أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - كائن (نص قصصي من كتاب القاهرة الطيبة)














المزيد.....

كائن (نص قصصي من كتاب القاهرة الطيبة)


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2879 - 2010 / 1 / 5 - 21:14
المحور: الادب والفن
    


أعرفه كما أعرف تماما صوت بطني لحظة جوع ممض. لا أدري متى وأين وكيف بدأت علاقتي به. لكن المؤكد أنه ظل يلازمني عبر أغلب مراحل حياتي المختلفة.

مرة أقول من باب العزاء لنفسي إنه (يا صابر) ليس سوى وهم. مرة أخرى يخال لي لسبب أوآخر أنه عصي على رؤية كل الناس. ومع ذلك، كنت ولا أزال أراه دائما هنا أوهناك. يجلس قبالتي داخل مركبة عامة. يمشي إلى جواري بخطى أثيرية منصتا لوقع أقدامي على جانب شارع مقفر آخر الليل. أوينطوي على نفسه بمعدة خاوية عند ركن معتم من احدى الغرف الكثيرة التي أنفقت فيها سنواتي المقتربة من الستين حثيثا.

زوجتي ماريا التي تصغرني بنحو العشرين عاما تقول إنها لا تراه. ولكن تتفهم من واقع خبرتها الخاصة ما يحدث لي. قالت ذات مساء بعيد كمن يحاول جاهدا أن يمحو أسى بأسى إن والدها الذي جاء إلى كندا لاجئا من ضواحي احدى مدن بوليفيا المجهولة قبل أربعين عاما ظل يراه بدوره بنفس الملامح الحزينة لكلب جائع حتى الممات.

وقتها سأل الممرضة المتابعة أن تتركه وحيدا في غرفته الكائنة داخل أحد المباني السكنية المخصصة لكبار السن في المدينة. قال لها في ما يشبه اللغز وهو يغمز بعينه اليسرى كعاشق عريق إنه يتوقع زيارة خاصة لن تأخذ من وقته الكثير. بعد نحو الساعة تقريبا عادت تطرق الباب قبل أن تدفعه إلى الداخل برفق. كان هناك، يتمدد على سريره الصغير بلا حراك، وعلى فمه شبح إبتسامة. ماريا قالت ما لا يزال يثير حيرة الممرضة لحظة أن أخبرتها برحيل والدها أنه لم تكن تتوقع أن الموت يمكن أن يكون قريبا إلى هذه الدرجة من رجل ظل يأكل على ذلك النحو حتى وهو على أعتاب الثمانين.

أذكر في أحد أيام هذا الشتاء أننا دعونا زوجين شابين من جماعة مسيحية تنتمي إليها زوجتي تدعى "شهود يهوا " لتناول وجبة الغذاء في مطعم صيني قريب. كانا قد حضرا من السلفادور قبل نحو العام كمهاجرين جديدين. فجأة أخذ الزوج يتحدث عنه. بينما أخذت زوجته توافقه بإيماءة حزينة برأسها من حين لحين.

قال "كانت أمي تشعر بفم صغير يمتص من ثديها الآخر كلما شرعت في رضاعتي". فم أشبه بالظل في ليالي الريف الداجية. لا تراه. لكنه موجود دائما هناك. ما إن تغمره بقعة من الضوء حتى يطل بعينين جاحظتين وجسد منهك هزيل كما لو أن الطعام لا وجود له في هذا العالم. كنت أصغي إليه بحواسي كلها قبل أن أنتبه على حين غرة إلى تلك الغلالة الرقيقة وهي تظلل عيني ماريا كغيمة على وشك الهطول.

بعدها مضت الدقائق ثقيلة متباطئة. وبدا ألا شيء آخر يمكن أن يقال. فقط كانت تُسمع الضجة الأليفة لآنية الطعام. وذلك اللغط الحميم المتناهي من الموائد المجاورة من آن لآن. حين بدأت أتطلع إلى ندف الجليد المتساقطة في الخارج كعادة قديمة رأيته وهو يلوح لي بيده من وراء مدخل المطعم الزجاجي ذي الإضاءة الخافتة. "لعلك تراه في هذه اللحظة"، سألني الزوج بشيء من الحزن، وقال: " ياإلهي، خلت أني تركته ورائي هناك"!.

في ذلك المساء، قالت ماريا إن والدها في أيامه الأخيرة كان يراه في هيئة رجل نحيل يشبه حطام ذكريات بعيدة مات أغلب أطرافها. وما إن يراه حتى يضرب بنصائح الأطباء عرض الحائط. ويشرع لسبب ما في تناول كميات كبيرة من الطعام تكفي في كل مرة لإشباع كتيبة منهكة من جيش الكولونيل جرمان بوش أيام حربه الضروس التي أوصلت غوالبرتو فيلارول إلى سدة الحكم قبل أن يتحول الأمر برمته في ظرف أقل من ثلاث سنوات إلى كارثة ألقت بوالدها في أحد المطاعم الكندية غاسلا للأطباق وسط الكثير من الآمال الثورية الغابرة.

لا أذكر قط أنني سمعته وهو يتكلم طوال علاقتي الممتدة معه. كان عادة ما يجلس حزينا يتأملني وأتأمله في صمت. ذات مرة رأيته في القاهرة وهو يطل من عيون أطفال في أسمال بالية كانوا يحدقون من بعد في فترينة لعرض الحلويات في شارع مزدحم. أوهكذا خيل لي. المشاعر وحدها تطل من العيون. وهو شيء كائن. له ملامح ووجود يحجبه القرب الشديد غالبا. قيل إنه لا يظهر سوى لأناس يعايشون ظرفا كالذي عايشته معظم أيام عمري. الآن، ماالذي يجعله يلوح لي بيده من وراء مدخل المطعم الزجاجي ذي الإضاءة الخافتة؟.

"إنه يظهر لك في هذه اللحظة (يا سابر)"، تقول ماريا بأسى، وتضمني إليها طويلا، يحدث ذلك على الأرجح حوالي الثالثة بعد منتصف كل ليلة تقريبا حين تفتقد وجودي إلى جوارها داخل غرفة النوم بعد فترة قد تطول أوتقصر.

آنذاك، كان أول ما أحس رائحة جسدها الدافئة وهي تتسلل إلى أنفي من وقفتها عارية القدمين داخل أحد قمصان نومها الشفافة بينما تميل مستندة بكتفها الأيسر على باب المطبخ المشرع تراقب بحنان غامر محاولة تجاهلي له ببحث مضن عن شيء آخر منسي أو لا وجود له أتصور وقتها أني سأعثر عليه مختبئا داخل درج ما.



#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسير العبارة (رواية)- 18
- أسير العبارة (رواية)- 19
- أسير العبارة (رواية)- 20
- أسير العبارة (رواية)- 21
- أسير العبارة (رواية)- 22
- أسير العبارة (رواية)-23
- أسير العبارة (رواية)- 24
- أسير العبارة (رواية)- 17
- أسير العبارة (رواية)- 15
- أسير العبارة (رواية)- 16
- أسير العبارة (رواية)- 14
- أسير العبارة (رواية)- 2
- أسير العبارة (رواية)- 3
- أسير العبارة (رواية)-4
- أسير العبارة (رواية)- 5
- أسير العبارة (رواية)- 6
- أسير العبارة (رواية)- 7
- أسير العبارة (رواية)- 8
- أسير العبارة (رواية)- 9
- أسير العبارة (رواية)- 10


المزيد.....




- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - كائن (نص قصصي من كتاب القاهرة الطيبة)