أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - دعدوش : قصة قصيرة















المزيد.....


دعدوش : قصة قصيرة


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 874 - 2004 / 6 / 24 - 07:05
المحور: الادب والفن
    


- كل المؤشرات تؤكد . . أن ثمة ما سيحدث غدا . . الأخبار . . التحليلات السياسية . . التصريحات . . كل شيء ينذر بالخطر . . المدينة على فوهة بركان. أو كما يقال على كف عفريت.قاطعني عصام قائلا :
- أنت دائما هكذا . . تنظر إلى الأمور نظرة سوداوية . . المدينة هادئة.
- إنه الهدوء الذي يسبق العاطفة. . . سترى بعينيك , و أنا أراهنك على ذلك . .

- و دخل علينا دعدوش,. وأصر صديقي عصام أن يمازحه :
- ما رأيك يا دعدوش بما يجري في البلد ؟
من أي ناحية ؟
من ناحية الحمام . .
و انطلق دعدوش في الحديث عن أنواع الحمام, و أسمائها و سلوكها وعلاقته بها . . و مشاكله مع زملائه من مربّي الحمام ..
كان دعدوش يكرس جل و قته للحمام .. إذ لم يكن لديه عمل . . و كان يعمل ((طنبرجيا أي عربجيا)).. عربته قوية متينة و البغل الذي يجرها لم يزل نشيطا و قادرا على العمل الشاق. ...
ينطلق دعدوش صباحا . . و أحيانا تأتيه طلبيات خاصة بعد الظهر. . و كان يكرس أوقات فراغه للحمام. . الذي يتعامل معه كتعامله مع العشيقات.
و من وراء عمله هو و شقيقه .. استطاع أن ينهض بعمارة من عدة طوابق . . إضافة إلى العمارة القديمة التي كانا يملكانها.. و التي تتألف في معظمها من غرف منفردة, مع منتفعات مشتركة, مؤجرة لعدد كبير من العائلات الفقيرة البائسة بأجور زهيدة.
لم يكن دعدوش يسمع نشرة الأخبار, و لا البرامج السياسية و الثقافية. كان يحب الطرب . . و التمثيليات الإذاعية الفكاهية, و لم يكن ليهتم بما يجري حوله من أحداث سياسية,لأنها لا. تعني له سوى وجع الرأس , والشغب .. والحشرية . إيه يعمل .. يأكل .. يشرب .. يكشّ الحمام . إنه يستمتع بحياته هذه .. ولا يشعر بأي قلق أو خوف .
إنه مرتاح البال .. سعيد . ولا يريد – كما يقول – حمل السلم بالعرض .. وقد اختار – كما يقول – أن يمشي الحائط .. الحائط , ولا يتدخل فيما لا يعنيه .
حدثت هذه القصة عام 1962 م .. وما تزال عالقة في ذهني حتى الآن , وكقد آثرت كتابتها بسبب طرافتها .. وأهميتها .. ودلالاتها .
كان كل شيء في البلد يغلي ويفور , وكان الناس بجميع مستوياتهم وانتماءاتهم مشغولين بسياق الأحداث , التي تتطور وتتعاظم خطورتها يوما بعد آخر .
في ذلك اليوم المشهود .. خرج دعدوش – كعادته – مبكرا . . يقود عربته باتجاه الساحة المخصصة لوقوف الطنابر وتجمّع العربات .. وكان قد قدّم وجبة دسمة لبغله , قبل أن يحكم ربط السيور بين البغل والعرب’ , ولعلع صوته الحادّ " دجي .. حاااا..." , وتبعه صوت لسعة السوط المعتادة على مؤخرة البغل .
وحين وصل , لم يجد في الساحة المخصصة الكثير من العربات لأن من زملائه من يعير أذنه للقال والقيل والإشاعات , ويتأثر بها , وبالتالي فضلوا البقاء في منازلهم , حرصا على سلامتهم , وتحاشيا لمتاعب مفاجئة..
أحس دعدوش بغريزته.. أن الوضع غير طبيعي.. و أن الجو على غير المألوف فاستشعر الخطر.. و تسلل الخوف إلى قلبه.. و حاول الاستفسار عن السبب, لكن زملاءه ممن كانوا معه .. يجهلون مثله كل شيء عدا عملهم و كسب رزقهم..باستثناء قلّة قليلة أصرت على العمل في ذلك اليوم, على الرغم من كل التكهنات المتشائمة التي يتناقلها الناس.
واحد من معارفه .. أخبره عما سيحدث , هزّ دعدوش رأسه متظاهرا بالفهم , و رفع حاجبيه..تعبيرا عن كلمة لا أبالي . . لا أدري ..ربما .. و خشي لو أنه أراد العودة .. أن ينعته الناس بالخوف .. فانتظر فترة.. وهو يتداول معهم حول شؤون البغال و العربات و طرائف العمل..و كان خلال ذلك كلّه لا يكف عن التفكير في الكيفية التي سينسحب فيها من ذلك المكان .. و يرجع إلى بيته .. و ينجو بجلده ..
وأخيرا ..وجد الذريعة, قال : " لن أنتظر أكثر من ذلك.. يبدو أن السوق واقف هذا اليوم .. أوه.. تلك الإشاعات هي السبب.." و قبل أن ينتظر أي ملاحظات أو تعليقات من زملائه : قفز إلى ظهر عربته, و رفع يده بالسوط, ليسقط على مؤخرة البغل, و يصدر صوته المألوف, ممزوجا بصوته الحاد ّ : " دجي حا ". و انطلق البغل يجر العربة, خارجا من الساحة, فيما كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحا. . .
لم يبتعد دعدوش كثيرا عن الساحة.. بسبب إغلاق بعض الشوارع من قبل الشرطة حينا.. و من قبل جموع المتظاهرين حينا آخر
و فكر دعدوش .. و لم يجد منفذا للعودة إلى بيته, لذلك رأى الحل في العودة إلى الساحة,حيث يمكنه ربط عربته و التأمين عليها هناك, و يعود وحده إلى البيت ريثما تهدأ الأحوال, و يتمكن من إعادة بغله وعربته.. ربط دعدوش عربته.. و فعل بعض زملائه مثله ومضوا معا سيرا على الأقدام , ليختلطوا بجموع المتظاهرين ,ويغيبوا في الرحمة , حتى لاترى منهم سوى رؤوسهم ....
وكان دعدوش ضئيل الجسم , معتدل القامة , طويل الرقبة , وصغير الرأس , يبدو رأسه فوق رقبته الغليظة كالهمزة فوق الألف , وشكل وجهه وتناسباته " كاريكاتيرية " . عيناه صغيرتان , أنفه بارز , فمه كبير , أذناه مدورتان ومنتصبتان بشكل شبه عمودي على جانبي الرأس . أصلع , شنباه معقوفان إلى الأسفل قليلا ...
دعدوش لم يستطع التحكم في اتجاه سيره . كانت الجموع المتزاحمة تتدافعه يمنة ويسرة , وتحدد وجهته نحو ميدان المدينة الرئيسي .
ومن باب الفضول والتشويق .. استسلم دعدوش لحركة المتظاهرين واتجاهها , وانساق معها كفلّينة طافية على سطح أمواج متلاحقة , وشعر بلذّة المحاكاة لما يدور حوله , مع أنه لم يستوعب سوى الشكل , كانت الأصوات الإيقاعية تتعالى بالهتافات والصيحات , وكان دعدوش ينسجم غريزيا مع إيقاعها الموسيقي المحرّض , الذي يثير الحماس والرغبة العارمة بالرقص والتصفيق , بدا متجاوبا .. مندمجا بالمشهد الانفعالي لغريزة القطيع . راح يصفق , ويضرب الأرض بقدميه بشدة وعنف , يرفع يديه , يهزّ رأسه , يردد آليا ما يردده المتظاهرون من شعارات عدوانية مهيجة : ( عاش ... يسقط .. ) . وكانت الأهازيج تهزّ مشاعره أكثر من الشعارات , لأنها تتضمن لحنا يثير الطرب والنخوة والعاطفة .....
بدا دعدوش لمن حوله واحدا من أكثر المتظاهرين معاداة للنظام .. ومعارضة له . كان الرجل المحمول على الأكتاف قد بحّ صوته من كثرة ما صرخ وهتف وهزج وغنى .. وكان وزنه الثقيل قد أرهق الذين يحملونه , فأنزلوه .. التفتوا إلى دعدوش , ورأوا أن جسمه الضئيل أكثر ملاءمة للحمل , وأخف عبئا على الأكتاف والظهور المتعبة , بالمقابل أحس دعدوش بلذة عجيبة , وهو يحقق رغبة دفينة , وإرادة كانت مكبوتة , إنها فرصته .. وهو يصعد على الأكتاف ... يقف على الأكتاف .. يبدو فوق الناس .. والرؤوس .. ولو لمرة واحدة في حياته , التي يعيشها في الحضيض ...
لقد شعر لأول مرة في حياته , بتلك الإمكانية ا لمتاحة له , والسهلة المنال الآن .
في سياق استذكاره لتاريخه المجيد – كما يزعم – يمكن استشفاف مايلي :
في هذه اللحظة (وقت الحدث ) بالذات .. عليه أن يغتنم الفرصة , ويصبح أعلى ممن حوله .. وأهم . . نعم .. أهم ولماذا لا يبدو مرة واحدة أهم من سواه ؟؟ إنه رجل ملء ثيابه , إنه إنسان , ويحق له أن يكون ملفتا للنظر .. مثيرا للإعجاب , نعم .. إنه لن يوفر هذه الفرصة , ولسوف يصعد .. ويرتفع .. ويحلق .. ويقف بقدميه على الأكتاف .. والرؤوس , الرؤوس كلها تحت قدميه ؟؟
وبحركة من رأسه ويديه .. ما كان ممن حوله إلا أن لبوا أوامره , واندفعوا تحته , رافعينه عاليا فوق أكتافهم , فيما راح الرجل المرفوع يوازن نفسه , ليستقر عاليا .. أو لكي لا يقع ؟؟؟ هاهو يتخذ الوضعية التي كان يراقبها ويحلم بمحاكاتها , هاهو دعدوش يقف منتصب القامة , شامخ الأنف .. رافعا ذراعيه عاليا , فوق الأكتاف ... والرؤوس .. والناس ؟؟؟ هاهو يطلق حنجرته .. ويفتح فمه الواسع , فيتدفق صوته مجلجلا ... مرددا ما سمعه وحفظه من عبارات وشعارات وأهازيج حماسية , ومستخدما رأسه وذراعيه للتعبير عن انفعالاته وهيجانه ؟؟ والناس من تحته وحوله يرددون وراءه , ويتصرفون كالجوقة المحترفة ...
بدأ وجه دعدوش يحتقن ويحمر .. وعيناه تجحظان , فمه ينفتح .. ولا ينغلق تماما .. يبدو كمغارة صغيرة .. يمتد منها لسانه كثعبان ؟؟ الحماس .. النشوة تتملكانه .. يندمج بدوره الجديد أقصى ما يمكن الاندماج ؟؟؟
ومن الغريب أن تتأجج قريحته فجأة , وتستيقظ موهبته النائمة ؟؟؟ فقد راح يرتجل ويبدع ويبتكر ويجدد .؟ لقد فاجأ الناس بعبارات وأهازيج وشعارات غير متداولة , واستخدم ألحانا شعبية تراثية " فلكلورية " يحبها الناس .. ويطربون لها , ما أثار إعجاب وحماس الجمهور بشكل ملفت .
كانت مسيرة التظاهرة تتجه ببطء نحو ميدان المدينة الرئيسي , حاملة معها الصخب والضجيج والزحمة والتوتر . في هذه الأثناء .. انطلقت مكبرات الصوت التي يحملها بعض رجال الشرطة .. منذرة .. ومهددة الجموع الزاحفة , معلنة أوامرها بوقف التظاهرة , وضرورة التفرق وإخلاء المكان ؟؟؟ لم يعبأ المتظاهرون بالأوامر .. ولا بأبواق الشرطة وأسلحتهم المتحفزة ؟؟؟ واستمرت باحتجاجاتها وتمردها ؟؟
دعدوش بدوره لم ينفذ , ولم يعر أذنه للأوامر , بدا وكأنه لم يسمعها , إنه هكذا ... لا يسمع إلا ما يحب ويريد سماعه – كما يقول عن نفسه - .
كان مستغرقا في حالة من الهيام والنشوة , وهو يؤكد ذاته بطريقة لم يكن يتوقعها أو يحلم بها من قبل . إنه يعوض عقد النقص التي تزدحم في " لاشعوره " المقموع باستمرار ,
/ القمع .. ذلك الكابوس الذي طالما عاش تحت وطأته , مذ كان طفلا .. إنه نير التسلط بأنواعه : الأب .. الأم .. الأخ الأكبر .. المعلم .. الأصدقاء .. الشارع .. الشرطي .. أل... أل ............ الكابوس الذي يحيط به من كل جانب : من فوق , من تحت , الكابوس الذي عشش في أعماقه ... في قلبه ودماغه , وشل وجدانه .. عواطفه .. خياله .. لسانه هاهو الآن يتحرر – ولو للحظة -. من أغلاله .. إنها فرصته للتعبير عن عشقه العميق للتحرر والحرية التي افتقدها طوال حياته .. هاهو الآن يرفض ويصرخ ويقول : لا.. لا... لا .... ما أجملها من لحظة
دعدوش الآن حر .. سيد نفسه .. ولسانه .. وحركته .. وهو عدا عن ذلك كله .. فوق الأكتاف والرؤوس والناس ولن يتخلى عن موقعه هذا بسهولة .. حتى ولو هددت الشرطة بإطلاق النار , حتى ولو نفذت تهديدها ... حتى ولو أصابته رصاصة في قلبه .. حتى ولو قامت القيامة ....؟؟؟؟؟./
وبدأ إطلاق العيارات النارية في الهواء , لتخويف المتظاهرين , وحملهم على التفرق والتراجع والمغادرة وماجت الجموع وهاجت وتدافعت , واختلط الحابل بالنابل , وانتشر الذعر , وتراكض الناس على غير هدى طلبا للنجاة والسلامة . بعض المتظاهرين كان عنيدا , واستمروا في المواجهة ..
الرصاص الطائش ارتكب بعض الأخطاء , فأصيب البعض هنا وهناك , وكان دعدوش من بين هؤلاء الذين أصيبوا , لقد أصيب دعدوش بطلق ناري في كتفه الأيسر , فتركه الذين كانوا يحملونه , وهربوا , سقط دعدوش أرضا , أحس بألم مشوب باللذة , تلمس مكان الإصابة بكفه , ابتسم , وبدا غير خائف , وغير مكترث بما يدور من حوله , إنه الآن وحيد , بعد أن هرب الذين كانوا يحملونه .... والابتسامة لا تفارقه ...
لم يبق في ميدان المدينة , والشوارع المتصلة به .. سوى قطعان الشرطة .. ورجال الأمن .. وسيارات الإسعاف التي .. تلعلع أبواقها المشؤومة , منذرة ومؤكدة وجود إصابات .. و جرحى , ليس بسبب الرصاص الطائش وحسب , بل وبسبب التدافعات البشرية .
وصلت الشرطة , وسيارة إسعاف إلى المكان الذي سقط فيه دعدوش , كما وصلت سيارات أخرى استقرت على مسافة أبعد , ترجل من واحدة منها أناس .. بدا أنهم صحفيون ومصورون , اقتربوا من دعدوش , غير عابئين بممانعات رجال الشرطة والأمن .. أخذوا يلتقطون صورا لدعدوش , الذي أسعده ذلك , لدرجة أنه نسي أي ألم أو مصاب حل به , وانهالت عليه أسئلة الصحفيين واستفساراتهم الفضولية , وكانت عينا دعدوش تتوهجان بفرح عاصف , واعتزاز واضح , وراح يبتسم لعدسات التصوير , متخذا أوضاعا مختلفة , إنه يكاد لا يصدق ما يحدث :
- ما اسمك ؟؟
- حسب الله الفاضي الملقب ب" دعدوش "
- الفاضي ؟ سأل أحد الصحفيين مستغربا ..
- نعم .. الفاضي .. سابقا .. ولكن منذ اليوم قررت أن أغير كنيتي : سأكون : حسب الله المليان ... ما رأيك ؟؟
لم يتمالك الصحفي ومن حوله أنفسهم .. فضحكوا .. ما أزعج دعدوش . لكن سؤالا من صحفي أعاده إلى ابتهاجه , سأل صحفي :
- أنت إذن واحد من زعماء الحركة ؟؟
- الحركة ؟؟ تساءل دعدوش
- أعني الحزب ...
هنا تظاهر دعدوش بالفهم , وأحس بالفخر .. لبضعة لحظات .. تزاحمت الصور والأحلام في رأسه الصغيرة :
" سأغدو نجما مشهورا , لم لا ؟ ما أحد أحسن من أحد , كثير من النجوم كانوا أقل مني , وابتدءوا من الصفر , بل من تحت الصفر , ستكتب عني الصحف , وتتحدث عني الإذاعات .. "
وجد دعدوش نفسه منساقا نحو الأضواء , ومضطرا للتوافق والانسجام مع الحالة التي وصلها دون سابق تصميم وتخطيط , وجد نفسه مضطرا ومنساقا نحو الكذب , تحاشيا لأي نشاز مع اللوحة التي ساهم في رسمها , وكان بطلها , وموضوعها الرئيسي , الكذب الآن مبرر , إنه الخيار الوحيد إمامه الآن , إنه سلاحه الوحيد للاستمرار في تأكيد شخصيته الحرة المحلقة فوق الرؤوس .. فوق الناس , وهو يرفض الهزيمة والتراجع , نعم
سوف يستمر في طريقه الذي لا يعرف إلى أين سيفضي ... كل همه .. أن يحول اللحظة التي يعيشها إلى دهر ,
وسيبذل لأجل ذلك كل ما أوتي من حيلة وخبث ودهاء وكذب ..
ردّ دعدوش على سؤال الصحفي : نعم .. نعم .. أنا واحد من أهم زعماء الحركة .. أعني .. الحزب .. أقولها لك بكل فخر وصراحة وشجاعة .. أنا لا أخاف أحدا .. وأنا مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل الحركة .. أعني الحزب .. أعني أيضا : في سبيل الشعب .. والوطن ..و.... و....
/تفوه بتلك العبارات بحماس فريد , وبطريقة خطابية موفقة , فيما كان الصحفيون يسجلون كلامه باهتمام بالغ /
شعر دعدوش أنه أصبح قويا .. بطلا .. وأنه الآن أكبر من أبيه وأمه .. وأخيه ومعلمه .. ومن الشرطة والصحفيين .. وغيرهم .. وتخيل : " غدا المدينة كلها .. بل البلد .. كل البلد ستشاهده .. وتتناقل سيرته وأخباره , ويبدي الناس إعجابهم به , بشجاعته ورجولته التي طالما ظلت مقموعة .. مطحونة , من الآن فصاعدا يستطيع أن يسير في الشوارع مرفوع الرأس , يستطيع أن يضع عينيه في عيون الآخرين من معارفه وأصدقائه وأقاربه والجيران وسكان حارته , ستنظر إليه فتياتها .. صباياها .. وسيبتسمن له , ويتنازلن له عن الكثير .. والكثير ,
ولاسيما " عطيّة " التي يتصبح بوجهها البهي يوميا , ويتزود بنظراتها اللعوب .. وابتساماتها الحارة .. المضيئة
" عطيّة " ذات السبعة عشر عاما , ترى ما هو شعورها نحو دعدوش بعد كل ما حدث ؟؟ وفكر : " لابد وأن تقدم له أكثر من النظرات والابتسامات والكلمات المألوفة , وقد تلمح له حول ضرورة الخطبة والزواج , وسيتصنع الغباء , ويصدّ .. ويتدلل عليها مثلما تدللت عليه وعذبته طويلا .. طويلا .. قبل أن يسمعها كلمته الأخيرة التي تنتظرها بلهفة وشوق .
مضت سيارة الإسعاف به إلى أقرب مشفى لمعالجته , وهناك أحيط بحراسه مشددة , ومنعت عنه الزيارات إلا من قبل ذويه , وبعد أن تحسنت حاله .. تتابع عليه المحققون من رجال الأمن والصحفيين , الذين راحوا ينهالون عليه بسيل من الأسئلة والاستفسارات , التي كان بعضها واضحا .. وأغلبها غامضا بالنسبة له . لم يكن دعدوش ليعرف الكثير عن المصطلحات النظرية الفكرية والسياسية , ولم تكن لديه دراية بحقيقة الأوضاع السياسية القائمة في البلد , ولهذه الأسباب وغيرها .. كان دعدوش يتعثر ويفشل أحيانا , وينجح أحيانا أخرى , ولكن بعفوية وتلقائية .. وبالمصادفة , كان يلف ويداور ويناور .. يتهرب .. يمتنع .. يقامر .. وقد فسر ذلك لصالحه , إذ اعتبر نوعا من الدهاء والحرص على سلامة وأمن الحركة التي يمثلها – كما يتوهمون - ..
/ كانت حركات سياسية عدة تلعب وتفعل على الساحة السياسية , وكان بعضها يتسم بالفوضوية والمزاجية وتسيطر عليها الروح الفردية , ولم تكن أهدافها واضحة ولا موضوعية , وكانت غريزة القطيع المحرك الرئيس لأعمالهم وتحركاتهم , إضافة إلى إثبات الذات , كانت تلك الحركات تفتقر إلى البرنامج والإطار التنظيمي والمنهج والخلفية الفكرية المحددة , وقد مر وقت غير قصير قبل أن تتلافى مثل هذه العيوب /
في اليوم التالي ظهرت الصحف تحمل "بالمانشيت العريض " اسم البطل حسب الله الملقب ب "دعدوش" يفتح صدره للرصاص ..و يتحدى الموت دفاعا عن قضيته.البطل دعدوش يرد على أسئلة الصحفيين,البطل دعدوش يتعرض للخطر بسبب إصابته بجروح بالغة.البطل ..مصمم على متابعة النضال .. البطل يطالب بالحرية ..و إجراء انتخابات جديدة ..البطل ..ينادي بالإصلاح الزراعي..البطل يؤيد حربا شعبية ضد العدو الغاصب..البطل..البطل..البطل ..و امتلأت أعمدة الصحف بالحديث عن التفاصيل التي جاء معظمها من وضع خيال الصحفيين, و قليل منها ما يتطابق مع واقع دعدوش وحياته الشخصية البسيطة..وقد أهملت الصحف كل ما من شأنه المساس بهيبة البطل..:وبرستيجه " و سمعته ليبقى طنانا رنانا مجلجلا..ومساعدا على ترويج و زيادة مبيعات الصحف , وأغفلت كل شيء عن واقع دعدوش الحقيقي .
حيال هذا كله .. رأت السلطة – وتحت ضغط الأوضاع – أن من الحكمة إجراء محاكمة صورية سريعة للبطل وتبرئته , وإطلاق سراحه , امتصاصا للنقمة العامة , وتأكيدا ل" ديمقراطيتها "
,
أفرج عن دعدوش بطنة ورنة , واحتفال كبير احتشد فيه جمع غفير من الناس , لاسيما من عناصر الحركة التي اعترفت بتمثيله لها , أمام المحققين والصحفيين , وقد قامت هذه الحركة بالفعل بتنصيبه واحدا من زعمائها , لاعتبارات تسويقية واستعراضية .
في حارته .. استقبله أهلها بالزغاريد والتصفيق والتهليل والتكبير , وبدا كفاتح عاد من الحرب ظافرا منتصرا , كان مريدوه يحملونه على الأكتاف , وقد أوصلوه حتى بيته , ومنذ ذلك الحين استمر نجمه في الصعود , وصدق الناس قصة بطولاته , وقليلون كانوا يدركون الحقيقة .
مضت الأيام لصالحه .. وقيل عنه وفيه الكثير , وقيل : إنه باع عربته وبغله وحماماته , وأصبح يسمع نشرات الأخبار , والبرامج السياسية , ويقرأ الصحف اليومية , وبعض الكتب الخاصة , والمنشورات المختلفة , وقيل :
إنه تخلى عن لبس " الشر وال " وأصبح يرتدي بذلة رسمية , وربطة عنق أنيقة , ويضع نظارات غامقة اللون على عينيه , ويجترّ أل" علكة " ويتزين بالذهب في رقبته الطويلة ومعصمية وأصابعه , وكان يفضل الثياب الضيقة , وارتياد النوادي والمطاعم الفخمة , وقيل : إنه اقتنى سيارة من نوع " مر سيدس " , وقيل: إن فتاة أحلامه المدعوة " عطية " صارت واحدة من " سكرتيراته " , وقيل : إنه أمر أكثر من مرة بسجن بعض أقاربه ومعارفه القدامى , وقيل .... وقيل.... وما أكثر ما قيل ..................


دمشق – سوريا – رياض خليل



#رياض_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنا والآخر : مقال
- الانتصار : شعر
- لم أكن أتألم
- الأمير: شعر :
- - 1 - قصائد قصيرة
- سرقة: شعر
- قصيدةشعرية
- خلل فني طارئ : قصة قصيرة
- روبوت : قصة قصيرة
- -الناسك- قصة قصيرة
- شعر: إشاعة
- مفهوم الشرعية حول قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت
- الماركسيون اللا ماركسيون
- من الماركسية المحافظة إلى العلمانية
- الدمّية
- الدمّية
- السلطة الخامسة : سلطة الشعب
- قبل أن يسبقنا الوقت إلى الأصدقاء الديمقراطيين - احذروا الأصو ...
- نحو إعادة إحياء التيار الليبرالي
- من الميكافيللية إلى الديمقراطية


المزيد.....




- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...
- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...
- -لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - دعدوش : قصة قصيرة