|
عن توكيذيذيس وهيرودوت وماركس
زكري العزابي
الحوار المتمدن-العدد: 2889 - 2010 / 1 / 15 - 02:43
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
عندما كتب هيرودوت عمله الكبير في التاريخ (قسمه الدارسون الاسكندرانيون فيما بعد إلى تسعة أجزاء، منحوا كلا منها إسم واحدة من الموسات)، كانت كلمة تأريخ (هيستوريا) تعني بالنسبة إليه البحث في الأسباب التي جعلت الشعبين اليوناني والفارسي يقاتل واحدهما الآخر. فتلك الحرب كانت ظاهرة في حد ذاتها، والأولى من نوعها، سواء في إتساع نطاقها أو الاستراتيجية والتكتيك الذين طبقا خلالها، ونوعية الأسلحة التي استخدمت فيها، والفترة الطويلة التي استغرقتها. وقد صرح هيرودوت نفسه بأن هدفه من كتابة التاريخ، هو أن لا "تـُنسى" مع الوقت أعمال الناس (يونانيين وبرابرة)، وأن لا تبقى (إنجازاتهم) دون ذكر. وربما كان هيرودوت قد إستقى مصطلحه من رواة الأساطير الذين وجدوا قبله أو عاصروه. وهو مصطلح يختلف كثيرا عما أعتقد (شخصيا) أنه أصل كلمة تأريخ، والتي هي مكونة من كلمتين، الأولى هي (هيستوس)، وباليونانية (ιστός) وتعني نسيج، والثانية (ريتوس)، وبالرومايكية (ρητός)، والرومايكية هي لغة شعب الروم (اليونانية). وهي كلمة تعني حديث أو كلام أو حكمة. وربما كان قد استقى ذلك من الفعل (ري/ρει) أي يسيل ويتواصل، ومن ذلك جملة هيراقليطس الشهيرة (تا باندا ري) أو كل شيء يسيل. ويقال في العربية (ينسج حكاية) أو (ينسج قصة). فالتاريخ في ـ نهاية المطاف ـ هو نسيج مثل الفكر تماما. بحيث أننا نجد انفسنا مضطرين إلى تقسيمه إلى مساحات أو فترات كما يقول بنديتو كروتشه. وكل فترة هي بحد ذاتها إنقاذ لمجموعة من الأعمال، ومنعها من الوقوع في بئر ـ أو حفرة ـ النسيان. وبالتالي إعطاء بعد زمني إضافي لحياة "بعض البشر"، يكون أكبر من حضورهم الزمني الواقعي. فما يتم نسيانه هو في نهايةالمطاف مجرد لا شيء، ويقترب من أن يكون مجرد أكذوبة. أما ما يتم الإحتفاظ به حاضرا في ذاكرة البشر، فهو الحقيقة بعينها، حتى لو كان الأمر غير ذلك. مما يعني في نهاية التحليل تاريخ الاقوياء والمتميزين، اي تاريخ السلطة. وهو التاريخ الذي يتم التدخل فيه وتغييره ـ حسب جورج اورويل ـ دون أن تتغير درجة حقيقيته أو مصداقيته. وكلمة حقيقة باليونانية هي آليثيا Alithia، وإذا عرفنا أن الحرف A في بداية الكلمة هو أداة نفي، فإن (الحقيقة) تعني في الواقع عدم النسيان، وهذا هو بالضبط ما عناه هيرودوت، لأن كلمة نسيان هي (ليثي). وباليونانية المباشرة، الحديث منها والقديم تكتب هكذا (λήθη). وباعتبار أننا بعيدون جدا عن عصر هوميروس، حيث كان يتمتع الأبطال بدعم الآلهة. بل اننا نعيش في عصر تكتسب فيه الحقيقة أو الـ A-Lithia معنى إنسانيا محضا، في التفريق بين الأبطال وغيرهم من الناس، وبين القليلين (الصفوة) وبين الكثيرين، فإن توكيديديس قد شكك في مرحلة مبكرة جدا في صفاء نية هؤلاء (القليلين)، بل وفي إمكانية ائتمانهم على التاريخ، ووضع المعيار في التفريق بين الأخلاقي والمصلحي. وقد أثر هذان الفهمان الهيرودوتي والتوكيديدي على كل كتاب التأريخ فيما بعد. فالتاريخ في ـ نهاية المطاف ـ هو مجموعة الأعمال التي تؤثر في حياة الناس، أي أولئك الذين يتبعون "الصفوة" مسهلين عملها أحيانا، وأحيانا أخرى العكس، بحيث أن ما يتم إنقاذه من بين أسنان الـ (ليثي) أو النسيان، ثم نطلق عليه فيما بعد إسم "الأعمال التاريخية"، هو عادة ما يسمى بإسم فرد أو مجموعة من أفراد القلة، والذين لا يترددون في إرجاع ما يتعرضون إليه من إنكسارات، إلى ذلك الكل الصامت: المجموع الذي لا تاريخ له. ولكن هذا الكل" قد بدأ يفرض وجوده على نسخة جديدة ومعدلة تماما من التاريخ، بعد أن ملّ الجمود المتواصل، وذلك منذ بدء الثورة الصناعية، من خلال عملية إنتاجه لما دعاه ماركس بفائض القيمة في "رأس المال". وهو عمل تاريخي كان له دور ضروري وحاسم وجدلي، تمثل بداية في دخول الجموع الصامتة إلى ساحة التاريخ، وأثر بدوره في إعادة إنتاج (بل ومونتاج) هذا التأريخ نفسه، عن طريق إنتزاع الإنجازات من أيدي الأبطال، ووضعها في يدي أفراد هذا (الجمع)، والذي أطلقت عليه اسماء مختلفة طوال القرنين 18 و 19. وتاريخ هذين القرنين هو تأريخ محاولات الجموع، الشعب، البروليتاريا، الطبقة العاملة.. الخ، من أجل قلب مفهوم التاريخ الكلاسيكي، وارستقراطية الأبطال ـ وتجيير التأريخ ـ بمعنييه الهيرودوتي والتوكيديدي ـ إلى جانبها. * * * وقد أخذت المحاولة الماركسية قمة شكلها الدرامي في ثورة 1917 الروسية، حيث حاولت الجموع الاستيلاء على مسرح التاريخ بكامله. ولم يطل الأمر كثيرا بالإفراز الجديد للتاريخ: (الأممية)، والتي هي عبارة عن عن سيكولوجية عامة تم الربط عن طريقها بين هذه الجموع. حتى أنها لم تستغرق سوى عدد محدود من السنوات لكي تنتج دكتاتوريتها الخاصة، الواقعية المتمثلة في شخص الأخ الأكبر، وليس النظرية التي تتحدث عن البروليتاريا. دكتاتورية الفرد (وليس دكتاتورية الجموع التي كانت تهدف إليها). ولم يكن ذلك سوى نوع من الهجوم على التاريخ الجديد وإعادته سيرته القديمة. وقد اعتبرت مرحلة باتجاه نهاية التاريخ في نسخته الهيرودوتية والتوكيديدية. وقد قاد فشل هذه المحاولة في إنهاء التاريخ بهذا الشكل، إلى إعادة تلك الجموع إلى موقعها القديم، وحرمانها موقعها الذي ناضلت من أجل الإستيلاء عليه. ومع ذلك، ورغم كل شيء، فقد أصبح لها رأيها في كثير من الأمور، ولم تعد مجرد جموع مجهولة تعمل في صمت من أجل مجد القلة و"تاريخيتها". وأصبح بإمكانها ـ على الأقل ـ إثارة ما يكفي من المتاعب في وجه حكوماتها، وصولا إلى تغييرها، كما أصبحت تنتج تاريخها بنفسها إلى حد ما. لقد تمكنت هذه الجموع من قلب جدلية التاريخ، عندما حاول افراد من داخلها تجيير التاريخ لصالحها وإعادته إلى إطاره الهيرودوتي وإن بمبررات جديدة، ترتكز أساسا على الجموع نفسها. وأذكر هنا أن صحيفة يونانية كانت قد عددت أكثر من عشرين صفة ولقبا كانت تطلق على تشاوشسكو في رومانيا قبل تيميشوارا، منها "نجم الكربات" و "الشمس المضيئة" و"الفكر الساطع".. الخ. وذلك في محاولة يائسة وإنتهازية لإعادة عصر البطولة القديم دون أي مبرر معقول، بل وفي الزمن الخطأ والمكان الخطأ ايضا (وفي محاملة مضحكة للتشبه بلينين)، ودون توفر الظروف الحقيقية لذلك. وبهذا المعنى لا يمكن الحديث عن نهاية للتاريخ حتى الآن. أي عن نهاية المرحلة الضرورية التي تحتاجها البروليتاريا للإجهاز على التاريخ، وأنتاج تاريخها الخاص بها. ليس بالمعنى الماركسي فقط، ولا حتى الهيرودوتي والتوكيديدي، بل بالمعنى الرأسمالي ايضا. وليس ذلك لأن النظام الرأسمالي ـ الليبرالي قد إنتصر على منافسة "الإشتراكي" الذي تصارع معه على مسرح التاريخ لأكثر من سبعين عاما (بشكل رسمي). ولكن لأن النظام الرأسمالي ـ الليبرالي كان قد استوعب من الدروس من منافسه ذاته، أكثر مما استوعب منافسه منه، وتمثل الكثير من طروحاته إلى حد أنه قد ينتهي بالفعل إذا بقي دون منافس يمنحه أفكارا جديدة تعطيه القدرة على الإستمرار، وعدم الوقوع ضحية الجدلية التاريخية التي لا ترحم، بسبب الإفتقار إلى التحدي الذي يمنحه القدرة على الاستمرار حسب ارنولد توينبي. أي بدون وجود التناضح osmosis الذي تمتع به ما يقرب من قرن من الزمان عبر الصراع بين النظامين. حتى أن الجموع التي يبدو أنها هزمت في المعسكر الاشتراكي، تتشابه على نحو غير معقول مع تلك (المنتصرة) في المعسكر المقابل. والتي لن يلبث النظام الذي تعيش في ظله، أن يعمل على إلحاق الهزيمة القادمة بها شخصيا. الأمر الذي يعني إعادة الكرة مرة أخرى، ربما في مكان آخر من الكوكب هذه المرة. وهذا الإحتمال وحده فقط، لا يسمح لنا بالحديث عن نهاية للتاريخ، ولكن فقط عن إعادة إنتاج للتاريخ كما حدده هيرودوت وتوكيديديس (إذ لا مهرب لنا من هؤلاء اليونانيين المجانين). لأن الجموع لم تعد تنتج التاريخ فقط عندما تجد نفسها في مأزق، ولكنها تنتج اعداءها ايضا. وإذا كان يمكن الحديث عن نهاية للتاريخ، فإن هناك من تحدث عن نهاية للفلسفة مثلا منذ أربعين عاما، وهو مارتن هايدغر في مؤتمر عقد عن سورين كيركغارد في عام 1969. وإذا كنا مضطرين إلى إعتبار التأريخ مثل الفكر ـ مثلما قال كروتشه ـ فإن الحديث عن نهاية للفلسفة هو مثل الحديث عن نهاية للتاريخ، ويمكن إعتبار أن فوكوياما لم يأت بجديد، وإنما جاء متأخرا بمقدار ربع قرن عن هايدغر. وهايدغر يعني بنهاية الفلسفة، نهاية مرحلة فقط، نهاية الميتافيزيقا بمعناها الافلاطوني، والتي لا تعدو في نهاية المطاف أكثر من إعادة فحص أو تشخيص لهذه الفلسفة الميتافيزيقية حسب نيتشه، الذي وصف فلسفته بأنها "عكس" للافلاطونية (مثلما قلب ماركس الهيجلية على راسها)، وهو الأمر الذي رأى فيه هايدغر "تحقق الإمكان الأخير للفلسفة". فالفلسفة عندما فقدت العلوم التي كانت تقع في نطاقها واحدا بعد الآخر، لم يتم إعتبار ذلك خطوات متتابعة باتجاه نهاية الفلسفة. بل إنها كانت لدى هايدغر "إكمالا" للفلسفة نفسها. أي خطوات باتجاه تكاملها وتحقق إمكانها الأخير. حيث يستخدم هايدغر ـ للتفريق بين النهاية والإكتمال، كلمتين يونايتين، هما (تيلوس/τέλος) أي نهاية، و (تيليوسيسτελείωσις /) بمعنى الوصول إلى الكمال (يتم في العادة الخلط بينهما)، وهما كلمتان تنبعان من الجذر نفسه، وتتشابهان كثيرا، رغم الإختلاف الشاسع في الدلالة بينهما. والحديث عن نهاية للفلسفة، يعني ضمنا نهاية الأسئلة، وهكذا فإنه من غير الممكن الحديث عن نهاية للفلسفة، لأنه ينقصنا بالدرجة الأولى ـ حسب هايدغر ايضا ـ النموذج الذي يمكننا أن نقيس عليه هذه العملية. كما تعني نهاية الفلسفة ايضا، قيام حضارة عالمية قادرة على الإجابة عن جميع الأسئلة التي كانت سببا في إنطلاق الفلسفة منذ البداية.
#زكري_العزابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غطاء للبؤس
-
تكنولوجيا
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|