|
حوارات فلسفية حول ظواهر استثنائية في التاريخ العربي الاسلامي وعبثية صراعات مجلس النواب البحريني
محمد المرباطي
الحوار المتمدن-العدد: 2874 - 2009 / 12 / 31 - 09:02
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
حوارات فلسفية حول ظواهر استثنائية فى التاريخ العربي الإسلامي وعبثية صراعات مجلس النواب البحريني لقد تابعت الصراعات العبثية على تبعية بعض القبور، وقرأت بعض البيانات حول أحقية قبر أو ضريح صعصعة للأوقاف الجعفرية أو السنية، مما أثار حزناً وألما فى نفسي، فهل وصل الحال لأن يتصارع البعض على أحقية أو تبعية القبور، وهل الإسلام بتراثه وتاريخه ومخزونه الحضاري تحول إلى صراعات واصطفافات سنية شيعية حتى على توزيع القبور والأموات، وكان ذلك دافعاً لكتابة هذا الموضوع، لأبين ان الإسلام بتراثه ومخزونه الثقافي والفلسفي المتنوع والمتشعب قد تجاوز منطق الاصطفاف الطائفي أو المذهبي الضيق، ولا يجوز إطلاقاً اختزاله فى مذهبين أو فرقتين الشيعةالإثـني عشرية والسنية، فالإسلام ابعد واشمل من المذهبين أو الفرقتين السنية والشيعية.
إن الإسلام قد تشعب إلى عشرات الفرق والمذاهب التى بلغت قرابة ( 260 ) مذهب وفرقة حتى عام: ( 459 هـ - 1038م )، ولكن الدراسات الإسلامية الحديثة خاصة فى بلادنا تحاول إقفال هذا الجانب وعدم الحديث عنه أو بحثه، والتعميم الخاطئ ان جميع هذه الفرق والجماعات والمذاهب الإسلامية على باطل، ومن خلاله يجرى تشويه تاريخ العلوم والفلسفة والمنطق وعلم الكلام فى الإسلام، واختزاله فى صراعات عفوية تنم عن ضحالة أصحابها، ويجرى على خلفيتها اصطفافات نيابية فى غالب الأحيان، وكان ذلك واضحاً فى موضوع الاستجوابات مع أو ضد الوزير حسب انتمائه المذهبي وليس حسب أدائه واخلاصة ونزاهته، وبدلا من الدفاع عن حقوق الناس، تنقضي دورات المجلس فى صراعات حول العيدية أو البونس والاستجواب، علماً ان الاستجواب آلية من آليات المجلس فى محاسبة ومساءلة السلطة التنفيذية على أدائها ونزاهة اى وزير أو مسؤول، وليس بناءا على موقعه أو انتمائه المذهبي، وهى عملية تغييب الدور الحقيقي للنائب الذي تحول من نائب لشعب البحرين إلى نائب لجمعية أو لطائفة أو فرقة مذهبية، مما أعطى الوزير القدرة على عرقلة الاستجواب نتيجة للانحياز المذهبي داخل المجلس النيابي، بعد أن تحول البعض إلى نائب للقرية أو للمنطقة أو الدائرة أو لناخبيه وليس نائباً للشعب، وقد يعجز بعض النواب ان يرتقى لأن يكون ممثلاً لشعب البحرين، ونلاحظ هذا عندما يقوم احد النواب بالمشاركة فى الفعاليات أو الاعتصامات ضمن محيط دائرته، ولكنه مغيب تماماً عن المناطق الأخرى، لأن تلك المشاركات لا تأتى بناءا على قرار أو توجه عام داخل المجلس النيابي، وإنما بتوجيه من الجمعية التى أخذت قرار ترشحه، وكانت سبباً فى نجاحه، لذا لا يشعر السني بمسؤولية النائب الشيعي فى تحمل أعباء الدفاع عن حقوقه ضمن دائرته، وهكذا بالنسبة للمواطن الشيعي، لأنه لا يدرك ان مسؤولية النواب تضامنية فى تحمل المسؤوليات والأعباء.
إن هذه الحالة أدت ببعض النواب للدخول فى صراعات على أحقية قبر صعصعة للأوقاف السنية أو الجعفرية بدلا من الصراع حول سلامة أراضي الوطن وحماية المال العام، والصراع ضد اؤلئك الذين أعطوا لأنفسهم مبررات حق انتزاع سعادة المواطنين، هذا المواطن الذي تطحنه موجات ارتفاع الأسعار دون حماية قانونية واضحة، هذا المواطن الذي فقد الأمل فى الحصول على وحدة سكنية، وعلى وظيفة مجزية، وعلى مستقبل مريح لأبنائه، هؤلاء الناس أهم لديهم بألف مرة الدفاع عن حقوقهم من الصراع على أحقية قبر أو مزار صعصعة أو غيره للأوقاف الجعفرية أو السنية.
إنها هموم ومعاناة يحاول البعض تغطيتها أو تغطية عجزه بإثارة مثل هذه الصراعات المذهبية على القبور أو عند استجواب أو مساءلة وزير ما، ولكن السؤال الذي يجب ان يوجه إلى صعصعة ذاته إن كان فعلاً سنياً أو شيعياً، ومن خلال قراءتنا للتاريخ نحاول معرفة من هو صعصعة: (( إنه صعصعة بن صوحان بن حارث بن هجرس بن صبرة بن خدرجان بن عساس ألعبيدي، ولد عام ( 24 ) قبل الهجرة، قال فى وصفه أبا عمر انه مخضرم، وكان مسلماً فى عهد رسول الله ولم يره، وله رواية عن عثمان وعلي، وشهد صفين مع علي، وكان خطيباً فصيحاً، وله مع معاوية مواقف، وقال الشعبي كنت أتعلم منه الخطب، وروى عنه أبو اسحق السبيعى، والمنهال بن عمرو، وعبدا لله بن بريدة، وذكر العلاء فى أخبار زياد ان المغيرة نفي صعصعة بأمر من معاوية من الكوفة إلى جزيرة أوال من البحرين فمات بها وانشد له المرزبان: هلا سألت بنى الجارود أي فتى ….. عند الشفاعة والبأس ابن صوحانا كنا وكانوا كأم أرضعت ولداً …… عقاً ولم تجز بالإحسان إحساناً
أما أخوه زيد بن صوحان فإنه توفى بالكوفة فى موقعة الجمل بعد ان قطعت يده، وهو الذي عناه النبي بقوله: ( أما زيد فرجل أمتي تدخل الجنة يده قبل بدنه ) ومن القصص المروية عدم إنتشار وباء الطاعون بقرية عسكر وذلك كرامة لصعصعة )).
نستدل من هذه المصادر ان صعصعة بن صوحان قد اسلم فى عهد الرسول قبل المذاهب والفرق الإسلامية التى نشأت بعد وفاة الرسول بزمن، ومنها المذاهب السنية، فقد ظهر أبو عثمان ربيعة بن أبى عبدالرحمن فروخ، مولى قبيلة آل المنكدر وهى إحدى أفخاذ بنى تميم، الذي أشتهر الإفتاء بالرأي، وعرف بربيعة الرأي وفقيه أهل المدينة وتوفى عام 130هـ ، وهو أستاذ مالك بن انس الذي أشتهر بداية عهده الإفتاء بالرأي ثم تراجع عنه، بعد انقسام المسلمين إلى فريقين وهم أهل الحديث أو أهل المدينة، وأهل العراق الذين اخذوا بالرأي على مذهب أبى حنيفة، فأبو حنيفة وهو النعمان بن ثابت الكوفي وجده زوتى الذي ترجع أصوله إلى أفغانستان ( كابل ) ولد عام ( 80 هـ ) وعاش فى الفترة: ( 80 – 150 هـ ) وهو مؤسس المذهب الحنفي وصاحب علم الرأي، ثم جاءت الشافعية نسبة للإمام الشافعي وكان تلميذا للإمام مالك ثم الحنبلية، وبعدها بزمن جاءت الأثنى عشرية الجعفرية نسبة للإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين.
يعتقد البعض ان كل من ناصر الإمام علي كان شيعياً، وهو اعتقاد خاطئ تماماً لأن أئمة السنة قد ناصروا الإمام علي وأحفاده ومنهم أبو حنيفة الذي أفتى بتأييد حركة زيد بن علي فى الكوفة ضد هشام بن عبدالملك الخليفة الأموي ودعمه بالمال، ثم أفتى بتأييد حركة إبراهيم بن عبدالله الحسني ضد الخليفة العباسي المنصور وكلاهما:( زيد بن علي وإبراهيم الحسني ) من الشيعة، وقد يطول الحديث فى هذا الجانب، ولكن المهم ان لا تستغل المذاهب وبساطة الناس فى الصراعات السياسية وزجهم فى الانتخابات النيابية والبلدية على خلفية التقسيمات الإصطفافات المذهبية والاثنية.
علينا ان نتساءل لمصلحة من تثار مثل هذه الصراعات، ولخدمة من يجرى الخلاف على أحقيقة ضريح لشخصية إسلامية لا علاقة لها بزمن الخلافات المذهبية وإن ناصر الإمام علي على معاوية فذلك لا يعنى ان معاوية كان سنياً والإمام على كان جعفرياً، وإقحامها فى الصراعات الاجتماعية، التى أدت لتراكمات تاريخية من الأحقاد والكراهية بين المسلمين وبين أبناء الوطن الواحد، هدفها تغييب الصراع الاجتماعي الحقيقي بين فئات وطبقات المجتمعات العربية الإسلامية وتحويلها لصراعات لا أساس لها بين الإسلام السني أو الشيعي، وكأن الحضارة العربية الإسلامية التى أنتجت ظواهر فلسفية استثنائية فى تاريخ البشرية هو اختزال للصراعات بين السنة والشيعة، هذه الخلافات التى ألقت بضلالها على الحياة العامة، وغيبت الحركات الفكرية والمذهبية الإسلامية الأخرى مثل المعتزلة الذين أنتجوا أعظم مفكري وفلاسفة التاريخ العربي الاسلامى، حتى أصبح بعضهم ظاهرة تاريخية استثنائية، ولأهمية هذا الموضوع سوف أتناول فى البحث احدي تلك الظواهر التاريخية المغيبة. لقد تناولت قبل أيام موضوعاً بعنوان عبثية صراعات مجلس النواب بعد ان أصبح الانقسام المذهبي إحدى السمات التى تميزه، وهو إفراز لانتخابات نيابية سابقة، جاءت على خلفية الاصطفافات المذهبية بين السنة والشيعة، كانعكاس غير طبيعي للتطور الفكري والمذهبي للمجتمع البحريني، الذي تناول التاريخ الاسلامي بعيدا عن الموضوعية، وأخذ بمبدأ التعصب والانغلاق المذهبي، واختزال التاريخ الاسلامي والحضارة الإسلامية فى فرقة أو مذهب إسلامي محدد، ومن خلاله تم تغييب ونفى جميع الفرق والمذاهب والحركات الفكرية الإسلامية الأخرى، التى تشعبت إلى عشرات الفرق والمذاهب وبلغت قرابة:( 260 ) مذهب وفرقة حتى عام: ( 459 هـ - 1038م ) مثل المعتزلة الذين أنتجوا أعظم مفكري وفلاسفة التاريخ العربي الاسلامى، حتى أصبح بعضهم ظواهر تاريخية استثنائية فى الأدب والمنطق مثل بشار بن برد، وفى الفلسفة أبو إسحاق النظام، ولأهمية هذا الموضوع سوف أتناول بعض هذه الظواهر التاريخية المغيبة، بعدها سأتحدث بالكتابة مفصلاً جميع المذاهب والحركات الفكرية والمذهبية فى الإسلام وأسبابها وظروفها لأبين للقارئ ان المذاهب والفرق الإسلامية التي تجاوزت ( 400 ) فرقة ومذهب وطريقة لا تقتصر فقط على السنة والشيعة الاثنى عشرية التى دخلت فى صراعات واصطفافات تضر بمصالح المواطنين، عندما جرى استغلال المذهب فى الحياة العامة، وأبرزها الانتخابات النيابية والبلدية، ولكن قبل الحديث عن هذه المذاهب والفرق وغيرها سوف أتناول حالة أو ظاهرة تاريخية واحدة، وهى نتاج حرية الفكر فى مراحل معينة من التاريخ العربي الاسلامي. الحالة التاريخية الأولي أبو إسحاق بن إبراهيم بن سيار بن هاني البلخى – الملقب بالنظام، احد ابرز واهم مفكري وفلاسفة وأئمة المعتزلة، ولد ضريرا وعاش فى الفترة ( 162 – 221 هـ - 845 - 904 م )، عاصر المأمون، والمعتصم، والواثق فى الخلافة العباسية. ذكره محمد عبدا لهادي أبوريده فى كتابه: ( تاريخ الفلسفة ) – وأبن نباته فى:( سرح العيون) وأبن شاكر فى: ( عيون التواريخ ). اوجه الغرابة فى هذه الظاهرة العربية الإسلامية:
إن ابوإسحاق النظام يشكل الظاهرة التاريخية الأهم التى تعكس مرحلة الانصهار والتلاقح الحضاري بين الفلسفة اليونانية والحكمة الهندية والفارسية مع الحضارة العربية الإسلامية، وهي بداية تاريخية هامة من التحولات الكبيرة فى الفكر العربي الاسلامى، ومرحلة جديدة لانتقال المجتمع العربي من حالة البداوة إلى المدنية من خلال الانصهار فى الحضارات الإنسانية الأخرى، يجسدها أبو إسحاق النظام الذي قام بتأليف مئة مجلد فى الفلسفة والمنطق والأدب والعلوم الطبيعية وهو لا يقرأ ولا يكتب كونه أعمى، وهو مؤسس المذهب أو الطريقة النظامية.
لقد جاء فى كتاب روضات الجنات ان: (( للنظام مئة مجلد فى كل علم كانت مشهورة بين الناس بمصر والعراق والشام والبصرة )). من عناوين كتبه: 1- كتاب الجزء: مكرس لقضايا الجزء الذي يتجزأ أو لا يتجزأ، المعروف بالمذهب الذري لأرسطو طاليس. 2- كتاب فى الحركة, وهو أول من اكتشف قوانين الحركة. 3- كتاب الثنوية: كان يرد على الديانة الزرادشتية القائلة بثنائية الخلق، أي بوجود خالقين للعالم، احدهم للخير والثاني للشر. 4- كتاب فى التوحيد، يحاول من خلاله إثبات وجود الله. 5- كتاب العالم: يبحث فيه قوانين الطبيعة. 6- نقض كتاب أرسطو طاليس: الذي قال بالجزء الذي لا يتجزأ ( الذرة ) وقد رد النظام على هذه النظرية، وانكر وجود الحد النهائي للتجزئة، التى تتوقف عند ألإغريق بالوصول إلى طور امتناع التجزئة بسبب التناهي فى الصغر – وذكره فى هذا الخصوص الأشعري L ص 318 ). تناول أبو إسحاق النظام علوم الطبيعة، وفى هذا الصدد يقول الأستاذ عبدالهادى أبو ريدة: (( إن آراء الفيلسوف أبو إسحاق تُفضي إلى اعتبار العالم كله مادة وحركة، ويستند فى حكمه إلى مجمل نظرياته فى الجوهر الفرد والحركة والطفرة، وقد أنكر الحد النهائي للتجزئة )). لقد شاعت نظرية النظام الذرية بأن لا جزء إلا يتجزأ: ( النظرية الذرية ) بين العلماء والشعراء، وأثارت مناقشات طويلة حتى يومنا هذا فى الأوساط الفكرية والثقافية الغربية، ومما قاله الشعراء بهذا الخصوص: قصيدة للشاعر: ( إبن سناء الملك ) فى إحدى غزلياته يصف ثغر الحبيبة، ولكنه فى الواقع يدلنا على حقيقة ان أبو إسحاق كان ضريرا أعمى لا يبصر: قال إبن سناء فى قصيدته: (( ولو أبصر النظام َجوهََرَ ثًغٍرٍها … لما شك يوماً أنه الجَوهَرَ الفَرَدُ )) وهنا يشير سناء الملك إلى إنكاره نظرية ابوإسحاق للجزء الذي يتجزأ. كذلك اكتشف نظرية الحركة: ويقول بهذا الخصوص: " إن الأجسام متحركة دائماً وأنها تتحرك فى الوقت الذي تبدو ساكنة، ويرى ان كون الشئ فى المكان يعنى انه تحرك في وقتين أو حركتين، هما حركة الوصول وحركة النقلة، ويجد فى السكون حركة كامنة، ويقصد بذلك ان سكون النظام حالة من حالات الحركة.
السؤال الذي يبحث عن الإجابة : كيف لهذا الاعمي الأمي ان يؤسس لمدارس فكرية ونظريات فلسفية ويكتشف قوانين الحركة وهو لا يرى ولا يبصر هذه الحركة، وفى هذا الصدد يقول: (( إن الحركة إحساس ذهني لا وجود لها فى الواقع المادي، فنحن نرى الأجسام تنتقل من مكان لآخر، ولا نرى الحركة بذاتها ))، والأغرب من هذا نظريته فى الماديات: فقد توصل أبو إسحاق النظام إلى حقائق جديدة على زمانه بخصوص بعض الظواهر الطبيعية فبين ان الهواء والصوت واللون والرائحة والطعم هي أجسام لطيفة ، وتنبه إلى قوة الهواء وطاقة الدفع والرفع فيه، وأكد ان بواسطة النفخ بالهواء يمكن رفع أجسام ثقيلة، وبرهن ان الزق المنفوخ يحمل جملاً. إن هذا المفكر ألمعتزلي الاعمي خلقاً أنتج احد عظماء الفكر والأدب والفلسفة فى التاريخ العربي الاسلامي وهو: ( الجاحظ ). قال عنه الأستاذ علي سامي النشار مؤلف كتاب: ( نشأة الفكر الفلسفي فى الإسلام ) الطبعة الثامنة – دار المعارف المصرية: (( إن النظام شغل الحياة الفكرية فى حياته وبعد مماته، وظل أثره على أعظم صورة لدى اكبر عدد من المفكرين، وهو يتبوأ قطب الرحى فى مدارات الثقافة الإسلامية بوصفه كاتب موسوعي تشعبت اهتماماته فشملت معظم مناحي الحياة والثقافة – ص 502 - )). قصته مع أبو جعفر البرمكي: الذي قال له فى نقضه لكتاب أرسطو طاليس: (( يا أبا إسحاق إنك لا تقرأ، وأنت اعمي فاقد البصر فكيف والله تريدنا نصدق انك تنقض ما قاله أبو الفلاسفة والحكماء فى الجزئيات ( يعنى به أرسطو طاليس ) وكان رد أبا إسحاق عجيباً إذ قال: (( يا أبا جعفر أيهما أَحبُ إليك أن اقرأه من أوله أو من أخره، وهكذا اخذ يقرأ كتاب أرسطو طاليس حول مذهبه الذري ))، وهو أَولَ من قال بنظرية الطفرة، فقد بين: (( ان الجسم لا نهاية له فى التجزؤ، وانه لا جزء إلا له جزء، وقال ان الجسم يخلق فى كل وقت: ( لاحظ تجدد الخلايا ). الحالة التاريخية الثانية شخصية أدبية علمية نابغة فى الشعر الجاهلي والشعر المعاصر، ويعد أهم شعراء التجديد والتحديث فى الأدب العربي، ولد أعمي، لا يقرأ، أمي، كونه أعمى، ولكنه يكتب، وهو احد ابرز أدباء ومفكري المعتزلة. إنه بشار- والده – برد – كان سبيٌ من ( طخرستان- بخراسان )، امتلكته زوجة المهلب بن أبى صفرة قائد الفتح الاسلامى فى تلك المناطق – أيام الحجاج – نقل إلى البصرة، وأهدته زوجة المهلب لإحدى صديقاتها من نساء قبيلة بنى عقيل التى زوجته بجارية رومية ولدت بشار: هو بشار إبن برد. اشتعل كاتباً فى دوواين الدولة، حسب مصادر التاريخ رغم انه أعمى خلقاً، كما أن مؤرخوا الأدب وضعوا بشار بن برد على الحد الفاصل بين الشعر القديم بطوريه الجاهلي والأموي، وبين الشعر الجديد الذي يعكس انتقال الحياة العربية فى ظل الإسلام من وضع البداوة إلى المدنية، واعتبروا بشار بن برد أبو المجددين، لأنه فتح باب الحداثة لأول مرة فى حياة الأدب العربي، ولأنه اخذ شعره الجديد يعكس البيئة المستجدة فى أوائل الدولة العباسية ونهاية الدولة الأموية. لقد ناصر المعارضة ضد العباسيين وانخرط فى جملة مؤيدي ثورة إبراهيم بن عبدالله الحسنى ضد أبو جعفر المنصور، وأخذته الحماسة عندما كتب قصيدة تقع فى خمسة وعشرون بيتاً يفتتحها بمخاطبة أبو جعفر المنصور، مهددا إياه باقتراب أيامه، وان الموت يقتحم الجبابرة، واتهمه بالتآمر على الإسلام، ولكن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لم يسجنه أو يقتله أو ينفيه، لمكانة الأدباء وأصحاب العلم والقلم والفلاسفة لدى عامة الناس فى تلك الأزمنة، لذا عمل على كسبه بالمودة رغم معارضته الشديدة ، ومن نوادره التى تدل على معارضته الشديدة لدولة العباسيين انه كان بمجلس حاجب المهدي ينتظر الإذن بالدخول عليه، وكان معه فى الانتظار رجل من دعاة بنى العباس ، فسأله هذا الداعية العباسي : (( هل تعرفون معنى قوله تعالى ويخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس: فقال هو العسل: لكن الداعية العباسي نفى ذلك قائلا كلا انه العلم الذي يخرج من بطون بنى هاشم فرد عليه بشار – جعل الله طعامك وشرابك ما يخرج من بطون بنى هاشم – لقد قالها وهو فى قصر الخليفة العباسي ينتظر الإذن بالدخول عليه - )) .
لقد توسع بشار فى معارضته للدولة معتبرا إياها بالظلم، واخذ ينظم الشعر فى وزراء الخليفة العباسي ليكشف عيوبهم وفضائحهم حتى ختمها بمهاجمة الخليفة العباسي، وكان أشدها بيتين أنشدهما علناً فى حلقة يونس النحوي بمسجد البصرة الكبير. الخـــــلاصـــــــــة إن هذه الحالات تجعلنا نتساءل عن الاسباب التى تجعل رجلاً أعمى امى لا يقرأ ولا يرى بهذا المستوى من النبوغ والعلم والفلسفة، إلى الحد الذي يصل فيه للتنظير واكتشاف القوانين والرد على أعظم فلاسفة الإغريق، وكيف تحول من ابن لمملوك ولد أعمى لا يقرأ ويقال أنه يكتب بلوغ أعلى مراتب العلم والأدب. ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال، ولكن بمقدورنا ان نقف على بعض الاستنتاجات التى قد تقارب الحقيقة وهى:
• ان العلم كان حرا، ولم يقيد العالم أو المتكلم أو أصحاب القلم والفكر، أو المنطق من قبل أنظمة وأجهزة الدولة أو من قبل رجال الدين والدليل على هذا أنه: • فى عام 457 هـ = 1065 م قرر نظام الملك وزير السلطان السلجوقى ( الب ارسلان ) تأسيس المدرسة النظامية ببغداد، وبمجرد انتشار هذا الخبر أقام علماء المسلمين صلاة الغائب على روح العلم، واعتبروا هذا التاريخ هو نهاية للعلم، لأنه أصبح خاضعاً لخدمة الدولة وإشرافها وسيطرتها. • تشير المصادر التاريخية ان المجالس والمساجد كانت أماكن لنشر الثقافة الشفوية وأماكن لتعليم العلوم الإنسانية من أدب وفلسفة وغيرها، ومنها شاعت ظاهرة الحفاظ فضلا عن القراء، وكان بشار وأبو إسحاق وأبو العلاء المعرى أميون بحكم العمى ولكنهم كانون مبصرين بأسماعهم وأحاسيسهم فى هذه المجالس. النتيجــــــة الأخــــــــيرة علينا أن نتساءل ماذا ينتج هؤلاء دعاة الفرقة فى بلادنا، ودعاة الانقسامات المذهبية وأعداء العلم والمحبة والتسامح بين ابناء الوطن الواحد، قياساً لما كانت تنتجه المساجد والمجالس ودور العبادة الإسلامية فى مراحلها الأولى من ثقافة وأدب وعلوم فى الفلسفة والمنطق والكلام وغيرها. الإسلام بتاريخه ومخزونه الحضاري الكبير الذي أنتج مدارس فكرية ومذهبية متنوعة فى بيئة سمحت لشتى العلوم والفلسفة ان تأخذ دورها ومكانتها، لا يجوز اطلاقاً اختزاله وحصره فى فرقتين أو مذهبين السنة والشيعة الآثنى عشرية، لأن ذلك مقتل لهذه الحضارة وتعد على الفكر الاسلامى، كما لا يجوز إطلاقاً القبول بمنطق الأحقاد والكراهية التى تراكمها ثقافة الانقسامات المذهبية السنية الشيعية، وجعلها هدفاً فى الحياة العامة، وعبئاً على ابناء البلد الواحد، ولتجاوز هذا الوضع السيئ علينا ان نقارن كيف كانت المساجد ودور العبادة والمجالس أماكن للعلم والثقافة، وبين الحالة الراهنة التى نلمسها بوضوح فى الإصطفافات المذهبية داخل المجلس النيابي، وفى الحياة العامة التى تعكسها ألانتخابات البلدية والنيابية كنتيجة لواقع التقسيمات المذهبية، التى يشترط لاستمرارها تعميق الفرقة والكراهية بين المواطنين.
#محمد_المرباطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصادر الفكر العلماني العربي منذ مطلع القرن الثامن عشر
-
مقدمات تاريخية في فهم النقابات العمالية والحرفية مع بدايات ا
...
المزيد.....
-
جدّة إيطالية تكشف سرّ تحضير أفضل -باستا بوتانيسكا-
-
أحلام تبارك لقطر باليوم الوطني وتهنئ أولادها بهذه المناسبة
-
الكرملين يعلق على اغتيال الجنرال كيريلوف رئيس الحماية البيول
...
-
مصر.. تسجيلات صوتية تكشف جريمة مروعة
-
علييف يضع شرطين لأرمينيا لتوقيع اتفاقية السلام بين البلدين
-
حالات مرضية غامضة أثناء عرض في دار أوبرا بألمانيا
-
خاص RT: اجتماع بين ضباط الأمن العام اللبناني المسؤولين عن ال
...
-
منظمات بيئية تدق ناقوس الخطر وتحذر من مخاطر الفيضانات في بري
...
-
اكتشاف نجم -مصاب بالفواق- قد يساعد في فك رموز تطور الكون
-
3 فناجين من القهوة قد تحمي من داء السكري والجلطة الدماغية
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|