مقدمة :
الديمقراطية بمعناها الشائع _ المستمد من تجربة البلاد الراسمالية المتطورة _ هى نظام يقوم على اساس امكانية تبادل السلطة فى المجتمع بشكل سلمى وذلك عبر الاعتراف بتعدد واختلاف المصالح والاراء والافكار التى يؤدى تصارعها _ عبر صناديق الانتخاب _ الى برلمان يملك وحدة سن القوانين ومراقبة الحكومة ، على عكس النظم الاستبدادية والشمولية , حيث لا تخضع السلطة لاية رقابة ولا تلتزم باى قانون ( وضعى او الهى ) تستمد السلطة
فى النظام الديمقراطى شرعيتها من كونها تحوز ثقة اغلبية الناخبين ، اى اغلبية الشعب صاحب السيادة المطلقة على شئونة .
والنظام الديمقراطى لا يمنح لاحد _ على الاقل نظريا _ امتيازات خاصة مكتسبة من الولادة او موروثة ، سواء على اساس الدين اوالعرق . بل يقر بمبدا مساواة المواطنين امام القانون او مبدأ المواطنة ، ويفترض ان الوصول للاغلبية يتم عبر اطلاق حرية الفكر والرأى والنشر والصحافة وعقد الاجتماعات بصورة سلمية وتكوين الجمعيات والاحزاب .. الى اخره .
ان ارتباط هذا الشكل من الديمقراطية فى الاذهان بالدول الراسمالية المتطورة ، غالبا ما يؤدى الى ربط الى بين الديمقراطية كنظام سياسى والراسمالية كنظام اقتصادى . واذا كان الليبراليون _ بمعنى انصار الاقتصاد الراسمالي الحر _ يسعون لتاكيد هذا الربط انتصار ا للراسمالية وتجميلا لها ، فان بعض المنتمين للحركة الاسلامية يؤكدونة رفضا للديمقراطية التى يعتبرونها احد منتجات الحضارة الغربية المرفوضة والغريبة عن المجتمعات الاسلامية . فالديمقراطية - على حد قول الامام الخوميني- ليست لفظا من الفاظ الحضارة الشرقية .
من ناحية اخرى يصف العديد من اليساربين هذة الديمقراطية بالشكلية ، بمعنى ان هذة المساواة السياسية المزعومة تخفى لا مساواة اجتماعية تجعل منها ، فى التطبيق العملى ، ديمقراطية للبرجوازيين فقط .
* الليبرالية واوهام اللحاق بالغرب
باستثناء انجلترا التى شهدت ثورة كبرى فى القرن السابع عشر والتى سبقت اوروبا فى مجال الاستعمار ، لم تبدا الديمقراطية السياسية فى الانتشار فى اوروبا الا فى الربع الاخير من القرن التاسع عشر ، فى حين ترجع نشاة النظام الراسمالى الى اواخر القرن الخامس عشر عندما بدات السيطرة التجارية لاوروبا على العالم . وفى العصر الراهن يسود النظام الاقتصادى الراسمالى او يهيمن على اكثر بلاد العالم.
بينما الدول التى تنعم بالديمقراطية _ خارج اوروبا _ تكاد تعد على اصابع اليد . تنفى الحقائق السابقة صفة التلازم بين الراسمالية والديمقراطية ، ولكنها لا تنفى _ من وجهة نظر الليبرالين _ ان التنمية الراسمالية هى الوسيلة الوحيدة لبلوغ الديمقراطية ، ولو بعد حين . فالراسمالية شرط ضرورى وان لم يكن كافيا لتحقيق الديمقراطية والدليل هو ان البلاد التى اخذت بمبدا الحرية الاقتصادية ( … ) هى بعينها التى سادت فيها الديمقراطية . والبلاد المقصودة هي بالطبع الديمقراطيات الراسخة مثل سويسرا او بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والتخلف فى بلاد العالم الثالث - طبقا لهذة النظرية- يرجع الى عدم تبنيها بالكامل لقواعد الاقتصاد الراسمالى الحر ، والى ضعف اندماجها فى النظام الراسمالى العالمى . فالفروق بين الدول المختلفة والمتقدمة لاعلاقة لها بالاستعمار او التبعية او عدم عدالة النظام الراسمالى العالمى الذى لايتيح ل 60 % من سكان العالم سوى 6, 5 % من الدخل العالمى بل ان قدرة المجتمعات على متابعة التغييرات المناسبة هى التى ادت الى الفصل بين مجموعة الدول المتقدمة من ناحية والدول المختلفة من ناحية اخرى ، والحل هو نقل كل شئ من النموذج الغربى ، ليس فقط انجازاتة فى مجال العلوم الطبيعية والتكنولوجية ، بل و ما وراء ذلك من تنظيم اقتصادى وسياسى واجتماعى كان من الممكن ان يكتسب المشروع الليبرالى الجديد مصداقية اكبر لو لم يكتف بترديد الشعارات القديمة حول فضائل الحرية الاقتصادية وامكانية اللحاق بالدول المتطورة لو اتبعنا نفس نموذجها فى التنمية والسعى بدلا من ذلك الى صياغة برنامج جديد فعلا يستجيب لخصائص بلاد العالم الثالث ، ويناقش مشاكل التحول اللبيرالى الاقتصادية فى ظل منافسة عالمية وهيمنة استعمارية طاغية . والصعوبات التى تعترض طربق الديمقراطية اربكت التعجل بالنمو االاقتصادى فى ظل اقتصاد السوق وما ينتج عنة من تفشى البطالة والفقر . اما وانة لم يفعل ، فلا باس من ان نذكر على عجالة بجوهر النقد القديم لهذة النظرية ، والذى لم يتم دحضة :
اولا :
فى نفس الوقت الذى ادى فية نهب الدول الاستعمارية للعالم القديم ، على مدى خمسة قرون ، الى افقار الشرق واعاقة تطورة ، مهد تراكم الثروات فى اوربا للثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر ، والتى ادت الى تبلور شكل جديد للاستغلال الراسمالى والنهب الاستعمارى . وبظهور التقسيم الدولى للعمل ، اى تكيف اقتصاد المستعمرات _ طبقا لنظرية التخصص _ تبعا لاحتياجات التطور فى الغرب نشات علاقة بين اقتصادين غير متكافين ، تطور الاول شرط لتخلف الثانى ونتيجة له .
ثانيا :
الثورات الشعبية والحركات العمالية فى اوروبا ضد الراسمالية هى التى يرجع اليها الفضل _ لا الرأسمالية _ فى اخراج افكار التحرير والمساواة التى لازمت نشاة الراسمالية من اطارها النخبوى الاصلى ( البرجوازى ) وتعميمها ، ويرجع اليها الفضل بالتالى فى تبلور المفاهيم الديمقراطية بصورتها الحالية . غير ان هذة الثورات كان من الممكن ان تؤدى الى مزيد من الديكتاتورية او الى الفوضى والتحلل ، ما لم تؤد نتائج التوسع الراسمالى الى تراكم الثروات فى الغرب ، والذى مكن الدول الاستعمارية من الانفاق بكثافة على تطوير البحوث والعلوم والتكنولوجيا وتحقيق الثراء الواسع الذى مكنها بدوره من الرفع المتواصل لمستوى معيشة غالبية السكان والحد من تفجر التناقضات الاجتماعية ، ونشر التعليم وتكوين المجتمع الحديث وتحقيق وحدة الامة على اساس الرفاق _ كما يقول سمير امين _ حول الممارسة الديمقراطية السياسية من جانب ، واحترام قوانين الادارة الراسمالية فى المجال الاقتصادى من الجانب الاخر .
هذا ، بينما ادت نفس سمات التوسع الراسمالى الى تفكيك مجتمعات المستعمرات السابقة ، والتى انقسمت اقتصاديا الى قطاع حديث مرتبط وموجة لخدمة السوق الراسمالى العالمى ، وقطاع تقليدى محروم من فرص التطور ، وادت سياسيا وثقافيا الى توسيع الهوة بين نخبة حاكمة موالية للغرب وقيمة ومعادية للقيم الثقافية الوطنية ، وبين الغالبية الساحقة من الشعب .
خلاصة الامر ، ان الشروط التاريخية للتوسع الراسمالى التى ادت الى الثراء والديمقراطية فى الغرب هى نفسها التى تعمل كعائق فى سبيل التقدم والديمقراطية فى بلادنا . ولقد اثبتت التجارب الليبرالية الحديثة من مصر السادات الى جزائر الشاذلى بن جديد ان سياسية الانفتاح الاقتصادى وتلبية شروط صندوق النقد الدولى ، لتحقيق المزيد من الارتباط بالنظام الراسمالى العالمى ، لم تؤد الى اللحاق بالغرب على طريق الرخاءوالديمقراطية ، بل على العكس ادت الى تفاقم البطالة والفقر والبؤس والعنف وممارسات الدول البوليسية .
صحيح ان قوى المعارضة الليبرالية فى مصر ، وخاصة حزب الوفد وجمعية النداء الجديد ، تعلن فى كل مناسبة معارضتها لانفراد النخبة الحاكمة بالسلطة ، ومطالبتها بتوسيع الهامش الديمقراطى ، والحد من اعتماد الحكم على قوى القمع من جيش وشرطة ويبروقراطية لحساب الاعتماد على على برلمان حقيقى منتخب بلا تزوير وصحافة حرة متنوعة واحزاب متعددة ، ولايمكن انكار الدور الهام الذى تقوم بة جريدة الوفد فى الدفاع عن الحريات وحقوق الانسان ونشر القيم الديمقراطية ، الا ان الليبراليين فى الوقت نفسة لايعارضون السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكم المعادية لمصالح اغلبية الشعب والتى لا يمكن تمريرها بالتالى الا بالحديد والنار ، بل على العكس يمنحون هذة السياسات تاييدهم المطلق ، ويعيبون على الحكومة انها تسير فيها ببطء شديد.
بل والاكثر من ذلك ، ياتى تأييد حزب الوفد لبيع شركات القطاع للاجانب ، ثم تاييد د . سعيد النجار رئيس جمعية النداء الجديد لمشروع السوق الشرق اوسطية ، وهو المشروع الاسرائيلى الامريكى الذى اعلن عنة يوسف والى فى جريدة الاهرام ، ليضاعف من شكوك كل القوى الوطنية حول نوايا الدعاة الجدد للمشروع اللبيرالى فى مصر ، رغم ان هذة القوى كانت قد استقبلت عودة حزب الوفد للعمل السياسى عام1978 بحفاوة شديد .
ان التركيز على البعد الاقتصادى الاجتماعى فى خطاب الليبراليين يعود لكون تجارب العالم الثالث قد اثبت ان نظام ديمقراطى يخضع لمتطلبات النظام الراسمالى العالمى ، ويعجز عن القيام بالاصلاحات الاجتماعية الضرورية ، سرعان ما يتازم . مما يفسر تلك الحلقة المفرغة التى تدور فيها انظمة الحكم فى العالم الثالث بين الدكتاتورية والشعبية التى تقطعها احيانا _ ولفترات قصيرة _ حكومات ديمقراطية .
غير ان هذا التركيز لايعنى عدم وجود نواحى نقص فى الخطاب الديمقراطى لليبراليين الجدد الذين يركزون على الحريات السياسية دون الحريات النقابية للعمال والفلاحين ، ويتجاهلون حقوق الاضراب والاعتصام والتظاهر ، ولا يلتفتون الا قليلا لانتهاك حقوق المواطنين وكرامتهم من قبل الشرطة والمو ظفين البيروقراطيين .
واذا وضعنا الشعارات جانبا والتفتنا الى السلوك العلمى والممارسات الفعلية ازدادت شكوكنا فى ديمقراطية ليبراليينا . فحزب الوفد الذى تحالف مع الاخوان المسلمين فى انتخابات 1984 البرلمانية ، اصبح يتجنب التعامل مع القوى السياسية غير المرخص لها من الحكم مثل الشيوعيين والاخوان ويقصر تعاملة على الاحزاب ذات الرخصة من لجنة الاحزاب سيئة السمعة ، حتى لو كانت احزابا ورقية مثل حزب الامة .
من ناحية اخرى ، يفتقد الوفد الديمقراطية داخل الحزب، لايعقد موتمرات تتيح لاعضائة فرصة المشاركة فى اتخاذ القرارات . وانتخابات الهيئة العليا للحزب شكلية ، حيث يجرى التصدق على قائمة معدة سلفا من رئيس الحزب ذى السلطات المطلقة والذى لايجرؤ احد على نقدة .
واخيرا ، لابد ان نذكر مباركة الليبراليين فى مصر للحملة الشرسة التى يشنها الحكم ضد الجماعات الاسلامية ، وتعاميهم عما يصاحبها من انتهاكات فظة لكافة القوانين ولحقوق الانسان . ولايمكن تبرير ذلك بلجوء بعض الجماعات للعنف والارهاب ، فهذا لا يعطى الحق للحكومة فى انتهاك الدستور والقوانين واللجوء لارهاب الدولة وامتداد الحملة لترويع المواطنيين واذلالهم .
ولا يمكن تبرير ذلك ايضا بان الجماعات الاسلامية لا تؤمن بالديمقراطية ، ( وهى الحجة التى استند اليها البعض فى تاييد الانقلاب العسكرى الديكتاتورى فى الجزائر الذى منع وصول جبهة الانقاذ الاسلامية للحكم بعد الفوز الانتخابى الذى حققتة ) ، والا كان معنى ذلك ان كل طرف لايقبل بقواعد المنافسة الديمقراطية الا اذا جاءت بالنتائج التى يرغبها .
عماد عطية