جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2887 - 2010 / 1 / 13 - 23:46
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
دائماً أسمع الناس يقلون للمرأة التي تزوج ابنها أو ابنتها :خلص إنتهى دورك, وبعد فترة يتكلمون عنها بصيغة فعل الماضي علماً أنها تكون حاضرة وقاعدة وجالسة أو واقفة بين المتكلمين وألاحظ أنها تؤيد كل الماضي اعتقاداً منها أن تتكلم عن الماضي البطولي علماً أن ذلك بداية الموت غير الطبيعي للمرأة.
المرأة العربية مدفونة بالحياة , أي أنها مدفونة تحت التراب وهي على قيد الحياة , ويتزوج الذكور من الإناث لكي يزدادوا تعقلاً فما زال أهل بلدتنا يزوجون المختل عقلياً أو عاطفياً لكي يعقل ويزوجون الطائش لكي يستقر , وكل ذلك على حساب المرأة فحين يتزوج المجنون لكي يعقل نجد أنه فعلاً يعقل على حساب صحة المرأة النفسية والطائش يهدأ هو وتطيش المرأة , ولا أحد يعترفُ للمرأة بأنها عملت كل تلك المعجزات .
ونبكي عليها وهي ما زالت على قيد الحياة , ونعتبرها قد انتهت وهي ما زالت في طور التطور والنمو, وننسب أعمالها العظيمة للذكور وتلك الأعمال متعلقة بالإنجاب أي بالحمل وبالولادة وبالخلق , ونسرق منها بريقها لكي يزداد الذكور والأطفال لمعاناً , ونختلسُ منها شبابها لكي نزداد شباباً ولكن موتها ليس بأفضل من حياتها فحياتها فيها حياة أناس كثيرين وبموتها يموت الكثيرون وبابتسامتها وهي ترتسم على شفاهها يسعدُ فيها الكثيرون , إنها جندي مجهول حين كانت أمي تحاولُ أن تمد يدها لتضربني كانت جدتي تقفُ في وجهها وتقول : هذا الزلمه لينا لا تضربيه إذا مش عاجبك روحي على دار أهلك واتركيه .
وهذا الكلام يعني أن جهد أمي وخلفتها وحملها بي وبإخواني تسعة أشهر لكل واحد , كل ذلك كان يضافُ إلى رصيد العائلة وليس إلى رصيد أمي ,فإسم أمي قد نسيه أهلها منذ ولدتني وأصبحت الناس ينادونها يا أم جهاد حتى أمها نسيت اسمها وإخوانها نسو اسمها وكل نساء حارتنا قد نسي الناس أسماءهن منذ ولدن الذكور ومن العيب في بلدتنا أن ننادي المرأة باسمها أمام الناس ومعظم الأزواج ينادون نساءهم كما ينادي أهل حارتنا أمي التي نسيت اسمها , حتى أنا أحياناً أنسا اسم أمي !
وحتى اليوم تسجل كافة بطولات أمي في سجل العائلة الذكورية باسمهم وتحسب أو تضاف إلى رصيد جدي أو أعمامي , فكل الناس الذين يحبونني يقولون هذا ابن (علي الواعي) ولا يقولون هذا ابن أمه , وكل شيء قبيح يصدر مني يحاول الأقرباء أن ينسبوه لعائلة أمي وكل شيء جميل يصدر مني أو من أمي كله يحسب في أرصدة أبي وجدي وأعمامي علماً أنهم في ذمة الله وميتون ومع ذلك يرث الأموات من رصيد الأحياء ,وقليلون هم الناس المشتهرون بأسماء أمهاتهم فهنالك بعض الرجال يعرفهم الناس بأسماء أمهاتهم وهذا نادراً ما يحدث وعلى الأغلب تكون نسبة الولد باسم أمه فقط من أجل التهكم عليه إذا كانت أمه صاحبة علامة مميزة بين الناس .
وتعب أمي وشقائها يحسب في حساب العائلة ودموعها وخوفها وقلقها علينا يحسبُ أيضاً في حساب العائلة , وكل أفراد العائلة اليوم يقولون : كانت أمي ..وكانت ..وكانت .., ويعددون كل حسناتها وكأنها ميتة علماً أنها تجلس معهم وتأكل معهم وتشرب معهم , ومن ثم يستأنفون الكلام ليقولوا : هذا بيت كله كرم من يوم يومه , وأمي الوحيدة التي لا تنتبه لهذه الظاهرة فتشاركهم في الحديث عن نفسها لتقول : والله كنت ..وكنت , وتتحدث عن نفسها وكأنها تتحدث عن إنسانة ميتة وبنفس الوقت ترفع من شأن الأموات لتقول : عمي محمود الله يرحمه كريم.
وكانت أمي تصحو من النوم مبكراً جداً قبل زقزقة العصافير وأكاد أن أجزم بأن العصافير كانت هي التي تستيقظ على صوت أمي وهي تعملُ في المنزل فكانت العصافير تتفقُ مع بعضها البعض للخروج من أعشاشها حين يسمعون صوت أمي وهي تعمل في المطبخ أو وهي تقفُ على باب البير (البئر) من أجل أن تملاْ الأواني المنزلية بالماء .
وحين كان الناس يأتون إلينا , كنتُ أسمعهم وهم يقولون بعد شربهم للماء : مثل بير أبو علي ما فيش –طبعاً أبو علي هو جدي - والله الميه من أبو علي بتشفي الغليل وبتروي الواحد , علماً أن أمي هي التي كانت ترفع بيدها الماء من البئر وكنتُ أشاهد باطن كفيها والدماء تكادُ أن تخرج منها جراء احتكاك الحبل المربوط بدلو الماء الساقط في أسفل البئر , وكان رفعه من البئر يتطلبُ مجهوداً كبيراً نظراً لعمق البئر والذي يصل إ إلى 10 أمتار وأكثر , وعلى كل حال كانت المياه أيضاً تسجل في رصيد جدي وليس أمي .
وحين كانت القطط تخرج للاصطياد وإلى البحث عن لقمة خبزها تكونُ أمي قد عجنت العجين لتصنعه خبزا بعد أن يخمر وأكادُ أن أجزم مرة أخرى بأن القطط كانت تعتبرُ صوت أمي -وهي تعجن -ساعة منبه لصحيانها فتجتمعُ القطط على صوت العجين حين ترفعه أمي بيدها للأعلى لتضربه بالمعجن , والمعجن عبارة عن إناء كبير من الألمنيوم تقوم أمي بوضع الماء والطحين به لكي تخلطه ليصبح عجيناً .
وحين تصبح الساعة السابعة صباحاً تكون أمي تقريباً قد قطعت أكثر من 4ساعات عمل كلها بالمجان وبدون مقابل وكأنها بذلك تشبه الجندي الذي يصحو مبكراً ليحافظ على هندامه وعلى عمله ووظيفته اليومية في حين يكون أبي غارقاً في الحلم السابع من النوم , وحين يستيقظ في الساعة الثامنة أو التاسعة كان أول شيء يطلبه هو إبريق الشاي وغلاية القهوة ليبدأ بإشعال السجائر وتطير الدخان في الهواء.
وكانت أمي تستريحُ قليلاً لتعيد جمع قواها من جديد لتبدأ مرحلة جديدة من العمل الصباحي وهو تكنيس قاع الدار والمقعد (التراس) الذي تسهرُ فيه كل أفراد العائلة ليلاً فيذهب كل واحد إلى غرفته ويتركونه بلا تنظيف وهذا هو واجب أمي في صبيحة اليوم التالي وفي المساء تبدأ أمي بشطفه بالماء البارد لكي يفد إليه أفراد العائلة للسهر وللسمر ولاجترار الحكايات , وكانت أمي طوال السهرة تقوم بتوزيع الخدمات على ضيوفنا فنحن من بيت كله كرم وضيافة وكانت أمي هي من يقوم بكل أنواع الضيافة وبنفس الوقت تحسب تلك الخدمات لبيت (محمود الواعي) وليس لأمي علماً أن جدي محمود الواعي كان ميتاً منذ 10سنوات على الأقل .
وأي شيء كانت تفعله أمي كان يحسب أو يضاف إلى رصيد العائلة ولم يكن يضاف إلى رصيدها ولذلك هي اليوم شبه مفلسة لا تملك أي رصيد من أرصدة العائلة فالناس يقولون بأنني أكتب الشعر لأن جدي كان شاعراً نبطياً مُقلاً جداً بأعماله الشعرية وهم أيضاً يقولون عني بأنني كاتب ومثقف وكثير القراءة نظراً لأن أبي كان كذلك وكلهم ينسون أنني صنيعة امرأة تقفُ خلف رجل هي أعظم منه في الصبر والتحمل وقوة الإرادة وأقول الحق لو أنني عشت حياة أمي القاسية لإنتحرت من أول سنه رابعه زواج .
وكل أرصدتها سجلها الناس والتاريخ في حسابات الذكور أمثال جدي وأبي, وكل وجبة طعام كانت تقدمها للناس أو للضيوف كانوا يتقبلونها وهم يقولون : والله بيت أبو علي بيت أصيل , وكان الضيوف يشربون الشاي الذي تقدمه أمي لهم وهم يقولون شكراً : والله مثل شايات دار أبو علي ما فيش , لويش الواحد يحكي ما هو أبو علي هو أول واحد جاب الشاي وشربه في كل البلد, وأمي المسكينه ترد عليهم وتقول : والله إنكوا صادقين .
حتى أنا شخصياً حين كان ينظرُ الناس في وجهي يقولون : الولد بشبه جده شاطر وذكي هذول من عائلة واعيه جداً وبفهموا , على شان هيك الناس أطلقوا عليهم لقب (الوعيان) علماً أن أبي قد مات وأنا طفل ولم أر جدي في حياتي على الإطلاق وأمي هي التي ربتني وسهرت الليالي عليّ حين كنتُ أمرض وحين كنت أسخن وحين كنت أكتئب .
وحين كنت أجوع كانت تجوع قبلي وحين كنت أشبع كنت أشبع على حسابها , وربتني كما قالت (بدموع العين) ودائماً كنتُ أسمعها حين تشعر بالتعب وهي تقول :
يا قلب واصبر على المكتوب
حتى ينقضى الوعد يا زين .
وأحياناً تقول: يا شيني .
فكانت تربيني بالدموع لأنها كانت وما زالت مقهورة , ومع ذلك كل تلك الإنجازات لا تسجل في حساب أمي بل في حساب أبي وجدي .
ونحن في الأجواء العائلية نتكلم عن (أمي) بصيغة فعل الماضي ولا نستخدم معه المستقبل وكأنها ميتة مع أنها تجلسُ بيننا , فنقول : كانت تصحا من الساعة كذا وكذا , ونقول : كانت تطبخ طبيخ بجنن كذا وكذا , وكل كلماتنا عنها نستخدم قبها أفعال ماضية من الزمان والمكان ولا تشتمُ أمي بحديثنا عنها أي شيء يدل على المستقبل أو الحاضر.
وهذه الصيغة ليست للأحياء بل للأموات فنقول في اللغة (كانت رحمها الله ) هذا طبعاً إذا كانت ميتة , ولكن الأم هي الوحيدة التي يتحدثُ عنها كل أفراد العائلة بصيغة أفعال كلها من الماضي وكأنها ميتة .
وطبعاً كل شقيقاتي يجلسن أحيانا للحديث عن أمي بصيغة فعل الماضي وكأنها ميتة .
وأمي نفسها تتكلمُ عن نفسها بهذه الصيغة فتقول : كنت أطبخ وانفخ وأكنس قاع الدار وملي الجره مي(ماء) وعجن وخبز , ورضع ووديكوا على المرحاض , الله الله على هذيك الأيام , لمّا بقيت ما بقى في حدى , إن أمي تقول كل ذلك ولا تتذكر أنها ما زالت على قيد الحياة .
رحم الله الزمان والمكان
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟