|
مغامرة الكتابة مع نجيب محفوظ
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 2878 - 2010 / 1 / 4 - 15:35
المحور:
الادب والفن
منذ أعوام ، وجهت إلي ّ ( ولغيري من الأدباء ) الناقدةُ اللامعة د. زينب العسال سؤالا ً عن مغزى اختيار نجيب محفوظ لأماكن بعينها كي تكون الخلفية لأحداث رواياته .ً وأذكر أنني تحدثت يومها بإسهاب - يبدو أنه لم يكن ملائما ً لمساحة النشر بجريدة المساء- فكان أن تفضلت الصديقة زينب بتلخيص رأيي على النحو التالي : " أما الشاعر المسرحي مهدي بندق فيطرح رأيا مخالفا ً مفاده أن ثمة اتجاها فلسفياً ، يعرفه طبعا ً نجيب محفوظ الأديب دارس الفلسفة ، يسمي اتجاه الإيجاب أو قبول العالم بما هو عليه ، تعبر عنه الفلسفة الوضعية Positivism بينما ظلت فلسفات النفي ( منذ أفلاطون إلى هيجل وماركس وحتى هابرماس وجاك دريدا ) تستهدف تجاوز الواقع والمألوف والسائد ، بحثا ًعن عالم يقبله العقل ويرضاه الضمير. عن نفسي فأنا أود أن أجيب عن المسكوت عنه في السؤال وهو: لماذا لم يكتب نجيب محفوظ عن أماكن أخرى غير حارات القاهرة الكلاسيكية ، وعن شوارع الإسكندرية وفنادقها وبنسيوناتها ؟ لماذا لم يكتب مثلا عن النوبة والصعيد ، وعن العشوائيات والمقابر التي تعج بالفقراء والمهمشين؟ لماذا لم يكتب عن طبقة البروليتاريا ؟ ألا يدعونا هذا إلي التفكير في أن نجيب محفوظ هو كاتب البورجوازية الصغيرة التي أغلقت الأبواب أمام تطور هذه الطبقات الفقيرة الكادحة ، بل ومنعتها من أن ُ تري علي مسرح الأحداث؟! في تقديري أن الأمكنة التي لم يكتب عنها نجيب كانت ولا ريب تصلح أن تغدو مزارات علي المستوي الإنساني بأكثر من أن تبقى مجرد زيارات سياحية. ولعل الشاعر الراحل صلاح جاهين كان يقصد هذا المعني حينما كتب قصيدته المعنونة : إلي سكان الصفيح " أ. هـ اليوم وأنا أعيد قراءة هذا النص أكاد أجزم بأنني كنت واقعا ً في براثن نوع من الحسد المهنيّ عكر على رؤيتي ، فلم ألتفت وقتها لحقيقة الرجل الكبير وانجازه الثقافيّ الخارق. اليوم – وكمحترف للنقد الذاتيّ – قلت لنفسي : لابد من التصحيح ، ولتكن وسيلتي إليه مغايرة ً مبتكرة . ولكن كيف ؟ تلك هي المسألة . لقد كتب الآلاف من النقاد عن نجيب محفوظ ، ولست أظن أنني قادر على تجاوزهم ، فما العمل ؟ فجأة ً انبجست في عقلي فكرةٌ ، ما لبثت حتى اجتاحت كياني جميعا ً : لماذا لا أكتب مع نجيب محفوظ ؟ بهذا وحده يكون التجاوز ، فإما إبداع وإما انتحار . ولأن نجيب لم يكن مجرد حكـّاء ، وإنما كان أديبا ً ذا رسالة ؛ فلقد كان طبيعيا ً أن تتضمن أعمالُه فكرا ً وإن ُعرض في صورة أدب خالص Pure Literature ( مكر المبدع العبقري ) لذا فإن محاولة الكشف عن هذا الفكر لابد تحرض صاحب المحاولة أن يفكر بدوره ، وأن يكتب - بنوع من الاستقلالية - ما يراه في حالة تماس مع فكرويات الأديب المبدع .. فهل أكون مغاليا ً لو قلت إنني ، وقد فرغت من قراءتي الثانية لكتاب ماكس فيبر " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية " كدت أن ألمس حضور نجيب محفوظ فيما كتبه فيبر حول ضرورة الإصلاح الديني ؟ هذا لا يعني بالطبع أن فيبر تأثر بنجيب ، فالأول مات عام 1920 وقت أن كان الثاني في عامه التاسع ، وإنما أنا – كاتبَ هذه الصفحات – يمكنني أن أربط بينهما بالطريقة التي تحقق غرضي. في كل ما كتب نجيب محفوظ تجد الإسلام حاضرا ً والعروبة غائبة . فلماذا ؟ لأن محفوظ كان مؤمنا ً حقاً بأن الإسلام برسالته العالمية ، وسماحته في جوهره ، خليق بالبقاء والازدهار شريطة أن يعيد المسلمون فهمه على ضوء المتغيرات العالمية في أنسقة الاقتصاد ، والسياسة الدولية ، والمعرفة العلمية ، وأيضا ً على أرضية ميثاق حقوق الإنسان ، وهذا هو معنى الإصلاح الديني في عصر الرأسمالية كما سنفصـّله في موضع قادم . أما غياب العروبة فعائد إلى وعي نجيب بمصرية مصر عرقيا ًً وثقافيا ً ، الوعي الذي انبثق من ثورة البورجوازية الوطنية الكبرى عام 1919 وشيده مثقفوها سقفا ً تنظيرا ً بدء من أحمد لطفي السيد حتى لويس عوض مرورا ً بسلامة موسي وطه حسين وحسين فوزي . كاتب هذه الصفحات يريد إذن أن يكتب مع نجيب محفوظ حول حضور الإسلام وغياب العروبة ، باعتبارهما خلفيتين تحركت أمامهما أعماله الروائية الفذة . فإلى التفاصيل.
*** لا جرم أن يعد الإسلام، بما هو دين توحيدي، الأساس الذي أقامت عليه قبائلُ وأقوام ُ شبه الجزيرة العربية دولتهم الموحدة الكبرى، التي امتد فرعها الحضاري، لقرون عديدة، إلى جنوب أوروبا غرباً، وإلى حدود الصين شرقاً ، ما ترتبت عليه مشاكل وأزمات خارجية تمثلت في الحروب المستمرة من جانب العرب، والحروب المضادة من جانب الفرنجة وغيرهم، علاوة ًً على مشكلات داخلية خطيرة : حروب أهلية، وانقسامات سياسية، ومنازعات اجتماعية لم تتوقف. بيد أن المشكلة الهيكلية لهذا الفرع الحضاري ، الذي ازدهر وأثمر رغم هذا كله ، لم تكن في الحقيقة مشكلة مع الدين، بل مع الدولة. وآية ذلك أن الدين في حد ذاته معطى يمكن للناس أن يفسروه كدعوة للسلام وللإخوة بين البشر، كما أنهم قد يستخدمونه سلاحا ً يغالبون به، فيكسرون بسنانه شوكة الآخرين، ويعلنون تحت رايته تفوقهم وتمايزهم ( فلنتذكر الإمام علي بن أبي طالب بعبارته الحاسمة: القرآن لا يحكم ولكن يحكم به الرجال ) أما الدولة، فكان تأسيسها في مؤتمر السقيفة عام 11 هجري - عقب وفاة الرسول ـ منذرا ً بانقسام المسلمين بما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية، المسماة بالفتنة الكبرى، التي كانت صراعا ً لا غش فيه على السلطة بين علىّ وعائشة ، ثم بين علي ومعاوية . كذلك الحروب التي قامت بين الأمويين والعباسيين، وبين بقايا هؤلاء والفاطميين، بالتوازي مع الحروب الفرعية بين "الدولة" والثائرين عليها كالقرامطة والزنج والخوارج ، وجميعها كانت حروبا ً تستهدف الاستيلاء علي كيان" الدولة" السياسي مناط القوة والهيمنة ، وما من شك في أن الانقسامات المذهبية: سنة وشيعة، والفكرية: أشاعرة ومعتزلة وفلاسفة إنما كانت تعبر في مستواها العميق عن ذلك الصراع السياسي علي خلفية التنازع الدائر حول الموارد الهائلة التي جلبتها الفتوحات العسكرية من فيء وخراج وجزية... الخ ، فضلا عما حققته البرجوازية التجارية من ثراء فاحش نتيجة سيطرة الأساطيل العربية علي البحر المتوسط والبحار الشرقية. للتأكيد علي ارتباط الفكر بالنشاط الاقتصادي، يمكن الإشارة إلي أن صعود البرجوازية التجارية العربية في القرن التاسع الميلادي، قد بين نشاطُها حاجتها إلي مساحات من الحرية، إذ داعبتها آمال المشاركة في سلطة الدولة، فكان فكر المعتزلة تعبيراً عن ذلك، ومن خلال القناع الديني (قضية خلق القرآن) راح الخياط والنظام والقاضي عبد الجبار والجاحظ يجادلون لإثبات أن "العدل الإلهي" يقتضي أن يكون الإنسان مخيراً لا مسيرا. وبالمقابل فان انحسار هذا الفكر إنما كان تعبيراً عن انكماش نشاط تلك البرجوازية بعد فقدان العسكرتاريا العربية سيطرتها على البحار الشرقية بسبب القراصنة الهنود، والبحار الغربية بهزيمتها أمام أساطيل النورمان، مما أدى إلى انكفاء التجارة إلى الداخل وضياع الموارد التي كانت تحققها تجارة الترانسيت. ما يهمنا في هذا المقام هو ما حدث لمصر جراء الفتح العربي لها في القرن السابع الميلادي. مما يقتضي إعمال المنهج المادي التاريخي الذي يقودنا إلى مشارف علم اجتماع النص حيث تربط الظاهرة الأدبية ( نجيب محفوظ ) بالمعطيات السوسيولوجية عبر التاريخ . *** قطع ( 1 ) يكاد النقاد أن يجمعوا على أن نجيب محفوظ إنما كان أديبا ً لبراليا ً ، ولم تكن له صلة بالماركسية من قريب أو بعيد ، غير أنني هنا أذكر قول إنجلز إنه تعرف على تاريخ فرنسا من الروائي الفرنسي أونوريه دي بلزاك بأكثر مما تعرف عليه من كل المؤرخين الفرنسيين . وصل ( 1 ) لم يكن المصريون عرباً بطبيعة الحال، لا قبل ولا بعد تأسيس دولتهم الموحدة حوالي عام 3200 ق.م.، والقول بغير ذلك إنما يدخل في أدبيات التوهم لأغراض التلوين السياسي، ومن قبيل المحاجاة الكلامية غير المستندة إلى توثيق تاريخي علمي، من ذلك الزعم ُ بأن اليهود أبناء عم العرب! والقول بأن النبي يوسف القادم من البادية هو من علم المصريين تخزين الغلال، وأن العرب بقبائلهم جميعاً إنما جاءوا من صلب النبي إسماعيل بن إبراهيم وهاجر المصرية، وعليه يصبح المصريون نصف عرب . وما من شك في أن التوراة -التي كتب بنو إسرائيل معظمها عبر مئات السنين- هي المصدر الرئيس لتلك المحاولات الرامية لدمج مصر المستقلة في منظومة سامية Semitic ، لليهود فيها النصيب الأكبر، وللعرب فيها نصيب. تحدثنا التوراة فتقول إن مهد الإنسان كان بلاد ما بين النهرين، وأن من أبناء نوح: سام الذي انحدر من أحفاده عابر أب العبرانيين. أما حام بن نوح فقد أنجب مصرايم باني مصر! (العهد القديم - سفر التكوين - الإصحاح العاشر. ) الذي من أبنائه جاء ملوك مصر الأقدمين.فيترتب على ذلك -وتبعاً للتوراة ذاتها- ألا يكون المصريون ساميين، بينما يكون العرب كذلك. لكن الأبحاث العلمية الحديثة تضرب صفحاً عن كل ما تذكره التوراة، مستنتجة أن أسلاف البابليين والأشوريين والكلدانيين والأموريين والآراميين والفينيق والعبرانيين والعرب والأحباش كانوا في وقت ما - قبل تباينهم- شعباً واحداً يعيش في مكان واحد. ولكن وبالرغم من اختلاف هذه الأبحاث الحديثة مع التوراة حول أصل العرب والعبرانيين، إلا أنها لا تختلف معها حول الأصول العرقية المغايرة للمصريين. وهو ما يطرح علينا سؤالين كبيرين، أولهما: من هم العرب؟ وثانيهما: من هم المصريون؟ أولاً: العرب إثنولوجيا ً وثقافيا ً : يعود أصل كلمة العرب إلى اللغة السامية القديمة، حيث ُعرفوا بلفظة "عمورو" أي أهل الغرب ( ساكني غرب الفرات) من بدو وحضر، ثم تحولت اللفظة إلى "عريبي" ثم إلى "عرب". فإذا شئنا أن نعرف من أين بالضبط جاء هؤلاء العرب ، في حدود علم الأعراق البشرية Ethnology لكان علينا أن نبدأ من حيث اختفى أشباه الإنسان، وآخرهم النياندرتاليين Neanderthalian الذين عاشوا في شمال فرنسا وأوروبا عموماً ثم أبادهم الإنسان العاقل Homo-Sapience الذي تطور من أصلابهم منذ ما يقرب من 40000عام، بجانب اختفاء شبه الإنسان الروديسي الذي عاش في أفريقيا- بهيئة تتوسط القرد والإنسان البدائي- مع نهاية العصر الجليدي وبدايات العصر الحجري القديم، حيث صاحب هذا الاختفاء ظهور الإنسان العاقل الزنجي Negra Race جنباً إلى جنب الجنس النوردي في أوروبا والمغولي في آسيا. وتأسيسا ً على الحقائق الجغرافية، وعلى شواهد علم الإحاثة Paleontology الذي يبحث في أشكال الحياة في العصور الجيولوجية متمثلة في المتحجرات الحيوانية والنباتية. وبعيدا ً عن أسطورة تناسل البشر جميعاً عن رجل واحد وامرأة واحدة ( هبطا من السماء عام 0044 ق. م بحسابات الأسقف آشر !) يستطيع اليوم علماء ُ الأعراق بأدواتهم العلمية ، أن يتتبعوا مظاهر الانفصال والتزاوج بين الأجناس، إضافة إلى هجراتهم الجماعية وفقا ً لتغير المناخ، أو فرارا ً من الكوارث مثل الجفاف والطوفانات، أو في مطاردات لا تنتهي لقطعان الماشية، أو بحثا ً عن مناطق تكثر فيها المياه وتخلو أو تكاد من الحيوانات المفترسة والحمم البركانية، أو نزوحا ً اضطراريا ً نتيجة للهزائم في الحروب. في هذا السياق التاريخي اللاأسطوري، يجوز القول بأن أسلاف الساميين - مختلطين بعناصر طورانية وأخرى هندو أوربية- إنما جاءوا إلى المنطقة الواقعة بين نهر الفرات والبحر المتوسط ، ضمن أمواج من الهجرات المتتالية، مخترقين منطقة العبور البشري الكبير في القوقاز والأقاليم المحيطة ببحر قزوين والبحر الأسود، ومن جهود هؤلاء نشأت الحضارات الأولى في بلاد ما بين النهرين وفي الشام لثلاثة آلاف عام قبل الميلاد. ومع هؤلاء اندفعت أقوام إلى الجزيرة العربية، ليلتقوا مع الهجرات القادمة من الصحراء الكبرى في أفريقيا عبر الحبشة واليمن (نظرية جواد علي) بعد أن تحول المناخ فيها من السافانا إلى الجفاف الصحراوي. وربما حدث هذا اللقاء في الألف الثانية قبل الميلاد، حيث ارتضى الفريقان حياة البداوة الرعوية، وتجارة العبور ما بين المناطق الحضرية في الشمال والشرق وبين الجنوب حتى اليمن والحبشة، بتفضيل منهم للحرية على قيود العيش الحضري، مؤثرين نظام القبائل المستقلة - ولو تناحرت وتحاربت- على نظام الدولة الواحدة المحجّم للحريات والمدمر لبساطة العيش ومغامراته. ومحتمل أن عرب الجزيرة لم يظهروا على مسرح التاريخ إلا في القرن التاسع قبل الميلاد حيث يرد ذكرهم لأول مرة في أعمال اسخيلوس Aeschylus (ت 456 ق.م) وفي أحاديث شتى لمعاصره المؤرخ الإغريقي هيرودوت Herodotus حسب ما يبين ذلك لويس عوض ( مقدمة في فقه اللغة العربية) لكن ذلك لا يعني أنهم كانوا غير موجودين، فالكائن قد يكون موجوداً وغير معروف في آن، كما أن اسمه قد يتغير من لغة إلى لغة (مثل Plotinus ينطقها العرب أفلاطون، واسم Constantine ينطقونها قسطنطين) دون أن يعني ذلك أي اختلاف في الهوية. دعنا إذن نستنتج أن أقواماً من هؤلاء الرعاة البدو -شاسو- ( في المصرية القديمة كلمة هيك تعني ملك، وكلمة شوس تعني البدو، فتصبح الكلمة Hyksos ملوك الرعاة ) هم الذين اندفعوا من جهة الشرق ليغزوا مصر حوالي عام 1720 ق.م وليحكموها لفترة طويلة (153 عاماً).. وتبعاً للمؤرخ الإسرائيلي يوسيفوس (ت 93 ميلادي) الذي نقل عن مانيثون المؤرخ السكندري ( ت 250 ق.م) فإن الهكسوس هم عرب بدو، لم يكفوا قط عن محاربة المصريين بغرض إبادتهم، أو احتلال بلادهم وإذلالهم، وقد طردهم المصريون بقيادة أحمس ثالث ملوك الأسرة 17عام 1567 ق.م، بعدها تفرق هؤلاء في أنحاء جزيرة العرب بهيئة قبائل صار منها العرب البائدة: عاد وثمود وطسم وجديس. وصار منهم الأنباط، ودخل بعضهم في مملكة تدمر بين الشام والعراق. وتنوعت منهم قبائل أخرى ظلت قائمة حتى البعث الإسلامي، منها قبيلة قحطان : عرب اليمن المعروفة باسم العرب العاربة، وقبيلة عدنان : عرب الحجاز المعروفة باسم العرب المستعربة، والتي جاءت منها معد ونزار إلى فهر (=قريش) بجانب مضر وربيعة، حيث تفرعت من مضر قبائل سليم وهلال، وغطفان، التي منها عبس وذبيان، وحيث تفرعت من ربيعة عنزة، وعبد قيس، ووائل الذي جاءت منه بكر وتغلب. وأغلب الظن أن هؤلاء الهكسوس الذين عادوا من مصر مطرودين هم من ُأطلق عليهم اسم العماليق، ليس لأنهم كانوا طوال القامة، بل لأنهم جاءوا من بلاد كانت التماثيل فيها ضخمة جداً، فظن سكان بادية الجزيرة أن ملوك مصر القدماء كانوا بهذه الأحجام، وعلى طريقة المجاز المرسل فلقد رأى أناس الجزيرة أن يسموا الهكسوس القادمين من مصر بصفة أهلها (ذوي الهيئة الغريبة! ) ومن هنا نفهم سبب إطلاق الطبري اسم غريب على جد هؤلاء العماليق. أما من زاوية الثقافة، فإن ابن خلدون يرصد أولى وأهم ملامحها عند هؤلاء البدو الرعاة في صفة النشاط العارم، والأنفة من الراحة والدعة، والوثوب إلى تحقيق الأمجاد الحربية، وإنهم ليظلون كذلك إلى أن يخلدوا للترف، فتنحل عزائمهم، ويتفشى فيهم الضعف فينكسرون، وذلك بالضبط ما حدث للهكسوس في مصر. ومن ناحية أخرى فإن ابن خلدون ينتقد أهل البداوة (الأعراب) لقربهم من التوحش والتعصب، ولجهلهم بأمور السياسة التي لا يقوم العمران إلا بها. من هنا تتجلى مأثرة الإسلام في تهذيب وتشذيب هذه البداوة، بإحلال التحضر محلها، وبتشجيع أصحابها على تأسيس الدولة بقوانينها القائمة على الشريعة ( الربانية ) علاوة على تهذيب معطيات الحياة الاجتماعية برفع مكانة المرأة إلى حد كبير، ونبذ الإحن والتعصب القبلي، والثارات المستمرة، والحث على المساواة دون تفرقة بين عربيّ وعجميّ ، إضافة إلى الحض على الأخذ بمكارم الأخلاق حتى في الحروب، فلا يقتل شيخ أو طفل أو امرأة، ولا يقلع زرع أو نخل، ولا ُيعذب أسيرٌ ، مما على نشر العقيدة الإسلامية في كثير من البلاد المفتوحة ، وحتى المناطق التي لم تبلغها جيوشه . جرى ذلك تحت راية الإله الواحد، رب العالمين، الذي ليس له شبيه، وليس له شريك في الملك، فلا هو شيخ قبيلة منحاز إلى شعبه المختار، ولا هو بالمتخذ زوجة أو ولداً، إنما هو تجريد عقليّ خالص، يستطيع كل مخلوق أن يتعامل معه بالعقل الكونيّ، أو بالوجدان الصوفيّ، أو بهما معاً . قطع ( 2 ) لولا دراسة الفلسفة وعشق الأدب الصوفي ّ لظل نجيب محفوظ مسلما ً بسيطاً ً على الأصالة مثله في ذلك مثل آبائه وأجداده . وصل ( 2 ) بيد أن البساطة ليست مما تغني عن ملاحقة آثار الفكر والتفلسف سيما بعد أن صار الإسلام حضارة. فعلى مستوى العقلنة العقائدية، ربما واجهتنا إشكالية تنوع الآيات القرآنية بين آيات تنزيه مطلق، وآيات تتصل بالصفات الإلهية التي تشي بالتجسيد والتجسيم. هنا لابد من مساءلة لهذه الازدواجية في الثقافة العربية الإسلامية ، والتي كان لها - ولا يزال- أكبر الأثر في المنازعات الفكرية والفقهية والمذهبية داخل العالم الإسلامي. تشير الفيزياء الحديثة إلى حقيقة مفادها أن الزمان والمكان مرتبطان تماماً بالكون، ومن ثم فلا يمكن لأحد أن يتصور زماناً أو مكاناً خارج حدود الكون. وبالنسبة للعقل البشري فهذا الخارج هو عدم محض، وأي وصف لهذا العدم لا مشاحة ينفيه، إذ يستحضره للوجود ولو بالتصور. في هذا تأتي الإشارة القرآنية اللطيفة إلى الإله بعبارة "ليس كمثله شيء". ولكن لما كان القرآن يخاطب البشر، وفي المقدمة منهم العرب غير المدربين وقتها على التجريد؛ فلقد كان مطلوباً أن ُتقرب منهم فكرة الإله الواحد من خلال إضفاء صفات الكمال عليه (على سبيل التشبيه) ولذلك فإن المعتزلة حين تعلمت التفكير المجرد مع الازدهار الثقافي في العصر العباسي، رأت ضرورة تعطيل الصفات البشرية، مقدرين ألا تكون الصفات هي عين الذات، وإنما معان ملحقة بها من الجانب البشري. فالبشر حين ينظرون نحو ما يتصورونه الله ، فإنهم بالطبع لا يرون شيئاً، إنما يرون نظرتهم هم إلى ما يتصورون. ولعل ابن عربي قد أفاض في هذا أكثر من المعتزلة، مستخدماً لغة التصوف الشاعرية، ومطلقا ً اسم "البرزخ" على الحد الفاصل بين ما هو إلهيّ وما هو بشريّ. لكن العربيّ حين يستسلم لثقافته البسيطة لا ريب سيعجز عن فهم مرامي المعتزلة والمتصوفة، وإنه بهذا العجز ليبتعد عن التنزيه، ليقع في أسر التجسيد والتجسيم، دون أن يفطن إلى أن الإجراء التأويلي Hermeneutic للصفات هو وحده الذي يقود إلى حقيقة التوحيد Monotheism بما يعنيه - في مجال التطبيق- من تسامح حقيقي غير مصطنع ، يتمثل في الإقرار بنسبية الحقائق البشرية، وفي القبول غير المشروط بالآخر المختلف أياً كانت ديانته أو عقيدته أو جنسه أو مذهبه السياسي . قطع (3) وذلك بالضبط ما تعكسه كتابات أديبنا نجيب المسلم العقيدة ، ووريث حضارة المصريين العظماء بدء من " رادوبيس" و" كفاح طيبة " إلي " في المرآة " و " أمام العرش " وصل (3) ولما كان عامة العرب - المحدودين بحدود أوضاعهم سوسيولوجياً وثقافياً - لا يرون إلا ما يرغبون في رؤيته؛ فلقد بادروا جراء حاجتهم إلى التوسع، وفتح الكيان الجيو/مورفولوجي المغلق عليهم داخل الجزيرة، إلى القبول بالإسلام كعقيدة توحيد اجتماعي وسياسي ليس إلا، وإلى التدثر بدثار الفكر الأشعري السني، الذي رفض التأويل إلا لصالح السلطة السياسية . وهكذا اندفع العرب نحو الفتوحات العسكرية، صاعدين بتيارات التزمت إلى قمتها ممثلة في الفقه الحنبلي من ناحية، ومن أخرى في إضفاء صفات شبه إلهية على أولي الأمر، مما عكر على أية إمكانية تستهدف الإصلاح الديني والسياسي، وذلك منذ تأسيس الدولة المركزية وحتى تفككها وانقسامها إلى دويلات تحمل جميعها نفس الخصائص، وتدور في ذات الدائرة، حيث راحت تباشر ثقافة الاستعلاء التي انبنت - اقتصادياً - منذ البداية على النفور من العمل الإنتاجي، اكتفاء بامتصاص موارد الآخر. سواء أكان هذا الآخر شعوب َ بلاد مفتوحة (الخراج) أم كان -داخلياً- طبقات اجتماعية مقهورة (الضرائب والجزية.. الخ) ولكن بقدر ما كانت ثقافة الاستعلاء تلك حافزاً على النجاح في عصر الفتوحات الكبرى؛ بقدر ما صارت حاجزاً - في عصر الهزائم والانكسارات - يحول دون امتلاك القدرة على النقد الذاتي، هذا الذي به وحده يمكن تجاوز أزمة الثقافة العربية ثانياً: القومية المصرية: يعرف نيتشه الشعب بأنه "جماعة معنوية يشترك أعضاءها في مفاهيمهم عن الخير والشر" وإنه لتعريف دقيق يؤطر بامتياز فكرة القومية Nationality تلك التي ُاعتمدت أساساً للدول الحديثة منذ توقيع معاهدة وستفاليا 1648 حيث يكتسب السكان صفة المواطن Citizen لا الرعية التي تحتاج إلى راع يسوقها. فأما المصريون فقد عاشوا هذه الفكرة - بتعريف نيتشه، وقبل تلك المعاهدة ، بأكثر من أربعة آلاف عام، مستخلصين عناصرها لا من الدين الواحد، ولا من الدولة الواحدة، بل من التجربة العملية التاريخية، وذلك ما يفسر تماسك النسيج الاجتماعي عند المصريين رغم تعدد دياناتهم عبر العصور. كذلك كان الحال فيما تعلق بالانصهار الجنسي، فالعرب الذين استوطنوا مصر صاروا مصريين، وكذلك أهل النوبة، القبيلة ذات اللغة المختلفة عن المصرية القديمة وعن العربية الحديثة . فمن أين جاء هؤلاء المصريون؟ وكيف تمكنوا من تشذيب فكرة القومية بحيث لا تنزلق بهم إلى الفاشية Fascism برغم خضوعهم أغلب الوقت لحكم زعماء ديكتاتوريين يسيطرون على كل شكل من أشكال النشاط القومي؟! عن السؤال الأول يكاد علماء الأجناس المعاصرين أمثال ماسبيرو، وبيتارد، وسميث،ومورجان وميريت أن يتفقوا على أن السلالات التي سكنت وادي النيل قبيل عشرة آلاف عام قبل الميلاد إنما هي سلالات مولدة من الأحباش والنوبيين والليبيين من ناحية، ومن أخرى من المهاجرين الساميين والأرمن، وأن عملية انصهار تاريخية طويلة هي التي تمخض عنها هذا الشعب المميز، الذي أنشأ حضارته ومدنيته ما بين الألف الرابعة والألف الثالثة قبل الميلاد. وأما نجيب ميخائيل إبراهيم فيحدد ظهور المصريين على مسرح الأحداث ببداية العصر الحجري الحديث حوالي عام 6000 ق.م حيث عرف الإنسان الاستقرار وتوصل للزراعة بعد أن استأنس الحيوان وبنى المساكن، وعرف النحاس يصنع منه أدواته. وفي هذا العصر ظهرت "حضارات أولى في ديرتاسا والبداري والفيوم ، ومرمدة بني سلامة وحلوان ، ثم حلوان الثانية والمعادي. هذا هو رأي السير فلندرز بيتري، ومعاصره البروفيسير دي مورجان De Morgan ولا يختلف برستيد H. G. Breasted عــن هؤلاء إلا فــــي قولـــه إن المجتمع المصري الذي تألف من عدة ملايين اندمج في أمة واحدة حوالي 4000 ق.م كان من نتيجته تأسيس أقدم حكومة مركزية ، فكان هذا هو الاتحاد الأول، تبعه الاتحاد الثاني بتوحيد الجنوب والشمال في دولة واحدة عام 3200 ق.م على يد نرمر/مينا في شكل نظام كامل للحكم والاقتصاد والقيم الاجتماعية، والدين، والعمارة، والفن والأدب لألف عام قادمة، كانت كفيلة بوضع مصر من الناحية الأخلاقية فوق اعتبارات الشحناء والتنازع السياسي والاجتماعي الذي عرفته بابل وسائر الممالك في هذا الوقت. فإلى أي مدى يمكن أن يعيننا هذا التاريخ على فهم علاقة المصريين بالعرب؟ ذلك ما سوف نناقشه في موضع لاحق، إذ علينا أن نجيب قبلاً عن السؤال الثاني الذي طرحناه آنفاً، والمتعلق بكيفية عدم انزلاق المصريين - بحكم قوميتهم الواضحة- إلى فاشية عرفتها قوميات عديدة أبرزها القومية الألمانية، والايطالية، واليابانية، والصربية، فضلاً عن الصهيونية . وهو ما يقتضي تعريف الفاشية بداية، فالكلمة Fascism تشير لغوياً إلى مجموعة من العصي مربوطة ببعضها البعض. وأما فلسفتها فتقوم على محاولة متعسفة للوصول إلى مرّكب الزمان/المكان الذي يقبع فيه العقل الجمعي بحيث يكون الأفراد بالنسبة إليه مجرد حوامل له . ويتطلب ذلك وجود زعيم دموي ّ أوحد لهؤلاء الأفراد، تتماهي الجماعة معه (نموذج هتلر وموسوليني) بشعار تمجيد الدولة، والعرق Race، وبموجب السيطرة على كافة أشكال النشاط القومي لصالح حزب الدولة (بإلغاء كل حزب آخر، وبالإرهاب الحقيقي لكل جماعة معارضة) وعليه فالنزعة الفاشية لا تبرز إلا في المجتمعات المتعددة المصالح والطبقات، لا سيما المجتمعات الصناعية الحديثة. بالنسبة للمصريين، فإن تاريخهم الطويل، وطبائعهم الوديعة هما ما أبعدا شبح الفاشية عن التسلل إلى المكوّن الفلسفي والثقافي لديهم، ففي مرحلة المشترك القروي، كانت ملكية الأرض تحت التصرف المعنوي لمجلس الحكماء (سراة القرية) وما كانت ثمة حاجة للتصارع على ريعها بفضل حكمة هؤلاء السراة. أما حين انتقلت تلك الملكية إلى الدولة، فقد انقسم المجتمع المصري إلى طبقتين: الحكام والمحكومين، ساد بينهما نوع من التوافق المجتمعي ، كان حرياً بألا يقسم الناس إلى سادة (=لوردات) وعبيد. وظل هذا هو الحال حتى العصر الحديث، فبقى الناس ينظرون إلى الدولة باعتبارها الأم الرءوم، وإلى الحاكم - أميراً أو ملكاً أو رئيساً- نظرتهم إلى الأب المحبوب والمرهوب في آن : السيد أحمد عبد الجواد، والمخلـًّص : سيد الرحيمي ، والعالم بكل شئ : الجبلاوي دون حاجة منهم إلى فلسفة تستهدف الوصول إلى مّركب للزمان/المكان يتجلى فيه العقل الجمعي من خلال زعيم دموي ّ أوحد أو حزب ذي تشكيل إرهابي. وعلى حين أسهمت المسيحية الأرثوذكسية في إقرار فصل الدين عن الدولة (أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) فإن انتفاء صفة الكهنوت عن النظام الإسلامي، أسهم بدوره في إبعاد النشاط الاجتماعي عن السيطرة المطلقة للنخب الإسلامية الحاكمة. والمثال الأوضح على ذلك عدم انخراط المصريين في المذهب الشيعي، رغم خضوعهم سياسياً لحكم الفاطميين لمائتي عام، ثم استمرارهم في التعلق بآل البيت حتى بعد عودة دولة السنة . وهكذا فإن تعريف الشعب، الذي ذكره نيتشه بأنه " جماعة معنوية يشترك أعضاؤها في مفاهيمهم للخير والشر" لا ريب منطبق على المصريين تمام الانطباق، في تأكيد واضح لهويتهم، حتى وإن اتصلوا ثقافياً بغيرهم من الشعوب، وفي مقدمة هؤلاء الشعوب: العرب. ثالثاً: مصر والتعريب: حين دخل عمرو بن العاص مصر فاتحاً عام 640 ميلادي، لم يقاتله المصريون، بل تلقوه بالترحاب، كمخلـّص لهم من حكم البيزنطيين المتعسف. فكان أن ارتضوا بشروط الغزاة العرب : الخراج وسداد المسيحيين واليهود الجزية مقابل توفير الحماية لهم. وعلى حين انتقلت السلطة من الوالي البيزنطي إلى الوالي العربي؛ ظل أهل مصر - كما كانوا دائماً- في موضع المحكومين. غير أن عاملاً جديداً كان قد بدأ يظهر وبقوة، ذلك هو دين الإسلام، الذي اكتشف فيه الكثيرون عنصراً تحريرياً، فالذي يعتنق الإسلام تسقط عنه الجزية (في عام695 م دخل الإسلام 24000 قبطي دفعة واحدة ) والأكثر أنه يكتسب صفة "الأخوة" مع العربي الفاتح، فلا غرو أن يسعى المصري إلى تأكيد هذه الصفة المنبثقة عن وحدة الدين بشواهد أخرى إثنولوجية وتاريخية ولغوية. ولما كانت هذه القرائن مصطنعة Artificial فلقد ظهرت الحاجة إلى "الأيديولوجيا" بحسبانها الإطار الفكري المحقق لمصالح الجماعة، والمحدد لطريقة رؤيتها للعالم ولنفسها. وآية ذلك أن المصريين المنحدرين أصلاً من الجنس الحامي، صاروا يتفاخرون بعد تزاوجهم مع الفاتحين بأنهم "أولاد العرب". وكما حدث للمصريين بشأن اعتناق الإسلام بالحوافز المقررة، انطلقت عملية تعريب اللسان بحوافز إمكان تبوّءِ المناصب وشغل الوظائف في الدولة، فما أن أمر الخليفة الأموي مروان بن عبد الملك عام 705 ميلادي (= 87 هـ) بقصر التعامل في دواوين الحكومة على اللغة العربية، حتى اندفع المصريون إلى تعلم العربية، بل وبدأ مثقفوها في ترجمة الإنجيل وغيره من الكتب الهامة إلى اللغة العربية، بالتوازي مع ما جرى جيومورفولوجيا ً ، من نقل قبائل عربية بأكملها في عملية استيطان واسعة لمصر، ومع اضطرار هذه القبائل للعمل بالزراعة أسوة بالمصريين، فإن علاقات الجوار والمصاهرات والتزاوج، ما لبثت حتى أثمرت أعلى درجات الانصهار، إلى درجة اشتراك الأقباط والعرب المستوطنين في انتفاضات متعددة بالضد على دولة الخلافة، اعتراضاً على فداحة الخراج على المزارعين، وكانت آخر تلك الانتفاضات تلك التي قمعها الخليفة المأمون بنفسه عام 831 ميلادي (=216 هـ) وأجرى فيها دماء الآلاف من هؤلاء وأولئك. فهل أصبح المصريون عرباً بهذا الانصهار؟ أم أن ما جرى هو العكس من ذلك؟ وقبلاً ماذا كان للإسلام من دور في هذا التعريب المزعوم؟ فيما يتعلق بالإسلام، فلا أحد يماري في أن الإسلام دين وليس ثقافة، فالدين يُعتنق -أو يـُبدل- بإرادة الأفراد، بينما الثقافة هي موروث اجتماعي يستحيل التخلي عنه بقرار من أحد. وعن هذا المعنى يعبر واحد من فقهاء الإسلام، هو ربيعة الرأي ، وكان أستاذا ً للإمام مالك إذ يقول : "رأيتهم في العراق يحرمون حلالنا، ويحللون حرامنا، وهم مسلمون ونحن مسلمون" ولقد دخل الإسلام واستقر بفارس والهند واندونيسيا، وتركيا والبلقان، ومع ذلك فإن أهل هذه البلاد لم يصبحوا عرباً، وظلت ثقافتهم القومية قائمة حتى اليوم. لكن قرينة تغير اللسان المصري هي التي أوحت بعروبة لمصر (والأولى أن يقال تعريب اللغة الرسمية) حتى أن كثيراً من المثقفين المصريين - ربما بتأثير أيديولوجيا القومية العربية، وهي أيديولوجيا حديثة- راحوا يتبنون فكرة أن مصر عربية. فبينما تقرر سيدة إسماعيل الكاشف أن العرب المستوطنين الذين انصهروا مع أهل مصر، "قد فقدوا تميزهم كفاتحين منذ اشتغالهم بالزراعة والتجارة والحرف" فإنها بدلاً من أن تستنتج حقيقة تحول العرب المستوطنين إلى مصريين راحت تسعى لإثبات عروبة مصر! في كل مجموعة من التصورات فإن أقربها إلى الحقيقة هو أبسطها -وتبعاً لهذه القاعدة المستعارة من حقل الفيزياء- فإن تمصر العرب الفاتحين أو المستوطنين، هو بالضبط ما حدث، وهو عينه ما استقر عليه وعي الدولة المركزية في بغداد، وكذلك الولاة: إخشيديين، طولونيين، أيوبيين، مماليك، حيث تم التعاطي مع المسألة " المصرية" كحقيقة واقعة ، وهو أيضا ً ما درجت عليه الخلافة العثمانية فيما بعد . لم يكن الإسلام إذن هو منشئ التصور لعروبة مصر، ولكن المنشئ الحقيقي لهذا التصور إنما كان اللغة من ناحية، والأيديولوجيا من ناحية أخرى. فأما اللغة فلقد ظهرت -كإشكالية- بالعبارة القائلة بأن المصريين يتكلمون الآن بالعربية، وهي مفارقة Paradox توهم بالصحة بينما هي متناقضة. ذلك لأن المصريين - وحتى المثقفين منهم- لا يتكلمون في حياتهم اليومية بالعربية الفصحى، بل بالعامية المصرية، في حين يستخدمون العربية كلغة للكتابة حسب ُ، أو للأحاديث الرسمية وشبه الرسمية القريبة من لغة الكتابة. وآية ذلك أن الأطفال الذين فاتهم التعليم في المدارس لا يكادون يفقهون شيئاً من الفصحى الكتابية. أولاً لأنها ليست لسان الأم Mother Tongue، وثانياً لأن مواضيع الفصحى هي الفكر والأدب الرسميين، والعامة بطبعها لا تشغل البال بالفكر، ولا تستوعب إلا الأدب الشعبي المنطوق بالعامية. ومن هنا كان حرص السينمائيين على إدارة حوار أفلامهم بالعامية الشائعة، وكذلك عمد الكثيرون من مؤلفي المسرح إلى تلك العامية للتواصل مع الناس العاديين. ولقد ميز فرديناند دي سوسير بين اللغة Language (كأجرومية) وبين الكلام Parole من حيث هو شفاهي. وحتى في سياق المقارنة بين العربية الفصحى وبين عامية المصريين، فإننا نلحظ أن البناء النحوي مختلف. فالمصريون يقولون في صيغة النفي مثلاً (ما روحتش، ما أكلتش..الخ) علامة النفي هنا هي حرف الشين الذي يأتي في آخر الفعل، بينما في العربية تأتي العلامة في بدايته:(لم أذهب، لم آكل..الخ). إذن العامية المصرية ليست لهجة منحطة متفرعة من الفصحى، بل هي لغة موازية لها، وإن جاء انحطاطها نتاجاً لتاريخ الانحطاط الذاتي الذي انتقل من الديموطيقية إلى القبطية إلى العامية الحديثة لأسباب سياسية واجتماعية كثيرة ومعقدة. والأمر نفسه يمكن تطبيقه على الفصحى العربية، فلغة القرآن الكريم الراقية السامية، لغة الشعر العربي الرائع عند المتنبي وأبي تمام والمعري ليست هي الآن لغة الصحافة والإذاعيات والتلفزيونات العربية. والحاصل أن فرض اللغة العربية على المصريين منذ العصر الأموي وحتى اليوم، إنما أورثهم ازدواجية لغوية، كان من نتائجها السلبية الفصل ما بين لغة المثقفين وبين لغة الحياة اليومية. فالمثقف المصري تراه " يفكر " ولو هنيهات ، قبل أن ينطق بجملة في المحافل ، أو في أحاديث الميديا خشية أن يخطئ في نحو أو صرف، أو أن يلحن في كلمة من الكلمات فتضيع هيبته عند أقرانه، الأمر الذي يبطئ من تفكيره. وبالمقابل فإن الرجل العادي الذي لا يعرف إلا العامية، يقر لديه بأنه مغترب في دنيا الفكر و"الثقافة " فينصرف ابتداء عن كل ممارسة فكرية، مكتفياً بالحياة المعيشية من طعام وشراب وملبس ومسكن وتزاوج، دون أدنى عناية بتأصيل هذه الممارسات على المستوى الثقافي، بمعنى النظر والتأمل واستخلاص القوانين الحاكمة لعمليات التفكير. العامل الثاني في إظهار التوهم بعروبة مصر، يعود إلى الأيديولوجيا السياسية، تلك التي أرسى نصارى الشام أسسها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بغرض التخلص من الحكم العثماني القائم على رابطة الدين، مستبدلين به ما أسموه بالرابطة القومية التي تجمع بين العرب مسلمين ومسيحيين لمواجهة المهيمن العثماني ، والحق أن هذا الكفاح الأيدلوجي السياسي لم يخرج من معركته صفر اليدين، خصوصاً وأن دول الغرب ذات الصلة (انجلترا وفرنسا) قد دعمتاه لمصلحتهما في الإجهاز على رجل أوروبا المريض . لكن سقف هذا الدعم كان مشروطاً باستقلال تلك الدول العربية، كل دولة عن الأخرى، فظهر هذا واضحاً في ميثاق الجامعة العربية التي أنشئت بعد الحرب العالمية والثانية. ولم يكن ممكناً لمصر، وهي في موقع القلب بين المشرق العربي والمغرب العربي ألا تكون عضواً مؤسساً لهذه الجامعة. ولقد كان لضياع فلسطين أثره في ازدياد حاجة الكل إلى أيديولوجية قومية، تواجه بها الصهيونية المنتصرة عسكرياً الداعية إلى قومية توسعية تهدف إلى جلب يهود العالم إلى المنطقة، فكان أن نهض القوميون العرب: ناصريون وبعثيون إلى هذه المجابهة انطلاقاً من أن الصهيونية -الداعية إلى قومية لليهود- إنما تقوم على الاصطناعية والتعصب Fanaticism (الجذر اللاتيني للكلمة Fanum أي المعبد) و هو ما أدى بكارل بوبر إلى رفض أي زعم بهوية ثقافية يهودية واحدة . فماذا عن أيديولوجية القومية العربية؟ أتراها تقوم على وحدة ثقافية متجانسة.. أم على دواع ٍ محض سياسية ؟ ، شواهد الواقع تثبت أن ثقافة الماء مغايرة لثقافة الصحراء، وثقافة المشرق العربي غير ثقافة المغرب وحتى في الموقف من الدين الواحد ترى فروقاً جوهرية بين ثقافة السنة، وثقافة الشيعة داخل العالم العربي، وحتى في تفسير الدين داخل كل من المذهبين الكبيرين، هناك التفسير الثقافي الوهابي، والتفسير المصري المعتدل (ربما قبل تأثر المصريين بالوهابية) فضلاً عن المغايرات الهائلة بين مذاهب الشيعة ما بين زيدية إمامية، وإسماعيلية، وغلاة. والحق أن أيديولوجية القومية العربية، استطاعت في وقت ما أن تروج لنفسها (بالأصح للحكام الذين تبنوها) بين الجماهير، لكنها شأن كل فكرة فوقية، لم تكن لتسمح لهذه الجماهير أن تدخل معها في حوار حر، شرطه وجود تنظيمات شعبية لا وصاية عليها، فكان إفصاح هذه الإيديولوجية عن وجه التعصب هو ما قادها إلى تجريح أي فكر مغاير (ماركسي، ليبرالي، إسلامي.. الخ) والتنكيل بكل من به شبهة معارضة. ولأن التعصب يولد التعصب المضاد، تمت الإطاحة بدولة الوحدة المصرية/السورية، وأسقطت كل الاتحادات العربية التالية، مما انتهى إلى عزل الناصرية القومية عن الحكم في مصر، وسقوط البعث القومي في العراق، ومحاصرة سلطة البعث القومي في سوريا، أما قلعة القومية الصاخبة في ليبيا، فما لبثت حتى أعلنت الكفر بالقومية العربية جملة وتفصيلاً، بحثاً عن هوية أفريقية تكون بديلاً عن الحلم الوحدوي العربي المجهض . أما مصر فقد بات جلياً أنها تعـمل الآن لا لقيادة الدول العربية نحو وحدة سياسيـــة (تخلى عنهـا الجميع إلا في الخطب والأشعار) بل لتحمي ذاتها كدولة مستقلة حسب ُ . قطع ( 4 ) هذه المحددات الفكرية والسياسية التي سقناها لحد الآن ، سبق إليها نجيب محفوظ برؤيته الأدبية الصافية ، والدليل على ذلك أنه لم يكتب يوما ً قط رواية أو قصة تشي بعروبة مصر ، ولعلى لا أكشف سرا ً حين أذكر قوله لي ونحن نرتشف قهوتنا بمقهى بترو بالإسكندرية ( وكنت خارجا ً من المعتقل ، ناقما ً على السادات فصله مصر عما كنت أسميه وقتها جسدها العربي ! ) قال لي : فكرة العروبة بدأت في نفس الوقت الذي ولدت فيه فكرة الاتحاد الأوروبي و لكن الأوروبيين لم يزعموا أن ثمة هوية قومية تجمع شعوبهم ، بل الجوار والمصالح المتبادلة . ولهذا سوف ينجحون في إقامة إتحادهم بفضل واقعيتهم ، بقدر ما سيخفق العرب الذين اختاروا البلاغة الصوتية وإطلاق الأناشيد الوحدوية الفارغة من المضمون ، بديلا ً عن تشييد المصانع وتبادل الرساميل والعمالة وتأسيس البنوك والمؤسسات الاقتصادية المشتركة. وصل (4 ) رابعاً: الحصاد التاريخي للمثاقفة المصرية العربية: فإذا لم يكن المصريون عرباً، فهل يتشكك أحد في أن مثاقفة Acculturation - بمعنى الأخذ والعطاء الثقافيين- جرت بين هؤلاء وأولئك عبر هذا التاريخ الممتد لأكثر من أربعة عشر قرناً ؟ من جانب العرب، فلقد أفاد مثقفوهم من الطرح المصري الآريوسي (نسبة إلى الراهب آريوس الذي أقام مذهبه على إنكار إلوهية يسوع) في تثبيت العقيدة القرآنية حول طبيعة المسيح، الأمر الذي مهد لتأسيس علم الكلام فالفلسفة الإسلامية، وكان للثقافة المصرية (اخناتون) أثرها في إشاعة عقيدة التوحيد .كما أفاد البناءون العرب من طرز العمارة المصرية في تشييد المساجد ذات المآذن والقباب، ومنها إلى القصور والمنازل، والساحات في نقلة نوعية أنتجت واقعاً متحضراً راح يحل رويدا ً محل مجتمع البداوة، حتى بلغ قمته في مدينة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون. وبالمقابل، فقد أعطى العرب لمصر: الإسلام.. تاج الديانات طراً، بدعوته العالمية إلى عبادة رب واحد، يتساوى أمامه البشر بغير تمييز عرقي أو جنسي أو لغوي. وكما بَينـّا قبلا ً فإن الإسلام الذي يحض على مكارم الأخلاق، والذي ما جاءت رسالته السماوية إلا عبر نبي هو رحمة للعالمين وليس للمسلمين حسب ُ ، لا يمكن أن يعد مسئولا ً عن أفعال المنتسبين إليه، سواء كانوا عرباً أو غير عرب. أما عرب الجزيرة الذين اندفعوا إلى الفتوحات الخارجية، تحت راية الإسلام ، لأغراض دنيوية بحتة، فقد انتهجوا في مصر (كما في غيرها) نهج القهر الرامي إلى استلاب الناس، وهاهو ذا ابن خلدون يكتب مقرراً هذه الحقيقة قائلاً : "وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر، وإلا لم تستقم سياسته، وأيضاً فإن من طبيعة العرب اخذ ما في أيدي الناس.. فإذا ملكوا أمة، جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بما في أيديهم، وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم، وربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات، وتحصيل الفوائد ...الخ" . بيد أن ابن خلدون لم يفصـّل في كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر " ما أوجزه في "المقدمة" من سياسة العرب وأثر تلك السياسة على أحوال مصر الاقتصادية والاجتماعية، إنما انبرى لهذه المهمة تلميذه النابغة المقريزي ، راصداً سوء إدارة الحكم العربي لمصر بتوالي النكبات من قحط ومجاعات وأوبئة ونهب لأقوات الناس ، فضلاً عن تجريف موارد الفلاحين لصالح الخلفاء والولاة والجباة، وهو ما وجد انعكاسه على تدهور أحوال المصريين، بل وتناقصهم الرهيب من حوالي عشرين مليون نسمة عام الفتح 641 ميلادي إلى مليونين ونصف مليون عام 1800 ميلادي. ومع ذلك، فمن الإنصاف القول بأن وارثي حكم البداوة العربي لمصر : الأكراد الأيوبيين، فالمماليك، ثم العثمانيين قد دفعوا بعملية "التجريف" هذه خطوات للأمام، ولكن يظل صحيحاً أن البداوة الحاكمة العربية هي التي استدعت هؤلاء، وهم مثلها من أصول بدوية تفتقر إلى العمق التاريخي الحضاري، ومثلها أيضاً مجبولون على العنف والإرهاب ، مما سوف يسرب للمصريين شيئاً من مظاهر البلطجة فيما بعد، نتيجة التأثر اللاواعي، الذي يظل كامناً حتى يجد الظروف الملائمة فيتبدى. ويبقى أن النزوع إلى الإرهاب الفكري، الذي تسلل إلى العقل الجمعي المصري في العقود الحالية صناعة ٌ عربية ٌ لا غش فيها. وتفصيل ذلك أن الإرهاب الفكري لا مشاحة يعتمد على نزعة أصولية Fundamental trend تنهج للتعامل مع الوجود من منطلق التمركز حول شخص، أو حدث ، واقعي أو متوهم ، تتخذه معيارا ً للمعرفة، ومقياساً للحقائق (مذهب الأصولية Fundamentalism هو مذهب العصمة، فالكتاب المقدس معصوم من الخطأ، ليس فحسب في قضايا العقيدة والأخلاق، بل فيما يتعلق أيضاً بنشأة الكون والحياة والتاريخ، وعليه فنتائج علم الفيزياء والبيولوجيا والأنثروبولوجيا - ومناهجها في البحث- مرفوضة من جانب الأصوليين ) ومن ثم فلا مجال لاختبار صواب أو خطأ المعتقد، بل المطلوب تثبيته بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة. وذلك بالضبط ما أرسى دعائمه الخليفة القائم (1040 ميلادي = 433هـ) بتقنينه ما أسماه أبوه الخليفة القادر "العقيدة الصحيحة"، أورد أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" نصها : ( أ) كلام الله قديم (ب) أفعال الإنسان مقدرة سلفاً (ج) تارك الصلاة بغير عذر كافر (د) تقديم علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر كفر صريح (هـ) التقول على عائشة خروج عن الملة (و) من يجحد معاوية لا يسمى مسلماً . وبهذا صار المعتزلة والشيعة والفلاسفة كفاراً بنظر الدولة، فصار القتل والتعذيب والنفي أمراً شرعياً وقانونياً منذئذ وحتى سقوط الخلافة العباسية ذاتها عام 1258 ميلادي (=656 هـ) هذا السقوط الذي شكل الجمود ُ الفكري بنزعته الأصولية جانباً من أسبابه. غير أن الأصولية ما لبثت حتى وجدت نصيراً لها في فكر الفقيه تقي الدين ابن تيمية (ت 1328 = 710هـ) وكان من فقهاء الحنابلة المتأخرين، فشدد النكير على الشيعة واعتبرهم مارقين وعارض البدع في كل أمر من أمور الدين والدنيا، ودعا إلى الأخذ بمرجعية النص القرآني، والسنة وحدهما . وقد ظل فكره هذا قابعاً في الكتب، ولدى المريدين والأتباع حتى قيد له أن يجد جماعة سياسية تروج له، وسلطة Power تتبناه، فوقع ذلك بالتحالف بين محمد بن عبد الوهاب من شيوخ نجد، وبين زعيم من زعماء أواسط الجزيرة العربية: محمد بن سعود (ت 1865 ميلادي) عندئذ ظهر "التيار الوهابي" وبقي قائماً حتى الآن، رغم انكسار شوكته العسكرية، بهزيمته أمام الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي في حملته على الجزيرة العربية بين عامي 1816، 1818. غير أن هزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل عام 1967 كانت فرصة للتيار الوهابي لاختراق العقل المصري، فيما يشبه الثأر الثقافي، ومن ثم فإن الأصولية بكل ما تعنيه من تزمت وتعصب وتحبيذ للعنف إزاء المخالفين للرأي ، وجدت فرصتها للقيام بغزوات ناجحة لمصر، في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي ضربت المصريين بعد هزيمة دولتهم في حرب 67 حيث أفضت إلى اعتماد مصر مالياً على السعودية في مسألة إعادة بناء القوات المسلحة (مؤتمر قمة الخرطوم 1967) بموجب صفقة قبل عبد الناصر بمقتضاها سحب القوات المصرية من اليمن، ورضي بتصعيد السادات (الأصولي النزعة) ليصبح بعد عامين اثنين نائباً للرئيس، ثم رئيساً عام 1970. أما المصريون الفقراء، فقد تسابقوا للعمل بالمملكة السعودية تحت وطأة الحاجة ، فكان شرط بقائهم في وظائفهم أن يقبلوا بثقافة الوهابيين، وأن يتعايشوا معها إلى درجة التماهي ! وحال عودة العائدين منهم إلى مصر، لم يكن أمامهم من سبيل يشجعهم على الانسلاخ مما اكتسبوه هناك، لا سيما وأن الدولة المدنية في مصر كانت قد بدأت هي الأخرى في التآكل لحساب "الأصولية" إسلامية مستقرة ً كانت أو "أمريكية" وافدة. وهكذا انفتح الباب أمام رياح العنف المادي والفكري كي تقتلع السنبلة المصرية من تربتها ولكي تغرس بدلاً منها ثقافة "البلطة" التي تبحث عن رأس تشجه. قطع ( 5 ) واحد من هؤلاء قام بتجنيد الشاب الكهربائي الذي طعن نجيب محفوظ بذريعة الردة عن الإسلام برغم إنه لم يقرأ له ولو صفحة ! وهنا لا مندوحة من وقفة تبين ملامح الإستراتيجية النصية ( تحديثا ً للموقف الديني ) تلك التي حققها بـ " تكتيكات " محض أدبية كاتبنا العظيم عبر رواياته وقصصه ، وكانت سببا ً في سخط الأصوليين ومن لاذ بهم . فعبر محطات ثلاث ( روايات ) عرض نجيب للعلاقة الروحية بين الإنسان وربه ، الأولي : بين القصرين حيث الأبناء قابعون في البيت معتمدين تماما ً على الأب كلي ِّ القدرة ، لا يتصور واحدهم – بمن فيهم الموظف ذو الراتب - أن يتخذ قرارا ً مستقلا ً . الثانية : رواية الطريق ، وفيها يختفي الأب تاركا ً ابنه لمصيره ، الذي يرتحل باحثا ً عنه كي يخلـّصه مما هو فيه من فاقة وضياع ، وأثناء الرحلة يعرف الرجل الحب ، لكن الحب لا يكفي ، فيطلب الجنس والقوة والمال ومن ثم ينزلق على ُرغوة الخطيئة ، التي تقوده إلى القتل .. ويصدر عليه حكم الإعدام ، وفي زنزانته يقال له إن أباه موجود ، وقد رآه الكثيرون في أماكن كثيرة يمارس الحب ويجدد الحياة . فيصرخ محتجا ً كيف إذن يتركني للموت وحيدا ً ؟ كيف لا يأتي ليخلصني ؟ فيقال له إن الأب الذي جلب أبناءه للحياة على صورته ، يفترض أنهم قادرون على تخليص أنفسهم .. كفاهم تشبثا ً بجلبابه كالأطفال . لقد جاء الوقت الذي يغدو فيه الإنسان سيد مصيره . أما المحطة الثالثة فهي رواية " أولاد حارتنا " حيث يتسلل آخر الأحفاد "عرفة " إلى بيت " الجبلاوي " الكبير ليقتنص من خزانته كتابا ً طالما أشيع أنه يحتوي سر الكون ( تسميه الرواية شروط الوقف وآيات السحر التي بها سيطر الجد على الحارة قديما ً ) لكن عرفة الذي جاء طالبا ً المعرفة ليستخدمها في محاربة الأشرار؛ يتورط في قتل خادم جده ، فيهرب من دون مطلبه ، وفي اليوم التالي يبلغه أن الجد مات كمدا ً بعد الحادثة المروعة التي جرت في غرفته قدس الأقداس، ويهدد ناظرُ الوقف عرفة بتسليمه للغوغاء ما لم يوظف خبرته " العلمية " في خدمة السلطة . وباستسلام عرفة صار العلم سلاحا ً في يد الحكومات لا الشعوب ( استخدمت الدولة الأمريكية ُ العلماء َ فصنعوا لها القنبلة الذرية لتقتل باثنتين منها مئات الألوف في هيروشيما وناجازاكي ) وبينما خسر الإنسان الحديث إيمان ما قبل الحداثة ، كذلك لم يعد سيد مصيره في مرحلة ما بعد الحداثة التي تغولت فيها التكنولوجيا ، وتربع " الفتوات " العصريون على العروش كأرباب جدد للعالم . ذلك ملخص التاريخ الروحي لبني البشر في علاقتهم بالكائن العلوي، وليس من سبيل للتحرر إلا سبيل النقد الذاتي، وإعادة النظر في كافة المسلمات موروثة كانت أم مستحدثة. وهو ما يدعو إليه نجيب في سياق فهمه للهوية المصرية وعلاقتها بالعروبة والإسلام. وصل (5) إذا كنا قد أوضحنا في الفقرة ما قبل السابقة أنه لا يوجد غراء بيولوجي يلصق المصريين بالعرب، فإننا نضيف هنا أن الإسلام كدين عالمي لم يدع إلى دمج شعوبه المؤمنة به في هوية عربية مركزها مكة أو يثرب أو دمشق أو بغداد، والدليل أن إسلاما ً بغير عروبة موجود في إيران وتركيا وباكستان وإندونيسيا وماليزيا والصين والبوسنة ، كما أن اللغة - بفرض تعميمها- ليست عنصراً مؤسساً للتطابق الماهوي Identification ، فالأمريكيون والاستراليون، رغم لغتهم الانجليزية ليسوا انجليزاً، والكنديون والأفارقة "الفرانكوفونيون" ليسوا فرنسيين برغم لغتهم الفرنسية، ولم يغد المكسيكيون والفلبينيون أسباناً لأنه متكلمون بالأسبانية.. وبالنسبة للأيديولوجية، فلقد فرقت في الحاصل الأخير، بين الأقطار "العربية" بأكثر مما وحدت، والجامعة العربية خير شاهد بميثاقها - الذي فصـّله لها الاستعمار - حيث يعطي هذا الميثاق لكل عضو حق إبطال القرارات ، لصالح إجماع متوهم ، مما يرسم المنظمة نادياً لتبادل الآراء وليس أكثر. ودع عنك سياسات هذه الدول الأعضاء التي تتناقض فيما بينها إلى درجة خوض الحروب الساخنة (مصر والسعودية على أرض اليمن في ستينات القرن الماضي، ثم مصر وليبيا في عهد السادات، فالعراق والكويت في تسعيناته) والحروب الباردة ومثالها سوريا ولبنان، فضلاً عن الحروب الأهلية في الجزائر والسودان والعراق وحتى فلسطين المحتلة! ومع ذلك كله، فلا شك أن مصر قد "ثاقفت" بالفعل مع العروبة، عبر تاريخ مشترك طويل، ما يجعل القول بأن "مصر عربية الثقافة" صحيحاً إلى حد كبير، ولكن بقدر ما يقال إن فرنسا وإيطاليا واليونان وهولندا ولكسمبورج شعوب تنتمي إلى ثقافة أوروبية مشتركة، دون أن يعني هذا تطابقاً في الهوية أو إلغاءً للون المحلي بالمعنى الذي قصد إليه هيجل نفسه، والذي اتخذ منه الرومانسيون الأوربيون حقلاً لزرع أدبياتهم بديلاً عن كلاسيكية ثبت إخفاقها في رسم صورة مثالية لـ"إنسان عام"، بينما تؤكد شواهد الحال على الفروق الدقيقة بين شعب وشعب، ولغة ولغة، وأيديولوجية وأخرى، مما لا تفلح إزاءه التشنجات الرامية إلى إيجاد وحدة ما بأسلوب القسر، أو بطرق الدعاية السياسية المؤدلجة. قطع أخيرة بعد أن فرغت من هذه الكتابة " مع نجيب محفوظ " رقدت علي أريكة مكتبي منهكا ً فرأيت " فيما يرى النائم ُ " والدنا نجيب يربت على كتفي باسما ً ، فأدركت أنني نلت منه درجة : مقبول . بعدها قمت من غفوتي وقد ذهب عني الإنهاك تماما ً . ________________________________________
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المتشددون المسلمون يرقصون على موسيقي العدو و يهددون بحرب صلي
...
-
هل يمكن للشعب أن يتنازل - بحريته - عن حريته ؟
-
الشعر سفيرا ً فوق العادة
-
لماذا يرتعب المتدينون من كلمة الحرية
-
متى يعتذر الغرب للشعب المصري
-
المرأة العربية في المخيال الجمعي
-
مقاربة مصرية لرباعية الإسكندرية
-
رواية أن ترى الآن لمنتصر القفاش
-
النقد الذاتي قطار المصريين إلي الديمقراطية
-
عوليس الحمساوي وارهاب العودة للبيت
-
الولاء لمصر ولو كره الفرس المعاصرون
-
كل ضد إلى ضده
-
مياه الأمن القومي بعد إنفلوانزا الخنازير
-
هل يستقيل الكاتب من ديوان العولمة ؟
-
الإسكندرية والتهاب العصب الخامس
-
من عصاها تهرب الحواسب الكونية
-
قصيدة : نسخة وذراها الخروج عن النص ِ
-
لماذا لا يطلب الأخوان السلطة في مصر
-
كتاب البلطة والسنبلة - إطلالة على تحولات المصريين
-
غرام الأسياد بين الكفيل والأجير
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|