|
أسير العبارة (رواية)- 13
عبدالحميد البرنس
الحوار المتمدن-العدد: 2877 - 2010 / 1 / 3 - 01:11
المحور:
الادب والفن
كان العصر يقترب من نهايته. هذه لحظة يتجلى فيها إله الأسى على سويداء القلوب. الشقة يلفها سكون ثقيل لا قبل لي به، حتى صوت أزيز الثلاجة الرتيب توقف منذ فترة، عندما أغلقت "أماندا" ألبوم الصور، ووضعته على منضدة الزجاج القصيرة في هدوء. كانت ساكنة كميتة، تتطلع إلى أشياء داخلها، عيناها معلقتان على لوحة فان جوخ "نجوم الليل"، لا تكاد تطرف. لم اتخيل أبدا، أنا المغموس في نار الألم، لحظة أن رأيتها لأول مرة، أن الحزن يمكن أن يتوسد سرير جمالها، ويرمي برأسه على وسادتها الحريرية، هكذا، هكذا هكذا. الغرب ظل يفيض علينا على الجانب الآخر من العالم بمليارات الصور والأفلام. بعضنا حين رأى صورة الغرب عن نفسه قال بطيبة: "الأرض جنتهم وفراديس السماء لنا". الغرب في القاهرة عرض وقتها على المنفيين الدخول إلى جنته. لم يكن يطلب منهم زكاة أوصياما أوحجا أوإقامة صلاة. كان بحاجة إلى عمالة وتوسيع سوق داخلية. كان يتحدث بمكر تاريخي حاجبا مراميه بستار كثيف من الدعاوى الإنسانية. كان المنفيون يتسابقون إلى مكاتب الأمم المتحدة والسفارات فرادى وجماعات. الأعمى شايل المكسر. الشيوعي تبرأ من ماركسيته على طلبات الدخول إلى الجنة التي أتقن دهاقنة "هوليوود" وتفننوا في رسمها. سيدات من بيوت كبيرة على مرمى خطوة من أزواجهن بكين أمام المحلفين داخل السفارات. لم يبكين من قصة اغتصابهن المفبركة. بكين من شبح الضياع في مدينة مثل القاهرة تضيق حتى بسكانها. رجال زعموا أن النظام أفقدهم ذكورتهم فما عادوا يصلحون لشيء. كان بعضهم على أية حال يقرر واقعا. لكن الدخول إلى هذا الفردوس الأرضي لا بد أن يتم بأية وسيلة. لا بد أن يتم حتى بمعونة الشيطان نفسه. كان الحزن بعد مطالعة صور "سمانتا" المبتسمة الضاحكة الممتلئة في تناسق المترعة برحيق هذه الحياة حد الثمالة أثقل من أن يحتمله كل منّا على حدة. فجأة، أفردت كف يدي اليسرى. أخذت أُسرِّحها على شعر "أماندا" بحنو شديد. مالت برأسها على كتفي. نامت. شيئا بعد شيء، أخذ الظلام يخفي معالم الأشياء وراء نوافذ الصالة الزجاجية الواسعة. كنت قبلها على وشك أن أسألها أين اختفى ذلك الآسيوي بعينيه المبتسمتين. كنت في الآونة الأخيرة، حين أسير في شارع "سيرجنت"، حيث المومسات على نواصيه علامات لا تخطئها عين، أراها واقفة هنا أوهناك، ترمي صنارتها للمارة والسيارات، وعلى بعد أمتار منها لا أثر يدل عليه مثلما جرت عليه العادة قبل نحو العام أويزيد. "أماندا" لم تكن تطيقه. كانت على قناعة تامة أن الآسيوي سبب بلوة شقيقتها الصغرى. لم أتوصل أبدا إلى معنى تلك الإبتسامة التي ظلت تطل من داخل عينيه برغم ظلال العتمة أحيانا. على غير العادة، صحوت هذا الأحد من نومي مبكرا. رأسي لا تزال مثقلة من تأثير الشراب وصخب الأصدقاء الليلة الماضية. يخالجني شعور جميل أن اليوم سيكون مختلفا عن سائر الأيام. شهر أكتوبر. أكاد أشتم رائحة العشب الخريفي في احتضاره. عمر، قال لي، في احدى تجلياته، إن كندا قوَّت إيمانه، "يا حامد، انظر إلى هذه الأشجار، تتحول في شتاء إلى حطب، قبل أن تعود إليها أوراقها في الصيف فتكون خضراء تسر الناظرين، هذا يذكرني بيوم البعث، الإنسان يموت ويتعفن داخل قبره ويجف، ثم يبعثه الله يوم القيامة بشرا سويا". كنت أعوده أثناء مرض ألم به. كان طريح الفراش وعلى طاولة خشبية صغيرة بالقرب منه لاحت صناديق أدوية وكوب من عصير الليمون وحافظة نقوده وصورة متوسطة الحجم داخل برواز خشبي أطلت منها صورة زوجته وبناته الثلاث. قال في تلك الأيام إنه لم يجد دائما الوقت اللازم لإخفاء تلك الصورة قبل مضاجعة "جسيكا". كانت تتركه في كل مرة مهدودا تماما ولم يبدُ عليها ما يشغلها بأمر تلك الصورة. كلاهما كان يدرك جيدا ما يريد من الآخر: الطعام مقابل الجنس، أوالعكس. في أعقاب كل مضاجعة، كان أكثر ما يشغل عمر أن يغتسل بسرعة، ويبدأ الصلاة في الحال، وفمه يلهج بمئات الأدعية المأثورة. كان كالمُدمن، يعلن التوبة، وبقايا الجرعة الأخيرة لا تزال عالقة بفمه. حوالي الثالثة صباحا، أقلعت بنا طائرة الخطوط الجوية الهولندية من القاهرة في طريقها إلى كندا عبر أمستردام في هولندا. بدا العدد القليل من اللاجئين متعبا من جراء اجراءت السفر الطويلة والاثارة وسلطان النوم لا يقاوم. ذلك عالم مضى لحال سبيله. ذاك عالم أسعى إليه في حال من انعدام الحزن والفرح على حد سواء. الغربة سرطان الحواس. تبدأ بالنظر وتنتهي باللمس. حتى العودة إلى الوطن لا تُشفي منها. لكن المعجزات قد تحدث أحيانا. ربما لحظة أن يعثر المنفي الغريب على إمرأة من خارج قاموس هذا الزمان. إمرأة تضمه بسهولها ووديانها وجبالها وأنهارها وحقولها وسمائها. إمرأة تغسله ليلا مما علق به من غبار حروبات صغيرة هنا وهناك. إمرأة تلده في الصباح إنسانا جديدا في طزاجة الأمل أوالحياة. ورائي هناك، إلى الشمال، على بعد مقعدين أوثلاثة، جلس ياسر كوكو، وقد فصل بيننا ممر ضيق ممتد إلى نهاية الطائرة. لفت انتباهي أثناء الرحلة أن ياسر كوكو كان حريصا على متابعتي بدقة متناهية. كنت أحس بأثر عينيه الجاحظتين وهو يمسك بعنقي. تماما كمن يحس المرء بياقة قميص تلتف حوله باحكام في نهار قائظ. أخذ ذلك يزعجني بعض الوقت. مراقبة الناس هوايتي. كان من الصعوبة بمكان أن اتقبل لُعبة تبديل المواقع عن طواعية. أخيرا أدركت أن قاموسه اللغوي لا يحتوي كلمة انجليزية واحدة. كان يشرئب نحوي بعنقه دافعا برأسه إلى الأمام لحظة أن تمر المضيفة بعربة الطعام الصغيرة، أوحين يمر مضيف آخر بعربة أخرى للمشروبات الروحية وغيرها، فيشير إليهما آنذاك صامتا بذات الأصناف من ألوان المأكل أوالمشرب التي سبق له وأن رآني أطلبها. لو طلبت وقتها سما زعافا لفعل. بدأت الطائرة، وهي تقترب من مطار أمستردام، تهديء من سرعتها، وتهبط صوب مستقرها شيئا فشيئا، كانت الأشياء على الأرض واضحة من على ذلك البعد، الأرض سهلية مخططة بدقة، القنوات تمضي في استقامة عابد، حتى غنج الريح لا يغريها بالاندياح، الطرق سوداء معبدة في تداخلاتها الهندسية الآسرة، كل شيء لامسته يد الإنسان آلاف المرات، يد منذ فجر الخليقة سوَّت وبنت وعدلت ونقضت وشرعت تعمل على ذات الشيء مرة ومرة، لا كلل يصيبها في سعيها المحموم نحو كمال مستحيل، "لا بد أن نسبة الانتحار عالية في هذه البلاد"، ذلك ما طرأ على ذهني لحظة أن لامست عجلات الطائرة مدرج الهبوط آناء ذلك النهار البعيد. أذكر، حين عبرت الطائرة سماء اليونان، والعالم وراء النافذة لا يزال غارقا في ظلمة حزينة، أني ألقيت السلام في خشوع على "كازنتزاكي"، لعله كان يتبادل مع "تشيخوف" نخب انتصار الكتابة في ركن قصي من الجنة، لم أتصورهما وهما يحرقان بنار الله مطلقا. رحمه الله، كان يقول "الحمد لله الذي خلق لنا الخمرة الجميلة والنساء". أجل، الحمد لله الذي خلق لنا الخمرة الجميلة والنساء والكتابة والقليل القليل من الصداقات. "أخشى أن أموت، وتموت في داخلي كتب كثيرة".
#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسير العبارة (رواية)- 1
-
مرثية للطيب صالح
-
إني لأجد ريح نهلة
-
وداع في صباح باهت بعيد
-
ملف داخل كومبيوتر محمول
-
لغة
-
نصّان
-
زاوية لرجل وحيد في بناية
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|