|
تركيا: وقائع انقلاب دستوري!
ماجد الشيخ
الحوار المتمدن-العدد: 2864 - 2009 / 12 / 21 - 12:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا تقتصر دورة الانقلابات في تركيا الحديثة على تلك العسكرية، هناك حراك انقلابي مختلف، ينتمي إلى فضاءات أخرى دستورية أو قضائية، ربما بفعل التجارب والخبرات التي باتت تكيّف الانقلابات وفقا لأهواء وأمزجة القائمين بها مباشرة أو مداورة، ولكن كلها تستشف مطالب العسكر ومن يواليهم من أحزاب سياسية يمينية وقومية متطرفة، لتمضي في استجابة مطالبهم، عبر سلسلة من أشكال انقلابية – واضحة أو مستترة – تستهدف تحقيق أماني تلك الطبقة أو الفئات الطبقية العلمانوية، وهي تسعى للحفاظ على "ستاتيك" معين، حددته لنفسها منذ بداية الهيمنة العسكرية على النظام السياسي التركي، في أعقاب التحولات الكبرى التي أطاحت نظام الخلافة، وجاءت بنظام أتاتورك الذي زاوج بين علمانيته المتطرفة وهيمنة المؤسسة العسكرية على النظام، الأمر الذي ما زال ينيخ بكلكله على تركيا، وإن عبر أدوات أخرى يقف في مقدمها تلك التي يطلق عليها "قوى الدولة العميقة" التي طالما ساندت الانعزال والتقوقع في دائرة النفوذ الغربي، ووقفت حجر عثرة أمام تواصل مسيرة الإصلاح والديمقراطية، والانفتاح على المكون الكردي داخليا، ودول الجوار الإقليمي خارجيا.
من هنا يمكن فهم قرار المحكمة الدستورية؛ حظر حزب المجتمع الديمقراطي (الكردي)، بمثابة انقلاب على ما أنجزنه حكومة حزب العدالة والتنمية، إزاء الأكراد والانفتاح عليهم، والسعي إلى حل المشكلات العالقة بين مكونات الداخل التركي، وعلى رأسها المشكلة الكردية سلميا وعبر الحوار، الأمر الذي يعيد المسألة إلى مربع كان في الماضي يثير الكثير من الحساسيات القومية. وما نزول الأكراد إلى شوارع ديار بكر، وغيرها من مناطق التواجد الأكثري الكردي، سوى شرارة إعادة انتفاض الشارع الكردي في مواجهة قوى القمع وأجهزة "الدولة العميقة" بتخصصاتها القديمة إياها، وترسانة قمعها ودعواتها التحريضية للتصدي لطموحات المكون الكردي، لنيل أبسط مقومات المواطنة والمساواة مع المكون التركي وباقي المكونات الأخرى، بدل هذا النزوع الاضطهادي والتعامل مع الشعب بالقوة المسلحة، أو بحظر الأحزاب السياسية، وهذا ما لن يقود إلى حل المشكلات التركية الداخلية، بل على العكس من ذلك سوف يؤسس لإعادة وضع المتاريس من جديد أمام القوى المجتمعية بكافة تلاوينها ومكوناتها العرقية، بديلا للحوار من داخل البرلمان ومن خارجه.
وهكذا جاء قرار الحظر، ليقطع الطريق على حملة حكومة العدالة والتنمية، التي قطعت شوطا لا بأس به بالانفتاح على المكون الكردي، والاعتراف ولو جزئيا بالهوية الكردية، في وقت أبقت المحكمة الدستورية سيفها مشهرا في وجه حزب الحكومة نفسه، ما لم يعمد إلى تغيير القوانين التي تبيح حظر الأحزاب. وفي هذه الحالة، تحتم المسؤولية التي ينبغي أن يتنكّبها حزب العدالة والتنمية، زيادة جرعات الخطوات الإصلاحية، قبل أن يفقد زمام المبادرة، وقبل أن تؤدي مجموع التداعيات القادمة للوضع المستجد داخل تركيا إلى فقدان الشعبية الكبيرة التي حازها بالانتخابات التشريعية الأخيرة في أوساط المكون الكردي، فيما هو وحتى الأمس القريب، وربما في الغد؛ يمكننا القول أنه كان يحوز أغلبية مريحة داخل البرلمان.
ليس هذا فحسب، فقد تؤدي التداعيات إياها إلى التأثير على العلاقات التركية – الأوروبية التي لم تبلغ مرحلة الكمال أساسا في أي وقت من الأوقات، كما قد تقطع الطريق على استكمال الحكومة التركية انفتاحها على الدول المجاورة، والاتفاقات التي عقدتها مع كل من إيران والعراق وسوريا، في الوقت الذي كانت تلغي فيه مناورات جوية كانت مقررة مع إسرائيل والولايات المتحدة وإيطاليا، ما أثّر سلبا في العلاقات التركية – الإسرائيلية، وقلب دفة وموازين العلاقات التركية – العربية نحو إطلاق ما أسمي "العثمانية الجديدة"، في إشارة إلى محاولة تركيا استعادة لعب دورها الإمبراطوري القديم، ليس في الفضاء العربي فحسب، بل وفي الفضاءين الإسلامي والدولي كذلك، الأمر الذي أزعج العديد من القوى الداخلية المعادية لتوجه كهذا، يتم على يد حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) تحديدا، كما وقد يكون استثار قوى خارجية، يضيرها عودة تركيا لتصدّر دول المنطقة، وتكتيلها ولعب أدوار في أوساطها لا تنسجم والمصالح والتطلعات الهيمنية؛ إقليمية كانت أو دولية، ما سيجعل من علاقات تركيا بأرباب الهيمنة؛ تنافسية شديدة الوقع على تلك المصالح.
وتبدو المؤسسة العسكرية حتى الآن، عبر قرار الحظر أو غيره من الخطوات الحذرة لحكومة أردوغان، ممسكة بخيوط اللعبة، أو على الأقل قادرة على التأثير فيها بدرجات كبيرة، فالعملية العسكرية التي نفذت قبل ساعات معدودات من قرار الحظر، واتهم بتنفيذها حزب العمال الكردستاني، تعد واحدة من الخطوات التي مهدت وتمهد أرض الواقع التركي لانتفاضة كردية، هي بمثابة رد الفعل الموازي لفعل الحظر السياسي وحضور الاضطهاد العرقي بحقهم من جانب يمين قومي متطرف، تسنده مؤسسة عسكرية لا تريد لخيوط اللعبة السياسية أن تخرج من يدها، ولهذا ربما كان قرار المحكمة الدستورية، بتوجه واع منها أو بدون وعي، أداة العسكر الانقلابية غير المباشرة هذه المرة.
وهذا تحديدا ما سوف يضع على عاتق حزب العدالة والتنمية، وكل الذين تعنيهم إيجابا مسيرة الإصلاح والانفتاح وتعميق المسار الديمقراطي، مهمة التصدي وإفشال الانقلاب، كخطوة على طريق ما يستطيعه دستوريا ومدنيا من إمكانية إلغاء قوانين الحظر الدستوري للأحزاب السياسية، وهو أحدها بالطبع، واستبدالها بقوانين مدنية ودستورية تمنع حظر أي حزب سياسي كردي أو غير كردي، ذلك إن المعركة التي تنفتح اليوم في تركيا ليست من طبيعة عرقية، إنها معركة مواجهة السلطة العسكرية بقوانين حكم مدني، صار ضرورة من ضرورات تثبيت حكم ديمقراطي في بلاد طالما أخضعت فيها أشكال الحكم لمضامين أحكام عرفية، منذ استولى الكماليون على السلطة من نظام حكم خليفي، لا يقل سلطوية واستبدادية عن ما أنشأه كمال أتاتورك من نظام، يد العسكر فيه؛ وهي تنقلب إلى قوة خفية من "قوى الدولة العميقة" هي العليا.
#ماجد_الشيخ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأوروبيون وشهوة الاستفراد الإسرائيلي
-
في الصياغات الجديدة للعقائد العسكرية
-
مأزق الشراكات التفاوضية
-
جعجعة خطط ولا طحين لدولة في الأفق
-
حدود العلاقات الندية اليابانية - الأميركية وآفاقها
-
فساد السياسة والكيان في إسرائيل
-
التحولات التركية وإمكانيات الاتجاه التواصلي
-
المفاوضات.. الموعودة دون وعد والمأمولة دون أمل
-
جائزة نوبل ل -سلام عدم الاستطاعة-!
-
تقرير غولدستون: بداية انعطاف لا نهاية مطاف
-
الفلسطينيون ومنطق الإرجاء والتأجيل الكارثي!
-
تضارب المواعيد الفلسطينية
-
رؤيا الدولة الواحدة.. واقعها وواقعيتها
-
من يمتلك -شجاعة- إنهاء الصراع وانتهاء المطالب الفلسطينية؟
-
أأفغانستان.. نقطة ضعف أميركية مقلقة
-
الاستيطان التوافقي والمفاوضات غير التوافقية!
-
مشنقة الشره الاستيطاني والدولة المستحيلة
-
في الطريق نحو خطة أوباما
-
أهداف الغرب المعجلة والتسوية الموعودة.. مؤجلة!
-
حين تختزل -أسلمة- القضايا بجلباب وحجاب!
المزيد.....
-
شاهد أول رد من رئيس وزراء كندا على فرض أمريكا رسوم جمركية عل
...
-
مستغربة طبع السعوديين وأسلوب تعاملهم مع الضيف والسائح ترويها
...
-
طائفة سرية أجبرت أتباعها من الأمهات حديثات الولادة على التخل
...
-
كيف علقت كندا والمكسيك والصين على فرض ترامب رسوماً جمركية عل
...
-
ستارمر يستقبل شولتس في مقره الريفي ويبحث معه حرب أوكرانيا
-
الولايات المتحدة.. انفجار وحريق هائل في مصفاة نفطية (فيديوها
...
-
قوات كييف تستهدف بلدة في كورسك بصواريخ -هيمارس- أمريكية (فيد
...
-
زاخاروفا تقترح تحويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى و
...
-
إجلاء 37 مريضا من غزة لتلقي العلاج في مصر
-
حاول الهرب فعلق أسفل جسر.. شاهد ما حدث لسارق تطارده الشرطة
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|