|
التيارات الاصولية والموقف من الدولة المدنية (5 )
نجيب الخنيزي
الحوار المتمدن-العدد: 2884 - 2010 / 1 / 10 - 10:01
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
التيارات الاصولية والموقف من الدولة المدنية (5 ) بداية لا نستطيع إغفال الدور الريادي في مجال الإصلاح الديني والتنوير الفكري، للعديد من الشخصيات الإسلامية الكبرى التي لعبت دورا مركزيا في النهضة العربية (المجهضة) منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى العشرينات من القرن المنصرم، والتي سعت إلى مقاربة وفهم الواقع المتخلف للمجتمعات العربية/ الإسلامية، ومتطلبات النهوض بها كي تقلص الفاصلة الحضارية الشاسعة مع الآخر (الغرب) في جميع المجالات، وقد ترتب على ذلك انفتاحهم، وأخذهم بأسباب ومقومات المدنية والتقدم والتطور، بما في العمل على تبيئة مفردات العصر ومنجزات التطور والحضارة الكونية،في مقدمتها مفهوم الدولة الحديثة، بما هي نظم مدنية لها آلياتها، وتشريعاتها الدستورية والقانونية، التي تكفل وتصون سيادة وحقوق الشعب، وكرامة وحرية الأفراد والجماعات، على أساس المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، منطلقين في ذلك من قناعة عميقة بأن ذلك لا يتعارض البتة مع جوهر وصحيح الدين الإسلامي القائم على التسامح، والتفاعل مع الحضارات والثقافات المختلفة، وهو ينبغي أن لا يتناقض مع حرية العقيدة والتفكير لجميع طوائف ومكونات المجتمع، كما قاوموا بشدة الدعوة إلى بناء الدولة الدينية، حيث اعتبر الإمام محمد عبده ( 1849-1905 ) انه لا كهنوت في الاسلام، وهو يتعارض على طول الخط مع الدولة ( الثيوقراطية) التي شهدتها أوروبا في القرون الوسطى، حيث السلطة المطلقة للكنيسة التي كرست نفسها وسيطا بين الإنسان (الأرض) وربه (السماء) وامتلكت قراراتها قدسية وصفة الإلزام، بما في ذلك حق إصدار صكوك الغفران، أو الحرمان ازاء البشر، والذي وصل الى حد التصفيات الجسدية الواسعة والرهيبة للخارجين عليها، أو المخالفين لسلطتها كما استأثرت بحق تنصيب وإقالة وحتى إعدام الملوك والحكام المتمردين على سلطة وقرارات «الأكليروس». وقد أكد الإمام محمد عبده إن «الإسلام لا يتناقض والدولة المدنية ما ظلت هذه الدولة حافظة للأديان (لم يميز بينها)، مبقية على مكانتها في النفوس، مستلهمة دساتيرها وقوانينها من روح الشرائع (لم يميز هنا بين الإسلام وغيره من الطوائف الدينية ناهيك عن المذاهب الإسلامية) الداعية إلى العدل والإخاء وسعادة البشر في الدارين بلا تمييز» معتبرا ان «المسلمين ادرى بشؤون دنياهم، وان لهم أن يفعلوا بحياتهم ما شاءوا ما ظلوا محافظين على إسلامهم، ويلزم عند ذلك انه لا سلطة دينية لحكامهم ولا حتى لعلمائهم، أو شيوخهم، أو أزهرهم أو أي جماعة ترفع راية الإسلام (مستشرفا الآتي من الأيام) لأسباب سياسية أو غير سياسية، فالمبدأ الأصيل في الإسلام هو حرية المسلم في اختياره ما يراه لصلاح دنياه، وأن الايمان يعتقه من كل رقيب عليه في مسائل الدين على وجه التخصيص، فلا رقيب بين الإنسان والله سوى الله وحده الذي هو اعلم بالسرائر والقلوب، أما من يلجأ إلى تكفير غيره في اختلافه فيبوء بها، وتقع عليه التهمة التي يقذف بها غيره» وقد كتب (في مؤلفه الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) «علمت إن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير (في الحالتين لم يستخدم لفظة أمر أو نهي) عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم. ولا يجب على المسلم أن يأخذ عقيدته أو أن يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد. إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط احد من سلف ولا خلف» ثم يعود فيؤكد في كتابه «فليس في الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه». في أعقاب إلغاء مصطفى كمال اتاتورك نظام الخلافة العثمانية في الاستانة (في 3مارس 1924) سعت بعض الجماعات الإسلامية لإعادة مركز الخلافة. وتشكل من أجل ذلك في مصر «المؤتمر الإسلامي العام للخلافة» والذي اصدر مجلة «الخلافة الإسلامية»، وتبع ذلك إصدار الفتاوى التي تزعم إن صفة الإسلام قد زالت عن المجتمعات الإسلامية بإلغاء منصب الخلافة، وفي هذا السياق نشير إلى الدور الذي لعبته جريدة المنار التي يديرها محمد رشيد رضا والذي انقلب على آراء ومواقف استاذه محمد عبده، حيث أصبحت الناطقة باسم التيار السلفي المتشدد. حيث نشرت في عددها الصادر في 23 ابريل سنة 1925 ما يلي «إن منصب الإمام واجب في الملة، في هذا الزمان، كغيره وجميع المسلمين آثمون بعدم نصب إمام تجتمع كلمتهم عليه بقدر طاقتهم، ومعاقبون عليه في الدنيا بما يعلمه أهل البصيرة منهم وسيعاقبون عليه في الآخرة بما يعلمه الله وحده.. إن الجماعة التي أمرنا بإتباعها لا تسمى جماعة المسلمين إلا إذا كان لها إمام بايعته باختيارها.. إن امام المسلمين هو رئيس حكومتهم السياسية». لقد تبين إن وراء تلك الجهود خطة مبيتة من قبل الملك احمد فؤاد للحصول على لقب الخلافة في مصر ثم العالم الإسلامي، مدعوما في ذلك من السلطات الاستعمارية البريطانية، وذلك بغرض تعزيز موقعه وسلطته، بإضفاء طابع ديني عليها، توطئة لنسف مكاسب دستور 1923، وتحجيم حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول باشا، وضد مجلس النواب الذي انتخب في 24فبراير سنة1925، وفاز فيه حزب الوفد (الليبرالي) بأغلبية ساحقة، مما دفع الملك احمد فؤاد لإصدار قرار بحله في 6مارس 1925، أي نفس يوم الافتتاح. ومع إن هذا التوجه من قبل القصر، تصدى له الكثير من الفعاليات السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية، غير رأس الحربة كان الكتاب المعنون "الإسلام وأصول الحكم " الذي أصدره الشيخ الأزهري البارز علي عبدالرازق، وكانت ردة فعل القصر، والتيار الإسلامي المحافظ إزاء الكتاب ومؤلفه قوية وحادة وعنيفة، فقد كتب الشيخ محمد رشيد رضا مقالا تحت عنوان (الإسلام وأصول الحكم. بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام. بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها، وتضليل أبنائها) مشنعا ومسفها لما جاء فيه معتبرا إنهاء الخلافة التي كانت على الإسلام أضر وأنكى من الحروب الصليبية باسم الدين.. وفي السياق وتحت ضغط القصر، شكل الأزهر «هيئة كبار العلماء» بغرض محاكمة الشيخ علي عبدالرازق وتفنيد ما جاء في كتابه، وتوصلت الهيئة برئاسة شيخ الجامع الأزهر وبإجماع 19 عالما معه من أصل 24 من أعضائها، إلى قرار إدانته في التهم الموجهة إليه. وكان منطوق الحكم اخراج الشيخ علي عبدالرازق من زمرة العلماء ولا يقبل الطعن في هذا الحكم ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى وطرده من كل وظيفة وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وقد أثار هذا القرار جدلا وتباينا حادا بين الخصوم والأنصار، وفي الأوساط السياسية والنخب الثقافية والاجتماعية الموالية والمعارضة على حد سواء. وفي الواقع علينا أن نتوقف عند الخلفية والدوافع السياسية لذلك الحكم، وانه كان رد فعل انتقامي من قبل القصر، بدليل إن الأزهر ذاته عاد بعد سنوات، فالغى حكمه السابق (بعد وفاة الملك احمد فؤاد وتسنم العرش ابنه الملك فاروق) على عبدالرزاق، وأعاده إلى زمرة العلماء، وممارسة التدريس في جامعة الازهر، وذلك عندما زالت وتغيرت الظروف السياسية التي دفعت إلى اتخاذ الموقف الأول.
#نجيب_الخنيزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدولة العربية الحديثة ومستلزمات المجتمع المدني ( 4 )
-
مفهوم المجتمع المدني .. ترسيخ فكرة المواطنة ( 3 )
-
مكونات وعناصر المجتمع المدني (2 )
-
بمناسبة العيد الثامن لانطلاقة الحوار المتمدن
-
المسار التاريخي لظهور وتبلور مفهوم المجتمع المدني ( 1 )
-
الحداثة والأزمة الحضارية 2 - 2
-
الحداثة وانسداد الأفق التاريخي ( 1 )
-
القمة الخليجية في ظل التحديات والاستحقاقات المشتركة
-
الاحتفاء بالشخصية الوطنية البارزة ميرزا الخنيزي
-
إيران: بين ولاية الفقيه والدولة المدنية
-
الديمقراطية على الطريقة الإيرانية
-
كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء.. ميثلوجيا الحزن والثورة
-
كارثة سيول جدة.. هل تكون محركا لاجتثاث الفساد ؟
-
تقرير منظمة الشفافية العالمية عن الفساد
-
مبادئ حقوق الإنسان.. بين النظرية والتطبيق
-
التجديد الديني والإصلاح الوطني.. ضرورة الراهن ( 13 )
-
التجديد والإصلاح الديني.. ضرورة الراهن ( 12 )
-
دور الأنظمة العربية والغرب في إعادة بعث -الأصولوية الإسلاموي
...
-
التكفير والعنف منهجان متلازمان ( 10 )
-
- الأصولوية الإسلاموية -.. بين التقية والعنف ( 9 )
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|