أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 17














المزيد.....

أسير العبارة (رواية)- 17


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2881 - 2010 / 1 / 7 - 01:40
المحور: الادب والفن
    


كان يوما عاديا من أيام شهر سبتمبر. كنت أسير في شارع "سرجنت" صحبة ياسر كوكو. "أماندا" كانت في زيارة لصديقتها القديمة "جيسكا". لم يكن لدي ما أفعله إلى حين عودتها آخر المساء. كان الوقت يعبر منتصف عصره حين تجاوزنا تقاطع "سرجنت" مع شارع "تورنتو".
في وقت متأخر من صباح الثلاثاء الموافق الرابع والعشرين من شهر يوليو من عام 1934 فجعت مدينة "وينبيك" بمصرع "سرجنت جون فِرن" أثناء مكافحة سطو مسلح على صيديلة "نوربيردج" في العقار رقم 11 من شارع "ماري". كان ثالث رجل يلقى مصرعه من قوات البوليس. لم يتجاوز عمره وقتها تسعة وثلاثين عاما بعد. يكشف تاريخ خدمته أنه التحق بقوى صغيرة قوامها عشرة رجال تعمل في ضاحية "سان بونفيس". كان ذلك في العشرين من أغسطس من عام 1920. بعد نحو العامين تقريبا، ترقى إلى رتبة "سرجنت". لم تذكر المصادر تحديدا عدد الأطفال الذين تركهم لأرملته من غير وداع. كل ما خرجت به الأرملة آنذاك مرتب شهرين (400 دولار) ومبلغ (40 دولار) من مؤسسة تعويض العاملين التي خصصت كذلك مبلغا ضئيلا لكل طفل. المدينة التي أطلقت اسمه على أحد شوارعها لاحقا لم يغب عنها في بادرة طيبة أن تتكفل بمصروفات الجنازة.
"سرجنت جون فرن"، حين تلقى في مكتبه تقريرا بالحادث حوالي الثامنة والربع صباحا، وحتى وهو يخلِّف على مكتبه أحد رجال المطافيء لنقص في القوى اللازمة من البوليس، لم يدر بذهنه قط أن الشارع الذي سيحمل اسمه بعد حتفه الوشيك سيتحول تدريجا إلى ملتقى دائم بين المومسات والباحثين عن لذة عابرة.
مثل تلك التواريخ المنسية داء أصابني منذ مدة. "عاش (95) عاما، وأنجب (153) ولدا و(51) بنتا، من (5) زوجات". هكذا، وأنا لا أزال في القاهرة، لم تكن تشغلني فتوحات رمسيس، لم يكن يشغلني ما ترك وراءه من أحجار تبدو كشواهد خالدة على عظمته، بقدر ما كانت تشغلني تلك الجوانب المهملة من تاريخه الشخصي. كان ياسر كوكو يسبقني في السير بخطوة. لم يكن يشغله من أمر هذا العالم شيء. كل ما كان يشغله في تلك اللحظة أننا غادرنا شقتي إلى حيث نقابل بعد دقائق بعض المنفيين الغرباء على مائدة للدردشة من موائد "بورتج بليس". كنت أسير على الدوام ملتقطا في طريقي أدق التفاصيل. أعقاب السجائر، فتات الطعام، غنج النساء حين تشي به الخطوة، حيرة العصافير على رؤوس الأعمدة، آثار الأقدام، رائحة الهواء عند الأزقة أوالميادين المفتوحة، العوازل الطبية التي يرمي بها المشردون أسفل دغل كثيف، شظايا زجاجية صغيرة عند منتصف الأسفلت في نهار مشمس تجاوز ثلثه الثاني بقليل أويكاد، ماركة العربات وتاريخ إنتاجها، وجه عجوز يطل من وراء نافذة زجاجية متسخة، أحاديث المارة العابرة، لوحات الدعاية، الشجر، البيوت، المحلات التجارية. لعلي بكل هذا كنت ولا أزال أقاوم في داخلي ما يدعونه "الحنين".
حتى الآن، لا أكاد أصدق أنني احتفلت بعيد ميلادي التاسع والعشرين على ذلك النحو. احتفال من نوع فريد. لا شموع تنيره. لا ضوضاء. احتفال يليق بنهاية عقد وبداية عقد جديد. احتفال يثير حيرة الشيطان نفسه.
آنذاك، كنت أقرأ طرفا من أخبار عالِم جليل. أقام وقتها الدنيا ولم يقعدها. "تتلخص فكرة الفيمتو كيمياء والتصوير فائق السرعة في استخدام أشعة الليزر ذات الترددات العالية لتصوير سلوك الجزيئات الذرية، وتتبع التحولات التي تحدث بعد أي نشاط كيميائي".
كانت تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل. كان الستر والفضيحة وجهان لعملة واحدة داخل حدود تلك الحارة المصرية الوادعة عند أطراف حي عين شمس الشرقية. كانت الشقة الأرضية الضيقة كقبر لا تزال غارقة في الأسى وفوضى السنوات: صراصير ميتة وأخرى راكدة تتربص، بقايا طعام أعلى المكتب الخشبي القديم، غبار متراكم استحال إلى سواد فوق أرضية الأسمنت العارية، عناكب تنسج على جوانب السقف بدأب، أرفف خالية، ملابس متسخة تقبع في قاع الدولاب المشرع، صور ممثلات وعارضات أزياء ألصقها المستأجر السابق على الجدران الرمادية القاتمة كيفما اتفق، صحف قديمة وأخرى حديثة، مسودات وأرتال من الكتب تتوزع هنا وهناك. كان المشهد برمته أشبه بتجليات فكرة خارجة من رأس شيطان ما.
"ولتقريب الفكرة إلى الأذهان يمكن اعتبار نبضة الليزر التي تستغرق جزءا من مليون المليون جزءا من الثانية تحاكي غطاء عدسة الكاميرا، حيث إن كل نبضة تصطدم بالذرة وترتد حاملة معها صورة مختلفة، وبذلك فإن سرعة النبضات الليزرية التي تفوق حركة الجزئيات بآلاف المرات تعطي شكلا كاملا لخطوات التفاعل".
آن تلك الليلة الصيفية الحارة، كنت وحدي، أغالب السكون وصور الموتى المتزايدة بداخلي عاما بعد عام. كانت كل الطرق تؤدي إلى قيام ذلك الاحتفال العجيب، لا محالة. هكذا، وضعت الصحيفة قرب الأباجورة الفضية المطفأة. غادرت حجرتي الأرضية في هدوء شديد. توقفت داخل فراغ باب البناية. مددت رأسي إلى الخارج مثل ثعبان أسود يطل من جحره. تلفت يمنة ويسرة. مسحت بنظري بلكونات الحارة المقابلة لي واحدة واحدة. كانت فروع الأشجار القليلة ثابتة يلفها السكون والعتمة. بضع سيارات محدودة القيمة تنام أمام محلات الحرفيين والبقالة على جانبي الشارع القصير المترب. كنت أستطلع المكان. كان كل ما رأيت وشعرت به يدفعني قدما للاحتفال بعيد ميلاد على ذلك النحو الغريب.



#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسير العبارة (رواية)- 15
- أسير العبارة (رواية)- 16
- أسير العبارة (رواية)- 14
- أسير العبارة (رواية)- 2
- أسير العبارة (رواية)- 3
- أسير العبارة (رواية)-4
- أسير العبارة (رواية)- 5
- أسير العبارة (رواية)- 6
- أسير العبارة (رواية)- 7
- أسير العبارة (رواية)- 8
- أسير العبارة (رواية)- 9
- أسير العبارة (رواية)- 10
- أسير العبارة (رواية)- 11
- أسير العبارة (رواية)- 12
- أسير العبارة (رواية)- 13
- أسير العبارة (رواية)- 1
- مرثية للطيب صالح
- إني لأجد ريح نهلة
- وداع في صباح باهت بعيد
- ملف داخل كومبيوتر محمول


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 17