|
الفيس بوك وعلم اجتماع الاتصال
رائد الدبس
الحوار المتمدن-العدد: 2882 - 2010 / 1 / 8 - 08:50
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
واحدة من الحوادث المهمة التي حصلت لي في العام 2009 هي حادثة دخولي عالم الفيس بوك . كان دخولي في البداية بطيئاً، ثم بفضل الكثير من الدعوات المشكورة التي لفتت نظري وأثارت فضولي المعرفي وساعدتني على اكتشاف حجم الإمكانيات الكبيرة التي تحملها هذه الحادثة في طياتها، فقد قلتُ في نفسي طالما أننا نستهلك كثيراً من الخيرات التي تجود بها علينا ثورة المعلومات ووسائل الاتصال، فلتكن هذه واحدة منها. فيس بوك، أو كتاب الوجه، بالترجمة الحرفية إلى العربية. والكلمتان تعبران أولاً عن اختيار ذكي من صاحب الفكرة مارك جوكربيرغ حين كان طالباً بجامعة هارفارد الأمريكية عام 2004، الذي كانت فكرته الأولية من تأسيس هذا الموقع، تسهيل التواصل بين طلبة جامعته، ثم سرعان ما تحول الموقع إلى واحد من أهم المواقع الاجتماعية عبر شبكة الانترنت على مستوى العالم. حيث بات يضم بين صفحاته أكثر من 350 مليون وجه حول العالم. ولم يكن مارك جوكربيرغ مخطئاً حينما رفض العرض الأول الذي تقدمت إليه به شركة نيوزكوربوريشين التي يملكها الملياردير الأسترالي ميردوخ- انتبهوا لهذا الاسم- لشراء موقعه بمليار دولار...روبرت ميردوخ هو الأسترالي اليهودي الذي يملك أضخم إمبراطورية إعلامية في العالم الغربي.
لو حاولنا أن نفكّك مصطلح الفيس بوك من زاوية سوسيولوجية، نجد أن كلمة الوجه كما لاحظ عالم الاجتماع الشهير أنتوني غيدنز "قد تدل أحياناً على اعتداد المرء بنفسه أو على المنزلة ودرجة الاحترام والمهابة التي يُضفيها عليه الآخرون.. كما أن الملامح والصفات المتصلة بالوجه أو الرأس تعبّر عن كثير من المشاعر القيميّة والخصال، حتى وإن كانت من جملة المظاهر الطبيعية التي يتميز بها الناس". ولو تذكرنا شيئاً من الموروث الاجتماعي للأقوال المأثورة عن الوجه، لدى العرب وكل الأمم الأخرى لوجدنا كمّاً هائلاً منها، على سبيل المثال: وجه معبّر، وجه ناطق، وجه قريب إلى القلب، وجه طيب،وجه منفّر،وجه ممتقع، وجه بارد..وقولون أيضاً:حفظ ماء الوجه، إراقة ماء الوجه، عملٌ يبيّضُ الوجه، عمل يُسوّد الوجه، والخ. أما كلمة كتاب بكل ما تحمله وما ترمز إليه من دلالات معرفية وتوثيقية ، فهي مرتبطة ارتباطاً عضوياً لصيقاً بالبعد الاجتماعي للوجه. إذاً كتاب الوجه أو الفيس بوك ما هو إلا النسخة الألكترونية –الافتراضية- عن الشخصية في إطار تفاعلها الاجتماعي.
هنالك الكثير من الدراسات والأبحاث التي يقوم بها خبراء وباحثون في علم الاجتماع وخصوصاً في فرعه المتنامي والمتزايد الأهمية : علم اجتماع الاتصال . تدرس هذه الأبحاث الكثير من الظواهر الاجتماعية العالمية والمحلية الجديدة التي أنشأها الانتشار الواسع لشبكة الانترنت، خصوصاً في عالم باتت تثقل كاهله الكثير من الضغوط والهواجس والمخاوف والجدران المصطنعة بين البشر، التي تَحُدّ من إمكانيّات التواصل الفعلي المباشر الذي يحتاجه الناس ويرغبون به، مقابل تنامي الحاجة للتعويض عن ذلك بتواصل جديد نوعيّاً من خلال شبكة الانترنت ومواقعها الاجتماعية. وفي اعتقادي فإن ظاهرة الفيس بوك سوف تحظى بالكثير من الأبحاث والدراسات المعمقة والأطروحات الجامعية في هذا المجال. من ناحيتي، أتمنى أن أرى يوماً بحثاً جدياً أو أطروحة جامعية لطالب علم اجتماع عربي أو فلسطيني يكون عنوانها مثلاً: دراسة الأثر الاستهلاكي لخيرات الانترنت من جانب المواطن العربي: ظاهرة الفيس بوك نموذجاً.
لكن لنترك التمني جانباً، خصوصاً وأننا قد تمنينا الكثير في الليلة الأخيرة من عام 2009. ولنرجع إلى حقولنا الصغيرة في عالم الفيس بوك لأجل قليل من التأمل فيما تحتويه من وجوه وثمار وأزهار وأشواك أيضاً. ففي حقولنا هذه نجد الكثير من الوجوه الطيبة والأصدقاء المميزين.. والكثير من الصفحات الرائعة لمثقفين وإعلاميين ومبدعين وفنانين، أفراداً ومجموعات. كذلك نجد الكثير من الصفحات الملتزمة الناطقة باسم فصائل ومؤسسات فلسطينية وشخصيات فلسطينية، سياسية واجتماعية وثقافية وإعلامية والخ..ونرى أيضاً صفحات لأفراد ومجموعات تهتمّ بأمور ترفيهية مُسلّية ومفيدة. لكننا نرى بالمقابل أيضاً وجوهاً لأفراد ومجموعات ذات طبيعة ودوافع وأهداف مختلفة وغير ناضجة، مثلَ دعوات انضمام لمجموعات وحملات التوقيع المليونية المعنونة على سبيل المثال بعنوان: واحد يهودي كلب تحداني أجمع 10 ملايين توقيع على كذا. وكأن الدافع لإطلاق الحملة كيديّ بحت.. ثم دائماً يجب أن نشبعهم شتماً وهم يفوزون بالإبل..-عذراً لطرفة ابن العبد- . وآخر يقول: من أجل طرد الفلاحين من نابلس، وتحفة أخرى تقول: إحمل ملوخياتك وعالجسر والقائمة طويلة.
نعلم أن ظروفاً كثيرة تتدخل في تحديد طبيعة وبُنية الفعل التواصلي، وأن الشكل الذي يتخذه الفعل التواصلي من خلال اللغة، يتبع تلك الطبيعة والبنية، وينتج عنها.. ونعلم أننا مستهلكون لكل ما تنتجه الحضارة الغربية التي نشتمها أيضاً. ونعلم أن ما يظهر على صفحات الفيس بوك من جيد أو من رديء، موجود في الواقع الفعلي بيننا ومنّا وفينا. أي أنه باختصار شديد: كتاب حمّالُ أوجه. لكن ما لا نعلمه، كم من الوقت سنحتاج لنخرج من بوتقاتنا الضيقة، ونبني أفعال تواصل أذكى وأفضل، يتمّ التعبير عنها بلغة أرقى وأجمل؟ أو بتعبير آخر، كيف يمكن أن نرتقي قليلاً بأسلوب استهلاكنا ونجعله استهلاكاً حضاريّاً لخيرات تنتجها حضارة أخرى غيرنا؟
كل فيس بوك جديد ووجوهكم بخير، بيضاء طيّبة، وماؤها محفوظ. باحث فلسطيني مقيم في تونس
#رائد_الدبس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تركيا والعبور من المضائق والبوابات الضيقة.
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|