|
رحلة نحو الشمس - دراسة نقدية تفكيكية
سلمان ع الحبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2883 - 2010 / 1 / 9 - 16:00
المحور:
الادب والفن
قراءة نقدية في ديوان : ( إلى أين يتجه النيزك ) للشاعر ( عبد الله الأقزم )
……………………………………………………………………………………………………………………………………………
( إلى أين يتجه النيزك ؟ ) هو ديوان يجمع بين لونين شعريين هما : القصائد العمودية ، وقصائد التفعيلة ، وقد استطاع الشاعر / عبد الله الأقزم ،التعبير بانطلاق في كلا اللونين ، دون أن يكون الوزن والقافية الكلاسيكية قيداً تعبيرياً ، إلا أن الشاعر أبدع بشكل أبرز في الشعر الغزلي كما سنلمح لذلك لاحقاً .
وأول ما يواجهنا حين نطالع هذا الديوان هو عنوانه الذي يحمل بعداً تأملياً ( إلى أين يتجه النيزك ؟) . إنه سؤال يعبّر عن حركة دؤوبة ، عن رحلة لا تنتهي ، وهذا السؤال سيكتشف القارئ إجابته من خلال إيضاحنا لرؤية الشاعر التي تضج بأزمة المكان والتي تمثّل رؤيته ومنهجه في الحياة ، وهو منهج ديني ملتزم بحيث يمثّل الدين المحور الأساسي في شعره الذي تنطلق منه جميع الأفكار الأخرى وهو بهذا يمثّل ( أدب الالتزام ) الذي يهدف إلى قضية معينة يلتزم بها الشاعر ويكرّس أدبه في خدمتها .
وقد اختار الشاعر (النيزك ) واختار عنصر (المكان ) في تساؤله : ( إلى أين يتجه النيزك ؟) ليعبّر عن غربته الفكرية من خلال صدامه مع ثقافته التي لا تهتم بالفضائل والقيم الدينية التي ينادي بها ؛لذا اختار (النيزك) السابح في الفضاء ليعمّق إحساسه بالغربة ومن هنا نجد أزمة المكان حاضرة بقوة في شعره ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، ففي قصيدته ( نحو قبلتها الرهيبة ) يقول :
ما زال مبسمها الشمال يضيء في
قلبي ويشعل من خصوبته جنوبــــه
ويقول في قصيدة ( تمازجنا ) – وهذا التمازج يستدعي الفكرة الحلولية الصوفية- معبراً عن أزمة المكان بقوله : ( تضاريس الهوى في القلب تبدي … ) و ( يقيم لحبنا الأبديّ رحله ) . وهناك عبارات كثيرة ومختلفة في عدة قصائد تُعدّ عنصراً تكوينياً مهماً في شعره ، معبرةً عن أزمة المكان ، ونقتطف منها هذه الجمل :
( وأنا شمال حبيبة وجنوبُ ) – ( عيناكِ في عينيّ بينهما مدى / لا يلتقي في جانبيه غروبُ ) – ( دربي إلى عينيك يخفق بالهوى ) – (بجوار عينيك السماء تفتّحتْ )- ( فعلى جراح الحب يكتسح الهوى / كل الجهات ويستحيل هروب ) – ( ويا لحني المسافر في البرايا ) – ( ويا سفر الجمال إلى التجلي ) – ( فطفتَ بنا …) – ( وقد كان من رحلة الراحلين ) – ( وعنده يرحل وجه النهار ) – ( تشكّل ركضه فينا مقالاً ) – ( ليتني درباً غرامياً تمشّى ) – ( وجهاتي ألف جلادٍ ..تتاريٍّ …تمادى ) – ( هذه أنهار حب قادمات ) – ( كالصدى خذني …وأدخلني بحبٍ ) – ( امضي انصهاراً في مفاهيم الهوى ) – ( فكان فقدك ترحالي من العلل ِ ) وهنالك عبارة تمثّل نموذجه الفكريّ الذي يدور الشاعر في فلكه وتتمثل في البيت القائل : ( رحلتي نحو اتجاه الشمس / في عطر الضمير المطمئن ِ ) . وللشاعر قصيدة بعنوان ( الطائر المهاجر ) وهي تئن بأزمة المكان وتحمل صدى الاغتراب وأصبح الحبيب فيها منفساً يكمل ضلع هذا المثلث لتكون الأضلاع الثلاثة هي : الغربة / أزمة المكان / الصراع مع الحبيب .
وها هي عباراته : ( مات الهوى الدامي فراراً من غدي ) – ( أبحرت في درب طويلٍ مؤلم/ وقواربي بدمي غدت لا تهتدي ) – ( طرق الحياة إلى يديّ تسابقتْ ) – ( إني لبست البحر فجراً قادماً ) – ( سأعود ضوءًا لا الظلام يعيقه ) – ( وبأجمل الألفاظ ينتظر الندى / مني الوصول إلى الهوى المتجدّد ِ ) .
وليست هذه الغربة المتجسّدة في شعره تدفعه إلى الانعزال ؛ لذا فإنه قريب من الناس في شعره بل إنّ كل شخوصه هم من الأرض مع أنه يصف نفسه بالنيزك ، فأبطاله ليسوا غرباء عن الوجود وهو معهم يعلن لهم حبه وينصحهم بما ألزم الشاعر به نفسه من الأخذ بقيم الدين ومبادئه وهو بهذا يكون رجل دين في عباءة شاعر ، أو شاعر في عباءة رجل دين ، وهو في النهاية ينتصر للفضيلة والدين ، والنيزك لن يسقط على الأرض لأنّ في سقوطه نهايته المحتّمة ، لذا سيظل سابحاً في الفضاء مغترباً عن ثقافة تصطدم مع القيم والفضيلة والدين وسيظلّ في رحلته الدائبة باتجاه الشمس كما يعبّر عنها ، وسيظلّ يعلن رفضه للواقع الذي لا يتخذ الدين منهجاً للحياة ، فهو يقول في قصيدته (فيضانات في الضعف العربي ) : ( كيف صرنا من نسورٍ شامخاتٍ ..
رمماً فوق رمم ْ ) ويقول فيها : ( قرأت زينب في الطفّ سطوراً دامياتٍ ) ويقول : ( كم تلقى جسد السبط من الطعن فصولاً ) ويقول أيضاً :
( ونساء العري والهزّ غدت أعلى هرمْ
كل من يبذل فسقاً وفجوراً
صار بالطبلة والمزمار
أستاذ الكرم ْ )
وهذا الواقع الذي يرفضه الشاعر هو واقع ذليل يصف فيه هؤلاء الذين ينقادون إليه بالأغنام والخراف ، وهو بهذا يكون من شعراء الدعوة الإسلامية ، وهذا النفَس الديني يعدّ من أهم العناصر التكوينية في شعر عبد الله الأقزم ، بل هو المحور الأساسي في قصائده ، وهو يعد نفسه معلّم الفضيلة ؛ لذا يحاول أن يوجّه الناس لقيم الدين ومبادئه ، ويستحضر الرموز الدينية ليتعلّم منها الناس ما ينفعهم في واقعهم ، بل هو يشعر بقدسية النص الذي يكتبه حينما يمتزج بقيم الدين التي يدعو إليها ؛ لذا فإنه حينما يمتدح جدّته يقول :
( يا نسمة الصبر من أم البنين أتتْ / وما عليكِ سوى أحلى التلاواتِ )
ويقول فيها أيضاً :
( كنتِ الحسين على أمواج محنته ) .
ويقول :
-( أماه فيكِ تتالى صوت فاطمةٍ / يرنّ كالموج في بحر العباداتِ )
-( عليك دارت وجوه الطفّ فاتحدت/ عليك ثانية كل المصيباتِ )
-( صبرت يا زهرة الدين الحنيف على / فتك الليالي وكبريت الشقاواتِ )
- (وفيكِ قد دخلوا في خير مشكاةِ ) .
وكلمة ( المشكاة ) السابقة تستدعي الآية القرآنية : ( مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباح ) ، كما أنها ترتبط برحلته المستمرة نحو الشمس كما يعبّر عنها في نص سابق ، وهو يرسم في النص نفسه مفهوماً اصطدامياً مع الواقع الذي يعيشه ، كما يرسم قدسية نصه حيث يقول :
( عولمتُ نعيكِ يا أماه فاضّجعي / على ضلوعي وعيشي في مناجاتي )
فالعولمة عند الأقزم هي نشر الفضيلة والقيم الدينية ، وعبارته ( عيشي في مناجاتي) يبيّن مدى عمق التجربة الدينية ، فالمناجاة عند الشاعر ليست سوى التوجه الديني الذي يحمله ويسعى لنشره عبر قصائده ، والمناجاة عادة ما تستحضر في المفهوم الديني الدعاء والتوجه نحو الله ، ومناجاة الشاعر هي شعره ، إذاً فشعره دعاء وبالتالي فهو يجعل لشعره – كما أسلفنا – قدسية دينية ، وهو يؤكّد هذه القدسية ويعمّقها بدعوته المستميتة ، وكفاحه من أجل قضية هو مؤمن بها فيقول :
( أتريد قلب الشعر أن يتجدّدا
أتريده وهجاً
مثيرا جامحاً
متودّدا
….ستراه في بركات آل محمدٍ
صنفاً جديداً
جيدا
ستراه عند البضعة الزهراء
حتماً
قد تفتّح للخلائق فرقدا )
فشعره سيكون في نظره الأعلى والأكمل لأنه يسير في الاتجاه الديني الصحيح ، وبهذا فهو الصنف الجديد والجيد وهو الذي يتفتّح للخلائق فرقداً كما يقول، وهو يضيف إلى ذلك بوصف شعره الذي اكتسب هذه القدسية فيقول :
(فأقام أحرفه
الزواهر مسجدا )
وتلك العبارة تكفي لإعلان قدسية النص الذي يمثل ( بيت الله / المسجد ) إذاً فالبيت الشعري ليس بيت الشاعر إنه بيت الله ، ويمضي في قصيدته التي عنوانها : ( ماذا تبقّى للكواكب؟ ) بذكر تلك القيم الدينية والدعوة إلى الالتزام بمنهج الدين الصحيح فيقول :
( رايات دين الله تخفق دائماً
في عشق فاطمةٍ
فتمتلك المدى )
ويقول :
( ودعاؤها
قد طاف سبعاً )
ويقول أيضاً :
( يا زهرة المحراب
يا مدّ الحنان
وكلّ أبواب الهدى
شهب العبادة
في دعائكِ ، في ركوعكِ ،
في سجودكِ
لن يقيّدها مدى )
وأهم ما يطالعنا هنا قدسية النص الذي يعدّه الشاعر المناجاة التي يتعبّد بها المتلقّي فيقول :
( حقٌّ لكل قصيدة
حرقت بحبكِ
أن تعيش وتفتدى )
وما دام النص الشعري الذي يقدّمه الشاعر عبد الله الأقزم هو محترق بحب السيدة فاطمة الزهراء في تلك القصيدة ، فإنه لزام على المتلقّي أن يفتديها بنفسه ، وأن يجعلها تعيش خالدة مدى الأزمان .
وللشاعر قصيدة بعنوان ( اشتعال ) وهي موجهة نحو الحبيبة ، وتحمل الحزن والحرقة وقد تكرّرت كلمة (اشتعال ) في تلك القصيدة خمس مرات وأتت معها كلمات تسير معها جنباً إلى جنب في الحرقة والألم مثل ( أفنى ، اقتحام ، انفجارات ، التهاب ، انصهاراً ، رعوده ) . وليست هذه الآلام إلا آلام الاغتراب الذي يحمله الشاعر نتيجة الفكر الديني الذي يصطدم فيه مع الواقع ، بل هو يحاول أن يدخل ( الحبيبة) محرابه الشعري أو قدسيته النصية أو مناجاته فيقول لها :
( أنتِ في محراب عشقي / وجه آراء سديده )
والنور الذي يتردّد في هذه القصيدة هو المقصد الديني الذي يشير إليه الشاعر في رحلته باتجاه الشمس ، وهذا النور هو الذي يقرّره في قصيدة أخرى بعنوان ( شقّ السماء بنوره ) في مدح النبي محمد ، إذاً ليس النور سوى ( الحقيقة الدينية ) المتجلية لدى الشاعر والتي يقول فيها :
( من ذلك النور المسافر أبصرت
أضواء عشقي في الوريد محمدا )
إن الشاعر عبد الله الأقزم في كل ذلك يستعيد تاريخاً دينياً ليس بعيداً عن ثقافته ، بل هو حاضر في وجدانه ، يشكّل قصيدته وأفكاره ، إنه في هجرته الدينية ، يستعيد جزءًا مهماً من ثقافته حيث يستدعي ( هجرة النبي ) حينما تعرّض لأذى قريش ، فقد كانت تلك الهجرة لإصلاح الواقع لا الفرار منه ، كما أنه يستحضر أيضاً ثورة الحسين بن علي في إنكار الواقع بدافع الإصلاح حيث يقول الحسين: ( إنما خرجت للإصلاح في أمة جدي ) ، إذاً فالشاعر يحاول الخروج من الواقع ليصلحه لا ليقبره ، لذلك نجد لديه حس الدعوة واستحضار الرموز والنبرة الخطابية واللغة السهلة القريبة من أذهان الناس ليكون أداء الدعوة سهلاً في متناول الجميع ، وليس الرحيل إلى الفضاء إلا المكان الملائم الذي يستمدّ منه الشاعر العون الإلهي ليبدأ مشوار الإصلاح ، وهو بهذا يستدعي – أيضا – قصة النبي في تعبده في غار حراء .
إنّ الشاعر يعيش بتلك الثقافة بكل وجدانه ، وليست كلماته سوى أشجار تتغذّى من تلك الثقافة . إنه يبدأ وكأنه المعني بالخطاب الذي وُجه للنبي في دعوته ، حيث يأمره القرآن بقوله : ( ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) ؛ لهذا فشعره جاء استجابة لهذا الأمر ، ومن هنا نستكشف بعداً آخر في شعر الأقزم ، فالأنا المتضخمة الموصوفة بالنيزك ، والنص الذي يشعر صاحبه بالسموّ هو نتيجة للقدسية التي يقبع النص في محرابها ، كما أنّ النص الذي يضجّ بالغربة والرحيل والشعور بأزمة المكان لم يكن إلا اغتراباً فكرياً محباً نتيجة لاصطدام بواقع مريض مليء بكل ألوان الفساد حسبما يراها الشاعر . وليست الغربة هنا قلقاً وجودياً ولا فراغاً روحياً بل هي رغبة في الإصلاح ، والهجرة هي السبيل للتزوّد من فيض النور . والنور الذي يسعى إليه الشاعر هو غاية الرحلة المضنية وهو المبتغى الذي يدعو له بعد هجرته .
لقد صنع الشاعر عالمه الخاص عبر شفرات ٍ تمثل حلاً لهذا ( اللغز / النص ) وتتمثل في : ( الأنا الحاضرة بقوة – أزمة المكان والاغتراب والرغبة في الرحيل – النور ) ، وتلك الشفرات اللغوية أو القطع الأثرية دلتنا على حضارة الشاعر الغائبة التي يمكن أن نصفها بشعرية الأقزم .
وإذا حاولنا أن نقف عند ملمح آخر من ملامح القصيدة عند عبد الله الأقزم ، فإننا سنجد استحضاراً لتجربة نزار قباني في التعبير اللوني حيث عبّر الشاعر عن اللون بشكل واضح في عدة قصائد ، ونزار – كما نعرف – تضج قصائده باللون كما خصّص ديواناً بعنوان ( الرسم في الكلمات ) ، وسنلمح هذا الأسلوب التعبيري عند الشاعر عبد الله الأقزم في عدة مقاطع :
-( وهي في ضحكتها الصفراء
رعداً يتبارى
في سباقات الصحارى القاحله )
- ( كل جرح ٍ هو أرشيف بقلبي
وله بوابة حمراء …..)
- ( فأنا لون رمادي لشرحٍ
وهو في أول مشوار اقتتال الأمثله )
( دعني على شفتيك ورداً أحمرا ) ( ارسم فؤادينا معاً في لوحة الصبح الجديدِ
ارسمهما لهيباً كبيراً أحمراً
في الحب يبحر في الحرائق بالمزيد ِ )
( في حبك الناريّ أصبح دائماً أنشودة وحمامة بيضاء
في حفل التبسم والتمازج
والتراقص والتعانق والورودِ )
( بقي الحب على مدرجه الأخضر والأصفر ِ
مقصوص الجناحْ
وتعرّى القمر الأبيض
من أضوائه
من حلمه الساكن
في معرض أزياء الرياحْ )
( وأنا البرود هنا على رأس القصائد كلها والعزلة الخضراء بين أصابعي
وانا الهدوء على مسابح دمعتي
وأنا انفجارٌ ضمن أوجاع عديده )
( هل حرامٌ أن يعيش ، الوهج الأحمر
ما بيني وبينك؟
كل احلاميَ حبلى
باصفرارٍ
بانكسارٍ
بدمارٍ
حينما يجتاحها
زلزالُ أنشودةِ بعدكْ )
( إنني في أبجدياتِ عذابٍ غرفتي كم حاولت
ترسم وجهك )
( بقيتْ لهيباً أصفراً متطايراً / ألحانُ نبض عاشقٍ متودّد ِ ) وهذه الألوان حاضرة بشكل واضح في شعره الغزلي تحديداً ، ليعمّق بذلك التجربة النزارية حيث اشتهر نزار بشعر الغزل .ولا يتلاقى الشاعر عبد الله الأقزم مع نزار في اللون والرسم بالكلمات فقط ولكنه يتلاقى معه أيضاً في وجدانيته الصارخة المعتمدة على المبالغة في التعبير ، والأنا البارزة ، وكذلك في سبك الألفاظ وبالذات في شعر الغزل ، فالأقزم حين يقول :
( فقطفت من شفتيكِ أحلى قبلةٍ / وزرعت من نهديكِ مزرعتي العريقه ) فكأننا نجد روح نزار في هذا البيت , وسأستعرض أبيات لنزار قباني تتلاقى معها لغة الشاعر عبد الله الأقزم حيث يقول ( نزار قباني ) :
( سيدتي عندي في الدفتر
ترقص آلاف الكلمات
واحدة في ثوب اصفر
واحدة في ثوب أحمر
يحرق أطراف الصفحاتْ )
ويقول :
( يا صيفي الأخضر يا شمسي / يا أجمل أجمل ألواني ) .
ولكنّ نزار قباني كان ينشد غزلاً مكشوفاً أما عبد الله الأقزم فإنه ينتصر للفضيلة حيث يقول الأقزم :
( وجهاتي ألف جلاد ،
تتاريٍ
تمادى
حينما حاول
أن يربط بالأغلال
بحركْ
حينما حاول
أن يوقف عن نار الهوى
العذريّ
سحركْ )
فغزله وإن مسّ مفاتن المرأة فإنه مساس من بعيد ، ولا يمثّل إلا جزءًا يسيراً من شعره ، وهو مع استحضاره لغزل نزار في مفاتن المرأة إلا انه يختلف عنه في التوجّه ، فنزار لا يرى في المرأة إلا أنها تحقيق لمتعته وهو القائل فيها :
( ما أنتِ حين أريد إلا لعبةٌ / بلهاءُ تحت فمي وضغط ذراعي )
ويقول :
( وأنا الذي
أنقذتُ نهدكِ من تسكّعهِ
لأجعله أميرا )
أما عبد الله الأقزم فغزله يحمل توجهه الدينيّ ، وهذا ملمح آخر ، وعنصر تكوينيّ بارز في شعره . وإذا توجهنا لجانب آخر من غزله فإننا سنجد أن اللغة عنده في الغزل تأخذ أوسع مدى بحيث لا تحدّها حدود ، بل إنها تتجاوز حدود المعجم واللغة التوصيلية المباشرة ، كما أنها تحمل رؤى متعدّدة ، تمثل فلسفة الشاعر ، الذي جعل من المرأة محراباً يفيض بكل ألوان القداسة ، بالإضافة إلى أنه جعل المرأة منفساً للتعبير عن أزمة الشاعر مع الواقع ، وهي أزمة غربة وأزمة اختلاف ، فحملت المرأة في شعره بهذا دور البطولة في أنها استطاعتْ أن تكون وسيلة لتعدد الرؤى ( الفضيلة / الغربة / الوجع والاختلاف مع الواقع ومحاولة الإصلاح ) ، ولكنّ البطولة الحقيقية ليست للمرأة بمقدار ما هي للرؤى التي يبثها الشاعر من خلالها ، وبهذا تحمل المرأة دوراً بطولياً ثانوياً ، وسنقف عند أروع قصائده الغزلية التي حملتْ أبعاداً متعددة بلغة سهلة .
القصيدة الأولى ( فأنا بأحلى قبلتين لهيب ) في هذا النص يدرك القارئ أن الشاعر تجاوز المعنى الأوليّ ، ليعبّر عن معجمه الخاص ، المتمثّل في القيم الدينية التي ينادي بها ، وغربته نتيجة الاصطدام بالمجتمع الذي يضجّ بألوان الفساد والانحراف حسبما يرى ، ورغبته في الإصلاح ، وقد ألبس الشاعر هذه المعاني ثوباً غزلياً يخاطب فيه المرأة ، ولكنّها كما عرفنا ليست سوى وسيلة لبلوغ تلك المعاني الأصيلة التي يحملها الشاعر متنقلاً في الفضاء الفسيح كالنيزك ، لهذا نجده يبدأ قصيدته بقوله :
( ما النبض في دنيا هواكِ يتوبُ )
فالشاعر لا يعرف التوبة لأنه لم يذنب حينما حمل معه كل تلك الرؤى والأفكار التي يرى أن من شأنها أن تصلح المجتمع، بل هو اللهيب المشتعل بها حيث يقول :
( فأنا لأحلى قبلتين لهيبُ ) وفي هذه القصيدة تتجلّى أزمة المكان بشكل جليٍّ مفصحةً عن شفرةٍ يستخدمها الشاعر بشكل لا شعوري ، حينما يرى أنه شمال حبيبة وجنوب ، ووجود المدى بين عينيه وعينيّ الحبيب،وخفقان القلب بالهوى حينما يسير إلى عينيها ، وتفتّح السماء بجوار عينيها ، واكتساح الهوى كل الجهات . وإذا دققنا أكثر فإننا سنجد صراع الغربة مسبوكاً بشكل فنيّ غير ملحوظ بحيث يرتبط هذا الصراع بأزمة المكان في قوله :
( بيني وبينكِ تستمرّ عواطفٌ / مداً وجزراً بينهنّ حروبُ ) .
إذ إن البيت السابق يحمل غربة الفكر ، فعاطفة الشاعر لا يقرّ لها قرار ، ولا تهدأ أبداً ، بل هي مستمرة في ( المد والجزر ) ، فحيناً تثور مقدِمةً ، وحيناً تحجم خوفاً من الاصطدام ، وفي كلتا الحالتين تشتعل الحروب ، فإنْ هو أقدم لإصلاح الواقع ، فهو في حرب مع هذا الواقع الخارجيّ ، وإنْ هو أحجم فهو في حرب مع داخله ، ويكون الحرب الداخلي في قلبه هو أضعف الإيمان ؛لأنه إنكار بالقلب عنده ، وهذا ما يجعله مرغماً على أن يكون في وسط الحرب الذي ارتضاها لنفسه باعتباره مصلحاً من خلال ( الكلمة ) .
وقد فطن الشاعر إلى الحيلة التي جعل المرأة من خلالها إجابة لتساؤلاته حيث يقول :
( عيناكِ أستاذ الفؤاد وملتقى / لجميع أسئلة الغرام يجيبُ )
إنه جعل المرأة إجابة لكل التساؤلات ، وكل تلك الرؤى المتوقّدة في قلبه . إنه حاول أن يعطيها دوراً بطولياً ، وأن يجعلها أستاذة لتعليم الفضيلة التي أراد أن يوصلها ، ولكنه دور ثانوي ، وليست الأستاذية في الواقع إلا للشاعر نفسه ، أما المرأة فهي تلميذته وليست أستاذيتها إلا في أنها اتقنتْ الدور الذي رسمه لها لتعبّر عمّا أراد .
وقد عبّر الشاعر في هذا النص أيضاً عن الاصطدام مع الواقع وما يحمله من جراح بقوله :
( فعلى جراح الحب يكتسح الهوى / كل الجهات ويستحيل هروبُ )
إنه جعل رحلته الدؤوبة التي شملت كل الجهات أشبه بالهروب ، ولكنّه ليس هروب استسلام ، بل هروب إصلاح، وقد عبّر الشاعر عن رحلته بأنها تحوّلت إلى هروب موحياً بالغربة والشعور بالأذى النفسيّ الذي يتعرّض له من واقعه المر ؛ فلا يهرب إلا من تعرّض للأذى ومن شعر بالغربة والمرارة .
لقد استطاع الشاعر في قصيدته ( فأنا لأحلى قبلتين لهيب ) أن يسبك ألفاظه سبكاً فنياً محكماً ، بحيث يجعل القصيدة تحتل مركز الصدارة مع مجموعة من قصائد غزلية أخرى ، وهذا السبك اللفظي ندركه في عبارات متعددة منها ( دربي إلى عينيك يخفق بالهوى ) ، ( فعلى جراح الحب يكتسح الهوى/ كل الجهات ويستحيل هروب) بالإضافة إلى اللغة الموحية التي ندركها في عدة عبارات مثل : ( فعلى اشتداد الجرح يكبر جرحنا ) ، ( عيناكِ في عينيّ بينهما مدى ) ، ( وأنا اقتناص الرمش في جمر الهوى ) ، كما أنّ الوزن الذي جاء على بحر الكامل قد ساعد في إيصال الحزن والمناجاة الرقيقة من خلال ( المد والرتابة الإيقاعية ) بالإضافة إلى مغايرة تفعيلة القافية ( متفاعلْ ) وكأنها بمثابة تنبيه إيقاعي ، وهذا عنصر جمالي يضاف للنص ، حيث جمع بين المد والرتابة الإيقاعية التي توحي بالحزن والمناجاة ، وبين التنبيه الإيقاعي الذي يوحي بصرخة مدويّة .
واختتم الشاعر قصيدته ببيان مسالمته وحبه الكبير حيث يقول :
( يا أجملَ العينين إني واحةٌ / في جانبيكِ وبركةٌ وحبيبُ ) .
القصيدة الثانية ( غليان الأسئلة ) . هذه القصيدة من الشعر الحر ( التفعيلة ) ونفَسها الشعري منطلق، وقدساهم الوزن إلى حد كبير في انطلاقه ، بالإضافة إلى وجود العنصر اللوني مما جعل القصيدة مرسومة بالكلمات .
ومنذ الوهلة الأولى يدرك القارئ عمق الصراع من خلال العنوان فليس هنالك صراع أعمق من الغليان الذي يمكن للمرء أن يعيشه .
إنّ الغليان آتٍ من الآخر وهو ( الحبيب ) الذي كما عرفنا ليس إلا قناعاً للمجتمع الأعم الذي يصطدم مع ثقافة الشاعر .
إنّ المرأة أو المجتمع بالمعنى الأصح كمن يوقد الزيت بالنار في نظر الشاعر مما يؤدي إلى اشتعاله وغليانه ، ولكنْ ما هذه النار التي يمكن أن تشعل هذا الزيت وتجعله في غليان ؟! .
تلك النار هي السؤال الذي يمكن أن يطرح على الشاعر وكأنه يقول : ( لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم ) ، بل هو يصف تلك الأسئلة التي تطلق، بالجهل حيث يقول واصفاً الحبيبة التي تعبّر عن رؤاه :
( أمطرتْ جهلاً عميقاً
وهي في ضحكتها الصفراء
رعداً يتبارى
في سباقات الصحارى القاحلهْ )
إنّ الشاعر يئنّ بأسئلة حمقاء تُلقى عليه وهو يريد إيصال المعاني العظيمة التي يجب أن يُسأل عنها بدلاً من أسئلة لا قيمة لها في نظره ، إذ يعبّر عنها بقوله :
( تفتح النار شراييناً بقلبي
وتزيد المشكلهْ )
إن الأسئلة التي لا قيمة لها ، وليست من اهتمامات ( الشاعر/المصلح) تجعله في دوار أبديّ في قوله : ( أدخلتني دوراناً أبدياً ) ، بل إنّ هذه الأسئلة تجعله عاجزاً عن الإجابة حيث يقول :
( خار لفظي وتوارتْ
في مسافات التحدّي الأخيلهْ )
وهو يحمل الجراح التي تنزف بسبب مجتمع مريض ، لا يدرك أنه غارق في الجهالة والفساد والانحطاط ؛لذا فإنّ الشاعر يقول عن نفسه : ( وأنا جرح طريق تائهٍ ) ، بل هو يختزن كل تلك الجراح ولا ينساها ، وليس هذا الشعر إلا إفراز لهذا المخزون فهو يقول :
( كل جرحٍ هو أرشيف بقلبي
وله بوابة حمراء
…….) .
ولكنه في نهاية قصيدته يتنبّأ بانهيار هذا المجتمع المريض في نظره حيث يقول :
( وعلى نار وثاقي
مشهد ينعى انهيار القافلهْ )
وهذا النص يرسم عمق الصراع بينه وبين الآخرين ، وهو ملمح من ملامح الطبقية الفكرية ، فهو يمثّل فكراً عُلوياً متسماً بالفضيلة والنقاء والحب والخير للإنسانية ، ويستمد وجوده من قيم الدين ، بينما الآخر يتصف بفكر ساذج بسيط بعيد عن الفضيلة والنقاء ، بل هو بعيد عن ثقافة الشاعر ، مما يعمّق الشعور بالغربة . وهذا النص يذكرنا بنص للشاعر بلند الحيدريّ الذي وظّف المرأة في التعبير عن صراعه الداخلي مع ثقافته حيث يقول الحيدري :
( أتحداكَ لن تعود
فضجّتْ كبريائي
وغمغمتُ :
مسكينهْ
وتحسستُ ملء ذاتيَ عملاقاً
تهاوتْ
عواطفُ الناس دونهْ
مرّ بالمجد
فاستهان دُراهُ
ورأى فجرهُ
فداس جبينهْ
وتسمّرتُ في سكينةِ نفسي
فإذا الأرض
كلها في سكينهْ
وإذا الأفق مطرح لخيالي
أتبنّى فيه رؤى مجنونهْ
إنْ تراءى الوجود
يوماً بدربي
عقّ وجهي
فلم أصافح يمينهْ
صرتُ كالموتِ عابثاً أتنزّى حيثما شئتُ
ضحكةً ملعونهْ
ينسج الصمت في جوانب نفسي
من خطاه الطويلة
المسكونهْ
عالماً
شامخ الذرى
يتأبى
أن يرى نفسه حكاية طينه ْ )
ويقول ( بلند ) أيضاً في نص آخر يمثّل هذا الصراع وهذا الاغتراب الفكري :
( وستبتغين …وترفضينْ
وستضحكين …وتحزنين ْ
ولكم سيحملكِ الخيالُ
وتحلمينْ
لكن …هناك
هناك في العبث الذي لا تدركين ْ
ستظلّ ساعتك الأنيقهْ
تلهو بأغنيةٍ عتيقه
ولن ترى
ما تبصرينْ ) .
ومع أنّ الشاعرين اتفقا في وجود صراع فكريّ مع الآخر ، إلا أنهما اختلفا في هذا الفكر ، فبلند الحيدري يعيش اغتراباً فكرياً من نوع آخر ، إنه يعيش قلقاً وجودياً ، وصراعاً مع الآخر الذي ينتمي لفكر ديني أو تقليديّ ، أما الشاعر عبد الله الأقزم فليست غربته قلقاً وجودياً ولا فراغا روحياً ، بل هي غربة اختلاف مع واقع يراه مريضاً إذ أنه لا ينتمي لفكره الديني الذي يدعو إليه ، إنه يشعر بعدم الانتماء لهذا الواقع ؛لذا فهو يحاول إصلاحه ، والهجرة هي سبيله للتزوّد من فيض النور الإلهي ليعود بعد ذلك بهذا النور ليعم الخير على الجميع مالئاً الفراغ الروحي ومصلحاً كل فساد أخلاقي في مجتمعه الذي أحبه حاملاً بذلك دور الوصاية المتمثّل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذا المجتمع ليس وطن الشاعر بل هو ( المجتمع الإنساني عامةً ) ، وهذا يجعل الشاعر يعبّر عن أحداث تتعدّى وطنه ، وينادي بالقيم الإنسانية لكافة الناس .
القصيدة الثالثة : ( دعني على شفتيك ورداً أحمرا ) هذه القصيدة مرسومة بالكلمات ايضاً من خلال التعبير اللوني الذي ألمحنا إليه سابقاً ، ولكنّها تفتضح النموذج الفكريّ الذي يدور الشاعر في فلكه ، وقد ساعد الإيقاع الحر المعتمد على التفعيلة على الانطلاق للتعبير عن تلك الأفكار والرؤى التي سنذكرها والتي تتمثل فيما يلي :
(1) المرأة/ المهرب لقد جعل الشاعر من المرأة وسيلة للهروب ، ولكنّها حينما تكون مهرباً تتعدّى أن تكون أنثى ، فهي هنا تمثّل الفضيلة أو النور الذي يسعى للتزوّد منه أو الشمس التي هو راحل باتجاهها ؛ ليأخذ منها الشعاع الذي يصلح مجتمعه .
إذاً ، فالمرأة رمز للملجأ الذي يتزوّد الشاعر منه بالنور فهو يبدأ قائلاً :
( دعني هنا
في حضنك المغمور ِ
بالعزف الفريد ِ
دعني على شفتيك ورداً أحمراً
وتجدّد القبلات بالوهج التليد ِ
دعني أحوّل كل أجزائي إلى
لقيا غرامك
كالشذا
كالشعر في الحانهِ
كالماء في جريانه ِ
كالقبلة الأحلى
لميلاد الورود ِ
يا من ألوذ بقلبهِ
ما كان حبي ها هنا
في الضمّ والفوران
يشكو من ركودِ
كيف الركود
وحبنا كالنار تنعم بالوقودِ )
إنّ الشاعر حينما يطلب ويكرّر للحبيب ( دعني ) في هذه القصيدة ، فهو إلحاح على الرحيل ، وقد عرفنا مفهوم الرحيل عند الشاعر الذي هو باتجاه الشمس ، وليست المرأة إلا رمزاً يمكن أن يلوذ به الشاعر للتعبير عن هذا المعنى . وإذا أمعنّا النظر في كلمات مثل : ( ألوذ ، الفوران ، كالنار تنعم بالوقود ِ ) ، فإننا نجد فيها حقيقة الصراع والألم الذي يتعدّى مفهوم الغزل ، بل يفتضح النموذج الفكري الذي ينتسب إليه الشاعر ، وهو الرحيل إلى النور الذي يتزوّد منه لإصلاح قومه . إنه رحيل نحو كهفٍ يتعبّد فيه متزوّداً من نور الله ، وكأنه في غار حراء ثم يخرج للإصلاح ، وقد أفصح الشاعر عن هذا المعنى الذي يمثّل صراعه الحقيقي حيث يقول :
( وأعيش في معناكِ عيشة ناسكٍ
متأمل متبحر ٍ
حرث الوجود تفكراً
بين الركوع مضى
وما بين السجود ِ
وأضيءُ في الكهف العميق تساؤلاً
أهواك شرط تألقي وتميّزي وأناقتي
وحكايتي نحو الخلودِ ؟
أهواك حلٌ
للطلاسم كلها
وبصيرتي وهدايتي
وطريقتي المثلى
على محو الجليدِ ؟
أنت التساؤل والجواب
فما هما
إلا مطالع أحرفي وقواربي
ما بين مجداف النشيدِ
ينمو ثرائي
في الحياة وما لهُ
إلا غرامك في رصيدي
إني أعيش بعطر حبك جنّتي
وأعيش فيك بدايتي ونهايتي
والعالم الأحلى بتأريخ ِ الوجود ِ )
إنه في هذا المقطع كشف القناع للمتأمل عن حقيقة المهرب والملاذ الذي يلجأ إليه الشاعر ، فهو مهرب للتعبد ، يعيش فيه الشاعر عيشة الناسك المتأمل للحقائق والمتبحّر فيها ، والذي يفسّر حقيقة الوجود . إنه يمضي بين الركوع والسجود في كهف بعيد عن الناس ، مما يجعله يقتبس نوراً من نور الله ، بحيث يضيء في الكهف كل تساؤلاته ، ويعيش حياة النسك في البداية والنهاية ، وهذه الحياة هي العالم الأحلى بتأريخ الوجود ؛ لأنه الوسيلة إلى الجنة حين يقول : ( إني أعيش بعطر حبك جنتي ) .
(2) الصراع مع الواقع : إن الشاعر – كما أسلفنا – يعيش صراعاً مع واقعه الذي يختلف معه فكرياً ، مما يجعله يعيش حالة اغتراب ، تدفعه للرحيل ، الذي يتزوّد منه خير الزاد ، إنه يتزوّد التقوى ثم يندفع للإصلاح ؛ لذا فهو يعبّر عن هذا الصراع بكلمات مثل قوله : ( كيف الركود؟ ) ، ( كالنار ) ، ( يبحر في الحرائق بالمزيد ) ، ( في لغة الصدى ) ، ( كالسيل في هدم السدودِ ) ، ( كالفتح في فكّ القيود ِ ) ، ( كالغيثِ لا يمشي بأغلال الحدودِ ) ، ( من سهمه الممزوج بالوجع الشديد ِ ) .
(3 ) الرسم بالكلمات وهي سمة من سمات الشعر الغزلي في شعر عبد الله الأقزم التي يستحضر فيها التجربة النزارية ، ولكنه بهذا الرسم يحمل بعداً آخر ، إنه يمثّل التعدّدية التي يقبل بها الشاعر ، ولكن هذه التعدّدية يجب ألا تخرج عن نطاق الفكر العام الذي يحمله .
لقد عبّر الأقزم في قصيدته عن تلك الألوان التي ترسم لوحة فنية ،و ترسم معها أيضاً طريق الإيمان الموصل إلى الله ، فها هو يقول : ( ورداً أحمرا ) ، ( ارسمهما لهيباً كبيراً أحمرا ) ، ( أنشودة وحمامة بيضاء ) .
ومما يؤكد – أيضاً - قبول الشاعر بهذه التعدّدية وجود ( الحمامة ) وهي رمز للسلام الذي يعيش داخل الشاعر دون أن يكون الاختلاف مع الواقع اصطدامياً مبغضاً ، أو محاولة للفرض أو رغبة في تحقيق الوصاية القهرية قسراً .
القصيدة الرابعة : ( غرام عتيق ) : هذه القصيدة تمثّل صراعاً أشبه باليأس ، وكانه يقول : ( ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ، فها هو يقول : ( غرام عتيقٌ فلا يُشتهى ) ، إنه ملّ من هذا الحب ، من هذا الصراع ، وشعر بشيء من اليأس حتى أصبح حبه يلتذ بالميتين كما يعبّر عنه ، وكان من رحلة الراحلين أيضاً ، والرحلة – كما ذكرنا – تعبر عن فكرة الشاعر الذي يفرّ للإصلاح دون أن يستسلم للواقع أو يتذمّر بعيداً دون عودة لمحاولة التغيير.
لقد أصبح هذا الحب كما يعبر عنه بقوله :
( فما عاد إلا تراثاً عقيماً
مثال يموت مع الأمثلهْ
فعارٌ على الشمس أن تلبسهْ
وعارٌ على الحسْنِ أن يلمسهْ )
والشمس التي ذكرها الشاعر في المقطع السابق هي الشمس التي رحل الشاعر باتجاهها ليتزوّد من نورها .
رؤية الشاعر ( الرحلة باتجاه الشمس ) من خلال رحلتنا القصيرة مع هذا الديوان فإننا نستخلص تجربة ناضجة للشاعر عبد الله الأقزم تتمثل في مفهوم دينيّ إصلاحي يعبّر عنه بأنه رحلة باتجاه الشمس في قوله :
( رحلتي نحو اتجاه الشمس ِ في عطر الضمير المطمئن ِ )
إنها الرحلة التي تطمئن إليها نفس الشاعر ولا تتحقق إلا بذكر الله والتي يعبر عنها القرآن الكريم : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ، ويشير إليها الشاعر بقوله : ( في عطر الضمير المطمئن ) وهي إشارة واضحة إلى هذا التأثر الديني الذي يمثل شخصية الشاعر ، بل يمثّل شعريته الملتزمة بقيم الدين ومبادئه محاولاً الإصلاح والتغيير .
إنّ هذه الرحلة الدؤوبة في الفضاء ستكون رحلة دائمة لن تنتهي إلا بموت الشاعر كما بدأت بميلاده وبها يكتمل مفهوم الرؤية حيث يقول :
( فانا في أبجديات الهوى رحلة تكويني وميلادي
وتغسيلي وتكويني ودفني ) .
* سلمان عبد الله الحبيب ( أديب وناقد وباحث )
#سلمان_ع_الحبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وللشوق ابتهال
-
الحداثة وما بعدها في ميزان النقد
-
ساعة بقرب الحبيب أو (دروس في الحب )
-
النص بين سلطة الثقافة وسلطة القارئ
-
الكبت قنبلة موقوتة !
-
حين ينثر الرماد
المزيد.....
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|