المدني العالمي.
ويرى بعض المفكرين المحافظين أن أبرز وعود العولمة السياسية سيظل في مرحلة الشك لأنه لا يلحظ المتمثل في "خطر الخراب" وآثاره وانعكاسات حدوثه، خصوصاً وهو يطرح الآن خطراً على الصعيد الأخلاقي والفلسفي للنظام السائد في عالم اليوم؛ ويقودنا إلى خراب المجتمعات وأنظمة الطبيعة البيئية، وكذلك إلى خراب الشعوب اجتماعياً وإيكولوجياً وسياسياً واقتصادياً. كما يقود الشعوب إلى التحلل والانهيار.
وقد تتحول الموارد الطبيعية إلى سلع تعرض في السوق، عن طريق اغتصاب مسوؤلية الحكم بانتقال سلطة اتخاذ القرار إلى أيدي مؤسسات عالمية، وانتقال الحقوق من يد الشعوب إلى يد الشركات العملاقة من خلال زيادة مركزية الدولة وزيادة عدم إمكانية إخضاعها للمسائلة عملاً بمفهوم " الحق الإلهي في السيادة ". ولكن هذا سيؤدي إلى الإفلاس السياسي، وإلى ظهور التكتلات، وإلى بروز الأحلاف غير الديمقراطية، وبدلاً من الانصياع إلى مذهب الثقة الشعبية ومبادئ المسائلة والتبعية الديمقراطية. تجد أن أطر القيادة العولمية تقود الحكومات إلى اغتصاب السلطة من البرلمانات والحكم المحلي وحكام الأقاليم وقادة المجتمعات المحلية فتبدو مفاهيم الحكم الجديدة وكأنها قد أفلست فوجد أربابها في العودة. إلى مفاهيم الحكم القديمة خلاصاً ومنقذاً.
ويصب في خدمة هذا الهدف، حرص الاتفاقيات الدولية المختلفة في زمن العولمة على تمكين الحكومات من إختطاف حقوق التنوع البيولوجي وحق المعرفة من بين أيدي المؤسسات المحلية وتسليمها إلى الشركات الضخمة كإمتيازات إحتكارية. وأما في مجال الزراعة فتمنح الإتفاقيات حقوقاً مطلقة للشركات الضخمة في إتخاذ القرارات واعتماد السياسات الزراعية دون إشراك المنتجين الزراعيين في ذلك. كما ان اتفاقية GAT تجيز الإستيلاء على سلطة إتخاذ القرار، وحق انتزاع الملكية من القطاع العام والمحلي لصالح القطاع الخاص والعولمي؛ وذلك برغم ما أسفرت عنه عملية الخصخصة وإلغاء الضوابط التي تجري بشكل غير ديمقراطي من فساد فاضح وإفلاس إقتصادي وسياسي سافرين.
وإذ كانت النتائج المتوقعة لمثل هذه السياسات في المجالات المختلفة على المدى البعيد ستكون تنموية واعدة، فإنها في الواقع المعاش وإستثنائياته (العزل، ممارسة أشكال التمييز المختلفة، التجويع بجميع الوسائل، التضييق على الحريات العامة والخاصة بما فيها الصحافية أيضاً، و.... إلخ) التي تقتضيها متطلبات مواجهة الإرهاب الدولي، هي تمحيلية (من مَحْل) إحباطية ومرعبة. وترى شعوب العالم هذه الصورة وتتخوف من تمددها وإستدامتها، وهي لذلك أسست وانخرطت بحماس شديد في تحركات مناهضة العولمة، وفي تأسيس الحركات الإجتماعية الجديدة، بما فيها "حركة ديمقراطية المعيشة"( ) التي تهدف إلى إستعادة كل انواع الحرية التي لا تقبل التجزئة وإعادة تحليقها. وسيكون النضال في سبيل هذا الهدف من خلال الرد على التحدي المفروض على شعوب الجنوب تحديداً في مواجهتها للأغلاق المزدوج الذي تصنعه عولمة الشركات والدولة العسكرية البوليسية وكل ما تمتلكه من وسائل يمكن استخدامها على هذا السبيل بما في ذلك الفاشية الإقتصادية المدعومة بالفاشية السياسية.
إن النضال المثابر ضد هذا النمط من تجليات العولمة السياسية بقدر ما هو إنفاذ للحقوق هو حماية لوعد العولمة بنهاية التاريخ وقيام النظام الليبرالي الجديد الأوحد.

الوعود الاقتصادية
يتصف النظام السياسي – الاقتصادي السائد في رحاب العولمة في عالم اليوم باقتدار كبير على عدد من التمكنات ذات الأثر والتأثير في جوانب حياة الناس المختلفة لتكتسب الأهليات والقابليات المطلوب توفرها في مواطن النظام الليبرالي الجديد الأوحد. ويبدو للوهلة الأولى في هيئة هذا النظام وفي ملامح الصورة التي سيؤول إليها، كما يراها مواطنوا الجنوب: إشارات ظلم قاس، ومؤشرات إلى عدم قابلية للإستدامة، وأطياف استلاب في لبوس تكافئ، وسعة حرية تقترب من القمع المكتوم، وأشكال مساواة رجراجة بمقياس الجشع والسطو، وطغيان جارف بمعدلات غير مسبوقة ولم تشهد مثلها المجتمعات البشرية من ذي قبل. ويرى هناك على الضفة الأخرى المقابلة بتأشير الحرية والرفاه وكل تمتعات المساواة والحقوق وإحترام الخصوصيات تتأطر في حلم "نهاية التاريخ" وفي وعد "نموذج الليبرالية الجديدة" التي تجزم أنه قد صار في كل مكان في عالم اليوم كل هذه الأشياء او مثلها أو بعضها الأكثر على الصعيد الاقتصادي:
إقتناص الأرباح بسرعة الضوء، الإثراء السريع لأفراد الدول، والقدرة على جني مائة مليون دولار في الدقيقة من وراء المضاربة في البورصة، أو المراهنة على الأوراق المالية بزيادة قيمة الأسهم بشكل مذهل وغير متوقع.
هذا ما يتداوله إنسان اليوم في كل مكان في العالم، بغض النظر عن نصيبه المباشر أم غير المباشر من كل هذا الثراء واستحقاقاته من اوجه رفاه في المجالات الاجتماعية والتعليمية والصحية والخدماتية، ولذلك فقد أصبح إنسان اليوم بسبب ذلك على جهوزية عالية للانحياز إلى اختيار أسلوب الحياة الذي يحقق مثل ذلك أو ما يشبهه بنسبة أو بأخرى. أي بمعنى آخر أختيار الأسلوب الذي يمكن الإنسان من الحصول على كل شيء، وخاصة منتوجات الحداثة المكرسة للاستهلاك ( سيارة، فيلا، كمبيوتر وتجهيزات الإنترنت، هاتف خليوي، لاقط لإرسال الفضائيات التلفزيوني، مراسلة الإشارات اللاسلكية، وكل الخدمات التي يمكن الحصول عليها عن طريق الديجيتال، و..... ألخ )، وبمعنى أكثر وضوحاً اختيار أسلوب الحياة التي تعد بها العولمة الاقتصادية وتكامليتها مع العولمة التكنولوجية ومخرجاتهما التفاعلية من أشكال العولمة الأخرى.
وتزداد نسبة الحسم لصالح هذا الاختيار رغم كل ما يحكى عن مثالب العولمة عندما تعرف بأن من بين ما تعدنا به هو أن مفهوم الحرية الاقتصادية ستكون بديلاً للحرية السياسية، وذلك بكل ما يعنيه وكل ما يمكن التعرف عليه أو فهمه من خلال دلالات إتاحة كل الفرص لفتح السوق أمام البضائع الأجنبية، وتسهيل عملية التصدير والاستيراد من خلال إزالة القيود الجمركية وتحرير انتقال رؤوس الأموال؛ وذلك وفق ما يحقق مبدأ حرية انتقال الأفراد والناس من وإلى أي مكان في العالم بدون أي رقابة أو منع. وفي هذا السياق يمكن فهم أهداف المعاني العميقة لتركيز أيديولوجية العولمة على ضرورة رفع القيود عن رؤوس الأموال وتحرير التجارة العالمية، وتمكين الأموال المدخرة في البنوك من وجود واحة آمنة تلجأ إليها عند هربها من دفع الضرائب، وتستخدمها في تحقيق رغبتها بالحصول على أعلى الأرباح واوفر العائدات.
وبغض النظر عن كل ما يسجل من عيوب على ذلك وما يوصف به من مباذل، فإن كل الأمم ستكسب بفضل الانتقال السريع للأموال والبضائع وتقنيات الإنتاج غير المحدودة، وستنال الشعوب كذلك بفضل مفاعيل العلاقات الإنتاجية الجديدة التي ستنشأ عن ذلك قدراً كبيراً من المعارف الجديدة والثقافة المعبرة عنها، وكذلك بكل ما تُظهّر عليه هذه الثقافة من مظاهر الرفاهة والسعادة الاستهلاكية الموعودة.
إن القيم التي تنتجها مفاعيل حركية العولمة في اتجاهاتها المختلفة ومجالاتها المتعددة تؤسس لقيم اعتقادية ترى في العولمة إنتصاراً للجميع عندما تؤدي إلى ارتفاع: عائدات الدول، وأرباح المؤسسات، وأجور العمال؛ وبالتالي زيادة الناتج العام، وازدياد قيمة الدخل الفردي وتحسن القدرة الشرائية للأفراد، وتسارع دوران الحركة الاقتصادية وما ينتج عن ذلك من تفاعلات تأثير ذات قدرة على فرز انماط رخاء وأشكال تقدم.
ولأن آليات الحركة الاقتصادية في معطيات الوضع الجديد تكتسب مفاعيل تجميع كانت غير ممكنة في العصر القديم، قادرة على صهر العدد الهائل من الاقتصاديات القروية والوطنية في اقتصاد عالمي شمولي واحد، كما يحدث اليوم في العصر الجديد؛ فإن هذا سيساعد بالطبع على دفع اقتصاديات شعوب الجنوب خطوات إلى الأمام نحو التقدم، لا سيما وانه وفق آليات الاقتصاد الجديد ستدعم اقتصاديات دول الجنوب بالقروض الاستثمارية والتنموية. وهذا سيمكن العولمة من وعد الدول النامية بالثراء والتقدم،وتقريب المستويات المعيشية بين الطبقات في كل دولة وبين دولة وأخرى، وبالتالي تضييف الهوة الفاصلة بين الشمال والجنوب وبين المركز والمحيط.
وإذ تعد العولمة على الصعيد الاقتصادي بمجتمع الوفرة ودولة الرفاه، فإنها دعت الدول إلى اعتماد "النظرية النقدية" في الاقتصاد التي طرحها المنظر الاقتصادية للعولمة فون هايك في مؤلفه "الطريق إلى العبودية" وأيده في ذلك زميله ميلتون فريدمان المنظّر الإقتصادي للعولمة أيضاً، والتي جعلت "الليبرالية والتحرير والخصوصية وسائل إستراتيجية ثلاث ينبغي على الدولة إتباعها كمسالك أيديولوجية لتحقيق سياسة اقتصادية ناجعة تؤدي إلى مجتمع الوفرة ودولة الرفاه". ووفق هذه النظرية الاقتصادية العولمية فإن على الحكومة الاضطلاع دائماً بمهمة تحرير الأسواق ورؤوس الأموال والاقتصاد، وإعادة هيكلية المؤسسات؛ لأنه كلما تمتعت المشاريع بحرية أوسع في الاستثمار، واستخدمت اليد العاملة ذات الكفاءة، واستعملت مواد أولية زهيدة التكاليف، كان النمو أكبر والربح أكثر، فيتحقق بذلك مستوى أعلى للجميع.
وتعد العولمة الاقتصادية بحماية المجتمع من الأزمة المالية التي شهدتها الدول في حقبات مختلفة، والتي كان من أخطرها الأزمة المالية سنة 1929م، وبمعالجة نتائج الأزمات بكفاءة تخفف من حدة آثارها ومن شدة الآم وطأتها على البشرية.
وترى نظريات اقتصاد العولمة إن ذلك ممكناً عبر دفع الدول للتخلي تدريجياً عن اعتقادها بـ "النظرية الكنزية" الاقتصادية التي ظلت سائدة طيلة العقود السبعة الأولى من القرن الماضي والتي تقوم على "رفع الحكومة إلى مستوى المستثمر المالي الرئيسي في الاقتصاد الوطني والتدخل عبر التخطيط وبرمجة الموازنة المالية في النشاطات الاقتصادية بغية تصحيح حالات الركود والبطالة التي أفرزها السوق، والقضاء على الانكماش والتضخم". ووفق هذه النظرية فإن الحكومة إذا أراد "التخلص من التضخم قبل وقوعه" عندما يكون حجم النشاط الاقتصادي متفوقاً على حجم الطاقات الإنتاجية المتاحة، فإنه يجب على الحكومة استخدام الإيرادات الضريبية لتسديد ما ترتب عليها من ديون أنفقتها في تمويل المشاريع الاستثمارية التي واجهت بها حالة الركود. وفي ضوء ذلك يمكن فهم بعض المظاهر الأقتصادية التي أمكن استشراف وقوعها واستمرار آثارها حتى أواخر سبعينات القرن الماض. ويمكن في الوقت نفسه معرفة الأسباب التي دعت بعض الدول إلى دعم الصناعات التي تضمن تحقيق نمو اقتصادي سريع، وتزيد من الطلب على اليد العاملة.
لقد أحدثت تلك الطرائق نتائج إيجابية مهمة ولكنها كانت ظرفية ومؤقتة، وقد منيت بفشل ذريع أخيراً، وأثيرت حولها الشكوك بفعل ارتفاع أسعار النفط في السبعينات وعدم تمكن الحكومات من السيطرة على العجز في الميزانية، والتحكم في التضخم. كما أن أسعار العملات لم تحافظ على استمرار قيمتها المعهودة في سوق الصرف، وأصبح الإفقار هاجساً ترتعد من نتائجه فرائص دول الشمال الصناعية الكبرى فكيف بالأمر في دول الجنوب، واخذ ينذر بقدوم وشيك واسع. وقد عجلت نذر هذا الخطر في الإسراع باستيعاب المفاهيم الاقتصادية العولمية الجديدة باعتبارها حبل نجاة من غرق الشعوب في خطر الفقر والمجاعة.
كانت "النظرية النقدية" هي مفتاح السحر الذي ولجت به العولمة بوابة تجاوز الفقر على النطاق الكوني، عندما دعت إلى رفع القيود عن رؤوس الأموال، وحررت التجارة العالية ووفرت للأموال المدخرة مسارب تهرب من دفع الضرائب، ومسالك وصول لتحقيق أعلى الأرباح وأفضل العائدات. وظهرت النتائج المترتبة على هجرة الأموال، واعتماد القروض الاستثمارية مشجعة؛ لأن انتقال رؤوس الأموال من البلدان الغنية إلى البلدان الأخرى المحتاجة بهدف الإقراض حققت للمستثمرين فرصاً لجني أرباح كبيرة، كما وفرت للمقترضين فرص عمل كثيرة وتطور اقتصادي مرموق. وبفضل ذلك كسبت الأمم وستظل تكسب تقنيات الإنتاج غير المحدود. وستسكب كل الدول الربح والثراء وستحقق قدراً من الرفاه والسعادة الاستهلاكية الموعودة. وستتأهل الدول بمعارف اقتصادية تمكنها من وضع حد للأزمات الاقتصادية المتوقعة قبل حدوثها، وكذلك بالقدرة على حل الأزمات المالية والاقتصادية حال وقوعها. وقد أثبتت معطيات الواقع صحة ذلك عندما حدثت الأمة المالية العالمية سنة 2009م، حيث أمك التعامل معها بسرعى قياسية، تركزت في البداية على وقف الإنهيارات الناجمة عن الأزمة ثم الشروع قي معالجة جوانبها المختلفة وفق الأهمية ودرجة مثولية الخطر. وكانت النجاخات كبيرة وقد فاقت التوقعات.

الوعود الثقافية
شهد الربع الأخير من القرن الماضي إقترابات فكرية تدريجية بين شعوب بلدان العالم في كل المجالات التي تتصل بجوانب حياتها المختلفة، بفعل التطور التقني لوسائل الاتصال، وتزايد قدرتها التوصيلية، وتعدد كيفيات هذه القدرة. ولأول مرة في التاريخ البشري أصبح بمقدور هذا العدد الهائل من الناس أن يكون على علم بما يجري في جميع أرجاء المعمورة من وقائع وتغييرات وأفكار ومعلومات، وذلك بفضل هذا العدد الهائل من جسور الاتصال التي أصبح يمتلكها الناس.
وأدى هذا الأمر في عالم اليوم إلى ظهور تراسل وتبادل للمعلومات، والى قيام تفاهم بين الشعوب لا مثيل له في السابق، أخذ يتشكل بتلقائية متسارعة ولكنها منضبطة أي أنه أصبح هنالك "وحدة تخيّل" واحدة للنوع البشري. وبدأت مفاعيل تأثير تشكل "الكونيّة الثقافية" التي أخذت تتظهّر وتتجلى في الفعاليات العالمية: مهرجانات، الشباب، والموسيقى، والأغاني، والفنون، ومسابقات ملكات جمال العالم، وتقليعات الموضة، والأزياء، والمباريات الرياضية الأولمبية والدولية، وكذلك مهرجانات الشعر العالمي التي أخذت تتبارز على إقامتها دول الشمال ودول الجنوب أيضاً.
وتكونت خلال فترة وجيزة بفعل التطور التقني المذهل والمتسارع لوسائل الاتصالات، "ثقافة عالمية" واحدة استطاعت أن تهيمن على كل الثقافات المحلية والوطنية، وقد أدى ذلك إلى اندثار قيم العزلة والانغلاق والتعصب، وإلى ازدهار قيم ومعارف الانفتاح والتواصل والتحاور والتحضر. وبرزت دول المركز كقوة عظمى في الثقافة الكونية مثلما كانت عليه في جوانب العولمة الأخرى. العسكرية والاقتصادية وخلافهما. فتبوأت هذه الدول مكان الصدارة في تصدير منتجات اللهو والتسلية المختلفة، وكذلك الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، وأقراص تسجيل الموسيقى والغناء. وحاولت دول المركز عن طريق ذلك تقديم براهين او إيراد إثباتات على صدق ما تعد به العولمة على الصعيد الثقافي، خصوصاً لجهة التحرر من الولاء لثقافة ضيقة ومتعصبة؛ والانتماء إلى ثقافة عالمية واسعة ورحبة حتى عندما توحّد لأنه يتساوى فيها الناس جميعاً، وتُحرر من التعصب لأيديولوجيا معينة، بالانفتاح على مختلف الأفكار والآراء من دون أي تعصب أو تشنج أو تحيز مسبق لأمة أو لدين أو لأيديولوجيا بعينها. أي بمعنى آخر الانتماء إلى الثقافة التي تنتجها صيغ تفاعل عقلانية العلم وحيادية التقانه.
إن دور الثقافة المحلية والوطنية في عصر العولمة يتركز في المساهمة في عملية تكوين الثقافة الكونية، وهذه الإمكانية متاحة بكل حرية في مفهوم العولمة. ولذا بغدو الفرق بين الثقافات هو فرق في المستوى الذي حققته كل ثقافة ومدى تأهلها للتفاعل والتأثير والتوحد الإيجابي لتقتدر على أن تكون واحدة من مكونات الثقافة الكونية.
إن البون شاسع بين إمكانيات وقابليات وتأهيلات الثقافات المحلية في دول الشمال ومثيلاتها في دول الجنوب. وحيث ان السمة العامة لثقافة العولمة محكومة بتأثير الثقافات الأقوى والأكثر تنوعاً ومعاصرة وتقانية، ولكن ذلك لا يعني أبداً أن "العجف" سيكون السمة الرئيسة للثقافة الكونية، لأن المنبت لثقافة التقائية العولمية" جذر إنساني وجداني شفاف يعكس التجربة الإنسانية الحياتية للناس بعذاباتها وآلامها وحرماناتها في مرحلة أو مراحل وبإفراطها ومتعها وجمالياتها في مرحلة أو مراحل أخرى. وستزداد مسوحها الإنسانية عذوبة ودفئ جمالية من تأثيرات اتصالها التلاقحي مع ثقافات الجنوب وما فيها من طقوس رومانسية وأجواء حلم ومناخات خيال ستؤنسن نتائجها الإبداعي حتى عندما تكون عناصرها وموضوعاتها مباشرة وتقانية.
إن ثقافة العولمة ستتناول جوانب حياة الإنسان في تطوراتها المختلفة وستكون كما هو ديدن الثقافة دائماً في كل المراحل التي مرت بها البشرية، تعبر عن راهنيتها بأدوات الواقع وإسترجاعياتها الماضياويه وكذلك بإستشرافاتها المستقبلية.
لا يستطع احد أن يجادل في حقيقة أن العالم ينفتح بعضه على بعض بقوة دفع مبرمجة وفق خطة ومن اجل هدف عند بعض دول الشمال، وكذلك بقوة تأثير مُدرك، بغض النظر عن إمكانية رفض أو قبول تلقيه عند دول "مجموعة الـ 77" أو ما اصطلح على تسميته منذ ستينات القرن الماضي بـ "الدول النامية؛ وايضاً بواقع ترحيب وتلهف من دول أخرى بغض النظر عن أهداف الدول الذي تقف وراءه، وبغض النظر عن دوافع ذلك وأبعاده. وأصبح واقع الانفتاح وتأثيرات تفاعل الاتصال والتواصل الناتجة عنه بمثابة حقائق معرفية متداولة على الصعيد الكوني. وعندما تعرف إنسان العصر على قابليات التحول المتوقعة للأشياء التي أخذت جميعها تُسلّع (أو ينظر إليها هكذا على الأقل)، وعندما أخذت تتأكد توقعاته في "ازدياد سرعة النقل والموصلات" و "توسّع السوق" و "تكسر الحواجز أمام انتقال السلع والخدمات والأشخاص والأفكار والمعلومات"، ترسمت هذه الحقائق المعرفية على اعتبار أنها "ثقافة عولمية"، وأنها آخذة بالتطور والتوحد والأتساع بفعل التطور المذهل في التكنولوجيا التي أصبحت واحدة من مكونات " ثقافة العولمة "( ).
صحيح أن بعض الظواهر العولمية في الثقافة يصعب فهمها من قبل بعض الشعوب لأسباب تتصل جميعها بما يمكن تسميته "التخلف الثقافي"، ولكن "الإستعصاب" حتى عندما يعبر عنه من قبل هذه الشعوب باستنكار هذه الظواهر أو حتى إدانتها ورفضها بناء على "إستنادات دينية أو عاداتية"، فإنه لا يسلّح أياً من هذه الشعوب بقابلية تطبيقية لرفض او لمنع الاستفادة من "أشياء "العولمة الثقافية الأخرى التي تتكدس في أسواقه وتلاحق إنسانه كظله كيفا توجه وإينما توقف. وقد أجاز هذا الواقع لأي أحد أن يتسائل عن أي نوع من الناس في عالم اليوم لا "يستفيد" مباشرة أو بشكل غير مباشر من "أشياء السوق" العولمية التي لا يوجد غيرها في التناول والتداول؟! ثم أي نوع من "الأوادم" هم أولئك الذين يبحثون عن موانع أصولية لمقاطعتها والاستعاضة عنها ببدائل لم تعد ممكنة مهما بلغت مديات خيالهم في تصورها، وقدراتهم البلاغية في صوغها والتبشير بها ؟!. ثم لماذا الاعتراضات على التلفزيون والإنترنت والفضائيات والتليفون والسيليولر والكمبيوتر والبرامج على اختلاف استعمالاتها في مجالات الحياة بما فيها الصحية والتعليمية والتوعوية و.... إلخ، والأفلام ووسائل الترفيه والمواصلات والملبوسات والمأكولات ( الهامبرغر والكوكاكولا.... إلخ )، وهذا النوع من العلاقات الأسرية والاجتماعية، ودلالات العمل السياسي وأشكال ممارساته عندما تعززه مساهمات مؤسسات المجتمع المدني؟!
ان المعضلة الفعلية عند "غير الواثقين بوعود العولمة الثقافية" وعند أولئك "الذين يعارضونها ولا يعرفون عن الاستفادة من أشياءها" و "المناهضين لثقافة العولمة" هي أنهم لم يدركوا بعد لأسباب تخصهم أنه لا يمكن إنتاج "ثقافة المعاصرة "بمفاهيم وآليات" "ثقافة الماضي"، ولا يمكن التعبير عن ثقافة العصر بلغة التعبير عن "ثقافة العصر الذي مضى".
إن التخوف من الهيمنة الثقافية في عصر العولمة مبرر، ويجب أن لا يستبعد "التبعية الثقافية" كأحد التأويلات الكثيرة للهيمنة، إضافة إلى "الإستلاب الثقافي" و "الحظر على الهوية الثقافية". وإن الولايات المتحدة الأمريكية كما هي قوة عظمى في السلاح والاقتصاد والسياسة، هي قوة عظمى أيضاً في امتلاك وإنتاج وتصدير الأنواع الثقافية المختلفة وتقانياتها الدائمة التطور إلى جميع دول العالم. لذا فمن المنطقي أن تظهر وكأنها آية في الهيمنة الثقافية على العالم، لا سيما وأنها كما استطاعت أن تغزو الفضاء الخارجي وتسجيل أسبقية في ذلك المجال عبر وكالة أنسا للأبحاث الفضائية (ANSA)؛ فهي قد نشرت ثقافتها في الأرض بفضل إقبال شعوب العالم الاستهلاكي على موسيقى البوب والروك وأفلام هوليود، وكذلك بفضل تصديق هذه الشعوب لما تبثه قناة (CXIN) التلفزيونية الفضائية من آراء وأفكار ومفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية و....إلخ.
وهكذا لم يعد هناك ما يستهويه وجدان إنسان دول الجنوب (بما فيها الشرق أوسطية) غير ما يرغب فيه المواطن الغربي ويمتلكه. وأكثر من ذلك فقد يتطلع هذا الإنسان للحصول على السعادة الرأسمالية ومتطلباتها ومكوناتها التجهيزاتية باعتبارها أحد مظاهر الرقي الاجتماعي والتعبير عن بلوغ الثروة والقوة والحرية الشخصية.
ويمكن ان يرى في هذا الواقع صورة أخرى مغايرة ومختلفة هي "تعاسة الرأسمالية" التي لا تستبعد أن تعيد العولمة الإنسان إلى التوحش والتغوّل، وإلى الحد الذي لا يستطع فيه الإنسان أن يثق في أي خير يصيبه من نعماء سوق رأس المال عابر الحدود، ولا يمكنه أن يتخيله تعبيراً لمصدر الرفاهية العالمية وحديقة ثقافتها الكونية.
ولا تستطيع كل التفاهمات والمواثيق والاتفاقيات الدولية الرضائية بين الدول في عصر العولمة ان تقدم ضمانة موحدة النص لكل الدول بأنها ستحقق الرفاهية بقدر متساو أو شبه متساو مع بعضها، ووعداً أزلياً بأن ثقافتها الوطنية لن تواجه " خطر الانمحاء " وستبقى تعبير هوية عن شعبها. وإن مثل هذا الأمر لا يعكس عدم صدقية العولمة في وعدها الثقافي،وذلك لأن العولمة حتى عندما تبدوا وكأنها تحبذ الإنمحاءات فإنها تستحث على المشاركة وتستنهض الثقافات الوطنية للبحث عن دور تشاركي لها في ثقافة العولمة لكي لا تفقد العولمة مفهوم " التعددية " باعتبارها أحد عناصر بناءها الكياني واحد جوانبها العقدية والأيديولوجية.
إن السعي نحو التنافس كطريق يؤدي إلى المشاركة في الثقافة العولمية، واحد شروط الديمومة ومقاومة خطر الانمحاء، لن يوصل إلى محطة السلامة، وربما سيؤدي إلى الهلاك، وذلك لأن التكافؤ في موازين القوى بين الثقافات غير ممكن؛ والرحجان طاغ دائماً لصالح الثقافات العظمى ولا يسمح لمجرد نقاش كوني حول ضرورة التوافق على "الاستثناء الثقافي"؛ برغم ما يمكن أن يستقطبه مثل هذا الطرح من قبول ليس من لدن بلدان الجنوب بل من البلدان المشاركة الرئيسة في العولمة كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها.
وفي هذا السياق لا يمكن أن يلحظ في استنتاجات الدراسات المعمقة لقضايا ثقافة العولمة أية وعود جدية تطمئن على مصير الهوية الثقافية أو تحترم مفهوم "الاستقلال الثقافي باعتباره وسيلة حماية للثقافة الوطنية".
إن استنتاجات هذه الدراسات وهي تؤشر بشكل واضح إلى انتفاء هذه الإمكانية، إلا أنها تشي بوجود إمكانية "التنوع الثقافي" التي يمكن استنباتها من تلقيح المشترك الإيجابي الذي يعبر عن كل ما هو "إنساني" في كل الثقافات. وبمعنى آخر التطلع إلى بناء ثقافة إنسانية جديدة تقوم على "التنوع الثقافي" اللإنسانية، وتعترف بكل ثقافة وطنية وبحقها المتساوي مع أي ثقافة أخرى، وحق كل ثقافة تجنيد وتوظيف إستطاعاتها لأن تتأهل كمرجعية ثقافية، ولكن من دون أن تمس بأي درجة سوء أي ثقافة أخرى.
أن "التنوع الثقافي" في المنظومة التي يمكن أن تنتجها مفاعيل وآليات تسارع واندفاعات العولمة ضرورة حيوية لبلدان الجنوب وخصوصاً البلدان العربية. وذلك لأن مفهوم العولمة وكذلك وظيفة العولمة الثقافية تتسم بالالتباس وأحياناً بالغموض أيضاً. وبرغم كل ما تستطيعه العولمة من توليد أفكار ومشاعر التقارب والتجانس والتشابك بين الثقافات، فإنها في كيفيات تطبيقها وأشكال التعبير عنها، تبدو وكأنها تعزّز مشاعر التمايز والخصوصية، وتؤكد الحدود بين هوية وأخرى؛ وذلك لأنه حين يتنامى الحديث عن حوار الحضارات وتصارعها تقوم العولمة بتشييء الحوار والتصارع بين الحضارات، ويصبح مطلوباً من الدولة المشاركة في الحوار المتصل بين "الأنا" و "الآخر"، في الوقت الذي يجب أن تكون الدولة معنية بدرجة أعلى بالمحافظة على "الأنا" والحيلولة دون تذويبها. ويطال هذا الافتراض "جميع الدول غير المنتمية للحضارة الغربية"؛ وهذا منطقي الى حد البداهة لان شعوب هذه الدول تُستفرّ من منظومة قيم الحضارة الغربية التي تعد بإعادة تشكيل كل الأطر، ومراجعة كل العلاقات.
وتتسلح الثقافات "الجنوبية" في دفاعاتها من أجل تأمين ضمانات لديمومة " وطنياتها" التي يهددها طغيان الثقافة العولمية الماحق، بمواقف الدول الغربية من ذات الحضارة (فرنسا مثلاً) للحفاظ على ثقافتها (لغة وقناً وأسلوب حياة) في مواجهة "الأمركة" في ثقافة العولمة التي تجدها صارخة في مفرداتها وموسيقاها وصناعتها السينمائية.
ونجد في أشكال الانتقاد الأوروبية والآسيوية الواسعة لبعض مظاهر العولمة وأشكال التعبير بما في ذلك حركات "معارضة العولمة" و "مقاومة العولمة"، إمكانيات إسناد للجهود الجادة في البحث عن صيغ الوصول إلى "التنوع الثقافي" الذي يطمأن الثقافات الوطنية ويمكنها من المشاركة في الثقافة العولمية عبر أنسنتها لتكون "ثقافة الإنسانية*".▀ ▀

محمد سليمان كاتب وباحث فلسطيني مقيم في رام الله – فلسطين
* فصل من كتاب سيصدر للمؤلف قريباً بعنوان:
"ثقافة العولمة وأسئلة الهوية والثقافة"



#محمد_باسل_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة والدولة ودولة البلدان العربية
- يوم الارض بعيون -وفا-
- النقد الادبي الفلسطيني 1870-1922/الجزء الثاني
- تطور النقد الأدبي الفلسطيني 1870-1922
- سؤال الهوية بين المثاقفة والعولمة
- الصحافة في قطاع غزة
- المثاقفة، تفاعلات واستيعابات
- الصحافة حارسة اللغة العربية في فلسطين
- مقهى الصعاليك
- امهات المطابع واثرها في نشوء الثقافة الفلسطيني
- نشوء المسرح في فلسطين
- القوانين البريطانية وتطور الصحافة الفلسطينية
- العولمة والاستقلال الثقافي


المزيد.....




- دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك ...
- مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
- بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن ...
- ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
- بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
- لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
- المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة ...
- بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
- مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن ...
- إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد باسل سليمان - وعود العولمة